داعش والتجييش العاطفي للحفاظ على تماسك التنظيم
تاريخ النشر: 10th, January 2025 GMT
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
تعكس افتتاحية العدد (476) من صحيفة النبأ الصادرة عن تنظيم داعش واحدة من أكثر السمات تكرارًا فى الخطاب الإعلامي للتنظيم: المزج بين الأيديولوجيا الدينية المتشددة والتوظيف السياسى للأحداث الميدانية. يظهر المقال كوثيقة تروج لفكرة «استمرارية الجهاد» كقدر إلهي، وتحاول فى الوقت نفسه إثبات قدرة التنظيم على إعادة الانتشار رغم الهزائم المتكررة التى مُنى بها خلال السنوات الماضية.
كما يعتمد الخطاب على إعادة إنتاج سردية الانتصار رغم الوقائع الميدانية التى تشير إلى انحسار نفوذ التنظيم وتراجعه. يُلاحظ أن المقال يستغل العاطفة الدينية لمخاطبة عناصر التنظيم والمتعاطفين معه، محاولًا رفع الروح المعنوية عبر التركيز على الهجمات الفردية المحدودة وتصويرها كإنجازات استراتيجية ضخمة. هذا الخطاب ليس جديدًا؛ إذ يتكرر مع كل مرحلة ضعف أو تراجع، مما يؤكد أن الآلة الإعلامية لداعش لا تزال تعتمد على "التجييش العاطفي" كوسيلة أساسية للحفاظ على تماسك ما تبقى من التنظيم.
البنية الخطابية والرسائل الأساسيةتقوم الافتتاحية على مجموعة من الرسائل الرئيسية:١. الترويج للأيديولوجية الجهادية العالميةتحرص افتتاحية العدد (٤٧٦) من صحيفة النبأ على ترسيخ فكرة "الجهاد العالمي" كقيمة دينية عابرة للحدود، وهى فكرة أساسية فى أيديولوجيا تنظيم داعش. ينطلق المقال من تأكيد أن "الجهاد" ليس مجرد معركة عسكرية أو رد فعل على سياسات معينة، بل هو "تكليف سماوي" يتجاوز كل الحدود القومية والعرقية، ويخضع فقط لتوجيهات دينية. ويستشهد المقال بسردية دينية توحى بأن استمرار "الجهاد" أمر حتمى وإلهى لا يخضع للتقديرات البشرية. يقول الكاتب: "الجهاد قدر الله تعالى وفريضة من فرائضه وشريعة من شرائعه التى لم تُنسخ ولم تُستبدل، بل هى ماضية باقية ما بقى الصراع بين الإسلام والكفر."
تسعى هذه السردية إلى تحفيز العناصر الموالية للتنظيم من خلال التأكيد على أن كل محاولات وقف "الجهاد" ستبوء بالفشل لأنها تتحدى "إرادة الله". هذا الخطاب يستغل العاطفة الدينية ويغيب العقل النقدي، حيث يتم اختزال الصراعات المعقدة فى ثنائية "الإيمان والكفر" دون النظر إلى تعقيدات الواقع السياسى والاجتماعي.
كما يعمد المقال إلى نزع أى سياق جغرافى أو سياسى عن العمليات التى يقوم بها التنظيم، مما يجعل أفعاله تبدو وكأنها جزء من "صراع أزلي" يمتد من صدر الإسلام إلى اليوم. هذا النوع من الخطاب يساعد على تجنيد عناصر من جنسيات مختلفة، إذ يشعر الأفراد بأنهم جزء من "أمة واحدة" لها غاية أسمى تتجاوز الحدود.
٢. التسويق للانغماسيين والمهاجرينتتكرر فى الافتتاحية الإشادة بما يسميهم التنظيم "الانغماسيين" و"المهاجرين"، وتبرزهم كأيقونات للتضحية والجهاد العالمي. يستخدم المقال لغة رمزية تُضفى على هؤلاء الأفراد هالة بطولية تتجاوز حدود المنطق والواقع. يصف الكاتب هؤلاء المقاتلين قائلًا: "شنّه ثلةٌ من الانغماسيين المهاجرين وصلوا إلى ولاية الصومال من سبع دول مختلفة، ولكن جمعتهم غاية واحدة هى التوحيد، وسبيل واحد هو الجهاد."
يعكس هذا الوصف محاولة متعمدة لإبراز فكرة "الهجرة فى سبيل الله"، حيث يسعى المقال إلى تصوير هؤلاء الأفراد كأبطال تجاوزوا الحدود والسدود، وواجهوا كل العقبات ليحققوا "النصر" المزعوم. من الواضح أن التنظيم يعتمد على هذه السردية لجذب عناصر جديدة من مختلف الدول، خاصة الشباب الذين يشعرون بالتهميش أو يبحثون عن هوية أو هدف لحياتهم.
أحد المحاور الأساسية فى خطاب تنظيم داعش هو "شيطنة الخصوم"، وهى استراتيجية نفسية وإعلامية تهدف إلى خلق عدو مشترك يبرر استمرار العنف. فى الافتتاحية، يُصور التحالف الدولى ضد داعش بـ"الحلف الصليبي"، ويُتهم بأنه يسعى لإفشال "الإسلام الحقيقي". يقول المقال: "تزاحمت تقارير مراكز الاستخبارات الصليبية المموهة، فى التحذير من خطر تنامى نشاط الدولة الإسلامية فى الصومال."
هذه اللغة التى تعتمد على مصطلحات مثل "الحلف الصليبي" و"المرتدين" ليست جديدة، لكنها فعالة فى تعبئة الأتباع وحشد الدعم. فالخطاب هنا لا يقدم تفسيرًا عقلانيًا للأحداث، بل يعتمد على إحياء ذاكرة تاريخية للصراعات بين المسلمين والمسيحيين، مما يساهم فى تأجيج الكراهية وتعزيز الشعور بالمظلومية.
إلا أن هذا النهج يتجاهل تمامًا أن التنظيم نفسه ارتكب فظائع ضد المسلمين قبل غيرهم، وأدى إلى دمار مجتمعات بأكملها فى العراق وسوريا ومناطق أخرى. فبدلًا من الاعتراف بهذه الجرائم، يُلقى المقال اللوم على "الحلف الصليبي" و"المنافقين"، وكأن التنظيم مجرد ضحية بريئة لمؤامرة عالمية.
٤. إعادة إنتاج الانتصارات المزعومةتحاول الافتتاحية تضخيم الهجمات الفردية المحدودة وتصويرها كإنجازات استراتيجية ضخمة تعكس "قوة الدولة الإسلامية". فى مثال هجوم "بونتلاند"، يوصف الهجوم وكأنه ضربة محورية للحكومات المحلية والإقليمية، بل وللتحالف الدولى بأكمله. يقول المقال: "ضربة العام كانت من نصيب قوات حكومة (بونتلاند) المرتدة فى الصومال، حيث تعرضت لهجوم مركّب شنّه ثلة من الانغماسيين."
هذه السردية تتجاهل تمامًا حقيقة أن مثل هذه الهجمات، رغم خطورتها، تظل مجرد عمليات متفرقة لا تعكس قوة حقيقية أو قدرة على السيطرة المكانية. فالتنظيم لم يعد قادرًا على إدارة أراضٍ شاسعة كما كان فى سنوات ذروته.
يعد التوظيف الدينى لتبرير الهزائم والتراجع الميدانى أحد الأساليب المتكررة فى الخطاب الإعلامى لتنظيم داعش. فى افتتاحية العدد (٤٧٦) من صحيفة النبأ، يظهر هذا التوظيف بوضوح من خلال الربط بين النتائج العسكرية للتنظيم والإرادة الإلهية. فعندما يتعرض التنظيم لانتكاسة أو خسارة منطقة استراتيجية، لا يتم الاعتراف بأخطاء القيادة أو ضعف الاستراتيجية العسكرية، بل يُصور الأمر كـ"اختبار إلهي" أو "ابتلاء" يُمتحن من خلاله إيمان المجاهدين وصبرهم. ويؤكد المقال ذلك بوضوح حين يقول: "إن أماكن وأوقات هذه الضربات السنوية المباركة، ليست من اختيارات المجاهدين بقدر ما هى توفيق وتسديد إلهى ممّن شرع الجهاد سبحانه."
يستغل التنظيم فى هذا السياق مشاعر التدين لدى أتباعه، إذ يسعى إلى خلق حالة من "الإيمان القدري" التى تجعل الأفراد يرون كل هزيمة أو خسارة كجزء من "الخطة الإلهية الكبرى". وبذلك، يتم تحييد أى نقاش حول المسؤولية القيادية أو النقد الداخلي، لأن الهزيمة تصبح جزءًا من "الاختبار الرباني" وليس نتيجة لأخطاء تكتيكية أو سوء تقدير. هذا التبرير الدينى لا يُستخدم فقط للتخفيف من وطأة الهزائم، بل أيضًا لاستقطاب مزيد من الأنصار عبر تصوير الصبر والثبات فى وجه الهزيمة كعمل "إيماني" يُثاب عليه الفرد.
فى المقابل، عندما يحقق التنظيم نجاحًا ميدانيًا - مهما كان محدودًا أو رمزيًا - يتم تقديمه على أنه "نصر إلهي" وتوفيق من الله. هذه الازدواجية تجعل التنظيم فى موقع "الرابح" فى جميع الأحوال: إذا انتصر، فهو مؤيد من الله؛ وإذا هُزم، فهو يُختبر من الله. يقول المقال: "ولو خذله أهل الأرض قاطبة ولو استعانوا بالشياطين على وقفه." هذا الخطاب يحوّل المعارك من صراع عسكرى ميدانى إلى "معركة إيمانية"، حيث يتم نزع البعد الواقعى والمادى للصراع تمامًا.
المفارقة بين الخطاب والواقع الميدانييعكس الخطاب الدعائى لتنظيم داعش، كما ورد فى افتتاحية العدد (٤٧٦) من صحيفة النبأ، حالة من التناقض الواضح بين ما يروّج له التنظيم من انتصارات وإنجازات ميدانية، وبين الواقع الفعلى على الأرض. ففى الوقت الذى يحاول المقال تسويق هجوم "بونتلاند" فى الصومال كدليل على "القدرة المستمرة على التمدد"، يتجاهل الكاتب عمدًا التراجع الكبير للتنظيم فى معاقله الرئيسية السابقة فى العراق وسوريا، حيث لم يعد يمتلك السيطرة المكانية التى كانت تمكّنه من فرض حكمه وإدارة موارده بشكل فعّال. هذا التباين الصارخ يثير تساؤلات حول مصداقية الدعاية الداعشية وقدرتها على عكس الواقع الميدانى بدقة.
إن انتقال التركيز إلى مناطق مثل الصومال والساحل الإفريقى يكشف عن استراتيجية واضحة يتبعها التنظيم فى السنوات الأخيرة، وهى استغلال "المناطق الهشة" التى تعانى من فراغ أمنى وضعف فى بنية الدولة المركزية. يتيح هذا النوع من البيئات للتنظيم فرصة لإعادة ترتيب صفوفه، وتنفيذ هجمات دعائية تساهم فى إظهار قدرته على البقاء والتكيف مع الظروف المختلفة. فى هذا السياق، يصبح هجوم محدود فى منطقة نائية مثل "بونتلاند" حدثًا دعائيًا يُضخّم فى وسائل إعلام التنظيم ليبدو وكأنه إنجاز استراتيجى كبير.
يُظهر التركيز على الصومال وغيرها من المناطق البعيدة محاولة واضحة لصرف الأنظار عن الخسائر الكبيرة فى مناطق نفوذه السابقة. فبينما يتراجع التنظيم فى العراق وسوريا ويتعرض لضربات عسكرية قاسية، يحاول من خلال الإعلام أن يوجّه البوصلة نحو "الجبهات البديلة"، ليحافظ على وهم "استمرارية الجهاد العالمي". لكن هذا التحوّل الجغرافى لا يعدو كونه هروبًا من مواجهة الحقيقة الميدانية المتمثلة فى فقدان النفوذ والقدرة على الإدارة الفعلية للأراضي.
التركيز على المقاتلين الأجانب (المهاجرين)يُبرز المقال فى افتتاحية العدد (٤٧٦) من صحيفة النبأ أهمية خاصة للمقاتلين الأجانب أو ما يُطلق عليهم داخل أدبيات التنظيم "المهاجرون". يُصوَّر هؤلاء الأفراد كرموز للتضحية والفداء، وكأبطال عابرين للحدود، تخطوا العقبات الأمنية والجغرافية من أجل "نصرة الدين". هذا الخطاب ليس جديدًا على إعلام داعش، إذ سعى التنظيم منذ ظهوره إلى تعزيز فكرة "الأمة الإسلامية العابرة للحدود" التى تتجاوز الهويات الوطنية والعرقية، ليؤكد أن معركته ليست محلية بل عالمية، تستقطب مقاتلين من مختلف الجنسيات والأعراق.
التركيز على "المهاجرين" فى هذه الافتتاحية يأتى فى سياق تبرير محدودية حضور التنظيم فى مناطق نفوذه السابقة، وتحويل الأنظار إلى بقع جغرافية جديدة مثل الصومال، حيث يمكن توظيف هؤلاء المقاتلين كأداة دعائية. يقول المقال: "وإن هؤلاء المهاجرين قد وصلوا إلى ولاية الصومال من سبع دول مختلفة، ولكن جمعتهم غاية واحدة هى التوحيد وسبيل واحد هو الجهاد." هنا يحاول التنظيم رسم صورة مثالية لعالمية مشروعه، رغم أن الواقع يشير إلى تراجع تدفق المقاتلين الأجانب إلى صفوفه بفعل الضربات الأمنية المحكمة وتضييق مسارات التجنيد والتمويل.
الأمر الأكثر تعقيدًا هو الانقسامات الداخلية داخل التنظيم نفسه. تشير تقارير عديدة إلى وجود خلافات حادة بين القيادات المحلية والمقاتلين الأجانب، خاصة فى المناطق التى يواجه فيها التنظيم ضغوطًا عسكرية وأمنية. هؤلاء المقاتلون الأجانب غالبًا ما يشعرون بالتهميش أو يُنظر إليهم كـ"عبء أمني" عندما يزداد الضغط على التنظيم. فى هذا السياق، يصبح الحديث عن "أبطال المهاجرين" فى إعلام التنظيم مجرد محاولة لإنعاش صورة متهالكة وإعادة إحياء وهم القدرة على جذب الدعم العالمي.
فى النهاية، يُعد التركيز على المهاجرين فى المقال محاولة واضحة لتغطية نقاط الضعف الهيكلية فى التنظيم، واستثمار رمزية هؤلاء الأفراد فى تعزيز صورة "التنظيم العالمي" الذى يتجاوز الحدود. إلا أن هذه الرواية الدعائية تتجاهل الحقائق الميدانية، والتى تؤكد أن تنظيم داعش لم يعد يمتلك الشبكات اللوجستية القوية التى تمكّنه من تجنيد واستقطاب مقاتلين أجانب بكفاءة كما كان الحال فى ذروة قوته.
الاستخدام المكثف للمظلومية التاريخيةيعتمد المقال الافتتاحى فى العدد (٤٧٦) من صحيفة النبأ على توظيف سردية "المظلومية التاريخية" كأحد الأعمدة الرئيسية فى الخطاب الدعائى لتنظيم داعش. تُصور هذه السردية الصراع على أنه حرب عالمية "صليبية" تستهدف الإسلام والمسلمين، وتُصوّر التنظيم على أنه القوة الوحيدة التى تقف فى وجه هذه "المؤامرة الكونية". يقول المقال: "إن الجهاد قدر الله تعالى وفريضة من فرائضه وشريعة من شرائعه التى لم تُنسخ ولم تُستبدل، بل هى ماضية باقية ما بقى الصراع بين الإسلام والكفر." هذا الطرح لا يخلو من التحريض والاستعطاف فى آنٍ واحد، حيث يسعى إلى استغلال مشاعر الإحباط واليأس لدى بعض الفئات وتوجيهها نحو تبنى أيديولوجية التنظيم العنيفة.
تهدف هذه السردية إلى تحقيق هدفين أساسيين: الأول هو إضفاء الشرعية الدينية على أعمال العنف والإرهاب التى يقوم بها التنظيم، والثانى هو استقطاب مجندين جدد من خلال إقناعهم بأنهم جزء من "معركة مقدسة" ضد "قوى عالمية متآمرة". يتعمد المقال تصوير أى عمل عسكرى ضد التنظيم على أنه جزء من هذه "المؤامرة"، ويتجاهل بشكل صارخ حقيقة أن أغلب هذه العمليات العسكرية جاءت كرد فعل على الجرائم الوحشية التى ارتكبها التنظيم ضد المدنيين فى العراق وسوريا وأماكن أخرى.
المفارقة أن التنظيم، الذى يدّعى الدفاع عن الإسلام والمسلمين، تسبب بأفعاله فى تشويه صورة الإسلام عالميًا وتعميق الأزمات الطائفية والعرقية فى البلدان التى نشط فيها. بدلًا من أن يكون "مدافعًا عن الأمة"، كما يدّعي، أصبح سببًا رئيسيًا فى تفاقم معاناة المجتمعات المسلمة. لكن المقال الدعائى يتجاهل هذه الحقائق تمامًا، بل يحاول قلبها من خلال تسويق صورة مظلومية زائفة تبرر كل انتهاك وكل جريمة يرتكبها التنظيم.
تناقض السردية الداعشيةتعاني السردية المطروحة فى افتتاحية العدد (٤٧٦) من صحيفة النبأ من تناقض جوهرى يكشف حالة الضعف التى يعيشها تنظيم داعش حاليًا. فمن جهة، يسعى المقال إلى تصوير بعض العمليات المحدودة، مثل هجوم "بونتلاند"، كإنجازات استراتيجية كبرى تُثبت "قوة التنظيم وحيويته"، ومن جهة أخرى، يتحدث الخطاب عن "توفيق وتسديد إلهي" فى تفسير أى نجاح جزئي، ما يعكس غيابًا واضحًا لأى إنجازات ملموسة على المستوى العملياتى أو الاستراتيجي. هذا التناقض ليس مجرد خلل دعائي، بل هو انعكاس دقيق للوضع الميدانى المتدهور للتنظيم.
يحاول المقال تجاوز هذا التناقض من خلال توظيف اللغة الدينية والرمزية، فيصور النجاحات المحدودة على أنها جزء من "اختبار إلهي" يُعد التنظيم لمراحل أكثر "عظمة". لكن فى الواقع، عندما يضطر التنظيم إلى تضخيم هجمات صغيرة أو هجمات نفذها أفراد محدودون باعتبارها "نصرًا عظيمًا"، فهذا مؤشر واضح على تراجع قدرته على تنفيذ عمليات كبيرة كتلك التى شهدناها فى سنوات ذروته. كما أن التركيز المفرط على مهاجمة أهداف سهلة أو مناطق نائية يعكس انكفاء التنظيم على ذاته وفقدانه للقدرة على العمل الميدانى المنظم فى المناطق ذات الثقل الاستراتيجي.
