ضمير الوجود وتجربة الإنسان وأزمة العلوم السودانية
تاريخ النشر: 15th, January 2025 GMT
أزمة العلوم الأوروبية كتاب لإدموند هوسرل و فيه يحاول تأطير مفهوم الوعي و به يكاد يكون قد وضع حدا فاصلا بين نهاية الفلسفة المثالية و قد بلغت غايتها في الماركسية و الهيغلية و كانت كل جهوده تنصب في محاولة إبعاد الميتافيزيقيا و إعتماده على الفينومينولوجيا لتوصيف الحياة و إنتشال المعنى و قد إنتبه ريموند أرون وقد جاء لألمانيا لمواصلة دروسه و إنتبه لأفكار فلاسفة ألمانيا و قد أعجبته أفكار كل من ماكس فيبر و دلتاي و جورج زيمل و بالطبع كان إعجابه بفينومينولوجيا هوسرل.
كان ريموند أرون في فترة وجوده في ألمانيا يلاحظ تنامي الزج و التعبية السياسية التي تقوم بها النازية و قد تأكد بأن الفلسفة المثالية الألمانية قد بلغت منتهاها و لن تفتح على غير نظم شمولية كالنازية و الشيوعية و من حينها كانت مهمة ريموند أرون تخليص الفلسفة الفرنسية من قبضة الوضعية المنطقية في حتمياتها و يقينياتها و وثوقياتها و لا يكون بغير نقل فكر و فلسفة الفلاسفة الألمان في مقدمتهم كل من ماكس فيبر و هوسرل و دلتاى و جورج زيمل و لهذا السبب كانت مهمة ريموند أرون صعبة للغاية و خاصة أن أستاذته في فرنسا كانوا تحت نير الفلسفة الوضعية لكل من ماركس و أوجست كونت.
و الغريب أن بول نيزان صديق ريموند أرون كان كما ريموند أرون مختلف مع أساتذته و قدم نقد لاذع لهم في كتابه كلاب الحراسة إلا أن ريموند أرون كان يرى أن بول نيزان نفسه محصور في حتميات الشيوعية. نقول أن أوروبا إنتبهت لأزمة العلوم الاوروبية منذ قرن كامل و قد تجلى في أفكار الفلاسفة الالمان و خاصة ماكس فيبر و دلتاي و جورج زيمل و هوسرل و بداءت المعركة و نقل ريموند أرون جذوتها الى فرنسا و قد أصبح في مواجهة شرسة مع أساتذته في فرنسا و قد أستمرت لثلاثة عقود حتى إنتصرت أفكار ماكس فيبر على ماركس في فرنسا و أفكار ريموند أرون على أفكار سارتر.
و بالتالي يصبح الديالكتيك الصالح لزماننا كما يقول ريموند أرون هو منفتح على اللانهاية وفقا لتجربة الإنسان في حدود عقله البشري و ضمير الوجود تسوقه معادلة الحرية و العدالة بلا قصد و لا معنى و لا يعرف غاية و لا نهاية كما يتوهم كل من هيغل و ماركس بأن هناك عقل يسوق التاريخ لنهاية الصراع الطبقي و نهاية التاريخ و ديالتيك ريمون أرون يكون فيه علم الإجتماع بعد معرفي في صميم الديالكتك.
و بالتالي تصبح فلسفة ريموند أرون النقدية قائمة على القرار و الإختيار وفقا لفكرة الشرط الإنساني المتمثل في الفلسفة السياسية لطبيعة النظام السياسي و بالتالي كان إختياره للديمقراطية الليبرالية كمفسرة لظاهرة المجتمع البشري بل تمثل روح قوانيين التاريخ الطبيعي للبشرية و عليه كانت فلسفة ريموند أرون مهتمة بإزاحة و إبعاد كل من أفكار الفلسفة المثالية الألمانية و قد أصبحت غائية لاهوتية دينية و كذلك كان فكر ريموند أرون و جهده في إزاحة و إبعاد أي أفق ميتافزيقي و أصبح تركيزه على أنثروبولوجيا الليبرالية.
و عليه يمكننا القول أن أوروبا منذ قرن من الزمان قد فارقت علومها حيز الفلسفة المثالية الألمانية و قد بلغت منتهاها في الهيغلية و الماركسية و كذلك فارقت علوم أوروبا المنهجية التاريخية التي يتخفى في ظلالها مؤرخنا التقليدي السوداني و هو رافل في نعيم الوثيقة التاريخية المقدسة و هذا هو سبب الكساد الفكري في السودان و بسببه لا تجد كبير إختلاف في الفكر بين الكوز الفج و المتواطئ مع الكوز.
و قد ضربنا مثلا لذلك و وضّحنا فيه كيف كانت ممارسة الترقيع؟ و قد تجلى في أطروحات كثر من المفكرين السودانيين مثل المؤالفة بين العلمانية و الدين أو المساومة التاريخية بين يسار سوداني رث و يمين سوداني غارق في وحل الفكر الديني و أكثرهن خمول في الفكر فكرة العلمانية المحابية للأديان في حوار حول الدولة المدنية.
ما أود قوله أن فلاسفة أوروبا إنتبهوا لأزمة العلوم الاوروبية منذ زمن مبكر و رغم تنبيهم للنخب الاوروبية إلا أن الحرب العالمية الأولى و الثانية قد إجتاحت أوروبا و خلّفت من المآسي ما جعل أوروبا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية تؤسس للسلام و لكن في ظل عالم منقسم أي أن أوروبا قد أدركت فلسفة التاريخ الحديثة و قد فارقت فلسفة التاريخ التقليدية و أن هناك عالم يرزح تحت نير فلسفة التاريخ التقليدية الى الآن و من ضمنه العالم العربي و الإسلامي بفلسفته و ثقافته الإسلامية التقليدية.
و بالتالي أن حال العالم العربي الإسلامي التقليدي الآن كحال أوروبا في بداية ثلاثينيات القرن المنصرم و هي رازحة في ظلال الفكر الميافزيقي و هذا هو سبب كساد الفكر في السودان في ظل عالم قد أصبحت فيه البشرية و لأول مرة تعيش في ظل تاريخ واحد قد بداء مع ظهور الثورة الصناعية إلا أن أطرافه متلاحقة إذاما تهيئت شخصيات تاريخية تستطيع أن تجسر الهوّة بين تاريخ أوروبا و قد أصبح مختصر لتاريخ البشرية و تاريخ الحضارات التقليدية و هذا ما يغيظ الكيزان و أذيالهم.
و من الشخصيات التاريخية يمكننا أن نذكر نهرو و قد إنتبه منذ زمن مبكر و بحكم دراسته في أوروبا و إطلاعه على أزمة العلوم الأوروبية و إطلاعه على أفكار الفلاسفة في أوروبا و كيف قد تجاوزوا الميتافيزيقيا و لاهوت القرون الوسطى و كان نهرو على إطلاع على أفكار الفابية و قد نجح نهرو في إقناع المهاتما غاندي بهند علمانية تقنية علمية بدلا من الهند التقليدية التي يحلم بها غاندي و من هنا يمكننا أن نقول أن نهرو في الهند يجسد بفكره شخصية تاريخية قد بنت الهند الحديثة و أصبحت الهند تلاحق العالم الحديث بخطوات واثقة و هي مؤسسة على قيم الجمهورية.
و هنا يمكننا أن نقارن لماذا نجح نهرو في إقناع المهاتما غاندي بهند علمانية علمية تقنية بدلا من الهند التقليدية التي يحلم بها غاندي و فشل أتباع مؤتمر الخريجيين في السودان في إقناع قادة الطائفية من أنصار و ختمية بسودان علماني و علمي و تقني بدلا من السودان التقليدي؟
إختيارنا لنهرو لأنه يجسد في فهمه تفكير ريموند أرون في فكرة الفلسفة السياسية كشرط إنساني و روحها مسألة القرار و الإختيار للنظام السياسي أي التفريق بين أن تختار نظام ليبرالي أم نظام شمولي و قد أختار نهرو الديمقراطية كما أختارها ريموند أرون و قال أن مستقبل الهند في أن تكون علمانية ديمقراطية تقنية و دولة حديثة و هذه هي قيم الجمهورية و قد سار عليها نهرو لمدة ستة عشر عام كرئيس وزراء و قد أصبحت فلسفته السياسية قابلة على يدها قد ولدت الهند كأكبر ديمقراطية في العالم و ما زالت مقولته الخالدة تتردد على الألسن و هي أن مشاكل الديمقراطية لا تحل إلا بمزيد من الديمقراطية و ليس بمزيد من القوانيين.
القرار و الإختيار الذي قد تحدث عنه ريموند أرون كشرط إنساني و قد فهمه نهرو و أختار للهند الديمقراطية و العلمانية و التقنية و العلوم الحديثة و قد نجح و يمكن التحقق منه في فشل باكستان في تحقيق نظام ديمقراطي كالذي قد حققته الهند و سببه أن نخب باكستان قد إختارت الفلسفة الإسلامية التقليدية كما أختار أتباع مؤتمر الخريجيين في السودان الفلسفة الإسلامية التقليدية و ها هي تسوقهم من فشل الى فشل بعكس الهند التي إختارت العلمانية و الديمقراطية و قد أصبحت من أكبر الديمقراطيات في العالم.
في ختام هذا المقال وجب الرجوع الى مقصده أي مقصد المقال و هو أن ريموند أرون في فرنسا منذ مطلع ثلاثينيات القرن المنصرم إنتبه لأفكار علماء الإجتماع في ألمانيا و أختار فكرهم لكي يخلّص به فرنسا من هيمنة فكر الوضعية المنطقية و قد تجسدت في الوثوقيات و الحتميات و اليقينيات لكل من ماركس و أوجست كونت و إعتمد ريموند أرون على نقده المعرفي و إعتماده على فكر كل من دلتاي و ماكس فيبر و هوسرل و جورج زيمل في إزاحة ظلال أفكار الوضعية و قد تجسدت في هيمنة الفكر الماركسي و أفكار أوجست كونت و دوركهايم و إختيار ريموند أرون لأفكار الفلاسفة الألمان و قد تخطّوا ظلال الفلسفة المثالية الألمانية بعد رفض الهيغلية و الماركسية أتاح لريموند أرون أن يغيّر وجهة الفكر في فرنسا.
فهل سيطل علينا يوم في السودان يغادر فيه الفكر الغائي الديني اللاهوتي و قد جسده مفكري السودان و أغلبهم من رجال الدين من كل شاكلة و لون؟ و تطل شخصية تاريخية كنهرو يتحدث في قراره و إختياره عن سودان علماني ديمقراطي تقني يسير في طريق الإنسانية التاريخية كما سارت الهند بسبب قرار و إختيار نهرو و قد فارقت السبات الدوغمائي العميق لهند تقليدية و قد أصبحت هند علمانية علمية ديمقراطية تقنية.
من جانبنا نقول نعم سيطل علينا يوم سيكون فيه إختيار النخب السودانية الآتية من جهة المستقبل لسودان ديمقراطي علماني تقني يلحق بمواكب الإنسانية التاريخية لأننا في زمن و فكر عقل الأنوار و أفكار الحداثة التي قد قضت على جلالة السلطة و قداسة المقدس و فيه تعيد الإنسانية التاريخية خلق العالم وفقا لقدرات عقلنا البشري منتصرة للفرد و العقل و الحرية.
و إذا كانت لنا كلمة أخيرة في هذا المقال فهي دعوة للنخب السودانية بأن تلاحق تطور الفكر في العالم و قد فصلنا عنه قرن كامل من الزمن و أقصد أن أفكار كل من ماكس فيبر و دلتاي و هوسرل و جورج زيمل نادرة في ساحتنا السودانية كندرة الكبريت الأحمر و كله بسبب سيطرة الفكر اللاهوتي الغائي الديني في ساحة الفكر السودانية و هذا ما جعلنا في السودان نرزح تحت سياجات دوغمائية تتجسد في فكر عبدة النصوص من كيزان و شيوعيين لم يدركوا بعد أن الميتافيزيقا لم تعد أفق البشرية بل أن أفق البشرية في أنثروبولوجيا الليبرالية.
taheromer86@yahoo.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: ریموند أرون ماکس فیبر فی السودان قد أصبحت فی فرنسا
إقرأ أيضاً:
الخارجية السودانية: انقطاع الكهرباء جراء هجوم ميليشيا الدعم السريع على محطة سد مروي
كشفت وزارة الخارجية السودانية عن انقطاع الكهرباء عن أجزاء واسعة من البلاد جراء هجوم بالمسيرات من قبل ميليشيا الدعم السريع استهدف محطة توليد الكهرباء بسد مروي، حسبما أفادت قناة القاهرة الإخبارية، في نبأ عاجل.
أرواح وعتاد.. خسائر كبرى للدعم السريع في معركة ود مدني بالسودانبعد السيطرة على ود مدني.. الجيش السودان ينتشر جنوب ولاية الجزيرة |تفاصيل
وأكدت الخارجية السودانية أن استهداف سد مروي جريمة إرهابية متكاملة الأركان نفذتها ميليشيا الدعم السريع.
وأشارت الخارجية السودانية إلى ميليشيا الدعم السريع تستهدف تدمير السودان وبنياتها التحتية ومؤسساتها الخدمية.
ودعت الخارجية السودانية المجتمع الدولي لإدانة الجرائم النكراء التي ترتكبها ميليشيا الدعم السريع.