السودان و توكفيل و الديمقراطية سته عقود نظرة الى الخلف و سته عقود نظرة الى الأمام
تاريخ النشر: 25th, February 2025 GMT
توكفيل قبل ما يقارب القرنيين من الزمان عندما كتب عن الديمقراطية أجمل ما تحدث عنه من أفكار كانت ملاحظته أولا تقوم بأن هناك سته عقود قد مرت على قيام الثروة الصناعية عام 1776 و كذلك تزامن معها ظهور كتاب ادم اسمث ثروة الأمم و قبله كتابه نظرية المشاعر الأخلاقية. توكفيل لفت إنتباهه أن الثورة الصناعية قد أفرزت تحولات هائلة و إنعكست على المجتمع و إلتفت بأن الولايات المتحدة الأمريكية بفضل فلسفة جون لوك قد أسست لفكرة قيم الجمهورية و فصلت الدين عن الدولة و أصبح الفرد لا يشغله شاغل العدالة و المساواة بينه و الآخريين.
و كان شاغله و أقصد توكفيل كيفية نقل التجربة الديمقراطية الى الى القارة العجوز و كما إنتبه لمرور ستة عقود للثورة الصناعية و أثرها في التحولات الإجتماعية كذلك شغله ما يأتي به المستقبل في العقود القادمة و كيفية مرونة التحولات الإجتماعية في مستقبل أوروبا. فكرة توكفيل ناتجة من نظرته لستة عقود مضت من قيام الثورة الصناعية و ما مستقبلها هذا ما جعله ينتبه لفكرة مفهوم الدولة كمفهوم حديث و مفهوم الديمقراطية بعد فصل الدين عن الدولة و أن الديمقراطية قد أصبحت بديلا للفكر الديني.
في زمن توكفيل كان الكاثوليك في فرنسا يعتقدون بفكرهم الطائفي و أنهم يمكنهم تحقيق ديمقراطية و هذا ما حاول توكفيل إقناعهم و تحويل قناعاتهم بأن الكاثوليكية كطائفية لا يمكن أن تحقق نقلة بإتجاه الديمقراطية و لا حل غير ترسيخ فكرة مفهوم الدولة و مفهوم الديمقراطية و لا يتحققان بغير أن تصبح الديمقراطية بديلا للفكر الديني و ذكرت زاوية نظر توكفيل عن طائفة الكاثوليك في فرنسها و وهمهم عن تحقيق ديمقراطية بالكاثوليكية لأن حالنا اليوم في ظل أحزاب الطائفية السودانية كحزب الامة و حزب الختم ما أشبه الليلة بالبارحة و أقصد عندما يعتقد أتباع المرشد و الامام و الختم بأنهم يمكنهم تحقيق ديمقراطية بفكرهم الديني و هذا ما فشل فيه الكاثوليك عندما واجههم توكفيل بفكره عن مفهوم الدولة و مفهوم الديمقراطية و كيف قد تحققت في أمريكا و لم تتحقق في القارة الاوروبية العجوزة؟
بالمناسبة فكرة توكفيل في نظرته للستة عقود التي أعقبت الثورة الصناعية كماضي و همه بالمستقبل للشعب هو ما جعله يفكر في فكرة مفهوم الدولة و الديمقراطية و ما تحققه أي إمكانية العيش المشترك و فكرة تحقيق المسؤولية الإجتماعية نحو الفرد. و لتوضيح فكرة المسؤولية الإجتماعية نحو الفرد عند توكفيل و فكرة الشرط الإنساني يمكن توضيحهها في علاقة الأدب بتاريخ الفكر الإقتصادي مثلا عندما ظهرت أفكار توكفيل في فرنسا في إهتمامها بالفكر السياسي و كيف تغيّر المجتمع بعد الثورة الصناعية تقابلها في إنجلترى كيف لاحظ تشارلز ديكنز التغيرات التي لحقت بالمجتمع بعد الثورة الصناعية و قد أبدعها في رواياته كإنعكاس للتغيير الذي لحق المجتمع بعد الثورة الصناعية و نجدها في رواية أولفر تويست و رواية قصة مدينتين و فيها قدم ديكنز من الأفكار ما يرتقي لفكر توكفيل عن فكرة المسؤولية الإجتماعية نحو الفرد و لا تتحقق إلا عبر قيم الجمهورية و إزدهار الديمقراطية.
