في مذكرة أرسلها ابان عصر الاستعمار أصبحت وثيقة تاريخية كتب الجنرال غردون الى حكومة صاحبة الجلالة وبالحرف الواحد ما يلي:
The Sudan is a useless possession ever was so and ever will be so, and I think Her Majesty's Government is justified in recommending evacuation.
مما يعني أن السودان مستعمرة عديمة الجدوى هكذا كان وسيظل.


وذكر في رسالته تبرير حكومة صاحبة الجلالة بالانسحاب.
لله درك يا الخواجة ما أصوب نظرتك.
ولعل التاريخ صدّق حدسه، ففي أعقاب سقوط حكومة مايو قدم النائب الأول لرئيس الجمهورية آنذاك عمر محمد الطيب للمحاكمة بتهمة ترحيل اليهود الفلاشا عبر السودان الى إسرائيل في جنح الدجى بثمن بخس دراهم معدودات بالمخالفة للقوانين السارية، وسمة الخيانة من متلازمات حكّام السودان والكثير من أحزابه السياسية وقد بلغت تلك الخيانة ذروتها اليوم ارتزاقاً وعمالة حتى صارت جيف السودانيين في حرب اليمن تنثر عليها الريالات في إشارة للارتزاق والخيانة انهم النصف المظلم من عالمنا وهم ليسوا سودانيين، ولكن هل السودانيين بأفضل حال منهم؟ وما يدعو للسخرية والاحتقار هو وقوعنا في اكذوبة اننا أصل الحضارة وأصحاب مشروع حضاري وكأننا نكرر أكذوبة القرآن على أسنة السيوف مبايعة، بينما وصفنا الصائب هو اننا اهل الارتزاق والعمالة والخيانة.
وكما يقال فان كل شعب في العالم ينال الحكومة التي يستحقها، والديمقراطية عندنا لا تصلح لمجتمعنا الجاهل لأن أغلبية من الحمير ستحدد مصيرنا، والسياسيون عندنا خزي مرئي وكما قال شكسبير فحشد العقلاء أمر معقد جداً، أما حشد القطيع فلا يحتاج الا لراع وكلب. وتديننا مغشوش وأنكى من الالحاد الصارخ.
والى حيثيات هذه السابقة التي ربما ترسي أسس لمحاكمات تعقد بعد ان تضع الحرب أوزارها.

المحكمة العليا

القضاة:
سعادة السيد / زكـي عبـد الرحـمـن قاضي المحكمة العليا رئيساً
سعادة السيد / أحمد محمد عثمان قاضي قاضي المحكمة العليا عضواً
سعادة السيد / صلاح الدين ممد الأمين قاضي المحكمة العليا عضواً
حكومة السودان // ضد // عمر محمد الطيب
((النمرة م ع/ط ج / أ.د / 2/ 1406هـ))

المبادئ:
جنائي _ الأفعال التي يلزم القيام بها بنص قانوني صريح _ عدم انطباقها على الأوامر العليا _ سبب الإباحة _ شرعية الفعل وليس شرعية الأمر _ الآثار المترتبة على كل منهما _ م (4) من قانون العقوبات لسنة 1983م.
إثبات _ بينة من يقبل العفو _ تجمع بين بينة الشريك ومن له مصلحة _ تقييمها.

إن التفسير السائغ للمادة (44) من قانون العقوبات لسنة 1983م هو أنه لا تمتد إلى موضوع الأوامر العليا وإنما تقتصر على الأفعال التي يلزم القيام بها بنص قانوني صريح ((كواجب تنفيذ أمر السجن أو حكم الإعدام )) وعلى ذلك فإن الشرعية التي تصلح لأن تكون سبباً للإباحة هي شرعية الفعل فيما يستفاد من نص قانوني محدد وليست شرعية الأمر في إطار العلاقة بين آمر ومأمور فالعلاقة الأخيرة مخالفتها تستتبع عقوبة شخصية وتقتصر آثارها على المحكوم عليه , بينما تمتد الآثار المترتبة على مخالفة القانون العام على المجتمع بأسره .

إن من يقبل العفو يجمع مع كونه شريكاً اعتبارا آخراً هو أن له مصلحة بينة فيما يدلي به , فبينما دافع الشريك هو توريط رفيقه في الجريمة فإن من يقبل العفو يلتمس فرص خلاصه الشخصي في مدى نجاحه في توريط شخص آخر ما يدفعه على المغالاة والاشتطاط . ولهذا السبب ينبغي النظر إلى شهادة من نمنح العفو على أنها أقل جدارة بالثقة من الشريك العادي.
المحامون: _
الأستاذ / عبد العزيز شدو
الأستاذ / عبد الله عمر النوش
الأستاذ / إسماعيل عبد الله أبو شقرة
الأستاذ / أحمد دياب عن المتهم
الحكم
القاضي: زكي عبد الرحمن
التاريخ: 11/4/1987م
نشأت هذه الإجراءات من تلك العمليات التي طبقت شهرتها أرجاء المعمورة والتي عرفت للكافة بعمليات ترحيل اليهود الفلاشا عبر السودان.
وبعد تحقيقات مضنية اتخذت مختلف الوسائل من كتابة وتسجيل صوتي وتصوير تقرر تقديم المسئولين عن العمليات إلى المحاكمة. فأصدر رأس الدولة آنذاك وهو (المجلس العسكري الانتقالي) أمراً بتشكيل محكمة لأمن الدولة بمقتضى المادة 31 من قانون أمن الدولة (الملغي) الذي كان سارياً وقتئذ. وبدأ المحكمة إجراءاتها المضنية هي الأخرى في 22/10/1985م وانتهت في 5/4/1986م بإدانة المحكوم عليه بموجب المواد 97(د) و97(هـ) و96(ب) من قانون العقوبات لسنة 1983م والمادة 6 من قانون مكافحة الثراء الحرام لسنة 1983م والمادة 7 من قانون مقاطعة إسرائيل والمادة 70 من قانون الطيران والمادة 42 من قانون جوازات السفر والهجرة وكانت الأحكام التي أصدرتها المحكمة بشأن العقوبات على النحو التالي: _
(أ‌) السجن المؤبد لمخالفة المادة 97.
(ب‌) السجن المؤبد لمخالفة المادة 96.
(ج‌) السجن لمدة ثلاث سنوات والغرامة أربعة وعشرين مليون ومائة وعشرين ألف جنيه لمخالف المادة 6 من قانون مكافحة الثراء الحرام مع عقوبة سجن بديلة لمدة أربعة عشر سنة.
(د) السجن لمدة سنة والغرامة ألف جنيه لمخالفة المادة 70 من قانون الطيران.
(هـ)السجن لمدة ستة أشهر والغرامة مائة ألف جنيه لمخالفة المادة 42 من قانون جوازات السفر والهجرة.
وأمرت المحكمة بمصادرة مبلغ المائة وخمسين ألف دولار المعروضة والباصات الأربعة و اللوري وسيارتي اللاندكروزر المعروضة مع أمر بتسليم نماذج البناء المعروضة وجهاز اللاسلكي إلى جهاز الأمن.
وبعد إعلان هذه الأحكام انعقدت المحكمة مرة أخرى وأصدرت حكمها منفصلاً على المحكوم عليه بالسجن لمدة خمس سنوات لمخالفة المادة 7 من قانون مقاطعة إسرائيل وأمراً جديداً بمصادرة الباصات الأربعة واللوري وسيارتي اللاندكروزر وجهاز اللاسلكي.
وحيث أن المحكمة لم تأمر بسريان عقوبات السجن التي قاما بإصدارها بالتطابق فإن النتيجة القانونية التي تترتب على ذلك طبقاً لما تقضي به المادة 23 من قانون الإجراءات الجنائية هي أن تسري تلك العقوبات بالتتالي
ويجدر بنا أن نثبت هنا أن الحكم سالف الذكر صدر بالأغلبية فيما يتعلق بعقوبة الغرامة الموقعة لمخالفة المادة 6 من قانون مكافحة الثراء الحرام وكذلك فيما يتعلق بحتمية سريان عقوبتي السجن المؤبد الصادرتين بالتتابع ثم الحكم الذي صدر في وقت لاحق في شأن مخالفة المادة 7 من قانون مقاطعة إسرائيل.
وهذه الأحكام موضوعة أمامنا للتأييد كدائرة خاصة من المحكمة العليا وفاءً بنص المادة 23 من إجراءات محكمة أمن الدولة. وقد تقدمت هيئة الدفاع عن المحكوم عليه بطعن في هذه الأحكام ستكون أسبابه محل الاعتبار عند مناقشتنا للأحكام في تفاصيله ولعله من المناسب "أن نقرر منذ البداية أن محاكمة المحكوم عليه عقدت في جو مشحون بالعواطف الملتهبة ضد كل من كان يحتل موقعاً من مواقع السلطة في العهد المايوي البائد. ومع أنه ليس من سبب يدعو إلى القول بأن في ذلك ما من شأنه التأثير على تجرد المحكمة وحيدتها (وهي التي جاء تشكيلها على مستوى عال من ذوي الخبرة والدراية) إلا أنه لا يمكن التسليم بأن الجو السائد حينئذ كان يسمح بتجرد مماثل من ميع من انبروا للشهادة على وقائع الاتهامات التي تجمعت حول المحكوم عليه فغن للم يكن ذل بسب الحماس الدافق لانتصار شعبي على عهد اتصف بكثير من الظلم والقهر , فمن باب الخشية من غضبة شعبية على الاقتران بأية صورة من ذلك العهد. مما كان يغري بتقديم كل ما يتجه إلى إدانة النظام السياسي المباد حتى بالمبالغة والإضافة , وبنفس القدر النيل إلى حجب ما هو في صالح النظام والتنصل عن ممارسته والفرار منه فرارهم من الأجرب. ولا بد لنا من أن نقرر أيضاً أن الأحكام المعروضة أمامنا قامت في مجملها على شهادات أدلى بها أفراد من جهاز أمن الدولة من زملاء ومرؤوسي المحكوم عليه بعد أن عرض عليهم العفو على إثر تعديل أدخل في المادة 216 من قانون الإجراءات الجنائية انتزعت بموجبه سلطة إعطاء العفو من القضاة الطبيعيين لتوضع في يد النائب العام. وبذلك نعِمَ أولئك الشهود بالعفو عن الأعمال التي شكلت الاتهامات ضد المحكوم عليه رغم أن أدوارهم فيها كانت أساسية بل وفي بعض الأحيان مستقلة عن إرادة المحكوم عليه نفسه. وقد عولت محكمة أمن الدولة على تلك الشهادات رغم أنها قررت أن أولئك الشهود " حفنة من الضباط كانوا مخلب قط يستحيل تنفيذ العملية دون تعاونهم التام " (ص 28 من حيثيات الحكم , ص 527 من محضر المحاكمة) وانهم من أولئك الذين ربما وجدت إدارة الاستخبارات العسكرية الأمريكية _ وربما جهاز الموساد الإسرائيلي فرصة في اختراقهم وتجنيدهم كعملاء مزدوجين (ص 27 من حيثيات الحكم ص 536 من المحضر).