التناقض يتضح أيضًا فى المزج بين تصوير التنظيم كقوة "عالمية ذات نفوذ واسع" وبين تصوير أفراده كـ"ثلة من المؤمنين الصادقين الذين يواجهون تحالفًا عالميًا". فالخطاب ينتقل بشكل متكرر بين هذين النقيضين؛ تارة يتم تصوير داعش كتنظيم عالمى قادر على التأثير وتغيير موازين القوى، وتارة أخرى يتم تصويره كـ"مجموعة قليلة صابرة محتسبة" تواجه قوى هائلة تفوقها فى العدد والعدة. هذا التباين لا يمكن تفسيره إلا فى سياق محاولة التنظيم التكيف مع واقعه الهش من خلال خطاب مزدوج يستهدف شرائح مختلفة من جمهوره.
فى النهاية، يكشف هذا التناقض بين الادعاءات الدعائية والواقع الميدانى عن أزمة داخلية عميقة فى بنية الخطاب الداعشي. فالتنظيم الذى كان يومًا ما يُروّج لنفسه كـ"دولة" قادرة على إدارة مناطق مترامية الأطراف، أصبح يعتمد على هجمات متفرقة وغير مركزية كدليل على بقائه. هذا التناقض لا يقتصر على الخطاب الإعلامى فقط، بل ينعكس أيضًا على الأداء الميدانى للتنظيم، الذى لم يعد قادرًا على تحقيق إنجازات ملموسة تتجاوز العناوين الرنانة التى تُطلقها أذرعه الإعلامية.
الاستخدام السياسى للدينيعتمد تنظيم داعش فى خطابه الدعائى على الاستخدام المكثف للنصوص الدينية وتوظيفها بشكل انتقائى لخدمة أهدافه السياسية والعسكرية. فى افتتاحية العدد (٤٧٦) من صحيفة النبأ، يستند المقال إلى آيات قرآنية وأحاديث نبوية لإضفاء شرعية دينية على أفعال التنظيم وعملياته العنيفة. يتم انتقاء النصوص بشكل مجتزأ بعيدًا عن سياقاتها الفقهية والتاريخية، مما يفرغها من معانيها الحقيقية ويعيد تأويلها بما يتناسب مع السردية الداعشية. على سبيل المثال، يستخدم المقال آيات تتحدث عن "الجهاد" و"النصر الإلهي" لتبرير عمليات قتل وتفجير تستهدف مدنيين أو قوات محلية لا علاقة لها بما يدّعيه التنظيم من "جهاد إسلامى مشروع".
هذا التوظيف للنصوص لا يقتصر فقط على التبرير، بل يمتد إلى خلق منظومة فكرية مغلقة تُجبر الأتباع على الطاعة العمياء تحت مظلة "التكليف الإلهي". فعندما يُصوّر التنظيم أفعاله على أنها "قدر إلهي" أو "تسديد سماوي"، فإنه يقطع الطريق على أى محاولات للنقد أو التشكيك من الداخل. يُقدّم هذا الخطاب رؤية أحادية مطلقة لا تحتمل أى خلاف فقهى أو حتى مناقشة عقلانية، ويجعل من أى خروج عن مسار التنظيم بمثابة "خيانة للدين" أو "ردة". هذه الرؤية تسهّل على قيادة التنظيم إحكام سيطرتها على الأتباع وتوجيههم نحو أهدافها السياسية والعسكرية دون أدنى مقاومة فكرية.
لكن الواقع يُظهر بوضوح التناقض بين النصوص الدينية التى يستشهد بها المقال والممارسات العملية للتنظيم. الإسلام دين يحرّم قتل الأبرياء ويؤكد على حرمة دماء المسلمين وغير المسلمين الذين يعيشون فى أمان، كما جاء فى الحديث الشريف: "من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة." ومع ذلك، نجد أن داعش ارتكب مجازر بشعة بحق المدنيين، واستهدف المسلمين فى المساجد والأسواق، ودمّر البنية الاجتماعية والاقتصادية فى المناطق التى سيطر عليها. هذا التناقض بين النصوص والممارسات يكشف زيف الشرعية التى يحاول التنظيم ادعاءها، ويؤكد أن الهدف الحقيقى هو تحقيق مكاسب سياسية من خلال التلاعب بالدين.
إن استخدام الدين كأداة لتحقيق أهداف سياسية ليس مجرد انحراف عن المبادئ الإسلامية، بل هو تدمير متعمد لصورة الإسلام فى العالم. لقد أسهمت أفعال داعش وخطابه الدعائى فى تشويه صورة الإسلام والمسلمين على المستوى العالمي، وربط الدين بالعنف والتطرف. هذا الضرر يمتد ليشمل المجتمعات المسلمة نفسها، التى أصبحت تعانى من تبعات هذا التشويه سواء على مستوى العلاقات الاجتماعية الداخلية أو على مستوى تعامل العالم الخارجى معها. فى نهاية المطاف، يظهر أن الهدف الأساسى من هذا الاستخدام السياسى للدين ليس نشر قيم الإسلام، بل استخدامه كغطاء أيديولوجى يبرر تحقيق مصالح مادية وسياسية للتنظيم وقياداته.
خاتمة: بين الدعاية والواقعتعكس افتتاحية العدد (٤٧٦) من صحيفة النبأ نموذجًا واضحًا للدعاية الأيديولوجية التى يتبناها تنظيم داعش، حيث يتم توظيف النصوص الدينية بشكل انتقائي، وتضخيم النجاحات الميدانية المحدودة، مع تجاهل التحديات الكبرى التى تواجه التنظيم. يقدّم المقال صورة مشوهة للواقع، محاولًا إقناع الأتباع والمتعاطفين بأن التنظيم لا يزال قويًا ومؤثرًا، رغم التراجع الميدانى الملحوظ وخسارته لمراكز نفوذه الرئيسية فى العراق وسوريا.
على الرغم من محاولات التنظيم إعادة تقديم نفسه كحركة جهادية عالمية قادرة على تجاوز الحدود والقيود الأمنية، إلا أن الواقع يشير إلى تقلص قدراته العملياتية وفشله فى تحقيق أى سيطرة فعلية طويلة الأمد على الأرض. تُظهر الهجمات المحدودة التى يروّج لها المقال- مثل هجوم “بونتلاند”- أن التنظيم أصبح يعتمد على عمليات خاطفة وغير مستدامة لتعويض الخسائر الفادحة التى تعرض لها خلال السنوات الماضية.
يتضح أيضًا أن الخطاب الدعائى للتنظيم يفتقر إلى التجديد والتطوير، حيث يعتمد بشكل متكرر على نفس السرديات القديمة القائمة على فكرة "المظلومية التاريخية" و"المؤامرة الصليبية"، مع التركيز على "الانغماسيين" و"المهاجرين" كأبطال أسطوريين. هذا النمط من الخطاب قد ينجح فى استقطاب قلة من المؤيدين، لكنه يفشل فى مواجهة الحقائق الميدانية التى تعكس تراجع شعبية التنظيم وافتقاده للحاضنة الاجتماعية حتى فى المناطق الهشة التى يحاول التمركز فيها.
فى نهاية المطاف، يبقى تنظيم داعش عالقًا فى أزمته البنيوية التى تتجلى فى التناقض بين خطابه الدعائى وواقعه الميداني. ورغم محاولاته المستمرة للتكيف مع المتغيرات والبحث عن ملاذات جديدة، إلا أن هذه المحاولات لا تتعدى كونها محاولات يائسة لإطالة أمد وجوده. إن استمرار التنظيم مرهون بقدرته على تجديد استراتيجيته، لكن شواهد الواقع تؤكد أن التنظيم بات يعانى من أزمة عميقة، وأن خطابه الأيديولوجى لن يتمكن من إخفاء هذا التآكل طويلًا.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: هؤلاء الأفراد التناقض بین بها التنظیم هذه السردیة التنظیم على الترکیز على أن التنظیم المقال إلى هذا الخطاب تنظیم داعش فى المناطق التنظیم فى یعتمد على ر التنظیم من خلال على أنه التى ت إلا أن جزء من لم یعد على أن تمام ا
إقرأ أيضاً:
بين البنيوية الشكلية والتداولية.. دراسة تحليلية للإشاريات اللغوية في السياقين النحوي والتداولي
في مجال دراسة اللغة وتحليل الخطاب، نشأت مدارس فكرية متعددة تهدف إلى فهم أعمق للتواصل اللغوي. من بين هذه المدارس، برزت البنيوية الشكلية والتداولية نهجين رئيسيين قدما رؤى متباينة حول كيفية دراسة وتحليل اللغة.
درست البنيوية الشكلية الخطاب في بعده اللغوي، بعيدا عن مقام التلفظ أو السياق الكلامي أو التواصلي (ملابسات النص أو ظروف إنتاج الخطاب)، ثم جاءت التداولية لتسد الثغرة وتستدرك الخلل. لا يفهم من ذلك بحال أن التداولية تقتصر على مجرد معالجة السياق، إذ عالجت قضايا عدة من بينها أغراض المتكلم ومقاصده الضمنية، الأفعال الكلامية، الاستلزام الحواري، مضمرات الخطاب، والافتراضات المسبقة، والمسكوت عنه في الحديث، ودراسة العلاقات المتبادلة بين المرسل والمستقبل… إلخ.
ودراسة الإشاريات من بين اهتمامات التداولية، وتعد مفهوما لسانيا يعمل داخل العناصر اللغوية، ويصنّف ضمن الموضوعات القديمة المتجددة، ولهذا سنجمع خلال معالجة هذا المفهوم بين أقوال القدماء والمحدثين.
مصطلح الإشاريات في التحليل اللغويسميت الإشاريات بهذا الاسم لأنها تشير إلى شيء محدد، وهي في عمومها لها دور نحوي ووظيفة دلالية. إذ تمثل الإشاريّات روابط دلالية لا تتحدد مراجعها إلا بتعيين طرفي الخطاب (المرسل/المتلقي)، ولا تنعزل بأي حال عن السياق الكلامي تأسيسًا على أن السياق هو العمود الفقري للخطاب، وهو الذي يؤطر مقاصد المتكلم، والقصدية جزء لا يتجزّأ من النصيّة وواحدة من مقوّماتها.
إعلانالإشاريات وحدات لغوية متنوعة الدلالة، متغيرة بتغير السياق، تستعمل دلالة على التأشير، وهو فعل الإشارة من خلال اللغة، بأي صيغة من صيغها المعهودة بقصد التلويح ولفت الانتباه، وقد أفسحت الفلسفة المعاصرة للغة المجال للتركيز على الإشاريات، فدخلت مؤخرًا حيز الاهتمام بوصفها آلية من آليات التّحليل اللساني، وهو ما يعني أنها تقنية جديدة في الدرس التداولي المعاصر، ويعد تشارلز ساندرس برس Charles Sanders Peirce أول واضع للإشاريات.
من نافلة القول أن مصطلح الإشاريات -كغيره من المصطلحات- يدور على الألسنة بأسماء عدّة، وهذا مرده -في الأغلب الأعم- إلى الترجمة، فتجد "الإشاريات" في كثرة كاثرة من المصادر، وفي بعضها "إشارات"، وبخصوص الصيغ اللغوية تجد من يقول "التعبير الإشاري"، ومن يجمعه فيقول "التعابير الإشارية"، أو "العناصر الإشارية"، ومن يستعمل "التأشير" أو "المشيرات النصية"، وحولها ندندن.
ابن منظور هو أديب ومؤرّخ وعالم في الفقه الإسلامي واللغة العربية، ومن أشهر مؤلّفاته معجم "لسان العرب" (الجزيرة)من منظور لغوي، يقول ابن منظور (ت 711هـ) في الجزء الرابع من "لسان العرب" ضمن مادة "ش و ر": "أشار عليه بكذا: أمره به، وأشار الرجل يشير إشارة: إذا أومأ بيديه، ويقال شورت إليه بيدي، وأشرت إليه، أي لوّحت إليه وألحت أيضا، وأشار يشير إذا ما وجّه الرأي، وشاورته في الأمر واستشرته بمعنى".
والإشارة إيماء أو رمز -باللغة أو حركة أعضاء الجسد- لشيء ما، ومنها قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي (ت 93هـ):
أَشَارَتْ بِطَرْفِ العَيْنِ خِيفَةَ أَهْلِهَا * إِشَارَةَ مَحْزُونٍ وَلَمْ تَتَكَلَّمِ
فَأَيْقَنْتُ أَنَّ الطَّرْفَ قَدْ قَالَ مَرْحَبًا * وَأَهْلًا وَسَهْلًا بِالحَبِيبِ المُتَيَّمِ
وليس عجبا أن يأخذ صاحب "البيان والتبيين" الإشارة بعين الاهتمام، فيجعلها واحدة من "الأنساق البيانية غير اللغوية"، وفي "الخصائص" وبتعبير ابن جني (ت 391هـ) فإن "حد اللغة أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم".
إعلانمن منظور اصطلاحي، يعرّفها ولفنسون Wolfensohn على أنها "ألفاظ دالة على عناصر غائبة حاضرة"، ويعرّفها جورج يول George Yule تعريفات عدة، منها ما يتسق مع الإشاريات، كقوله "التداولية دراسة المعنى السياقي"، وقوله "التداولية دراسة المعنى كما يقصده المتكلم"، وكذلك "التداولية دراسة كيفية إيصال أكثر مما يقال"، وهي حسب تعريف تشارليز موريس Charles Morris تُعنى بدراسة الضمائر والزمان والمكان والمقام الذي يجري فيه التواصل.
الهولندي هانسون Hanson أول من قسم التداولية إلى ثلاث درجات، مما يعني أن التداولية شهدت تطورا متناميا متدرجا (رأسيا أو تصاعديا)، وليس على مستوى أفقي. ووفق هانسون، فإن الإشاريات تداولية من الدرجة الأولى، وتمثل إشارة إلى العناصر المبهمة أو الغامضة وظروف استعمالها، فضلا عن السياق، ويمكن من خلالها تحليل الخطاب تأسيسا على أنها علامات لغوية مبهمة المعاني وموجّهة؛ تحمل في داخلها صفة العلامة، وتوجه القارئ إلى مقصد المتكلم.
الفيلسوف وعالم المنطق تشارلز ساندرس برس هو أول واضع للإشاريات (شترستوك) أهمية الإشاريات في النحو والتداوليةلا تفيد الإشاريات معنى خارج السياق الذي وردت فيه، وبهذا تلتقي مع الأدوات النحوية، إذ قال النحاة القدامى إن الأدوات لا تدل على معنى في نفسها، وإنما تأخذ دلالتها ومعناها من خلال الجملة، والضمير يشبه الحرف في عدم دلالته على معنى في نفسه وحاجته لما يفسره. في الجملة، درس النحو العربي الكلاسيكي جانبا واحدا من الإشاريات، أي الأدوات، وهي التي تربط أجزاء الجملة ودلالتها. نجد سيبويه (ت 180هـ) يطلق تسمية "المبهمات" على أسماء الإشارة، وأضاف إليها ابن يعيش (ت 643هـ) الأسماء الموصولة، ولعلنا نستثني هنا عبد القاهر الجرجاني (ت 471هـ)، الذي قدم في "دلائل الإعجاز" ما لم يسبق إليه، وسيأتي تفصيل ذلك في مقال لاحق.
إعلانفي السياق التداولي لا يقف دور الإشاريات عند الظاهر منها، بل يتجاوزه إلى البنية العميقة، مما يكسبها أهمية في إستراتيجيات الخطاب. ولعل من المفيد الاستطراد السريع إلى البنيتيْن السطحية والعميقة للنص، ومجمل القول أن لكل جملة من جمل النص بنية سطحية وأخرى عميقة، وقد تتطابق هذه مع تلك، وعليه فلا حاجة إلى تطبيق قواعد تحويلية للانتقال من البنية العميقة إلى السطحية، أما الجمل التي تختلف بنيتها السطحية عن العميقة فيطلق عليها "التراكيب المحولة"، وفيها تبرز عناصر التحويل مثل الحذف والإضافة والرتبة، وسياتي تفصيل ذلك في مقال مستقل.
ولا يكاد يخلو كلام من إشاريات، لذلك يقول بارهليل Bar-Hillel إن "90% من التلفظات التي ننطق بها في سياق أحاديثنا اليومية تلفظات إشارية"، وهي نسبة كبيرة جدًّا، لعلّها تحمل قدرا من المبالغة من جانب، لكنها -من جانب آخر- تشي بأهمية الإشاريات.
ربما يعضد جورج يول ما ذهب إليه بارهيليل، فيقول إنها "أولى الصيغ التي ينطق بها الأطفال، وتستعمل في الإشارة إلى الأشخاص عبر التأشير الشّخصي (أنا وأنت)، أو إلى المكان بواسطة التأشير المكاني (هنا وهناك)، أو إلى الزمن من خلال التأشير الزماني (الآن، آنذاك)، وتعتمد هذه التعابير كافة على متكلم ومستمع، يشتركان في سياق واحد".
وَفق ما سبق، قسّم يول الإشاريات إلى ثلاثة أنواع؛ شخصية وزمانية ومكانية (زمكانية)، ثم جاء آخرون -منهم ولفنسون- فأضافوا إليها نوعين آخرين؛ إشاريات اجتماعية وإشاريات خطابية أو نصية، وإن كانت مصادر كثيرة تقتصر على أربعة أنواع منها فحسب، أي بإهمال الإشاريات الخطابية. كذلك يفرق يول بين الإحالات الدلالية والإحالات الإشارية؛ فإحالة الدوال على مدلول إحالة تلازم، أما إحالة الإشاريات إلى مسمياتها فإحالة موقف.
وفي السطور اللاحقة، سنعرض لتقسيم الإشاريات بشيء من التفصيل.
تُعتبر الإشاريات من أولى الصيغ التي ينطق بها الأطفال، حيث تُستخدم للإشارة إلى الأشخاص من خلال التأشير الشخصي مثل "أنا وأنت" (الجزيرة-فايرفلاي) الإشاريات الشخصيةهي عناصر لغوية تستخدم للإشارة إلى الأشخاص في الخطاب، مثل الضمائر والأسماء، وهي موجودة على مستوى البنية السطحية أو العميقة للخطاب، وهي بتعبير ميلنر Milner "فاقدة للاستقلالية الإحالية"، لأنها عاجزة بمفردها عن تحديد إحالتها عند الاستعمال. أي أنها تعتمد على السياق لتحديد معناها ولا تستطيع استخدام تحديد مستقل بدون سياق.
إعلانويوجد خلاف تداولي بشأن الضمائر، فهناك فريق يرى أن الإشاريات الشخصية تضم جميع الضمائر المتصلة منها والمنفصلة والمستترة وجوبا أو جوازا، وبعض التداوليين يستثني ضمائر الغَيبة، وبتعبير ولفنسون فإن ضمائر الحضور الدالة على المتكلم والمخاطب "أوضح العناصر الإشارية الدالة على الشخص".
الحضور حضور تكلم أو خطاب، يقابله الغياب، أو حضور إشارة كأسماء الإشارة، أو يكون حضورا ذهنيا مثل أل العهدية، أما الغياب فيكون شخصيا ممثلا في الضمير "هو" وتنويعاته، أو غيابا موصوليا ويعبر عنه "الذي" وما يتفرع عنه.
الإشاريات في عمومها، والشخصية منها خاصة، لها دور أساسي في بيان القصد والإنجاز، وتتفرع الإشاريات الشخصية إلى الضمائر، وأسماء الإشارة، والأسماء الموصولة، والنداء، وأل العهدية.
أولا: الضمائرالضمائر عناصر أو أشكال لسانية فارغة المحتوى، فارغة من الناحية المرجعية، وليس من الناحية الدلالية، ومن ثم فهي تتناسب مع كل متكلم، لا تدل على معنى في ذاتها، و"لا تدل على شيء بعينه إلا بضميمة المرجع"، فضلا عن تحقيق الحضور المكاني. ويحمل الضمير وظيفتين أساسيتين؛ رفع الالتباس عمن أسند إليه الفعل اللغوي، والاختصار في الكلام بحضور من يرجع إليه الضمير حضورا واقعيا أو ذهنيا، وتعيين المتكلم والمخاطب، وعدم التكرار.
على سبيل الذكر الضمير "أنا" له دلالة تختلف عن الضمير "أنت"، لكن السياق يحدد المقصود بهما، فربما يستعمل شاعر "أنت" في قصيدة مناجاة، يحدّث فيها نفسه، وهذا ما يعرف بـ"قصيدة التخارج"، أو التجريد، وهو أن يجرّد المرء من نفسه شخصا آخر متصفا بالصفة ذاتها، وفي ذلك التفات على طريقة البلاغيين، وأين أنت من التفاتات جرير:
أَتَنْسَى إذْ تُوَدِّعُنَا سُلَيْمَى * بِفَرْعِ بَشَامَةٍ؟ سُقِيَ البَشَامُ!
كما أن التجريد يعطي المتكلم مرجعية سلطوية أو مؤسساتية. من ثم يجب الرجوع إلى مقام التلفظ وملابساته لفهم المرسل والمتلقي، ومقصدية المتكلم ومضمرات قوله، وتلمّس مدى قدرة المتلقي على التأويل، وغير ذلك.
إعلانتشمل الضمائر عناصر إشارية إلى الذات المتلفظة/ المتكلم (أنا، نحن) أو المخاطَب (أنت، أنتما، أنتم، أنتن)، وقد يكون المخاطب حاضرا حضورا فعليا، أو أن المتكلم يستحضره وقت الخطاب، كذلك فإن المراجع الخارجية (الذهنية) للضمائر غير ثابتة، لا سيما ضمائر المتكلم والمخاطب؛ لأنها لا تحيل إلى مذكور سابق، ويتطلب استعمالهما معرفة قوية بهُوية طرفي الخطاب.
الضمائر في سياق النص المكتوب معرفة لأنها تحيل إلى المرجع، أما في سياق التلفظ فتكون مبهمة في غياب قرائن محددة لها، ومع ذلك فضمائر المتكلم أقل أشكال الضمائر إشكالا في تحديد مرجعها، إذ تدل على منشئ الخطاب، ولا يتطلب تحديدها آليات استدلال مقارنة بضمائر المخاطب والغائب.
التعبير بضمير المتكلم يحمل أهم ميزة أسلوبية عند التعبير عن الحيرة والقلق، ولأن المتكلم هو الذات المحورية في إنتاج الخطاب، فليس بدعا أن يكون ضمير المتكلم المهيمن فيه، ومن بعده ضمير المخاطب، ثم -بدرجة أقل- ضمير الغائب. لكن يجب أن تكون هيمنة ضمير المتكلم معقولة ومقبولة، كيف؟!
اللسانيون يطلقون على ضمير المتكلم تسمية "الشخص الأول"، وعلى ضمير المخاطب "الشخص الثاني"، وعلى ضمير الغائب "الشخص الثالث" (شترستوك)للإجابة عن هذا السؤال، نسترشد بمثالين على درجة من المغالاة والتطرف؛ ففي "خمسون عاما في قطار الصحافة"، أورد موسى صبري قصة موجزها أن عبد الكريم قاسم قال "أنا" 360 مرة في اجتماع رسمي مع وفد يمني!
لم أشهد هذا الاجتماع، لكنني شاهدت خالد الإعيسر وزير الإعلام السوداني، في 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، أثناء مقابلة تلفزيونية مع أحمد طه على الجزيرة مباشر. خلال اللقاء قال الإعيسر "أنا" 104 مرات! سرعان ما تزول دهشتك إذا علمت أن لقاء قاسم كان 180 دقيقة، وأن لقاء الإعيسر كان 75 دقيقة، وبحسبة بسيطة لو امتد لقاء الإعيسر لانتزع الرقم القياسي من قاسم دون كبير عناء! لن أضيف إليهما الخالد الذكر والمنظّر الوجودي صنّاجة الطرب الشعبي عبد الباسط حمودة، فإنه يستأهل مجلّدا قائما بذاته.
فإن سألت: لماذا لا يصرح المتكلم بـ"أنا" في كلامه دائما؟ قبل الإجابة سأطلب منك مشكورا أن تحذف كلمة "دائما"، تأسيسًا على ما بدر من قاسم والإعيسر والقدير حمودة ومن لفّ لفّهم، وبالعودة إلى سؤالك في صيغته الجديدة: لماذا لا يصرح المتكلم بـ"أنا" في كلامه؟ فالجواب أنه يعول على وجوده بالقوة من خلال كفاءة المتلقي أو مستقبل الخطاب، إذ يعتمد التأويل على معرفة المتكلم أو الباث بشكل كاف، ليتسنى له التأويل المناسب لخطابه، لا سيما أن المعرفة أسيرة أدواتها، والتأويل كذلك. وكذلك، فإن عدم وجود صورة المخاطب لا يعني غيابه، لأن النص موجّه بالضرورة إلى مستقبل أو متلقٍّ بوصفه ركنا ركينا في العملية التواصلية.
يُطلق اللسانيون على ضمير المتكلم تسمية "الشخص الأول"، وعلى ضمير المخاطب "الشخص الثاني"، وعلى ضمير الغائب "الشخص الثالث"، ويسميه جون سيرفوني Jean Cervoni "اللاشخص"، وهذه التسميات معكوسة في عرف الهنود؛ فالغائب الشخص الأول، والمتكلم الشخص الأخير!
أوضح آن روبول Anne Reboul أن "الضمائر لها نتائج متعددة"، لا سيما ضمائر الغَيبة التي تمثل عددا لا يُحصر من الأفراد نظرا لغموضها، واستبعد بعض التداوليين ضمائر الغَيبة من الإشاريات، واشترط آخرون ألا يفهم مرجعه خارج السياق وإلا خرج من نطاق الإشاريات، وينفي إميل بينفنيست Emille Benveniste الصفة الإبهامية عن ضمائر الغَيبة، ويراها تحيل إلى شيء موضوعي، ومن الباحثين في اللغات السامية من رأى أنها ليست من الضمائر مطلقا، وإنما من أسماء الإشارة!
عند النحاة، تبقى إشكالية ضمير الغائب قائمة، فتجد ابن يعيش يقول في الجزء الثالث من شرح المفصّل "واعلم أن المضمرات -وإن كانت أعرف المعارف- إلا أنها تتفاوت أيضا في التعريف، فبعضها أعرف من بعض؛ فأعرفها وأخصّها ضمير المتكلم، نحو أنا، والتاء في فعلتُ، والياء في غلامي وضربني، لأنه لا يشارك المتكلم أحدٌ فيدخل معه فيكون ثَمّ لبس، ثُمّ المخاطب، وإنما قلنا: إن المخاطب منحطٌّ في التعريف عن المتكلم لأنه قد يكون بحضرته اثنان أو أكثر، فلا يُعلم أيهم يخاطب، ثم الغائب، وإنما انحط ضمير الغائب عنهما لأنه قد يكون كناية عن معرفة وعن نكرة، حتى قال بعض النحويين إن كناية النكرة نكرة، ولذلك أجازوا: ربّ رجلٍ وأخيه؛ فهذا ترتيبها في التعريف فاعرفه".
إعلانوفي تقسيمات النحاة، الضمائر متصلة ومنفصلة، وتنقسم أيضا إلى وجودية وملكية، فالوجودية منها تتمثل في ضمائر المتكلم والمخاطب والغائب، والملكية منها ما دل على امتلاك الشيء كقولك: كتابي، كتابك، كتابنا، كتابهم.
في مفتاح العلوم، قال السكاكي (ت 626هـ) "اعلم أن الضمير عبارة عن الاسم المتضمن للإشارة على المتكلم أو على المخاطب أو على غيرهما بعد سبق"، ثم يضيف "ينقسم على قسمين من حيث الوضع؛ قسم لا يسوغ الابتداء به ويسمى متصلا، وقسم يسوغ فيه ذلك ويسمى منفصلا"، وتحت عنوان حدّ المضمر، يقول ابن الحاجب (ت 646هـ) في أماليه "المضمر ما وضع لمتكلم أو مخاطب أو غائب تقدم ذكره معنى أو لفظا أو حكما". التقدم اللفظي معروف، بأن يتقدم لفظ المرجع الذي يحيل إليه الضمير، أما تقدم المعنى فيكون بعدم ذكر اللفظ وإنما يعرف بقرائن لغوية وغير لغوية، وتقدم الحكم يكون قياسا أو سماعا.
والإحالة نوعان؛ مقامية أو خارجية وهي إحالات خارج النص، ونصية أو داخلية أي إحالات داخل النص، تنقسم إلى نوعين؛ إحالة إلى سابق وإحالة إلى لاحق. الإحالات المقامية تحيل إلى ما ليس مذكورًا مطلقًا، ونتوسّل بالسياق لبلوغ مقصد المتكلم، من ذلك قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}، وقوله جلّ من قائل {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}، وقوله تبارك اسمه {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ}، وفي الأمثال العربية نجد لها أمثلة لا تُحصر، كقولهم "أُكِلتُ يوم أُكِل الثّور الأبيض"، "إيّاكِ أعني واسمعي يا جارة"، "ما وراءكَ يا عصام"، "أطرّي فإنّكِ ناعلة"، "لا في العِير ولا في النّفير". وهذه الأمثال وغيرها لا يُتوصّل إلى المراد منها بإغفال السياق المعبّر عن "مورد المثل"، وهو القصة التي شهدت ميلاد المثل.
ومن أمثلة الإحالة المقامية في دنيا القريض قول الشاعر الجاهلي عمرو بن كلثوم في معلّقته الشهيرة:
وَنَحْنُ إِذَا عِمَادُ الْحَيِّ خَرَّتْ * عَلَى الْأَحْفَاضِ تَمْنَعُ مَنْ يَلِينَا
والموقف على جسر الرصافة، حين قال الشاب: رحم الله أبا العلاء! فردت عليه فتاة وقد أدركت قصده: رحم الله أبا العلاء!
إعلانوقد عرضنا لذلك تفصيليا في مقال عنوانه "الاستلزام الحواري.. أحد أبرز معالم النظرية التداولية"، وترديد الخليفة العباسي هارون الرشيد "إِنَّمَا الْعَاجِزُ مَنْ لَا يَسْتَبِدْ"، من قول عمر بن أبي ربيعة:
لَيْتَ هِنْدًا أَنْجَزَتْنَا مَا تَعِدْ * وَشَفَتْ أَنْفُسَنا مِمّا تَجِدْ
وَاسْتَبَدَّتْ مَرَّةً وَاحِدَةً * إِنَّمَا الْعَاجِزُ مَنْ لَا يَسْتَبِدْ
ردد الرشيد الشطر الأخير مرات ومرات قبيل الفتك بالبرامكة، وقول البهاء زهير (ت 656هـ) في محبوبه:
أَشِر بِذِكرِيَ في ضِمنِ الحَديثِ لَهُ * إِنَّ الإِشارَةَ في مَعنايَ تَكفيهِ
وغير ذلك كثير.
ربما يحل ضمير المتكلم محل ضمير المخاطب، والعكس صحيح، وقد يستعمل المتكلم ضمائر الحضور في الإشارة إلى غائب. الدلالة المقصودة هنا تتمثل في القرب النفسي لهذا الغائب، كأن يتحدث منتج الخطاب عن أمه أو أبيه، أو ابن فقده، أو عزيز صَفِرت عياب الودّ بينهما، وفرّقت الأيام دربهما. ينضاف إلى ذلك أن التنويع بين الضمائر (الالتفات) له من الفوائد البلاغية ما لا يخفى.
ثانيا: أسماء الإشارةتحدد الضمائر مشاركة الشخوص أو غيابها، بينما ترمي أسماء الإشارة إلى تحديد مواقع تلك الشخصيات في الزمان والمكان داخل المقام الإشاري، ولكون أسماء الإشارة تحيل على حاضر وقت الكلام، فإنها تصنّف ضمن ضمائر الحضور.
سبق معنا أن سيبويه أطلق تسمية "المبهمات" على أسماء الإشارة، وفي "شرح المفصل"، قال ابن يعيش "ويقال لهذه الأسماء مبهمات لأنها تشير بها إلى كل ما بحضرتك، وقد يكون بحضرتك أشياء، فتُلْبِس على المخاطب، فلم يدر إلى أيها تشير، فكانت مبهمة لذلك. ولذلك لزمها البيانُ بالصفة عند الإلباس… ومعنى الإشارة الإيماء إلى حاضر بجارحةٍ أو ما يقوم مقامَ الجارحة… فلذلك قال النحويون إِن أسماء الإشارة تتعرّف بشيئيْن: بالعين وبالقلب".
ولجرير بن عطيّة بن الخطفَى:
ذُمَّ المنازلَ بعد منزلة اللِّوى * والعيشَ بعد أولئك الأيّام
واستعمال أولئك مع الأيام يذكرنا بما مرّ معنا من استعمال ضمير الغائب مع غير العاقل، الشاهد هنا مجيء الأيام وهي غير عاقل بعد أولئك الذي يدخل على العاقل غالبا، من ثم استعمل هذا البيت على جواز دخول أولئك على غير العاقل. في "نقائض جرير والفرزدق" يأتي عجُز البيت بتغيير طفيف، وفيه "والعيشَ بعد أولئك الأقوام"، والأقوام تستعمل للعاقل، ومن ثم فلا يصح شاهدا على الحالة المذكورة.
إعلان ثالثا: الأسماء الموصولةالأسماء الموصولة من المبهمات، ووَفق ابن يعيش، فهي إنما كانت مبهمة لوقوعها على كل شيء من حيوان وجماد وغيرهما، وصفة الإبهامية تقربها من النكرة، لكنهما يتقاربان ولا يتطابقان؛ يتقاربان في حاجتهما إلى التفسير والتخصيص، ويفترقان في الوسيلة، إذ إن النكرة تخصص وتحدد بالمعرفة، ويزال إبهام الاسم الموصول وعمومه بالصلة، وربطه بالسياق الخارجي أو المقامي.
والأسماء الموصولة معارف بصلاتها بدليل امتناع دخول علامة النكرة "رُبَّ" عليها. ويضيفها الدكتور تمام حسان (ت 1432هـ/2011) إلى ضمائر الغيبة. يُزال إبهام الأسماء الموصولة من خلال قرينة لغوية متمثلة في الصلة والعائد، أو قرينة غير لغوية وهي السياق الخارجي للغة. لا ترتبط الأسماء الموصولة بالصلة نفسها، بما فيها من عائد يتعدد مرجعه، وذلك لغرض يتوخاه المتكلم.
من أمثلة الأسماء الموصولة في الإحالات المقامية قول عروة بن أذنية:
إِنَّ الَّتِي زَعَمَتْ فؤادَكَ مَلَّهَا * خُلِقَتْ هَوَاكَ كَمَا خُلِقْتَ هوًى لَهَا
وقول البهاء زهير:
اقرَأ سَلَامِي عَلَى مَنْ لا أُسَمّيهِ * وَمَنْ بِرُوحِي مِنَ الأَسْواءِ أَفْدِيهِ
وَمَنْ أُعَرِّضُ عَنْهُ حِينَ أَذْكُرُهُ * فَإِنْ ذَكَرتُ سِواهُ كُنْتُ أَعْنِيهِ
النداء له وظائف تبليغية وتواصلية، وقد لا يشير النداء إلى أي مرجع، إنما يسوقه المتكلم لغرض التنبيه (شترستوك) رابعا: النداءيدخل النداء ضمن الإشاريات بوصفه "ضميمة تشير إلى المخاطب؛ لتنبيهه أو توجيهه أو استدعائه"، ولا يُفهم النداء إلا إذا اتضح المرجع الذي يشير إليه. لا تنحصر القصدية من النداء في التنبيه، إنما تتوسع إلى معان تداولية أخرى يؤطرها السياق، وتعرف بـ"مقتضى النداء".
من أمثلة هذا النداء قول ربنا عز سلطانه {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، وقوله تبارك وتعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ}، ومنه قول جرير بن عطية بن الخطفَى لرجاء بن حيوة:
يَا أَيُّهَا الرَّاكِبُ الْمُزْجِي مَطِيَّتَهُ * هَذَا زَمَانُكَ إِنِّي قَدْ مَضَى زَمَنِي
وقول البهاء زهير:
يا أَحسَنَ النَّاسِ يا مَن لا أَبوحُ بِهِ * يا مَن تَجَنّى وَما أَحلى تَجَنّيهِ
وقول أحمد عبد المعطي حجازي يهجو عباس محمود العقاد:
يَا مَنْ يُحَدِّثُ فِي كُلِّ الأمُورِ * وَلَا يَكَادُ يُحْسِنُ أَمْرًا أَوْ يُقَرِّبُهُ
وقد يراد بالنداء غير المخاطب، حينها يؤدي النداء وظائف تبليغية وتواصلية تدرك بإدراك منشئ الخطاب وحال المخاطب، وقد لا يشير النداء إلى أي مرجع، إنما يسوقه المتكلم لغرض التنبيه، يكثر في ذلك اقتران أداة النداء "يا" بكلمة تمنٍّ مثل ليت، كقول مالك بن الريب التميمي:
أَلاَ لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أبيتَنّ لَيْلَةً * بِجَنْبِ الغَضَا أُزْجِي القِلَاص النَّوَاجِيَا
وقول جميل بن معمر:
أَلا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً * بِوَادِي الْقُرَى إِنِّي إِذًا لَسَعِيدُ
خامسا: أل العهدية إعلانأل العهدية يشار بها إلى المعهود في الذهن أو الواقع، وهذا المعهود معرفة مشتركة بين المتكلم والمتلقي، وبعض المتخصصين عدّ أل العهدية ضمن ضمائر الغيبة، لتمثل بذلك سبقا مذكورا بين طرفي الخطاب، فكتون أل بمعنى المذكور، أو سبقا ذهنيا لمجرد المعرفة الذهنية العامة، فتكون أل بمعنى المعهود؛ ففي "اجتهادات لغوية"، يقول تمام حسان "وهذا ما يلحقها بضمائر الغيبة، ويبعدها من ضمائر الحضور".
فوائد تحليل الإشاريات الشخصية في النص أولًا: إزالة اللبس الناتج عن تعدد مرجعية الضميرقد يقع اللبس في تحديد صاحب الضمير، والمثال الشّهير على ذلك قولهم "ضرب الرجل ابنه لأنه مخمور"، فيسألك سائل: لمن يعود الضمير؟ ويشعر من لا صلة له بالنّحو أن في الأمر غموضا ولبسا، في حين يقرر النحاة مسألة عود الضمير، من ذلك قول أبي تمّام:
ثم انقضت تلك السنون وأهلها * فكأنها وكأنهم أحلام
يلاحظ أن ضمائر الغائب تمثل عددا لا متناهيا من الأفراد، من ثم لا يمكن تعيينها بسهولة مقارنة بضمائر المتكلم والمخاطب، كذلك فإن ضمير الغائب هو الوحيد الذي يستعمل للدلالة على الجوامد فضلا عن العاقل، بينما تعبر ضمائر المتكلم والمخاطب عن العاقل فقط، وإن كانت الأعمال الأدبية تعمد إلى الأنسنة باستنطاق الجمادات وخلع الصفات الآدمية عليها، وذلك من باب الفانتازيا، كرواية خيري شلبي "الشطار"، إذ ترد أحداثها على لسان كلب!
ثانيًا: توضيح الأثر البلاغي لتحول الضمائرهذا يساوي "الالتفات" في البلاغة العربية القديمة، وهذا يسهم في تماسك النص وجذب انتباه المتلقي، وتجديد نشاطه ودفع السأم عنه. قال الزمخشري (ت 538هـ) في الجزء الأول من الكشّاف "الكلام إذا نقل من أسلوب إلى أسلوب كان ذلك أحسن تطرية لنشاط السامع، وإيقاظا للإصغاء إليه من إجرائه على أسلوب واحد، وقد تختص مواقعه بفوائد"، وفي موضع آخر من الجزء ذاته يقول "وهو فنّ من الكلام جزل، فيه هزّ وتحريك من السامع… نبهته بالتفاتك نحوه فضل تنبيه، واستدعيت إصغاءه إلى إرشادك زيادة استدعاء، وأوجدته بالانتقال من الغيبة إلى المواجهة هازًّا من طبعه ما لا يجده إذا استمررت على لفظ الغيبة، وهكذا الافتنان في الحديث والخروج فيه من صنف إلى صنف، يستفتح الآذان للاستماع، ويستهش الأنفس للقبول".
إعلانومن أنواع التفات الضمائر الالتفات من التكلم إلى الخطاب، كقول ربنا جل وتعالى {وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، وكذلك {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}، والعكس -أي من الخطاب إلى التكلم- في قوله عز شأنه {قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ}، أو الالتفات من الخطاب إلى الغيبة كقوله تبارك اسمه {حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم}، والعكس -أي من الغيبة إلى الخطاب- في قوله سبحانه {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً}.
ومن أمثلة التفات الضمائر قول الشاعر الجاهلي ربيعة بن مقروم:
بانت سعادُ فأمسى القلب معمودا * وأخلفتكَ ابنة الحرّ المواعيدا
وقول كثيّر عزّة:
أَسِيئي بِنا أَو أحْسِني لا مَلُومَةً * لدينا ولا مَقْلِيّةً إنْ تَقَلَّتِ
وقول فاروق جويدة:
أَحْبَبْتُ فِيكِ العُمْرَ طِفْلًا بَاسِمًا * جَاءَ الحَيَاةَ بِأَطْهَرِ الأثْوَابِ
آيات القرآن الكريم تزخر بأمثلة بليغة على ظاهرة الالتفات في الضمائر، وهي أسلوب بلاغي يضفي حيوية وعمقًا على النص (غيتي) ثالثا: استبدال ضمير الجمع بالمفردالأصل في هذا الاستبدال أنه يشير إلى العظمة، ومن ثم فإنه شائع في الكتاب العزيز، يسمى الضمير في هذه الحالة "ضمير العظمة"، ومن أعظم من الله؟! من ذلك قوله سبحانه {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ}، {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ}، {إِنَّا جَعَلۡنَا ٱلشَّیَـٰطِینَ أَوۡلِیَاۤءَ لِلَّذِینَ لَا یُؤۡمِنُونَ}، {إِنَّا لَا نُضِیعُ أَجۡرَ ٱلۡمُصۡلِحِینَ}، {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمۡ نَصِیبَهُمۡ غَیۡرَ مَنقُوصٍ}، {إِنَّاۤ أَنزَلۡنَـٰهُ قُرۡءَ ا نًا عَرَبِیًّا لَّعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ}، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}، {وَإِنَّا لَنَحۡنُ نُحۡیِۦ وَنُمِیتُ وَنَحۡنُ ٱلۡوَارِثُونَ}، {إِنَّا كَفَیۡنَـٰكَ ٱلۡمُسۡتَهۡزِءِینَ}، {إِنَّا جَعَلۡنَا مَا عَلَى ٱلۡأَرۡضِ زِینَةً لَّهَا لِنَبۡلُوَهُمۡ أَیُّهُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلًا}، {وَإِنَّا لَجَـٰعِلُونَ مَا عَلَیۡهَا صَعِیدًا جُرُزًا}، {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً}.
إعلانيطلق التداوليون على استعمال "نحن" و"نا" الفاعلين "نحن الحاصرة أو القاصرة". يرى بعض النّاس أن يشير إلى نفسه بضمير الجمع، يشارك في ندوة ما متحدثا عن موضوع بعينه، فينشر عبر صفحاته في مواقع التواصل "تحدّثنا، أشرنا، أوضحنا، قدّمنا"، فإذا عدت إلى تلك الندوة أو المحاضرة وجدته المتحدث الأوحد بها. جاء الاستعمال هنا من باب التفخيم والتعظيم وعلاء شأن المتكلم أو إعلائه، والإشعار بالسلطة والنفوذ، وهو أليق بالحديث عن الملوك والرؤساء وعلية القوم منه بآحاد الناس.
الإشاريات الزمنيةألفاظ تدل على زمن التحدث والمدّة الزمنية، يُحدد زمنها من خلال السياق التواصلي/الكلامي، وهي الظروف الزمانية؛ فقولك "أمس دخل الثوار دمشق" إشارة إلى اليوم الماضي مباشرة، وقولك "بالأمس دخل الأمويون دمشق" إشارة إلى زمن بعيد، من هنا نفهم ما ألغز إليه ابن عبد السلام في قوله "ما كلمةٌ إذا نكّرت عرّفت، وإذا عرّفت نُكّرت؟"، والجواب أمس! إذ المراد أن أمس تشير زمنيًّا إلى اليوم الماضي مباشرة، وهو ما يعبّر عنه المصريون في لهجتهم بـ"إمبارح"، فإذا دخلت عليها أل التعريف حوّلتها إلى ماض أوسع دلالة، وهو التاريخ في عمومه وجملته.
على النّقيض، تشمل كلمة "غدًا" كلّ آت، فالآملون الحالمون المتفائلون يجترون قالة قراد بن أجدع الكلبي "إن غدا لناظره قريب"، وما زال المحبّون يترنمون مع كوكب الشرق متسائلين: أغدا ألقاك؟! يا خوف فؤادي من غدي! وتقول لابنك "سنذهب غدًا في رحلة إلى البر"، تريد أن يتأهب للرحلة في غضون ساعات، وتقول لزوجك إن طالبتك بشراء معَدّة أو جهاز "غدًا، ربنا يسهل، إن شاء الله"، وهو ما يضاهي قولهم "إن عشنا وكان لنا عمر"، أو بالتعبير المصري "بكرة" يقصدون "ابق قابلني، أو في المشمش"، وفي عرفهم أن "بُكرة زرعوها مطلعتش"، أو بالتعبير الخليجي "أبشر" على ما جرى العرف الحالي، وليس وفق الهدي النبوي. ليس شرطًا أن تستعمل اللفظة بدلالتها المعجمية، بل قد تتوسع دائرتها وتتسع دلالتها لتشمل دلالات أخرى، ولا مناص للمتلقي من تتبع السياق الذي يؤطر دلالة اللفظ ويضيق خناق دائرته ليمسك بتلابيب مقصد المتكلم.
إعلانبين الأمس والغد يكون اليوم، لكن قول العرب "لكل قوم يوم"، وكذلك قول الأعشى:
شتّان ما يومي على كُورِها * ويومُ حيَّانَ أخي جابر
ليس معناه النطاق الزمني المحدد بـ24 ساعة، إنما مرادهم أنّ لكل قوم عصرا ووقتا -يطول أو يقصر- ينهض بهم ويرفع ذكرهم، بالطبع سيقفز إلى ذهنك الآن أقوام مثل الطاهريين، البويهيين، الحمدانيين، الفاطميين، الحشاشين… إلخ. وفي التنزيل العزيز {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}. ومن أقوالهم "لكل شدّة مدّة"، والمدة وشهور السنة وفصولها من الإشارات الزمنية، وقولك "بنات اليوم، أفكار اليوم، حاجات اليوم" يشمل معنى أوسع، فكأنك تقول: بنات عصرنا وأفكاره وحاجاته. هذا التضييق الزمني وما يقابله من التوسيع لا يتحدد إلا عبر السياق التواصلي.
تحت عباءة الإشاريات الزمنية، يوجد نوعان من الزمن؛ الزمن الإشاري -أو المعطى الأولي- يرتبط ارتباطا مباشرا بزمن التلفظ، إذ إنه يضبط بمكان وجود الذات المتكلمة أو زمانها، وعليه يكون الزمن الإشاري لنص ما هو زمن إنتاج ذلك النص، أما الزمن الإحالي -أو الزمن الداخلي- فمرده إلى زمن سابق على الزمن الإشاري، وهو الزمن المتوفر في عالم النص أو الخطاب، وتدل عليه صيغ الأفعال التامة والناقصة، وظروف الزمان، وبعض البنى التركيبية الأخرى.
ينقسم الزمن كذلك إلى زمن كوني (خارجي) وزمن نحوي (داخلي)؛ فالكوني منهما يتمثل في الظروف التي تحيل إلى العالم الخارجي مثل الوقت والزمن. يدخل في نطاقه ما يشير إلى بداية الخلق ونهايته، أو حياة المرء ومماته، ودنياه وآخرته، أو ساعة من يومه وليلته ودهره، وما يُنسج على هذا المنوال. الزمن النحوي بتعبير الدكتور تمام حسان "وظيفة في السياق يؤديها الفعل أو الصنعة، أو ما نقل إلى الفعل من الأقسام الأخرى كالمصادر"، أي الأفعال في صيغ الماضي والحاضر والمستقبل، وتتنوع أغراضها في النصوص بين التذكر والتلهف والحنين والتأسي والترحم والندم على التفريط فيما مضى، والترقب للأماني والأحلام أو الوعد والوعيد… إلخ من التنويعات الوجدانية والحالات النفسية المعبرة عن منتج الخطاب وموقفه من المتلقي.
إعلان الإشاريات المكانيةهي الظروف المكانية نفسها، وهذه الألفاظ تدل على مكان التحدث، وتُحدد دلالتها وَفق السياق التواصلي/الكلامي. على صفحات "التفكير اللساني في الحضارة العربية"، يقول الدكتور عبد السلام المسدي "والتقرير الأولي والمطرد في هذا المقام هو أن حدث الكلام المنجز مرتهن في حيز المكان؛ انطلاقا من ضرورة المحل لإنجاز الحروف التي هي أجزاء البناء اللغوي إطلاقا، فليس الكلام متعاملا فحسب مع عنصر المكان، وإنما هو حبيس في سياجه". هذا كلام بديهي، وإلا كيف تفهم قول محمود درويش "أنا من هنا وهنا أنا"؟ فإذا علمت أن قصيدته التي مطلعها "على هذه الأرض ما يستحق الحياة" كتبها في باريس؛ فهل يفهم من ذلك حصرا أنه يقصد فرنسا؟! وإن قال قائل "إن إمام الحرم المكي صديقي"، فهذا لا يحيل إلى مكان وإن ورد فيه "الحرم المكي"، لأن السياق لا يوحي بذلك.
من الإشاريات المكانية: هذا، ذا، ذاك، هنا، هناك، فوق، تحت، أعلى، أسفل، بين، أمام، خلف، جانب، حول، قُبالة، وأكثرها وضوحا "هذا، ذاك"، وتستعملان في الإشارة إلى قريب أو بعيد من مركز الإشارة المكانية، أي المتكلم، ثم "هنا وهناك"، وتشيران إلى القرب والبعد من مكان المرسل.
لا يُفهم من التأشير المكاني أنه محصور في القرب المكاني فقط، إذ يدل على البعد النفسي والحالة الوجدانية. خذ مثلًا قول الجواهري:
والله ما بَعُدَتْ دارٌ وإن بَعُدَتْ * ما أقربَ الشّوطَ من أهلي ومن سكني
ففيه القرب النفسي وإن تباعدت المسافات بينه وبين ذويه ومحبّيه، ومنه قول فاروق جويدة:
تساءلوا كيف تقول: هذي بلادٌ لم تعد كبلادي * فأجبتُ: هذا عتاب الحبّ للأحباب وفي ديوان سابق على ذلك يقول:
وصرختُ والكلمات تهرب من فمي * هذي بلادٌ لم تعد كبلادي
قد تكون الأماكن الواردة في النص حقيقية، تحيل إلى مكان جغرافي معروف، أو مجازية تحيل إلى أماكن متخيلة أو افتراضية أو اعتبارية على سبيل الاستعارة والتشبيه، كما في التشبيهات العربية القديمة مثل "أصفى من عين الديك، أصفى من الغراب"، وكذلك قولهم "تركته على مثل خد الفرس، تركته على مشفر الأسد، تركته على مثل مقلع الصمغة، تركته على مثل ليلة الصدر، تركته على أنقى من الراحة، تركته على مثل شِراك النعل"، وهو كثير في كلامهم.
إعلان الإشاريات الاجتماعيةألفاظ تدل على العلاقة الاجتماعية بين المتكلم/المرسل/الباث والمستمع/المستقبل/المتلقي، وتُحدد دلالتها وَفق السياق التواصلي/الكلامي. تستعمل هذه الفئة في بيئة اجتماعية محددة، تعكس أعراف الناس وعاداتهم وتقاليدهم وتفاعلهم فيما بينهم، وتنقسم إلى علاقة رسمية وعلاقة غير رسمية، تتسم العلاقات الرسمية بالانضباط وإخفاء المشاعر، في حين تشيع روح الود والألفة والحميمية في العلاقات غير الرسمية.
ربما تتحول العلاقة غير الرسمية إلى رسمية، كأن يلتقي صديقان أو زوجان في بيئة عمل رسمية (مؤتمر صحفي، اجتماع عمل)، فتبرز السمة الرسمية وتتوارى مؤقتا العلاقة غير الرسمية. تستعمل ألفاظ وصيغ التبجيل (أصحاب الفخامة، صاحب السمو، سيادتك، حضرتك، سعادتك… إلخ) في المعاملة الرسمية.
في عالم الحوارات الصحفية، قد يتعمد الضيف -وإن كان في حديث رسمي- أن يكسر هذه القاعدة، كأن ينادي الصحفي باسمه، وفي ذلك استمالة للصحفي وتقليل من توتر اللقاء، وقد يبدي بعض الإشارات الودودة كأن يُطري سؤالا فيقول: هذا سؤال مهم، هذا سؤال ذكي… إلخ. يتناسب ذلك مع بعض الصحفيين، لكن آخرين لا يستسيغونه، يقولون في دواخلهم "السؤال المهم أو الذكي يتطلب أن تجيب إجابة مماثلة، ولست في حاجة إلى هذه المجاملة، أعرف سلفا أنه سؤال مهم ولذلك طرحته".
من العلاقات غير الرسمية أن ينادى المرء باسم التدليل، ويحدث أن محبًّا يتعامل مع محبوبه فجأة بشكل رسمي، هو -في هذه الحالة- يستعمل عكس منطق "إذا حلّت الألفة زالت الكلفة"، قد يكون مبعث ذلك جفوة بينهما، أو أنه نوع من العتاب اللطيف، أو غير ذلك، وبتفعيل السياق التواصلي نتوصل إلى الباعث الحقيقي.
الإشاريات يتعذر فهمها خارج سياقها، لذا تتطلب معلومات عن السياق الذي قيلت فيه (بيكسلز) الإشاريات الخطابيةترد كخوض المتكلم في قول ما، ثم إتباعه بقول من قبيل "ولكن تلك قصة أخرى، هذه إشارة سريعة إلى"، أو تشير إلى موقف خاص بالمتكلم، كأن يتحيّر في ترجيح رأي على رأي "ليت شعري كيت وكيت، ربما كان في هذا التعليل شيء من الصواب"، أو أن يقطع على وجه اليقين في مسألة "مسألة أعتبرها…، ومهما يكن من أمر، فإني لست أرى هذا الرأي"، أو تعنّ له إضافة شيء إلى ما قال "فضلا عن ذلك".
إعلانتستعير الإشاريات الخطابية إشاريات الزمان مثل الشهر الماضي، وإشاريات المكان مثل الباب التالي من الكتاب، والإضراب "بل"، والاستدراك "لكن"، إشارة إلى خطاب قريب أو بعيد ضمن النص أو خارجه.
الإشاريات والسياقفي "اليوم والغد"، ينادي سلامة موسى بقطع كل صلة بيننا وبين تراثنا الأدبي والفكري والديني أيضا، فثقافتنا من منظوره "مضيعة للشباب وبعثرة لقواهم"، يقول "يجب أن نخرج من آسيا ونلتحق بأوروبا". في هذا المثال ما يشير إلى أهمية السياق، بدءا من عنوان الكتاب "اليوم والغد"، أو ما يعرف بـ"العتبة النصية الأولى".
يتعذر فهم الإشاريات خارج سياقها، ومن ثم تتطلب -أكثر من غيرها- معلومات عن السياق؛ فكلمات مثل "هنا، أنا، أمس، الآن، الحين، اليوم، غدا" تدخل في عباءة الإشاريات، كلها كلمات لا تحمل معنى محددا، إنما تحمل معنى مجردا، ومن ثم فإن لها معاني عدة؛ مما يتطلب التفتيش في سياقها للوقوف على مدلولها.
يمرّ بين عينيّ الجرجاني متأبطا دلائل إعجازه، وفيه أن الكلمة المفردة مرتبطة بوظيفة إبلاغية تؤديها في سياق الكلام، فلا تكون دالة ولا تؤدي وظيفة إبلاغية إلا إذا وردت في سياق. الحال ذاته ينطبق على الإشاريات، من هنا نعلم أن الإشاريات لا يمكن التكهن بها أو التوصل إليها إلا بمعرفة السياق.
النص كالإنسان ابن بيئته، ولفهم النص وفك مشفراته يجب معرفة السياق معرفة قوية، ويتألف السياق من بعدين أو مرجعين؛ داخلي يتمثل في اللغة وتراكيبها وائتلاف الكلمات بما فيها من شاعرية وفنية وجمالية، وخارجي يتعلق بالملابسات والخلفيات المحيطة بالنص، سواء ما يتصل بالمتكلم أو المتلقي، فضلًا عن الأحوال والمعطيات الزمانية والمكانية.
من هذا المنطلق، ساق فيرت Vert أربع مراحل لتحليل النصوص، الأولى تشمُل التحليل اللغوي (أصوات، الصرف، التركيب)، والثانية سياق الحال ويضم الملابسات والظروف، والثالثة غرض النص (إقناع، تحذير، توبيخ، إغراء، تمنٍّ، إضحاك… إلخ)، أما الرابعة فأثر النص، بمعنى: كيف تلقّى السامع النص؟ وسنطيل النفس في عرض ذلك بمشيئة الله.
إعلان