و نقصد هنا أن كل من توكفيل و ديكنز قد لاحظا ما لحق المجتمع من تغير هائل بعد الثورة الصناعية و ما ينبغي ما يلحقه من تغيير في الافكار لإعادة بناء مجتمع جديد مواكب للتطور و هذا ما يجب أن تلاحظه النخب السودانية أن المجتمع الحديث مجتمع متغيير على الدوام و يحتاج الى ملاحظة التغيير الهائل في المفاهيم و بالتالي إعادة التوازن للمجتمع عبر تحقيق العدالة و المساواة التي لا تتحقق بغير فصل الدين عن الدولة.
قلنا أن توكفيل لاحظ مرور ستة عقود على الثورة الصناعية و و إنعكاسها على تغيير المجتمع و بالتالي نظر للإمام لستة عقود من جهة المستقبل و بالتالي كان توكفيل أول من تحدث عن نهاية فلسفة التاريخ التقليدية و نهاية الليبرالية التقليدية و ما ينبغي أن يكون من فكر لفلسفة التاريخ الحديثة و الليبرالية الحديثة و هذا ما جعل ريموند أرون يعيد أفكاره بعد قرن من الزمن و يؤسس بها فكرة الشرط الإنساني و كذلك بفكر توكفيل تمت محاربتة الفكر الشيوعي.
و لو طبقنا فكرة توكفيل في نظرته لأثار الثورة الصناعية على المجتمع و نظرته لمستقبلها على السودان عليه يمكننا أن نتحدث عن فشل النخب السودانية بعد الإستقلال خلال ما يزيد على الستة عقود و عليه كيف يمكننا أن ننظر لمستقبل السودان في العقود القادمة كما فعل توكفيل مع فرنسا بعد الثورة الصناعية و مستقبل المجتمع بعد التغيير الهائل.
هذا يجعلنا نقول أن لا حل غير الإنفتاح على تراث الإنسانية التاريخية حيث أصبح الفرد عقلاني و أخلاقي و تتبدى عقلانية الفرد و اخلاقيته في قبوله بالمساواة مع الآخريين و كذلك ايمانه بحرية الآخريين و عليه أن اللجلجة التي تقوم بها النخب السودانية الفاشلة في تفكيرها الذي يتخفى خلف قناع الفكر الديني و قولهم عن علمانية محابية للأديان مؤشر على عدم عقلانيتهم و اخلاقيتهم و هذا نتاج عدم إدراكهم بأن الثقافات متساوية في تفسيرها لظاهرة المجتمع البشري و عليه لا فرق بين الإسلام و الكجور.
و بالتالي إن أردت أن تكون أخلاقي و عقلاني عليك أن تنظر بأن ثقافة الكجور متساوية مع الثقافة الإسلامية كمحاولتان لتفسير ظاهرة المجتمع البشري و عليه أن مسالة فصل الدين عن الدولة أي دين من أول المؤشرات الدالة بأن المجتمع السوداني قد أصبح مكون من أفراد كل منهم أخلاقي و عقلاني يؤمن بحرية الآخريين و مساواتهم له بلا أي حيل متقنعة بقناع اللاهوت الذي يفرض الايمان التبجيلي بالعنف المقدس كما هو متجسد في عنف الكيزان و يتعامل الكوز مع بقية الثقافات السودانية الأخرى بنفس فكرة عبء الرجل الأبيض كما كان يعتقد بأن ثقافات الشعوب الاخرى بدائية الى أن جاء كلود ليفي أشتروس و قال بأن كل الثقافت متساوية و ليست هناك ثقافات و حضارات بدائية و بالتالي قلنا بأن الإسلام و الكجور متساويان في تفسير ظاهرة المجتمع البشري.
و بالتالي لا يحتاج الشعب السوداني لمؤتمر دستوري أو مؤتمر تشاوري لكي يقرر فصل الدين عن الدولة بل هذه مهمة الأقلية الخلاقة التي تدرك إيحاء المجتمع و تترجمه في فكر يؤدي الى تجسيد فكرة العيش المشترك و يقوم بها المدركيين للفلسفة السياسية كشرط إنساني و الفلسفة الإقتصادية مع علماء الإجتماع و الانثروبولوجيين التاريخيين بعيدا عن ضوضاء المؤرخ التقليدي السوداني و القانوني التقليدي في السودان و هذا ما حققته الشعوب الحية منذ قرن من الزمان.
بالمناسبة الحديث عن توكفيل شيق و يفتح لك أبواب على فكر ريموند أرون لأن أرون جاء بأفكار توكفيل من قلب النسيان و حارب بها أفكار الوضعية المنطقية في فرنسا و كانت متجسدة في فكر ماركس و أوجست كونت و بالمناسبة ريموند أرون فعل و كرر نفس الطريقة التي قام بها توكفيل.