ومهما كانت قيمة تلك الشهادات فيما استقلت بإثباته من وقائع بعينها , فيما سيرد من تفصيل له في مكانه المناسب فيما بعد , فإن غاية ما يمكن الاطمئنان إليه من جماع الأدلة (ومنها ما لا خلاف أنها مقبولة قانوناً) هي أنه , وفي الفترة ما بين 21/11/1984م و 15/1/1985م تم ترحيل عدد يربو على الستة ألف شخص من معسكرات اللاجئين بشرق السودان عن طريق مطار الخرطوم فيما عرف بعملية (موسى) وتوقفت تلك العملية على إثر ذيوع أخبار عن وصول أولئك المهجرين إلى دولة إسرائيل. وتلي ذلك ترحيل عدد آخراً بلغ نحواً من أربعمائة وخمسين شخصاً في 22/3/1985م بطائرة أقلعت من مهبط العزازة بالقضارف فيما عرف بعملية (سبأ). ومن خلال مطالعتنا لإجراءات هذه القضية في جميع مراحلها , لا يتطرق إلى قناعتنا أدنى شك في أن من تم ترحيلهم كانوا من اليهود الفلاشا وأن ذلك كان بعلم تام من المحكوم عليه وكذا بعلم رئيس الجمهورية السابق بل وبأمر منه.
ويبقى بعد هذا أن نقرر فيما إذا كان في هذه الوقائع وغيرها مما سنورد تفاصيله ما يسند الأحكام التي أصدرتها محكمة أمن الدولة في كل أو أي من جوانبها.
على أنه يجمل أن نثبت في وضوح ومنذ البداية أن المعايير التي تقاس عليها سلامة مثل هذه الأحكام ليست في كل الأحوال هي تلك التي تحكم الدعاوى الجنائية عموماً من قواعد , إذ أن محكمة أمن الدولة التي أصدرت تلك الأحكام شكلت بموجب قانون لم يكتف بتشكيل المحكمة وأنها أيضاً حدد ما تتبعه من إجراءات شملت بعض قواعد الإثبات. وطالما لم يكن شيء من ذلك محل طعن. فإن ما تقرره المبادئ المستقرة فقهاً وقضاءً هو أن محكمة أمن الدولة , ومن بعدها هذه الدائرة من المحكمة العليا. ملزمة بتطبيق تلك الإجراءات صراحة. ولا سبيل إلى إبطال ما صدر في حدود تلك القواعد بحجة مخالفتها للمبادئ العامة في الدعاوى الجنائية. أما فيما لم يرد بشأنه نص صريح في تلك الإجراءات أو كان مشوباً بغموض يقتضي التفسير فإن هذه الدائرة ترى أن من واجبها أن تجنح إلى أكثر التفسيرات تحقيقاً لمصلحة المحكوم عليه إعمالاً لمبادئ العدالة والتزاماً بحكم القانون فذلك أدعى للتعبير عن قيم المجتمع الديمقراطي الذي انتقلت إليه البلاد متسامية وممتدة حتى لمن تنكروا لها لعلهم يعتبرون.
وحتى يسهل التقرير في سلامة الأحكام محل النظر فإنه يجمل أن نتناولها واحدة تلو الأخرى طبقاً للترتيب الذي وردت به في حكم محكمة أمن الدولة.
( 1 ) الحكم بموجب المادة 97(د) من قانون العقوبات :_
قامت التهمة بهذه المادة على شقين أولهما أن الأمر الصادر من المحكوم عليه لبعض ضباط جهاز أمن الدولة لتنفيذ عملية (موسى) ثم ما هو ثابت من أن هذا الغرض قد تحقق فعلاً , يشكل تحريضاً لجنود من القوات النظامية للانخراط في خدمة دولة أجنبية بما أضر بمصلحة البلاد , والشق الثاني هو أن تنفيذ ذلك الأمر أدى إلى ما يرقى إلى جمع جنود أو رجال لمصلحة دولة أجنبية مما كان يحتمل معه هو الآخر الإضرار بمصلحة البلاد.
على أن محكمة أمن الدولة أسقطت الشق الثاني من التهمة , وفي ضوء عقيدتها بشأن الأدلة المقدمة وما رأته من تحليل تاريخي للعقيدة اليهودية. انتهت إلى ثبوت التهمة بموجب الشق الثاني , وكان تسبيب المحكمة لقرارها ذا هو أن الثابت هو أن الأشخاص المهجرين ضمن عملية (موسى) كانوا يهوداً عن بكرة أبيهم وأن المحكوم عليه كان على علم تام بهذه الحقيقة وان هذا اقتران بعلم آخر ,أو على الأقل باحتمال العلم. بأنه كان لا بد للمهاجرين من الانتهاء إلي دولة إسرائيل ( وهي التي تعيش في حاجة ملحة للعنصر البشري في معركتها المصيرية مع العرب ) مما لا شك يلحق الضرر بالسودان في التزاماته العربية والإسلامية , وبين من سياق أسباب الحكم أن تنفيذ عملية (سبأ) رغم افتضاح أمر عملية (موسى) و كان من اعتبارات التي تسند علم المحكوم عليه بوجهة اليهود المهجرين وفي هذا الشأن رفضت محكمة من الدولة ما قدمته هيئة الدفاع نيابة عن المحكوم عليه من دفع بشأن عدم مسئوليته جنائياً عن تنفيذ أوامر عليا صدرت إليه من رئيس الجمهورية السابق للاضطلاع بالمهمة .
ولا حاجة بنا على تكرار ما سلف أن بيناه من قناعة فيما يتعلق بطبيعة المهجرين وعلم المحكوم عليه في هذا الشأن. كما لا نجد سبباًَ للاختلاف مع محكمة أمن الجدولة فيما انتهت إليه بشأن احتمالات وجهة اليهود منذ اليهود وما ينشأ عن ذلك من مصالح محتملة لدولة إسرائيل وإثر ذلك بالضرورة على التزامات السودان في المجالين العربي والإسلامي.
على أن كل ذلك لا يكفي للإدانة بموجب المادة 97(د) فيما لو كان النظر إلى عناصر هذه المادة من خلال ما هو ثابت من ظروف وملابسات عملية (موسى) وحدها. ذلك لأن الأمر في جوانبه المختلفة لم يكن قد تعدى عندئذ مجرد الاحتمالات بينما تتطلب المادة 97(د) في إثبات التهمة بموجبها أن يكون المتهم قد تعمد جمع الجنود لمصلحة الدولة الأجنبية.
بيد انه رغم ما نجده في حكم محكمة أمن الدولة من مغالاة في ثبوت صلة مباشرة لجهاز الموساد الإسرائيلي. وربما وكالة الاستخبارات الأمريكية بعملية ترحيل اليهود محل هذه الإجراءات فيما لو كان النظر إلى ذلك بالمعايير القضائية البحتة فإننا نتفق مع المحكمة في أن الأمر يختلف تماماً عند النظر إليه في ضوء الظروف التي أحاطت بعملية (سبأ) فقد سبق ذلك تحول أمر وجهة اليهود من مجرد احتمال إلى ما يشبه اليقين فقد انكشف المستور " سواء قصد المحكوم عليه التكتم عليه أصلاً أو لم يقصد " وانتشر الخبر وعم البادية والحضر واتصل كل ذلك بعلم المحكوم عليه لا عن طريق شاهد الاتهام الثاني ( الذي أخبره أيضاً بقرار وقف العملية) وحسب , وإنما أيضا الثابت من تنوير قام به المحكوم عليه لجنود أمن الدولة , ثم عن طريق نشرات سونا التي لا يملك المكوم عليه أن يدعي جهله بها , والتي وان كانت لا تكفي وحدها للإثبات , تصلح لتعضيد ما كان بحاجة إلى التعضيد , ويترتب على ذلك أنه , وحتى إذا قصرت الأدلة عن إثبات علم يقين من جانب المحكوم عليه بوجهة اليهود الفلاشا الراحلين عن السودان . فإنه من الثابت أنه كان في وضع يحمله على الاعتقاد بأن وجهتهم كانت دولة إسرائيل , وحيث أن هذا هو كل المعيار الذي يمكن أن يثبت به العلم بطبيعة الحال., فيما لم يفر به ولم يرد بشأنه دليل مباشر بإخبار بأن النتيجة الحتمية التي لا مفر من التسليم بها هي ثبوت علم المحكوم عليه بتلك الوجهة.
والسؤال الذي ينشأ عن ذلك ما إذا كان في علم المحكوم عليه بأن اليهود كانوا يقصدون دولة إسرائيل ما يثبت تعمداً من جانبه لخدمة مصالح إسرائيل مع ما يترتب عليها بالضرورة من أضرار لا خلاف عليها بمصالح السودان.
إن الإجابة على ذلك تقتضي تحليلاً لمعنى سير المحكوم عليه قدماً في تنفيذ عملية الترحيل دون اكتراث للنتيجة المعلومة لديه سلفاً لمثل هذا التصرف , فمؤدى ذلك أن المحكوم عليه , قد اصدر أمره بضمان ترحيل تلك المجموعات من اليهود مع علمه بوجهتهم إلى إسرائيل , لم يأبه ما إذا كانت تترتب على ذلك خدمة لمصالح تلك الدولة أو لم تترتب وهو الذي يقوم في فقه القانون مقام العمد حتى إذا لم يكن يرقى إلى العمد المباشر(راجع في هذا كتاب سميث وهوقان (Smith & Hogan) في القانون الجنائي الطبعة الخامسة على الصفحات 52_58 حيث يرد على صفحة 52 ما يلي :
For many crimes, either intention to cause the prescribed result or recklessness whether it be sufficient to impose liability
ثم راجع كتاب اليوت وود (Elliott & Wood) على صحيفة حيث يرد ما يلي:
A casebook on criminal Recklessness denotes the state of mind of the man who acts: (or omits to act when it is his legal duty to act) foreseeing the possible consequences of his conduct, but with no desire to bring them about.
وحيث أن الأمر كذلك , فإن قرار محكمة أمن الدولة بأن ما قام به المحكوم عليه يشكل مخالفة للمادة 97(د) من قانون العقوبات يصبح سليماً في نتيجته. فهل كان فيما قدمه المحكوم عليه لدفع المسئولية الجنائية عنه بحجة أنه كان يقوم بتنفيذ أوامر عليا ما لا يعفيه من المسئولية؟
هنا فإنه من الواضح أن محكمة أمن الدولة قد سلمت بأن الأمر الأعلى ثابت كواقعة. وفي تقديرنا أن ما سلمت به المحكمة سيجد سنداً من الأدلة والقرائن تكفي لحمله وقد سارت المحكمة بعد ذلك على نهج يضفي على القواعد التي تحكم الأوامر العليا ما يجعلها شبيهة بالقاعدة التي تقول "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " ولا حاجة بنا إلى الإفاضة في أن القاعدة الشرعية تقوم على قناعة روحية ومادية ليس من الصعب فهمها أو التسليم بها , بينما الجدل حول أثر الأوامر العليا على المسئولية الجنائية يقوم على تكافؤ مستوى الإلزام بين الأمر العالي والقانون الجنائي خاصة في تلك الحالات غير النادرة التي يكون واجب الانصياع فيها قائماً على نص قانوني يقرر في ذات الوقت جزاءً لمخالفة الأمر مما يجد فيه المأمور نفسه أمام خيارين أحلاهما مر .
ثم انه لا يمكن النظر إلى مدى صحة الخضوع للأمر العالي بمعزل عن خطورة _ المخالفة الجنائية التي تترتب عليها فمن الواضح أن الأقضية التي يشار إليها في تطبيق المبادئ التي تحكم الأوامر العليا ( ومنها الأحكام الصادرة في محاكمات نورمبرج وجرائم حرب فيتنام ) تقوم في واقعها على الجرائم الخطيرة التي ارتكبت إبان الحكم النازي وحرب فيتنام باسم تنفيذ الأوامر العليا _ ولا يبدو الأمر كذلك , أن تلك الأحكام تصلح لوضع قاعدة عامة وقاطعة بشأن أثر الأوامر العليا _ على المسئولية الجنائية ولعل القواعد المقررة لا تنطبق إلا في حدود الوقائع ذات الطبيعة الخاصة كالأحداث التي أشرنا إليها : ( راجع في هذا الشأن على سبيل المثال كتاب T.c Smith &Brian Hogan بعنوان Criminal law الطبعة الخامسة (1983م ) على صحيفتي 218 و 219 وكتاب I Glanville Williams بعنوان Text book of Criminal law طبعة 1978م على صحيفتي 408 و 409 ولعل غاية الاطمئنان إليه قاعدة تحكم مسألة الأوامر العليا هي ما لخصه الأستاذ بيتر باباديتوس Peter Papadateos الأستاذ المشارك بجامعة أثينا في كتابه عن محاكمة أنجمان The Richman Trail (1964) حيث قال على صحيفة 81 :
Despite on particular points, in general the duty of obedience of a subordinate in any case where the order manifestly aims at the committing of an offense, or where the criminal nature of the order, even if not manifest, is nevertheless organized as such by the subordinate,
وبصرف النظر عما يحسم الجدل المحتدم في مجال القانون الجنائي الدولي في شأن أثر الأوامر العليا، فإن القاعدة التي تتناول مسألة الإعفاء من المسئولية الجنائية في الظروف المماثلة في قانوننا هي ما تنص عليه المادة 44 من قانون العقوبات التي تقرأ كما يلي:
" لا يعد الفعل جريمة إذا وقع من شخص ملزم قانوناً بالقيام به أو يقره القانون على فعله “.
وإعمالاً لهذه المادة انتهت محكمة أمن الدولة على القول بأن " مفهوم المخالفة بالطبع أن الفعل يعد جريمة إذا وقع من شخص غير ملزم قانوناً بالقيام به أو لا يقره القانون على فعله “.
وترتيباً على ذلك , وعلى علم المحكوم عليه بهوية المهجرين ووجهتهم وعلى واقعة قسم جهاز الأمن يلزم بمحاربة الصهيونية وان قانون مقاطعة إسرائيل يحظر التعامل مع دولة إسرائيل انتهت محكمة أمن الدولة إلى " أن تصدير اليهود إلى إسرائيل أمر مخالف للقانون مما جعل فعل المحكوم عليه تصرفاً شخصياً اختار فيه مخالفة القانون على سواه بما ينفي أي خطأ من جانبه في الوقائع أو في القانون.
ومع أننا لا نتفق تماماً مع محكمة أمن الدولة في أن مفهوم المخالفة للمادة 44 يجري على نحو ما وضعته تلك المحكمة , إلا أننا نرى أن تفسير تلك المادة لا يسند الدفع القائم على الإباحة المطلقة لمجرد أن المحكوم عليه كان يقوم بتنفيذ أوامر عليا صدرت غليه ولأصبح كل أمر ملزم مهما دنت درجة من أصدره ومهما تضاءل جزاء مخالفته سبباً في ارتكاب أفظع الجرائم واختفاء معالمها في متاهات إثبات طبيعة الأوامر وحقيقتها وحدودها حيث يكون متاحاً للمأمور أن يخاطر بالرواح والممتلكات في سبيل درء جزاء تافه كالإجراءات التأديبية عن نفسه وإزاء هذا فإن التفسير السائغ للمادة 44 في تقديرنا هو أنها لا تمتد إلى موضوع الأوامر العليا , وإنما تقتصر على الأفعال التي يلزم القيام بها نص قانوني صريح (كواجب تنفيذ أمر السجن وحكم الإعدام وما إلى ذلك ) وعلى ذل فإن الشرعية التي تصلح أن تكون سبباً للإباحة هي شرعية الفعل فيما يستفاد من نص قانوني محدد وليست شرعية الأمر في إطار علاقة خاصة بين آمر ومأمور. وتأسيساً على ذلك فإن أثر الأوامر العليا على المسئولية الجنائية يجب أن يبحث. ليس في نطاق المادة 44 , وإنما في ضوء فقه القانون الذي يتناول موضوع الأوامر العليا.
وإذا أمعنا النظر في حقيقة ما فعله المحكوم عليه على هدى من هذا النظر فإنه يبدو جلياً أنها آثر مخالفة القوانين الجنائية على الآثار التي ربما كانت تترتب على أمر رئيس الجمهورية السابق، وهي آثار ما كانت لتتعدى السجن لمدة لا تزيد عن الخمس سنوات (طبقاً لنص المادة 26 من قانون جهاز أمن الدولة) أو العزل من المنصب كقرار إداري هو ما كان متوقعاً. وواضح من هذا أن كلاً من العقوبتين شخصيتان وتقتصر آثارهما على المحكوم عليه. بينما تمتد الآثار المترتبة على مخالفة القانون العام إلى المجتمع بأسره وربما إلى الأمة العربية والإسلامية جمعاء. على انه ومهما كان من أمر الخيار الذي اختاره المحكوم عليه , فإن ما لا يمكن إنكاره هو أن نتيجة انصياعه لأمر رئيسه كانت مخالفة بينة للقانون على الأقل فيما تمخض عنه من تعاون مع إسرائيل ولو بطريقة غير مباشرة وبصرف النظر عن إدراك المحكوم عليه لحقيقة ما أقدم عليه طالما أن القرينة القانونية القاطعة هي علمه بالقانون وأن الجهل بالقانون لا يعذر.
وحيث أن المحكوم عليه أقدم على تنفيذ أمر كان يفترض عليه قانوناً أن يكون مدركاً لوجه مخالفته للقانون , فإنه يكون قد صادر حقه في التشبث بحجية الأمر العالي الذي كان يصلح ربما في ظروف أخرى لإعفائه من المسئولية الجنائية. وبذلك فإن إدانته بموجب المادة 98(د) من قانون العقوبات تكون قائمة على أسباب كافية لحملها مما يلزمنا بتأييد تلك الإدانة.
على أننا نرى لزاماً في ذات الوقت أن نثبت في وضوح. أن تأييدنا لإدانة المحكوم عليه بموجب هذه المادة يقوم على اعتبار محدد لا يخلو من معنى في ظروف تطبيق هذه القضية وهو أنه تطبيق فني technical لمصطلحات قانونية. فلم تقم الإدانة على قناعة من الدائرة بثبوت قصد مباشر من المحكوم عليه لخدمة المصالح الإسرائيلية فلم يكن للدائرة مع الثابت من عدم اكتراث المحكوم عليه بنتائج تصرفاته إلا أن تسند إليه ما يرتبه القانون على مثل هذا السلوك , باعتباره صنواً للتعمد ومع أن الدافع على تصرف المحكوم عليه على هذا النحو ربما كان اعتباراً لا صلة له بخدمة المصالح الأجنبية إلا أنه إثر ألا يفصح عنه, ولا شأن لنا بما اختاره. غير أن ذلك كان فيما يبدو لنا سبباً في قناعة محكمة أمن الدولة بأن المحكوم عليه قد تعمد خدمة المصالح الإسرائيلية مباشرة وهي كما انتهت بها أيضاً إلى توقيع عقوبة السجن المؤبدة عليه.
وحيث أننا لا نرى محلاً للقول بثبوت مثل هذا القصد المباشر، فإن إدانة المحكوم عليه تكون قائمة في واقع الأمر , لا على خيانة حقيقة للمصالح الوطنية , وإنما بالتصرف بما يشكا إضراراً بالالتزامات القومية للبلاد , والفرق بين الفعلين جد جوهري إذ بينما الأول جريمة بينة , فإن الثاني يخضع للتقدير وما قد يلازمه من سوء تقدير فيما لو تعارضت الالتزامات القومية مع المصالح الوطنية. وليس هذا وقفاً على السودان وحده , فالساحة العربية نفسها تشهد وضعاً مماثلاً. ومن ذلك أن ترحيل اليهود الفلاشا عبر السودان لم يكن محل استهجان معبر من أي دولة عربية إلا ما كانت منها على خلاف سياسي أو شخصي مع النظام القائم في السودان حينئذ ولم نسمع أن تصرف السودان كان سبباً في مبادرة دولة عربية إلى قطع علاقاتها معه بل وعلى النقيض من ذلك فإنه ما عاد سراً أن من طار من السودان للدول العربية بخبر ترحيل الفلاشا أعيد إلى السودان مخفوراً بعسس عربي. وبنفس القدر فإن ما في علم الكافة بأن الدول العربية توالى تعاملها مع أمريكا رغم ما يقال عن تحالفها مع إسرائيل ودعمها غير المحدود لها بل ومن العرب من يجلس مع الإسرائيليين على طاولة مفاوضات واحدة في تعامل مباشر رغم كل المواثيق. وأثناء ذلك ينام شعب فلسطين على أصوات وسائل الإعلام العربية تقطع الوعود في نصرة " القضية المركزية للعرب " ثم لا يلبث أن يصحو على أصوات المـدافع تدك مخيماته في (صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة) وغيرها لا على مرأى ومسمع من العرب فحسب وإنما على أيدٍ عربية في بعض الحالات. فلا يتضح والحال هذا , ما الذي تضيفه أو تنقصه الالتزامات القومية للسودان وما الذي يتبدل في الواقع العربي بالسودان أو بدونه؟
وإزاء ما تقدم , فإن عقوبة السجن المؤبد التي قررتها محكمة أمن الدولة تبدو لنا مما تميل إلى الشدة غير المبررة وعليه فإننا نرفض تأييدها ونقرر استبدالها بعقوبة السجن مدة عشر سنوات.
(2) الإدانة بموجب المادة 97(هـ) من قانون العقوبات والمادة 6 من قانون مكافحة الثراء الحرام.
وقد قامت التهمة بموجب هاتين المادتين على مبلغ 150 ألف دولار ثبت أن جهاز الأمن كان قد تسلمها من السفارة الأمريكية لمقابلة احتياجات ترحيل اليهود الفلاشا , ومبلغ مليوني دولار ذكر انه دفع للمحكوم عليه مقابل دوره في إتمام عمليات الترحيل ثم مبلغ مليون وأربعمائة ألف جنيه تقريباً تم تحصيله من رسوم البطاقات الشخصية ووجد في حساب باسم مشروع مباني النيل الأزرق.
وقد خلصت محكمة أمن الدولة من خلال موازنة الأدلة المقدمة أمامها وقناعتها بشأنها إلى أنه لا مخالفة للقانون بشن مبلغ المائة وخمسين ألف دولار ولا المبلغ المودع في حساب مشروع مباني النيل الأزرق , إلا أن المحكمة انتهت إلى إدانة المحكوم عليه بموجب المادتين 97(هـ) و6 من قانون مكافحة الثراء الحرام تأسيساً على أنه " حصل على مبلغ مليوني دولار من مندوب وكالة الاستخبارات الأمريكية عن طريق الهدية المقدرة مقابل تسخيره لجهاز أمن الدولة تحقيقاً لهدف الاستخبارات الأمريكية المتمثل في ترحيل يهود أثيوبيا إلى إسرائيل عبر السودان .
وما تجدر ملاحظته في هذا الشأن هو أن محكمة أمن الدولة قد انتهت إلى عقيدتها هذه بتسليم مطلق بما أورده شهود الاتهام الثاني (الفاتح عروة) والثالث (موسى إسماعيل) والسابع (عثمان السيد) عما سمعوه في هذا الصدد إما من المدعو جيري ويفر أو ميلتون بيردن وأضاف شاهد الاتهام الثاني ما يمكن تصنيفه بأنه إقرار من المحكوم عليه بالواقعة. وقد طعنت هيئة الدفاع في هذه الشهادات بالمصلحة فيما يتعلق بشاهدي الاتهام الثاني والثالث وعززت ذلك بالإشارة إلى اختلاف روايتيهما قبل وبعد عرض العفو أما بالنسبة لشاهد الاتهام السابع فقد قام طعن هيئة الدفاع على أن ذلك الشاهد كان حاملاً على المحكوم عليه لأسباب تتعلق بكتمان العمليات عنه. إلا أن محكمة أمن الدولة قررت أن عرض العفو كان معلقاً على بعض الشروط وإن كل ما قام به الشاهدان الثاني والثالث هو الوفاء بتلك الشروط وأن مقارنة إفادتيهما قبل وبعد عرض العفو لا تكشف عن أي اختلاف بل على النقيض من ذلك تؤكد أن ما أدليا به قبل العفو هو ذات الروايات التي أورداها فيما بعد.
والسؤال الذي ما فتئ _ يلح على مسامعنا هو ما إذا كانت الشهادات مقبولة لإثبات التهم الموجهة بموجب المادتين 97(هـ) و6 من قانون مكافحة الثراء الحرام. وإذا كانت كذلك ما إذا كانت كافية لتأسيس الإدانة بموجبها.
وهنا لا خلاف على أن شاهدي الاتهام الثاني والثالث كانا ضالعين في التخطيط لعملية موسى وتنفيذها بمستوى كفاءة يحسدان عليه وقد أخذت أقوالهما على مراحل مختلفة بدأت قبل فتح ملف الفلاشا ليكون محلاً لإجراءات جنائية ولأن هذين الشاهدين كانا وحدهما العالمين بالتفاصيل الدقيقة للعملية , فإنهما منحا العفو بالشروط المقررة قانوناً.
أما شاهد الاتهام السابع , وإن كان من القيادات العليا لجهاز أمن الدولة آنذاك فإنه أبعد عن العملية فيما ثابت من الأدلة المقدمة. ولكنه ظل ضمن قائمة المتهمين إلى حين. وقد ورد أمر حصول المحكوم عليه على مبلغ مليوني دولار منقولاً عن المدعوين (جيري ويفر وميلتون بيردن ) اللذين لم يدل أي منهما بأية إفادة في أية مرحلة من مراحل هذه الإجراءات . ومع كل ذلك قبلت محكمة أمن الدولة ما نقل عن هذين الشخصين بتصديق لما قاله شهود الاتهام الثاني والثالث والسابع في هذا الشأن رغم ما قدمه الدفاع من طعن في تلك الشهادات بالمصلحة وبأنها بينات نقلية لايجوز قبولها قانوناً وقد أوردت محكمة أمن الدولة في تسبيب قرارها على صحيفة (2) من حيثيات الحكم (ص 531 من المحضر) كما يلي:
"هاتان الشهادتان بنقل البينة عن جيري ويفر وميلتون مقبولتان بنص المادة 35 من قانون الإثبات لسنة 1983م لأن جيري ويفر وميلتون جاسوسان لدولة أو دول أجنبية وقد هربا بعد أن انفضح أمرهما فيستحيل العثور عليهما لأداء الشهادة. ومن ناحية وزن شهادتهما لم نجد ما يدعو جيري ويفر وميلتون بيردن إلى اختلاق هذه الرواية وترديدها على مسامع ثلاثة أشخاص مختلفين “.
إنه لغني عن البيان أن هذه الادلة القائمة على النقل خاضعة في مجملها وتفاصيلها للتقييم لا من حيث قبولها ومصداقية قائلها فحسب , وإنما من حيث وزنها , ولا يضفي عليها قبولاً تفتقر إليه أو وزناً لا تستحقه. إن ثلاثة أشخاص مختلفين قد ادعوا سماعها فهي حتى بهذه الصورة , لا تعدو أن تكون بينة نقلية تحكم قبولها قواعد قانونية محددة ويخضع وزنها لما يحكم وزن الأدلة عموماً. فهل هذه الأدلة مقبولة قانوناً؟
إن أول ما ينبغي تناوله عند الإجابة على هذا السؤال هو أن هذه البينات في الغالب منها صادرة عن شخصين عرض عليهما العفو ومع ذلك ظلا في قفص الاتهام يتابع كل وضعه في الاعتبار عند النظر في تقييم ما أدليا به. فالإجراء السليم الذي كان ينبغي إتباعه في تقديرنا كان هو أن يتم فصل قضية هذين المتهمين وأن يقدما كشاهدين فقط على أن يبقيا محجوزين في الحراسة إلى أن تنتهي المحاكمة طبقاً لما ينص عليه البندان (2) و(3) من المادة 216 وال مادة218 قانون الإجراءات الجنائية وهاتان المادتان تقابلان المادتين 306 و308 من قانون الإجراءات الهندي لسنة 1973م وفي شرح أثرهما يقول دكتور لاندلال في كتابه Commentaries on the code of Criminal Procedure 1975. المجلد الثاني الطبعة الثانية 1980م على صحيفة 1844: An accused person to whom pardon has been tendered and who has accepted such pardon ,ought not when he shows an intention not to give the evidence whish he has led the prosecutor to except to be put blame to the dock without being examined as directed by subsection (4)and then dealt with under sec. 308(2)
والمادة 306 المشار إليها في القانون الهندي تتكون من فقرتين (أ) و(ب) وهي تقابل المادة 216 البندين (2) و (3) من القانون السوداني ويقول دكتور بسواس A.R. Biswas مؤلف كتاب:
B.B. Mirta on the code of Criminal Procedure _ 1973.
المجلد الثاني طبعة 1979 م على صحيفة 315 في نفس المعنى ما يلي:
Subsection (4) of secton 306 lays down that the approver shall be detained in custody until the termination of the trail of the other accused person, the effect of that section read with this section (i.e. sec 308) is that action can be taken against the approver who has forfeited his pardon after the trail of other accused. is finished and his trail should be commenced de novo
ومع أن هذا المؤلف يمضي ليقرر من خلال تحليل للسوابق القضائية وما ادخل على المادة 408 من تعديل أن المحاكمة المشتركة باطلة (أنظر صحيفتي 315 و316) , إلا أنه يبدو لنا أن البطلان المشار إليه ينصرف إلى قضية الشخص الذي عرض عليه العفو وليس للمحاكمة كلها وهذا ما يستقى أيضاً من سياق المادة 218 من قانوننا فيما نرى.
ومهما كان من أمر ما اعتور الإجراءات من خطأ في هذا الشأن فإن المقرر فقهاً هو أن بينة من عرض عليه العفو تأخذ طبيعة بينة الشريك لا من حيث حاجتها إلى التعضيد فحسب وإنما أيضاً من حيث أنها مما ينظر إليه بكثير من الارتياب وعدم الثقة.
وفي هذا يقول ناندلال في مؤلفه على صحيفة 1841:_
It has been the universal practice of our courts and judges to require some corroboration of an accomplice or witness giving evidence under conditional pardon as it has been considered to be unsafe to convict solely on such evidance.
ويضيف على صحيفة 1344 ما يلي: _
The courts have uniformly held that it I a well-established rule that except the circumstances of the special nature, it is the duty of the court to rise the presumption that accomplice's evidence is un worthy of credit unless it is corroborated in material particulars
وهذ ا ما جرى العمل في العمل القضائي في كل من بريطانيا والهند والسودان بما أكسبه قوة القانون (راجع في هذا الشأن بالتوالي كتاب Cross on evidence الطبعة الرابعة صفحة 147 وما بعدها , وكتاب Ratanlal and dhirajlal The Law of Evidence الطبعة الخامسة عشر ص 305 وما بعدها ثم كتاب كريشنا فازديف The Law of Evidence in the Sudan 1981م صفحة 442 وما بعدها وفيها بحث شامل عن أصل وتطبيقات القاعدة ) . ويجدر بنا أن نضيف أنه , ومهما كان الوضع بالنسبة للدول الأخرى , فإن المستقر قضاءً في السودان هو أن أقوال الشريك , وإن كانت مما يجوز وضعه في الاعتبار ضد أي شريك آخر فيما تنص عليه المادة 203 من قانون الإجراءات الجنائية , إلا أنها لا تقوم مقام البينة المستقلة التي تصلح للتعضيد ( راجع مثلاً حكومة السودان ضد محمد ريحان وآخرين مجلة الأحكام القضائية لسنة 1961م (الأحكام الجنائية ) مجلد 1 صفحة 16 وحكومة السودان ضد أحمد عبد الله سعيد مجلة الأحكام القضائية لسنة 1956م ص 145 وقضية حكومة السودان ضد علي محمد دوفه وآخرين 1967م ) . وإذا كان هذا وجه النظر إلى الشريك العادي. فإن من يقبل العفو جمع مع كونه شريكاً اعتباراً آخر هو أن له مصلحة في بينة فيما يدلي به , فبينما دافع الشريك العادي هو توريط رفيقه في الجريمة بطريقة " علي وعلى أعدائي يا رب" فإن من يقبل العفو يلتمس فرص خلاصه الشخصي في مدى نجاحه في توريط شخص آخر مما قد يدفعه إلى المغالاة والاشتطاط بما يبلغ درجة الاختلاق استرضاء ً لمن منحه العفو وإمعاناً في إظهار سلامة نيته وتفاوته في إظهار الغرض الذي أوجب العفو ولهذا السبب فإنه ينبغي النظر إلى شهادة من منح العفو على أنها أقل جدارة بالثقة من الشريك العادي.
وفي الإجراءات محل النظر تقترن هذه الشوائب باعتبارات أخرى لا يجوز التقليل من أثرها في إضعاف البينات المقدمة ومن ذلك أن تلك البينات تفتقر إلى التعضيد الذي تتطلبه القواعد الشرعة حيث لا تكفي أقوال الشركاء في تعضيد بعضها البعض فيما لديننا من قبل ثم عن تلك البينات وردت بإهدار تام للضوابط التي تحكم الشهادة من حيث مراعاة عدم متابعة الشهود لبعضهم البعض فيما يدلون به من شهادة , ولا اعتداد في ذلك لاتساق تلك الشهادات مع أقوال أخذت قبل المحاكمة إذ أن تلك الأقوال وهي _ أصلاً لا تشكل بينات مقبولة قانوناً _ لا تمتاز بأي ضمان _ هي الأخرى بأنها سلمت من احتمالات الإعداد والتحضير . ومن الاعتبارات التي لا يمكن إغفالها في تقييم تلك البينات أنها ليست بينات نقلية فحسب , وإنما هي أيضاً في جانب منها نقل لا لوقائع قيلت وإنما لاستنتاجات أعلنت , فالمدعو (جيري ويفر) حينما يقول _ إن كان قد قال شيئاً أصلاً _ إن رقم الحساب الذي أوضحه المحكوم عليه يبدو أنه رقم حسابه الخاص أو أن المبلغ يبدو انه سيذهب لحسابه الخاص , وإنما كان يعبر عن احتجاج شخصي عليه فإنه لا يرقى أصلاً إلى البينة النقلية حتى يجوز النظر إلى ما إذا كان يقع ضمن أي من استثناءات المقررة عليها على انه. إذا سلمنا جدلاً بأن هناك بينات نقلية. فإن السؤال الذي يثور هو ما إذا كان من الجائز قبول تلك البينات بموجب الاستثناءات الواردة على ما هو منصوص عليه في صدر المادة 35 من قانون الإثبات لسنة 1983م أو بموجب أي قاعدة أخرى مقررة قانوناً. وفي هذا الشأن. فإن عقيدة محكمة أمن الأدلة فيما نقلناه من حيثيات حكمها هي أن ( جيري ويفر وميلتون بيرون) جاسوسان لدولة أو دول أجنبية هربا من البلاد ولا سبيل إلى إحضارهما ومع تقديرنا التام لقناعات محكمة أمن الدولة فإنه لم يتبين لنا من أين استمدت تلك القنا عات إذ أن المحضر يخلو من أي دليل مقبول قانوناً يسند مثل هذه النتيجة و بل وعلى النقيض من ذلك تتجه الأدلة المتوفرة وحتى التقديرات الشخصية للشهود أنفسهم الذين اعتمدت عليهم المحكمة _ إلى تأكيد أن هذين الشخصين كانا ضمن موظفي السفارة الأمريكية وكانا يعملان ضمن تكليف محدد ومعلوم وكان التعامل معهما يتم في هذا النطاق . ومع أنهما ما عادا موجودين بالسودان , فإن المحضر يخلو من أي محاولات لاستدعائهما وواضح أن المحكمة لم تبذل مجهوداً في هذا الشأن لقناعتها المسبقة في أن الشخصين كانا جاسوسين وأنهما هربا من السودان.
وحيث انه لا سند لأي من الواقعتين فإنه ما كان يجوز قانوناً للمحكمة _ في تقديرنا _ أن تقرر أن هناك استحالة في إحضار هذين الشخصين مما يجعل تطبيق الاستثناءات الواردة في المادة 35 غير مستساغة وبذلك تبقى القاعدة العامة في البينة النقلية كما هي واجبة التطبيق. ومع أن الاعتبارات التي أشرنا إليها كافية لجعل الأدلة التي قبلتها محكمة أمن الدولة غير مقبولة ولا كافية لإثبات التهمة بموجب المادتين 97(هـ) و6 المشار إليها إلا أنه هناك مسالة أثارتها هيئة الدفاع تستحق النظر التفتت إليهما محكمة أمن الدولة لأسباب لا نراها مقبولة وهي مسألة الاختلافات في إفادات شهود الاتهام الثاني والثالث والسابع في مراحل مختلفة من الإجراءات بشأن المليوني دولار موضوع الاتهام.
إن أول سجل عن تفاصيل ترحيل اليهود الفلاشا هو ما ذكره شاهد الاتهام الثاني (الفاتح عروة) لمحقق من القوات المسلحة كان مكلفاً من قبل المسئولين بالتحقيق في جهاز أمن الدولة. وتم تسجيل أقوال ذلك الشاهد على شريط كاسيت في وقت سابق ليوم 21/5/1985م (الثاني من رمضان 1405هـ) وقد استمعنا على ذلك الشريط فوجدنا أن الشاهد لم يتعرض فيه على أي مال حصل عليه هو أو غيره في معرض القيام بعملية ترحيل اليهود فيما عدا ما دفع لسائقي العربات من نفقات أثناء عملية (موسى). وقد قرع آذاننا أن المحقق كان يحاول استدراج الشاهد للإدلاء بمعلومات عن شيء من المال ربما قد يكون دفع ثمناًَ للعملية , ومع ذلك نفى الشاهد علمه بأي مال كهذا.
وقد تم التحقيق مع هذا الشاهد عقب فتح ملف الفلاشا في 22/5/1985م (3 من شهر رمضان) ولم يرد على لسانه أي مال دفع لأحد وكانت أول مرة تطرق فيها لموضوع المليوني دولار في مواجهة أجراها المتحري بين الشاهد والمحكوم عليه في 12/7/1985م (24 شوال 1405 هـ) (ص 237 وما بعدها من يومية التحري) حيث ذكر أنه سمع من ( جيري ويفر ) أثناء عملية موسى أن المحكوم عليه طلب مساعدة في بناء جهاز أمن الدولة وأنهم سيحصلون له على مبلغ مليوني دولار واستطرد الشاهد أنه ذكر ما سمعه للمحكوم عليه فأقر به . وأنه أثناء زيارة نائب الرئيس الأمريكي جورج بوش للسودان (وكان ذلك قبل عملية سبأ) ذكر له جيري ويفر أنه قام بالترتيبات المطلوبة لتحويل المبلغ لحساب المحكوم عليه. ثم تداعت إفادات هذا الشاهد بشأن هذا المبلغ فشملت أقواله التي قام بتدوينها قاضي مديرية الخرطوم في 18/10/1985م على إثر ما عرض على الشاهد من عفو في 6/10/1985م وإعادة استجوابه على صحيفة 425 من يومية التحري ثم شهادته أمام المحكمة بيد أنه يفهم من أقوال هذا الشاهد على صحيفتي 65 و 66 من محضر المحاكمة أن حديث ( جيري ويفر ) معه بشأن المبلغ كان في معرض الحديث عن العملية الثانية ( أي عملية سبأ ) .
أما شاهد الاتهام الثالث (موسى إسماعيل) فقد دونت أقواله أول مرة في يومية التحري في 8 رمضان 1405هـ (27/5/1985م) على الصفحات 49 على80 ولم يرد فيها أي شئ عن مال دفع مقابل عملية الترحيل وذلك على الرغم من انه تطرق إلى ما دفع مقابل عملية الترحيل لسائقي العربات ولكل من الرائد فؤاد بندر والملازم أسامة كحوافز (أربعمائة جنيه لكل منهم) _ص 178 بل وذكر على صحيفة 80 على إثر استجواب طويل ما يلي: _ " لا علم لي بأي مقابل لهذه العملية “.
لم يذكر أي شئ عن المبلغ في المقابلة التي رتبت بينه وبين المحكوم عليه في 23 شوال 1405هـ (ص 324 إلى 331 من يومية التحري ) إلا أنه , وعندما أعيد استجوابه في 24 شوال 1405هـ (332 على 337 ) قال إنه , وبعد زيارة بوش للسودان , قابل جيري ويفر في الطريق صدفة بشارع السكة حديد حيث أخبر ويفر أنه سيسافر إلى جنيف لتدبير مبلغ اثنين مليون دولار طلبه المحكوم عليه كمساعدة للجهاز وأن المحكوم عليه طلب أن يوضع هذا المبلغ في حساب خاص به في لندن , ويفهم من هذا أن الشاهد علم بذلك المبلغ لأول مرة في تلك المقابلة العارضة , إلا أنه استرسل بالقول , إنه وفي أثناء عملية موسى , ذكر له المحكوم عليه بأنه سيطلب من الأمريكان دفع تكلفة الجهاز الجديد في مقابل المساعدة التي قدمت لهم في نقل اليهود الفلاشا ثم توالت أقوال الشاهد على هذا المنوال عند تدوين أقواله بوساطة قاضي المديرية وفي إجراءات المحاكمة .
أما شاهد الاتهام السابع , عثمان السيد , وقد أخذت أقواله لأول مرة في 9 رمضان 1405 هـ (ص 82 على 97 من يومية التحري) وقد كان في ذلك الوقت ضمن قائمة المتهمين ة, وفي بداية أقواله تلك لم يذكر هو الآخر شيئاً عن دفع مقابل عمليات ترحيل اليهود بل وذكر صراحة ما يلي: " أنا ما متأكد إذا كان اللواء عمر أخذ قروش ولاّ لا” " المقابل الذي ناله السودان حسب اعتقادي كان في شكل معونات لكل السودان وليس للأفراد “.
وبعد هذا عاد وذكر (ص776) أن ميلتون قال له أنهم أودعوا مبلغ 2 مليون دولار في حساب سري للمحكوم عليه في لندن إلا أنه , وعند إعادة استجوابه في 25/ شوال / 1405هـ ذكر أن ون الساب الذي أودع فيه المبلغ كان للمحكوم عليه كان مجرد اعتقاد " وعلى صحيفة 136 من اليومية وهو يتحدث عن تجاهله في العملية وتكليف مرؤسيه بها دون علمه قال الشاهد عثمان السيد:_
" ولذلك اهتميت بمعرفة سبب تجاهلي فعلمت من المتمين الثاني والثالث أن المتهم ( الثاني) طلب من الأمريكان مبلغ 2 مليون دولار إقامة مباني الجهاز الجديد _ وقد أكد لي ميلتون ذلك _ وفي إحدى المرات طلب مني ميلتون تزويده برقم الحساب الخاص بالجهاز في لندن ليودع فيه مبلغ 2 مليون دولار فنفيت علمي برقم الحساب وطلبت منه التوجه إلى المتهم الأول وفعلاً عاد لي ميلتون عند مقابلة المتهم الأول وأفادني أن المتهم أعطاهم رقم حسابه في لندن وعلى صحيفة 143 ذكر ما قاله ميلتون بعد الانتفاضة أن المبلغ أودع في حساب المحكوم عليه الخاص في لندن .
وعند استجوابه بواسطة الدفاع ذكر هذا الشاهد على صحيفتي 149 و150 أن ميلتون حدثه في شأن هذا المبلغ في ثلاث مناسبات: _
(أ‌) في نوفمبر عندما طلب مني رقم الحساب . ....... وميلتون قال لي أن المتهم طلَّع نمرة حساب من حافظة أوراقه.
(ب) المرة الثانية في يناير وفبراير أثناء ترددهم لمعاودة العملية فذكر أنهم حصلوا على التصديق بدفع المبلغ وليس لي علم بأن المبلغ دفع.
(ج‌) وفي 6/4 قال ميلتون " لحسن حظ عمر أن مبلغ ال 2مليون دولار ورد لحسابه” وهكذا يبدو واضحاً أن هذه الإفادات , ومهما كانت قيمتها المبدئية مشوبة بكثير من الاضطراب. وتشتم منها رائحة غير زكيه مما يستوجب أخذها بحذر ويقلل من قيمتها.
ولا يقدح في هذا النظر أن الشريط الكاسيت لم يكن أصلاً من إجراءات البلاغ أو أن القوال التي قام بتينها قاضي المديرية عقب العفو , لا سند له في القانون أو أن ما يرد في يومية التحري لا يشكل بينة ( فيما قالت به محكمة أمن الدولة إذ أننا لسنا في هذه المرحلة بصدد التقرير في إمكانية قبول تلك الأقوال بينة وإنما كل ما يهمنا هو مدى سلامة الاطمئنان إلى صدق الشهود الذين أدلوا بتلك الشهادات , وهذا أمر مكفول للمحكمة يجوز لها الرجوع فيه إلى أية وقائع تتعلق بالدعوى أينما وردت وذلك فيما استقر قضاءً وتنص عليه المادة 10 من قانون الإثبات والمادة 25 من قانون الإجراءات الجنائية (راجع في شأن ما استقر عليه القضاء في حكم رئيس القضاء السابق أبو رنات في قضية حكومة السودان ضد صديق عبد الله المعروفة بقضية قتيلة الشنطة والذي ذهب إلى حد تفضيل ما ورد في اليومية على الشهادة في المحكمة ) . خلاصة الأمر , إذاً أن شاهدي الاتهام الثاني والثالث , وهما ذوا مصلحة بينة , وشاهد الاتهام السابع الذي ورد ما يشير إلى احتمال حنقه على المحكوم عليه قد أوردوا موضوع المليوني دولار( بعد إنكاره في البداية ) في صيغ متباينة يعتريها الوهن ولا تدعو على الاطمئنان صحيح أن الإفصاح عن الواقعة جاء قبل عرض العفو رسمياً فيما رأت محكمة أمن الدولة غير أن ذلك لا يقوم سبباً للاطمئنان على أن إفادات الشهود كانت لوجه الله دون غرض ودون أن يسبقها وعد أو وعيد خاصة وأنه من المعلوم أن عرض العفو لا يتم دون اتصالات ومحاورات هي مجهولة في طبيعتها ومداها مما يستوجب الحذر عدالةً .
ولعل تدقيق النظر في إفادات كل من هؤلاء لشهود في المناسبات المختلفة ومقارنتها بعضها ببعض تؤكد ما يلزم من حذر , فليس من الطبيعي في المقام الأول أن يغفل الشهود واقعة جوهرية كالتي ادعوها حول طلب المحكوم عليه و استلامه لمبلغ مليوني دولار سواءً كان ذلك لنفسه أو لإقامة مبانٍ جديدة لجهاز أمن الدولة الذي كانوا يعملون فيه , ولو أن الأمر انتهى بمجرد إغفال ذكر الواقعة لكان في ذلك ما يقبل نوعاً من التفسير كالنسيان أو عدم إدراك أهمية الواقعة غير أن واقع الأمر هو أن الشاهدين الثاني والثالث , على الأقل , قد نفيا صراحة في البداية انه كانت هناك فوائد مالية مقابل عملية ترحيل الفلاشا . فما الذي كان قد دفعهم على مثل هذا الموقف؟ ثم ما الذي جد في الأمر بعد ذلك حتى انسابت ذاكرتيهما وتداعت عن معلومات دقيقة بلغت حد تذكر الألفاظ التي قالها المدعو (جيري ويفر ) باللغة الإنجليزية بحذافيرها والشارع الذي تمت فيه مقابلته صدفة . وما على ذلك من التفاصيل التي ما كانت تشكل وقائع جوهرية بالقياس إلى الواقعة الرئيسية حول طلب المحكوم عليه المبلغ ابتداءً؟
وإذا تجاوزنا عن ذلك وعما يستفاد من أن يكون جيري ويفر وريقه ميلتون بمثل هذا المستوى من عدم المسئولية الذي يجعلهما يثرثران بمثل هذه المعلومات الخطيرة بمناسبة وبغير مناسبة ودونما اعتبار لزمان أو مكان , فمتى علم الشهود بأن المحكوم عليه طلب المبلغ؟ ومتى بدأت إجراءات تدبيره وإيداعه؟ وهل كان ذلك أثناء عملية موسى أم بعدها وبعد زيارة نائب الرئيس الأمريكي للسودان؟ وهل علم شاهد الاتهام السابع بالواقعة من شاهدي الاتهام الثاني والثالث أم من ميلتون ؟ ومتى كان ذلك؟ هل عشية الانتفاضة؟ ومن الذي طلب رقم حساب الجهاز في لندن؟ هل هو ويفر أم ميلتون ؟ وممن كان اطلب؟ من شاهد الاتهام الثاني أم من شاهد الاتهام السابع؟ ومتى كان ذلك وهل كان حقاً وجود معاملات مالية في عملية الترحيل هو السبب في استبعاد شاهد الاتهام السابع عن العملية؟.
عشرات الأسئلة تترى علينا تثيرها الأقوال المضطربة التي أدلى بها الشهود دون أن نجد لها رداً أو تفسيراً , فهل يصلح بعد هذا أن نطمئن إلى إفادات هؤلاء الشهود لإدانة شخص أياً كان بتهمة استلام أو طلب مال مقابل خيانة الوطن؟
إنه قد يكون هناك مال ربما بلغ مليوني دولار أو زاد أو نقص وربما كانت لذلك صلة ما. بترحيل اليهود الفلاشا , إلا انه يصعب علينا كمحكمة أن نجزم في حقيقة الأمر استناداً على مثل هذه الأقوال وقائليها خاصة في ضوء النظرة القانونية لهم على انه يجمل أن نقرر في وضوح في هذه المرحلة. ومهما كانت الحقيقة في شأن طلب المحكوم عليه لمبلغ المليوني دولار , أنه لا سند البتة للقول بان المبلغ قد أودع فعلاً في حساب خاص للمحكوم عليه أو جهاز أمن الدولة في لندن. إذ لم يثبت أصلاً أن لأيٍ منهما حساباً هناك.
عن المادتين 32 و33 من قانون الإثبات اللتين استشهدت بهما محكمة أمن الدولة لا تسندان في تقديرنا , ما انتهت إليه عقيدة تلك المحكمة في شان التعويل على شهادة هؤلاء الشهود , فخلافاً لتلك العقيدة تبدو لنا مصلحة الشهود جلية بمعايير الفقه الحديث. كما أن البينات متناقضة بشكل لا ينبغي تجاوزه. كل ذلك فضلاً عن أن تلك البينات وإن أخذت على علاتها يعوزها التعضيد الذي يستلزمه القضاء في مثل هذه الحالات وهي مسالة تقر المادة 33 من قانون الإثبات المشار إليها نفسها مراعاتها.
وإذا كان هذا هو ما يحكم البينة في الدعوى الجنائية عموماً , فهل في إجراءات محكمة أمن الدولة _ وهي فيما ذكرنا سابقاً معيار سلامة أو عدم سلامة أحكام وقرارات المحكمة _ ما يمكن أن يسند الإدانة تأسيساً على شهادات شهود الاتهام الثاني والثالث والسابع.
إن قواعد الإثبات التي كانت تحكم محكمة أمن الدولة منصوص عليها في المادة 14 من إجراءات المحكمة يستوقفنا منها البند (2) وحده. إذ أن البند (1) لا يخرج في مضمونه عن القواعد المألوفة في الدعاوى عموماً أما البند (2) فإنه وإن كان يقوم في جوهره على المبدأ الذي تنص عليه المادة 203 من قانون الإجراءات الجنائية ,إلا أنه وضع في صيغة مستحدثة تجمع بين التضييق حيناً والتوسيع حيناً آخر من القاعدة المضمنة في المادة 203 _ المشار إليها _ ويقرأ ذلك البند كما يلي: _
"(2) يجوز للمحكمة أن تأخذ بأقوال متهم ضد متهم آخر دون حاجة إلى تعضيد إذا اقتنعت المحكمة أن تلك الأقوال تتفق مع المنطق والعدالة للوصول للحقيقة وأنها تؤدي بطريق مباشر أو غير مباشر إلى إثبات التهمة أو نفيها وأنها أفضل ما يمكن الحصول عليه بالنسبة لظروف القضية”.
وما يثيره هذا النص وهو ما إذا كان من الجائز , وقد أعلنت محكمة أمن الدولة قناعتها بشأن كفاية ما أدلى به الشهود الذين منحوا العفو أن تتدخل السلطة المغايرة بقناعات مغايرة؟ والإجابة على ذلك تنعقد بمبدأ قضائي هو انه لا ينبغي للسلطات الاستئنافية أن تستبدل تقديرات المحاكم الأدنى بتقديراتها الخاصة ومؤدى ذلك أنه طالما وضع المشرع سلطة التقدير في يد محكمة فإن تقدير تلك المحكمة يخضع للمراجعة لمجرد أن هناك من له تقدير آخر في الأمر ولا تكون الرقابة على التقدير إلا في حالة إساءة التقدير. على انه ولفرط تجاوز المحاكم لهذه القاعدة ولكثرة ما قد تعتبره سوءاً في التقدير يبرر تدخلها فإنه يمكن القول باطمئنان بأنه ليست هناك قاعدة مرعية في هذا المعنى، إذ لا تكون السلطات الاستئنافية في حاجة إلى استنباط القواعد التي تجيز تدخلها أو امتناعها عن التدخل في أحكام المحاكم الأدنى إلا فيما تراه هي كذلك. أو يقررها نص قطعي الدلالة فالطعن بطبيعته لا يستقيم إلا بسلطة شاملة في المراجعة وإذا كان لمحكمة الموضوع أن تستقل بأنواع من القرارات وفق تقديرها لما كان للطعن (وهو غالباً ما يرتبط بتلك القرارات) أي معنى أو مبرر.
وعلى هدى من هذا النظر فإننا نقرر أن اقتناع محكمة أمن الدولة لا يقوم إلا عليها وحدها. ففي تقديرنا انه , وحتى إذا سلمنا بان شهود الاتهام الثاني والثالث والسابع (متهمون ) في معنى المادة 14 المشار إليها (وهم لم يكونوا كذلك إلا حكماً رغم منحى إجراءات المحكمة ) فإنه ليس من المنطق والعدالة أن يؤسس حكم الإدانة على إفادات أولئك الشهود وذلك في ضوء ما أشرنا إليه من العيوب التي تشوبها خاصة وليس من الثابت أنها أفضل البينات التي كان يمكن الحصول عليها حتى بالنسبة لظروف القضية فيما أسلفنا بيانه .
وإزاء ما أوردناه بتفصيل فيما تقدم فإننا نرفض تأييد الإدانة بموجب المادتين 97 (هـ) من قانون العقوبات و6 من قانون مكافحة الثراء الحرام وعليه نقرر إلغاء عقوبتي السجن والغرامة المقررتين عليهما.
(3) الإدانة بموجب المادة 96 (ب) من قانون العقوبات: _
اعتمدت إدانة المحكوم عليه بموجب هذه المادة على أن حوادث الجنوب في الفترة من 1955م وحتى عام 1972م قد كشفت عن تجربة في عبث إسرائيل لسلامة الأراضي السودانية ووحدة السودان كما اعتمدت الإدانة على استمرار العداء بين السودان وإسرائيل حتى اليوم” والمخاطر التي تنجم في السدان خاصة من ترحيل يهود أفريقيا إلى إسرائيل “.
واستطردت محكمة أمن الدولة بالقول , وفيما يتعلق بمساس واقعة ترحيل اليهود الفلاشا استقلال البلاد , أن المحكوم عليه وضع جنوداً من جهاز أمن الدولة تحت إمرة وكالة المخابرات الأمريكية المباشرة ممثلة في جيري ويفر وميلتون بيردن وذلك عندما أمر الضابط بتنفيذ أوامر هذين الشخصين دون مراجعة أو نقاش ..... " وهيأ لوكالة الاستخبارات الأمريكية _ وربما الموساد الإسرائيلي _ فرصة اختراق جهاز الأمن السوداني وتجنيد عناصر كعملاء مزدوجين حينما سمح لضباط الأمن السوداني باستلام نقود من عملاء المخابرات الأمريكية والإسرائيلية بحجة استئجار بصات ومنازل ولوازم أخرى وأن المحكوم عليه نفذ المخطط الأمريكي الإسرائيلي بالسماح للطائرات الحربية الأمريكية والجنود الأمريكان بالهبوط في الأراضي السودانية في عملية سرية خاطفة تتعارض مع موقف السودان المعلن تجاه الصراع العربي واليهودي والتناقض على وجه مطلق مع جميع التزامات السودان التعاقدية مع الدول العربية بشأن ذلك الصراع وتضع السودان العربي إلى جانب إسرائيل ضد العرب وبذلك وضع السودان في وضع الدولة العميلة للولايات المتحدة و لإسرائيل عندما قبل تدخل أجهزة مخابراتها في شئون البلاد بهذا المستوى وبتلك الدرجة .
ومن الصعب علينا أن نتبين أساس إدانة المحكوم عليه في هذه التهمة الثابت من الأدلة أن السفارة الأمريكية ومهما استعملت في ذلك من أساليب واستخدمت من رجال قد يكونون من أجهزة مخابراتها , كانت وراء عملية ترحيل اليهود الفلاشا وكان دور رجالها أولئك أساسياً في إتمام العملية التي تمت في ظاهرها بتقدير سوداني بحت وأسباب مقدرة على المستويين التنفيذي والسياسي قبل وقت غير قصير من تلك العمليات فيما يكشف عنه المستندان 14 و 28 اللذين حررا قبل ثلاثة أشهر من بداية العملية الأولى ويشيران في وضوح أن ترحيل الفلاشا عن السودان كان ضرورة أمنية وصحية . وعلى ضوء ذلك فإن من العسير القول بأن في الأدلة المقدمة ما يثبت أن المحكوم عليه كان ينفذ مخططاً للمخابرات الأمريكية بأي طريقة مباشرة . أما فيما يتعلق بالمخابرات الإسرائيلية , فليس من الثابت بأي قدر أنها كانت في الصورة بعلم المحكوم عليه ، بل وعلى النقيض من ذلك . أعلنت محكمة أمن الدولة نفسها أن جهاز الأمن وعلى رأسه المحكوم عليه ظل يتعقب النشاط السري الذي كانت وراءه المخابرات الإسرائيلية في ترحيل اليهود حتى أوقفه . ولا يفوت علينا أن نذكر ما أشار إليه بعض الشهود من دلائل على امتعاض المحكوم عليه من العملية برمتها باعتبارها من (البلاوي) وهو ما يمكن تفسيره على أنه شعور لا يتفق مع نية التعامل المتعمد مع إسرائيل .
إن مثل هذه التصرفات من الحكومات ومهما كان وجه الرأي بشأنها , لا تصلح إلا للمساءلة السياسية متى وكيفما توفر السبيل إليها , إذ أن التفريط في استقلال البلاد لا يتحقق باشتطاط حكومة في قرار من قراراتها أو خضوعها لإراة دولة أخرى في أمر من أمور الدولة , طالما كان لها في ذلك تقدير حيث أن سوء التقدير ليس في كل الحالات صنواً لسوء القصد , على أنه ليس في هذا ما يمنع المساءلة الجنائية في الحالات التي تنطبق عليها معايير تلك المسئولية.
أما أن بعض العاملين في جهاز أمن الدولة ربما أصبحوا محل اختراق أجهزة استخبارات أجنبية وربما يكون قد جندوا فيها كعملاء مزدوجين , فإننا لا نرى في الأموال التي ثبت أنها دفعت لبعض الجنود _ وهي فيما يبدو في حدود تكاليف المعيشة اليومية _ ما يقوم حده دليلاً على الاختراق ولا ما يكفي أصلاً لاستمالة أي جندي يتمتع بأي قدر من الحس الوطني , فإذا كان لجندي ان يخضع لقوى الأجنبية بممثل هذا الثمن أو بما هو اعظم منه , فإن ذلك يكون لعلة في الجندي يتحمل وزرها وحده ولا ينبغي مساءلة غيره منها .
يأتي بنا هذا إلى السب الأخير الذي أسست عليه محكمة أمن الدولة إدانتها للمحكوم عليه بمقتضى المادة 96(ب) وهو أن تمكين طائرات حربية أمريكية تحمل جنوداً من الهبوط في السودان يتعارض مع موقف السودان المعلن تجاه الصراع العربي الإسرائيلي . . . .إلخ .
وفي تقديرنا أن هذا ربما صح فيما لو كان من الثابت أن المحكوم عليه تعمد وبصفة مباشرة منذ البداية ترحيل اليهود الفلاشا إلى إسرائيل وهو ما لم يثبت على هذا النحو فيما رأينا من قبل . وربما صح فيما لو كان للدول العربية موقفاً موحداً في مواجهة أمريكا حليفة إسرائيل , اما وأن الحال خلاف ذلك فيما لا حاجة فيه إلى دليل قضائي , فإن تعامل المحكوم عليه , هو الآخر , معها على نحو أفضل لا يمكن في تقديرنا أن يرقى إلى أي نكوص عن التزامات عربية وبالتالي لا ينبغي أن يكون محل إحتجاج من أي نوع من أية دولة عربية .
لما سبق فإننا نقررايضا رفض تأييد الإدانة بموجب المادة 96(ب) من قانون العقوبات وعليه نأمر بإلغاء العقوبة المقررة عليها .
(4) الإدانة بموجب المادة 7 مقرؤة مع المادة 2 من قانون مقاطعة إسرائيل لسنة 1985م :_
لقد جاءت الإدانة بموجب هذه المادة تأسيساً على ما انتهت إليه عقيدة المحكمة في أن المحكوم عليه عقد اتفاقاً لتصدير اليهود لإسرائيل مع أشخاص يعملون لحساب إسرائيل , والإشارة هنا لدور أمريكا ( وربما جهاز الموساد) في ترحيل الفلاشا .
ولسنا في حاجة إلى تكرار القول بأنه ليس في الأدلة المقدمة ما يثبت أن لجهاز الموساد أية صلة بالعملية , غير أن دور أمريكا الأساسي فيها أمر لا خلاف عليه فهل في ذلك ما يسند الإدانة بموجب المادة 7 المشار إليها ؟ ان الإجابة على هذا السؤال لا تكون بالإيجاب إلا إذا كان من الثابت أن سعي أمريكا لترحيل الفلاشا من السودان كان لحساب إسرائيل وان المحكوم عليه كان عالماً بتلك الحقيقة . فهل هذا هو الواقع ؟ إنه وفي تقديرنا ومهما قيل من مشكلة أمريكا مع اليهود الأمريكيين وموقفها من هجرة اليهود إلى إسرائيل وأن هناك دولاً أخرى _ خلاف أمريكا _ هي التي تتحمس لتلك الهجرة (كندا ), فإن أمريكا وسواء كانت متعمدة أو لم تكن كانت تعمل لترحيل اليهود إلى إسرائيل فطالما كانت تعلم أن الأمر لا بد أن ينتهي باليهود على إسرائيل وبذلت كل هذا الجهد في ترحيلهم من السودان فإنه يمكن إفتراض أن سعيها كان لتحقيق هذه النتيجة وبالتالي يمكن القول بأنها –أي أمريكا – كانت تعمل بوعي أو بدون وعي لحساب إسرائيل . فهل كان المحكوم عليه على علم بذلك ؟
إنه ليس في الأدلة ما يثبت أن المحكوم عليه كان على علم فعلى بطبيعة دور أمريكا ولعله من غير الميسور بطبيعة الحتال إثبات مثل هذا العلم و إلا أنه في لا حاجة في إثبات العلم إلى إثبات أنه كان فعلياً , بل يكفي لذلك أن يقوم الدليل على الاعتقاد في الواقعة . فذلك هو كل ما يمكن ان يثبت به العلم من الناحية العملية فإذا كان الأمر كذلك فإنه – في تقديرنا أن القرائن كلها تدل على أنه كان هناك ما يمل المحكوم عليه على الإعتقاد بهذا الدور لأمريكا من ذلك وضعه السياسي كنائب لرئيس الجمهورية آنذاك ومنصبه الرسمي كرئيس لجهاز أمن الدولة وكلاهما من المراكز التي تتطلب إحاطة بالتفاصيل الدقيقة لمجريات سياسات الدول الأخرى وعلاقاتها . كما تقوم قرينة تلك النتيجة الفعلية التي انتهت إليها عملية (موسى) فيما اتصل بعلم المحكوم عليه على ما هو ثابت من الأدلة .
مما تقدم , فإننا نرى أن الإدانة بموجب المادة 7 من قانون مقاطعة إسرائيل لسنة 1985م محمولة على أدلة كافية وعليه نقرر تأييد الإدانة أما فيما يتعلق بالعقوبة فقد فات على المحكمة عند إصدار حكمها في البداية أن توقع عقوبة بموجب المادة 7 المشار إليها , فما كان منها إلا أن فعلت ذلك وفي وقت لاحق . والسؤال هو ما إذا كان في ذلك ما يبطل حكمها وفي تقديرنا أنه لا تثريب على محكمة أمن الدولة فيما سلكته من طريق استكمال حكمها , فلم يكن في ذلك ما يرقى إلى تغيير الحكم أو إعادة النظر فيه ( وهما وحدهما ما يمتنعان على المحكمة طبقاً لنص المادة 231 من قانون الإجراءات الجنائية ) .
ولقد أوقعت المحكمة عقوبة السجن لمدة خمس سنوات هي نصف الحد الأقصى لعقوبة مخالفة المادة 7 المشار إليها ومع احترامنا لمحكمة أمن الدولة في تقديرها هذا , إلا أننا نرى أن هذه المدة تميل إلى المبالغة إذا ما كان النظر إلى المخالفة باعتبارها في جوهرها هي ما تضمنته التهمة بموجب المادة 97(د) من قانون العقوبات . وعليه فإننا لا نرى بداً من رفض تأييد العقوبة . ونأمر باستبدالها بالسجن لمدة سنتين فقط .
(5) الإدانة بموجب المادة 70 مقروءة مع المادة14 من قانون الطيران لسنة 1960م
قامت التهمة بموجب هذه المادة بناء على أن هبوط الطائرات الحربية الأمريكية بمهبط العزازة كان دون علم وزير الخارجية في ذلك الوقت فإن المخالفة تكون ثابتة عليه وعليه نؤيد الإدانة بموجب المادة 70 مقروءة مع المادة 14 من قانون الطيران والمادة 84 من قانون العقوبات على أنه يجمل أن نقرر أن هذه المخالفة لا تعدو أن تكون مخالفة شكلية نظراً إلى أن النظام الرئاسي السائد حينئذ كان من شأنه تكريس السلطات في يد رئيس الجمهورية السابق بما يجعل دور الوزراء أمراً شكلياً وقد كان هذا هو واقع الحال بعلم الكافة مما يبرر لنا أخذ علم قضائي به طبقاً لنص المادة 17 من قانون الإثبات لسنة 1983م . وتأسيساً على ذلك وحيث أن الحد الأقصى للعقوبة بموجب المادة 70 لمخالفة المادة 14 هي السجن لمدة سنة أو الغرامة أو العقوبتين معاً فإننا نأمر بتعديل العقوبة لتكون السجن لمدة ستة أشهر مع الإبقاء على الغرامة كما حددتها محكمة أمن الدولة وكذا السجن البديل لها في حالة عدم الدفع .
(6) الإدانة بموجب المادة 42 مقروءة مع المادة 10 من قانون جوازات السفر و الهجرة والمادة 84 من قانون العقوبات :_
وأساس التهمة بموجب هذه المواد هو ما دبره المحكوم عليه من سفر اليهود الفلاشا من مطار الخرطوم دون مستندا , ومن مهبط العزازة دون أن يكون ضمن الموانيء الجوية السودانية المقررة من وزير الداخلية .
وطالما أن الوقائع المتعلقة بهذه المسألة ثابتة دونما شك , فإن الإدانة تكون صحيحة ولهذا فإننا نؤيدها . على أننا لا نملك إلا أن نضيف أن الإدانة هنا أيضاً لا تعدو أن تكون شكلية في ضوء الاعتبارات التي نوهنا بها بشأن قانون الطيران . فلو أن وزير الداخلية كان يملك سلطة فعلية في رفض قرار رئاسي أن تكون العزازة من مخارج السودان ولو إلى حين أو أن يعتبر المهجرون اليهود وكأنهم يحملون مستندات , لكانت المخالفة حقيقية أما وأن وزير الداخلية كان في واقع الأمر مجرد واجهة تأتمر بأمر رئيس الجمهورية فإن السلطات الممنوحة له بالقانون ما كانت سوى سلطات صورية لا أثر لمخالفتها فيما لو جاءت تلك المخالفة من الرئيس السابق أو ممن انصاع لأمره .
أما بشأن العقوبة , فإننا وعلى ضوء الطبيعة الشكلية للمخالفة وفي ضوء الحد الأقصى لعقوبة مخالفة المادة 10 المشار إليها ( وهو السجن لمدة ستة أشهر والغرامة مائة جنيه ) نأمر بتعديل العقوبة لتكون السجن لمدة ثلاثة اشهر مع الإبقاء على الغرامة التي قررتها محكمة أمن الدولة وعقوبة السجن البديلة لها كما هي . أما فيما يتعلق بالقرارات والأوامر الأخرى لمحكمة أمن الدولة فلم نجد سبباً للتدخل فيها .
القاضي: أحمد محمد عثمان قاضي.
التاريخ: 11/4/1987م.
القاضي: صلاح الدين محمد الأمين.
التاريخ: 11/4/1987م.

حسين إبراهيم علي جادين

alaaggean@outlook.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: من قانون الإجراءات الجنائیة الاستخبارات الأمریکیة رئیس الجمهوریة السابق المسئولیة الجنائیة محکمة أمن الدولة فی من قانون العقوبات حکومة السودان ضد المحکوم علیه على على المحکوم علیه المحکوم علیه فی جهاز أمن الدولة من المحکوم علیه مخالفة المادة 7 المحکمة العلیا لمخالفة المادة عملیة الترحیل أمن الدولة من دولة إسرائیل المشار إلیها جهاز الموساد تلک الشهادات السجن المؤبد للمحکوم علیه فی هذا الشأن عملیة ترحیل المشار إلیه أثناء عملیة ملیون دولار تنفیذ أوامر عبر السودان علیه المادة القانون على عقوبة السجن هذه الأحکام إلى إسرائیل هیئة الدفاع جهاز الأمن من السودان من إجراءات عملیة موسى فیما یتعلق السجن لمدة مبلغ ملیون رقم الحساب الشاهد على انتهت إلیه هذا الشاهد فی القانون ومهما کان أن المبلغ قبل العفو من حیثیات مع المادة التی تحکم من الأدلة النظر إلى على صحیفة فی المادة وما بعدها القول بأن فی ذلک ما ما انتهت الذی کان النظر فی المادة 14 ألف جنیه إذا کانت عبد الله وإذا کان حاجة إلى عرض علیه على مبلغ فی ترحیل أن الأمر لا ینبغی أما فیما یرقى إلى المادة 2 مثل هذه أن تکون أن هناک على انه على أنه فی وضوح

إقرأ أيضاً:

“مدير طبي بالمستشفي الإيطالي” .. تم القبض عليه بواسطة الخلية الامنية المشتركة ببورتسودان

اصدرت محكمة مكافحة الإرهاب والجرائم الموجهة ضد الدولة برئاسة القاضي / امين عباس حكما بالسجن لمدة أربعة سنوات للمدان م/ب/م الذي يعمل مدير طبي بالمستشفي الإيطالي السجن أربعة سنوات بتهمة الإساءة وسب قيادات الدولة ممثلة في قيادات القوات المسلحة ويسري الحكم من تاريخ القبض ١٤/٥/٢٠٢٤ و مصادرة هواتفه معروضات اتهام .وكانت المحكمة قد وجهت له اتهاما بموجب المادة ٢٦ من قانون مكافحة جرائم المعلوماتية لسنة ٢٠١٨م .والجدير بالذكر ان المتهم تم القبض عليه بواسطة الخلية الامنية المشتركة ببورتسودان، وتمت احالة المتهم للجنة الوطنية للتحقيق في جرائم وانتهاكات القانون الوطني والقانون الدولي والانساني.ومثل هيئة الاتهام عضو النيابه عبدالله احمد باب الله و الرائد حقوقي صديق حسن، ومثل دفاع المتهم الاستاذ احمد رمضان المحامي.سونا إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • الحزب الاتحادي الأصل يستنكر و يدين المؤامرات الاجنبية الهادفة لزعزعة الأمن الوطني السوداني التي تتم تحت مظلة الاتحاد الأفريقي
  • متى يُمنع المحكوم عليه من التصرف في أمواله؟.. إيهاب الطماوي يوضح
  • “مدير طبي بالمستشفي الإيطالي” .. تم القبض عليه بواسطة الخلية الامنية المشتركة ببورتسودان
  • بعد موافقة النواب.. القانون يجيز لأقارب المحكوم عليه بالإعدام بالزيارة.. تفاصيل
  • الإجراءات الجنائية.. هل يتصرف المحكوم عليه غيابيًّا في أمواله ويديرها؟
  • النواب يمكن لأقارب المحكوم عليه بالإعدام زيارته في اليوم السابق لتنفيذ الحكم
  • "النواب" يُمِكن أقارب المحكوم عليه بالإعدام من زيارته باليوم السابق للتنفيذ
  • "النواب" يوافق على حرمان المتهم المحكوم عليه غيابيًا من التصرف فى أمواله
  • النواب يوافق على حرمان المتهم المحكوم عليه غيابيا من التصرف فى أمواله