ريموند أرون كان على إختلاف كبير مع أساتذته في فرنسا بشأن خضوعهم للوضعية المنطقية المتبدية في أفكار ماركس أوجست كونت مثلما كان توكفيل في إختلاف مع طائفة الكاثوليك و إعتقادها بأنها ستجلب الديمقراطية كطائفة كاثوليكية و بالتالي جاء توكفيل بالديمقراطية الأمريكية كذلك ريموند أرون جاء بفكر الفلاسفة الالمان أمثال دلتاي و هوسرل و ماكس فيبر و زيمل و تخلص بها من أفكار أساتذته كما تخلص توكفيل بالديمقراطية الامريكية من أفكار طائفة الكاثوليك في فرنسا فمن يخلصنا من طائفة كاثوليك السودان و أقصد أتباع المرشد و الامام و الختم؟
بنفس الطريقة التي تدرجت بها أفكار توكفيل و أحتاجت لستة عقود و بعدها إنكشف غطاء الليبرالية التقليدية و إتضح مفهوم فكرة الدولة الحديثة و علاقة الفرد المباشرة بها و نيله حقه كامل و يتمثل في المسؤولية الإجتماعية نحو الفرد كذلك في مطلع ثلاثينات القرن المنصرم لاحظ ريموند أرون بأن الكساد الإقتصادي العظيم ما هو إلا إعلان لنهاية فلسفة التاريخ التقليدية و بداية فلسفة التاريخ الحديثة.
و عليه كان ريموند أرون أول من إلتقط أفكار كينز عن فكرة التدخل الحكومي و فكرة الإستهلاك المستقل عن الدخل أي فكرة المقطع الرأسي الذي يمثل فكرة الضمان الإجتماعي و هي التي تمثل المحافظة على كرامة الإنسان كانسان و إشترك ريمون أرون مع كينز في قراءته التي تمثل قمة فن القراءة و عبرها قد دمج أفكار ادم إسمث أي دمج كتابي أدم اسمث نظرية المشاعر الأخلاقية مع كتابه ثروة الامم و خرجا مع كينز بفكرة التدخل الحكومي لتحقيق فكرة الضمان الإجتماعي و فكرة تحقيق معادلة الحرية و العدالة.
و بالمناسبة هذا البعد أي أن الفكر الليبرالي هو الأقدر على تحقيق العدالة غائب عن أغلب النخب السودانية و هذا هو سر إعتقاد النخب السودانية في الإشتراكية مع جهلهم بأن الفكر الليبرالي هو الأقدر على تحقيق العدالة و الحرية و أسرع على تجسيدها من الفكر الإشتراكي.
و سبب جهل النخب السودانية بالفكر الليبرالي هو ما يجعل أغلب النخب السودانية تنجر خلف طرح الشيوعي السوداني و هو مجسد العداء للفكر الليبرالي و هو أسير أي الشيوعي السوداني تربية حزبية لا تخرّج غير نخب عاطبة أسيرة التربية الحزبية و الزج و التعبية التي لم تخرّج لنا مفكريين بقامة ريمون أرون و هو الملقب بأنه المثقف الذي لم ينخدع بماركسية ماركس.
و عليه يمكننا القول بأن جهل النخب السودانية بأدب الفكر الليبرالي بشقيه السياسي و الإ قتصادي قد يكون هو السبب في فشل النخب السودانية المزمن و كسادهم الفكري هو سبب عجزهم عن إنجاز تحول ديمقراطي جيل عبر جيل و خاصة لو لاحظنا أنهم جيل عبر جيل يتحدثون عن العدالة و يعتقدون انها لا تتحقق إلا عبر الفكر الإشتراكي و العكس صحيح.
و أغلب النخب السودانية تكرر بلا تمحيص بأن الرأسمالية لا محالة زائلة و هيهات و نقول ذلك لأن الرأسمالية ذات علاقة طردية مع الديمقراطية و الديمقراطية ذات علاقة عكسية مع الشيوعية و من هنا تبداء دعوتنا للنخب السودانية لتغيير فهمهم الخاطئ عن الفكر الليبرالي بشقيه السياسي و الإقتصادي إذا أرادوا تحقيق تحول ديمقراطي في السودان و هذا من أجل تحقيق معادلة الحرية و العدالة.
taheromer86@yahoo.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: النخب السودانیة الفکر اللیبرالی فلسفة التاریخ مفهوم الدولة ریموند أرون المجتمع بعد فی فرنسا هذا ما
إقرأ أيضاً: