التجارب الدستورية لدول الخليج العربي.. قطر نموذاجا .. قراءة في كتاب
تاريخ النشر: 4th, October 2024 GMT
الكتاب: التجربة الدستورية في قطر
الكاتب: خالد بن غانم العلي
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
على الرغم من أن دول الخليج الستة (السعودية، الإمارات، الكويت، البحرين، قطر، وعمان) تتبع نماذج حكم مميزة، لكن هناك بعض السمات المشتركة التي تميز تجارب الحكم فيها.
فتاريخيًا، أغلب دول الخليج تحكمها أنظمة ملكية، حيث تستند شرعية الحكم إلى النظام القبلي والديني، ويُحتفظ بالسلطة التنفيذية في يد العائلة الحاكمة.
وقد تبنت بعض دول الخليج دساتير رسمية وأنظمة برلمانية أو استشارية تعطي مجالس الشعب أو الأعيان صلاحيات محدودة، مثل التشريع أو الرقابة، لكن السلطة النهائية عادة ما تبقى في يد العائلة الحاكمة:
وتعتبر الكويت من أكثر دول الخليج تقدمًا من حيث الحكم البرلماني. يوجد فيها برلمان منتخب (مجلس الأمة) يتمتع بسلطات تشريعية ورقابية حقيقية. إلا أن الأمير يظل يتمتع بسلطات مهمة مثل حل البرلمان وإقالة الوزراء، وللبحرين نظام ملكي دستوري مع برلمان بغرفتين، واحدة منتخبة وأخرى معينة. رغم ذلك، تبقى السلطة في يد العائلة الحاكمة إلى حد كبير.
أما سلطنة عمان فيتمتع السلطان بسلطات تنفيذية وتشريعية، لكن تم إنشاء مجلس عمان الذي يضم مجلس شورى منتخب ومجلس دولة معين، وهو يساهم في صياغة القوانين.
وقد شهدت تجارب الحكم في الخليج تغييرات كبيرة في العقود الأخيرة، نتيجة لتحديات داخلية وخارجية، واستطاعت هذه الأنظمة الحفاظ على استقرارها إلى حد كبير، مستفيدة من ثروات النفط والتكامل مع القوى الدولية.
ضمن محاولات فهم طبيعة أنظمة الحكم في دول الخليج، وفهم آليات تطورها وعلاقة ذلك بالتحديات الإقليمية دولية، صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب الباحث والمؤرخ القطري خالد بن غانم العلي التجربة الدستورية في قطر، الذي يتناول بالدرس والتحليل مسار دولة قطر نحو الدستور.
"عربي21"، تنشر العرض الذي قدمه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، لكتاب: "التجربة الدستورية في قطر"، وهو بقدر ما يسلط الضوء على أهم المحطات الدستورية ومعالمها الرئيسية في قطر، فإنه يلقي الضوء على التجربتين الكويتية والبحرينية بالنظر إلى سبق البلدين في المجال الدستوري.
قطر لم تتأخر فعليًّا عن التجربتين الكويتية والبحرينية، بل جاءت تجربتها متدرجةً وموائمة لمستوى الوعي الجمعي بين السلطة والمجتمع، حتّى إنّها كانت متقدمة في التطبيق العلمي للنصوص الدستورية؛ فكان لها السبق مثلًا في منح المرأة حق الانتخاب والترشح عام 1998. ويستنتج المؤلف أهمية فهم العدة العقلية لكل جيل في قطر، لفهم كيفية حدوث التطورات السياسية والدستورية كما حدثت بالفعل.تقفّى هذا الكتاب، الذي جاء في 156 صفحة من القطع الوسط، سيرورة التجربة الدستورية إستوغرافيًّا، لاستعراض تاريخٍ راهن ما زالت ملامحه تتكشّف.
فبأدوات المؤرّخ، يتناول المؤلف المسألة الدستورية باستعمالِ منهجَين، الأول، الأزمنة الثلاثة عند المؤرخ الفرنسي فيرنان بروديل، وهي: الزمن الثابت المتمثّل في الجغرافيا، والزمن شبه الثابت المتعلّق بالبنى الثقافية والاجتماعية، والزمن المتغيّر المرتبط بالأحداث السياسية، والثاني، التاريخ الاجتماعي والثقافي من خلال دراسة الحالة عند لوسيان فيفر، مستعينًا بأدوات منهج البحث التاريخي التحليلي المقارن للإلمام بالسياقات المتعددة، ولا سيما الكويت والبحرين، وقياس التجربة القطرية عليهما، وتميّزها منهما. وقد دمج المؤلف بين ذاتيّته بوصفه فاعلًا دستوريًّا، وخبرته وملاحظته خلال سنين عمله (إذ حصل على عضوية مجلس الشورى القطري)، وصاغها ضمن منهج الملاحظة بالمشاركة، وصقَلَها بهذا الإنتاج الأكاديمي واهتمامه بالتاريخ والدراسات التاريخية.
يخوض الكتاب في المحطات الدستورية القطرية، بدءًا من الحراك الدستوري خلال عشرينيات القرن العشرين في أنحاء المنطقة، مرورًا بصدور الدساتير في الدول الثلاث. ويلاحظ المؤلف أنّ كثيرًا من الكتابات عن بلدان الخليج العربية تتّسم بالتعميم، في حين أثبت تقييمه للتجربة الدستورية القطرية وجود اختلافات بين بلدان الخليج، وأنّ تجاربها الدستورية مرتبطة بسياقات كل بلد. ولذا، يكون من المهم جدًّا دراسة خصوصية كل تجربة بالنظر في السياقات المختلفة لكل مجتمع، سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا. وهكذا، بينما حدَّد المؤلف إطاره المكاني في منطقة الخليج، ولا سيما الكويت والبحرين وقطر، فإن إطاره الزماني هو الزمن الطويل؛ إذ يعقد مقارنةً بين حقبتَي الغوص على اللؤلؤ والنفط، ودور التجار ورجال الدين في كلتيهما، وأثر ذلك في الحراك الدستوري.
سيرورة الدساتير من النشأة إلى النهاية
يقف الفصل الأوّل، "القانون الدستوري"، عند أحد فروع القانون العام، وهو القانون الدستوري، ويعرّف فيه "الدستور" بأنّه مجموعة من المبادئ أو القواعد التي تقيّد سلطة الحكام والسياسيين والحكومات، وتهدف إلى تحديد صلاحية المؤسسات والقيادات السياسية. ويشدّد المؤلف على أنّ البحث في الدساتير يُعد من الحقول التي تستند إلى العقائد والأفكار إلى حدٍ بعيد، خلافًا للبحث في سائر العلوم الإنسانية والاجتماعية، ويعتمد ذلك على مضمون القانون الدستوري من بلدٍ إلى آخر. ويبحث في ميلاد الفكر الدستوري، فيسرد كيف قيّدت الدساتير السلطات الملكية، ويشرح ظهور الدساتير المكتوبة في العقود الأولى من القرن التاسع عشر الميلادي، والذي جاء بعد بزوغ الرغبة في تحديد أجهزة الدولة ووظائفها. ويفرّق بين الدساتير الديمقراطية والدساتير غير الديمقراطية من حيث صلاحيات الرئيس أو الملك أو الأمير، وبين الملكية البرلمانية والملكية الدستورية من حيث سلطات الملك وسلطات الحكومة.
ويعرج المؤلّف على أنواع الدساتير بحسب تقسيم فقهاء القانون الدستوري، فمنها الدساتير المدونة (المكتوبة)، والدساتير غير المدونة (العرفية)، والدساتير الجامدة، والدساتير المرنة. وتختلف نشأة الدساتير من دولة إلى أخرى؛ ما يصعّب إمكانية تحديد أسلوب واحد لوضع الدساتير، فمنها ما هو أسلوب غير ديمقراطي، مثل المنحة أو التعاقد أو الهبة، ومنها ما هو أسلوب ديمقراطي يجري عبر الجمعية التأسيسية والاستفتاء. ثم يتناول طريقة تعديل الدستور، التي ربّما تكون جامدة وتشترط إجراءات خاصة ومشددة، أو مرنة تمامًا كما تُعدَّل القوانين الأخرى، ويتمّ ذلك عن طريق الجمعية التأسيسية، أو الاستفتاء، أو البرلمان. ويحدّد نهاية الدساتير بتغييره كلّيًّا بحيث يحلّ محلّه دستور جديد بقواعد جديدة توائم الظروف المستجدّة، وذلك إمّا من خلال جمعية تأسيسية وإما ثورة. وبذا يقدّم المؤلّف في هذا الفصل عرضًا نظريًّا مفهوميًّا مفصّلًا.
الدستورانية القطرية من منظور مقارن: التجربتان الكويتية والبحرينية
أمّا الفصل الثاني، "الحراك الدستوري في قطر"، فيخصصه المؤلف للإجابة عن الأسئلة الآتية: هل شهدت قطر حراكًا دستوريًّا؟ وهل تزامن حراكها مع الحراك الدستوري في البحرين والكويت؟ ولماذا بدأ فيهما الحراك الدستوري في عشرينيات القرن العشرين؟ وهكذا، يقارن تجربةَ قطر بتجربتَي الكويت والبحرين، وقد اختار هذين البلدين؛ نظرًا إلى التفاعل التاريخي بينهما وبين قطر منذ الأيام الأولى لتشكّلها، والتقارب الظاهري في النواحي السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية.
وفي هذا السياق، يحدد المؤلف بدء الحراك الدستوري في الخليج العربي في عشرينيات القرن العشرين قي الكويت والبحرين، بينما لم تشهد قطر حراكًا مماثلًا. ويوظّف منهجية فيفر لتناول التجربة الدستورية القطرية، لتجاوز ندرة المصادر المكتوبة وذلك بتناول الأوضاع في الكويت والبحرين للبناء عليها. ويفيد من قاعدة أصول الفقه التي تقيس الغائب على الشاهد لقياس التجربتين مقارنةً بقطر. ويؤكد غياب الحراك الدستوري القطري، حيث بدأت التجربة البحرينية تقريبًا بالتزامن مع الكويت في عشرينيات القرن العشرين، إلّا أنّ ثمارها أتت متأخرة؛ إذ لم يصدر دستورها إلّا عام 2002، أي سبقت قطر بعامين فقط. أمّا الكويت، فقد صدر دستورها عام 1962.
وهكذا، يستعرض المؤلف نماذج من بعض التجارب الدستورية الخليجية، لا كلّها؛ بسبب تنوّع أنظمة الحكم في الدول الخليجية الأخرى. وإنّ اختلاف الظروف التي عاشتها المشيخات المختلفة والسياقات التاريخية للسيرورة الدستورية أثّرت في التجربة والوعي السياسيَين، منتجةً مسارات ودساتير وأنظمة سياسية راهنة. ويبحث المؤلف في ذلك دور الجغرافيا في الاتصال وانتقال الأفكار، ودور البنى الاجتماعية والثقافية، والتجار ورجال الدين، والتعليم والأنشطة الثقافية. ففي حين ذهبت الأدبيات إلى أن تأخر إصدار الدستور في قطر يعود إلى التعليم النظامي الذي بدأ متأخرًا هو الآخر، يجادل المؤلف بأنّ أسبابًا أخرى شكّلت عوامل إضافية، مثل دور رجال الدين والتجار، وتأثير الوجود البريطاني في المنطقة، وثورة 1952 في مصر وانتشار الفكر الناصري والقومي والعروبي.
وعزا المؤلّف جوانب التطوّر في قطر ككل، لا سيما دستوريًّا، إلى الإيكولوجيا والوضع الجغرافي الخاص بها، حيث أثّر في مسارها التاريخي، وجعلها مختلفةً عن سائر البلدان المجاورة على غرار بقية المجالات الجغرافية المشابهة، وكان له دور في انغلاق المجتمع وانفتاحه على مؤسسات الدولة الحديثة، وكذلك في سياسة الحكّام تجاه القوى الخارجية، وفي علاقة الحكّام بالمحكومين.
ومن العوامل الأخرى التي ذكرها تصدير البترول في عهد حاكم قطر الشيخ علي بن عبد الله (1949-1961)، الذي كان محوريًّا في التحول الذي حدث في البنية الاجتماعية، التي عرفت ثباتًا قبل ذلك، وأدى إلى تأثر التشكّل الاجتماعي بفعل الطفرة الاقتصادية.
مسيرة قطر الدستورية: ثلاثة دساتير
في الفصل الثالث، "تطور الفكر الدستوري في قطر"، تناول المؤلف التحولات الدستورية التي عرفتها قطر، بدايةً من إصدار "النظام الأساسي المؤقت"، مرورًا بـ "النظام الأساسي المؤقت المعدّل"، ثم ما أفضت إليه هذه التحولات من إصدار الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، أمير قطر (1995-2013)، قرارًا أميريًّا في عام 1999 ينص على إنشاء لجنة لإعداد الدستور، تمخّض عن إعدادها مشروعٌ للدستور القطري انتهت منه في تموز/ يوليو 2002، وقد عُرض على الاستفتاء الشعبي في نيسان/ أبريل 2003، وحصل على الموافقة العظمى، ثم جرى إصدار الدستور الدائم في حزيران/ يونيو 2004. وقد دخل الدستور حيّز التنفيذ بعد نشره في "الجريدة الرسمية" في 8 حزيران/ يونيو 2005.
عزا المؤلّف جوانب التطوّر في قطر ككل، لا سيما دستوريًّا، إلى الإيكولوجيا والوضع الجغرافي الخاص بها، حيث أثّر في مسارها التاريخي، وجعلها مختلفةً عن سائر البلدان المجاورة على غرار بقية المجالات الجغرافية المشابهة، وكان له دور في انغلاق المجتمع وانفتاحه على مؤسسات الدولة الحديثة، وكذلك في سياسة الحكّام تجاه القوى الخارجية، وفي علاقة الحكّام بالمحكومين.يتطرق المؤلف في هذا الفصل إلى الملامح العامة للنظام السياسي في دولة قطر، ثم ينتقل إلى تطور التجربة الدستورية فيها عبر تحليل ما ورد في الوثائق الدستورية الثلاث، والمقارنة بين محتوياتها، من دون الانغماس في التفاصيل المتعلّقة بموادها وتفسيراتها. وهو يرى أنّ الدستور الدائم لعام 2004 أقرّ مبادئ سيادة القانون، والفصل بين السلطات، والانتخاب، والشعب بوصفه مصدرَ السلطات، والأسس الرئيسة للدولة الحديثة في قطر، وانتخاب أوّل سلطة تشريعية (مجلس الشورى) في تشرين الأول/ أكتوبر 2021.
يخلص المؤلف إلى أنّ قطر لم تتأخر فعليًّا عن التجربتين الكويتية والبحرينية، بل جاءت تجربتها متدرجةً وموائمة لمستوى الوعي الجمعي بين السلطة والمجتمع، حتّى إنّها كانت متقدمة في التطبيق العلمي للنصوص الدستورية؛ فكان لها السبق مثلًا في منح المرأة حق الانتخاب والترشح عام 1998. ويستنتج المؤلف أهمية فهم العدة العقلية لكل جيل في قطر، لفهم كيفية حدوث التطورات السياسية والدستورية كما حدثت بالفعل.
وختم المؤلف كتابه بتوصيات عن واقع التجربة الدستورية القطرية لتجويدها، والتي يراها تُرتهن برفع مستوى الوعي لدى كل شرائح المجتمع بالممارسات الديمقراطية، ودور السلطات المختلفة، والاقتناع بأنّ التجربة القطرية لها خصوصيتها.
ويرى كذلك وجوب أن تحرص السلطتان التنفيذية والتشريعية على التواصل والتفاعل المستمرَين والإيجابيَين، وأن يعي كل عضو في مجلس الشورى بتساوي جميع الأعضاء، وأن يتبنى هذا المجلس مبدأ الشفافية، وينفتح على قضايا المجتمع. أوصى أخيرًا بالعمل على تعزيز الهوية الوطنية الجامعة، وتعزيز مبدأ المواطنة، ونشر الوعي بالحقوق والواجبات.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب قطر العرض نشره قطر كتاب عرض نشر كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة القانون الدستوری العائلة الحاکمة الکویت والبحرین الدستوریة ا دول الخلیج الحکم فی الخلیج ا ا دستوری المؤل ف فی قطر
إقرأ أيضاً:
وقفات مع ذكريات ومذكرات ابو منقة ١ / ٢
بقلم: خالد محمد فرح
وصلت إلى طرفي ، بصحبة شاب قدم علينا من القاهرة في الأسبوع الماضي، نسخة من كتاب " ذكريات في مذكرات " ، الذي صدر حديثاً لاستاذنا وصديقنا البروفيسور الامين ابو منقة محمد، استاذ اللغات واللغويات الأفريقية بمعهد الدراسات الأفريقية والآسيوية بجامعة الخرطوم، والمدير الأسبق لهذه المؤسسة البحثية والأكاديمية المرموقة لدورتين متتاليتين 2002 - 2010م، والباحث والمؤلف غزير الانتاج مع التميز والتجويد، الذي لا يشق له غبار في علوم: اللغة والتاريخ والأنثربولوجيا والفولكلور والتراجم وغيرها من العلوم الإنسانية بصفة عامة.
انه كتاب يتألف من اثني عشر فصلاً، ويقع في نحو 420 صفحة من القطع المتوسط، وهو من اصدار ات دار جامعة الخرطوم للطباعة والنشر في العام المنصرم 2024م.
هو كتاب في السيرة الذاتية بشكل أساسي، سرد فيه المؤلف وقائع ومحطات تاريخ حياته منذ ميلاده مرحلة اثر مرحلة، انتهاء بلحظة كتابة آخر فصل فيه، ودون فيه ذكريات طفولته الباكرة والمتأخرة، وصباه وشبابه، مروراً بجميع مراحل دراسته داخل السودان وخارجه، مستعرضاً أهم الاحداث التي كان طرفاً فيها، والتي وقعت في مسقط رأسه بلدة " مايرنو " بولاية سنار خلال تلك الفترة المعنية، بين اواخر الخمسينيات ومنتصف الثمانينيات من القرن الماضي.
هذا، وعلى الرغم من ضخامة حجم هذا الكتاب نسبياً، وغزارة المعلومات التي حواها، إلا أنني الفيته - مع ذلك -.سائغاً سلساً، في غاية المتعة والفائدة في بابه، وذا أسلوب ناصع ولغة رصينة، زانتها أريحية واضحة وخفة روح، وهو ما مكنني من التهام سطوره وصفحاته في غضون فترة وجيزة جدا، من دون ان انصرف عنه إلى اي مصنف آخر غيره، حتى اتيت عليه كله مرة واحدة.
بسط البروفيسور ابو منقة في هذا الكتاب ايضاً، الحديث عن بعض العادات والتقاليد الخاصة بقبيلة الفولاني التي ينتمي اليها المؤلف نفسه، والتي كانت سائدة في منطقة انتشار افراد هذه القبيلة بتلك المنطقة من ضفتي جنوبي النيل الأزرق بالسودان، في ستينات وسبعينات القرن العشرين، وقد اثبت الكاتب معلومة تاريخية مفادها ان اسلافه قد قدموا مهاجرين إلى السودان، من شمال نيجيريا في عام 1903م ، في صحبة أمير المؤمنين الطاهر الاول، حفيد الداعية والمجاهد الشهير الشيخ عثمان دان فوديو 1754- 1817م، فرارا بدينهم من عسف الاحتلال البريطاني، الذي استولى على دولتهم سلطنة سوكوتو الإسلامية، التي كان قد اسسها هناك، الشيخ عثمان دان فوديو في عام 1804م.
وقد أشار المؤلف إلى معظم تلك العادات والتقاليد الفولانيةِ العتيدة، قد اندثر الان كما قال. وهنا لعل المرء يتذكر على سبيل المقارنة والتمثيل، عنوان المقال الطويل الذي نشره العلامة عبد الله الطيب بالإنجليزية في مجلة السودان في رسايل ومدونات SNR في خمسينيات القرن الماضي تحت عنوان: Changing Customs in the Riverain Sudan ، اي العادات المتغيرة في السودان النهري، والشاهد هو اشتراك الموضوعين في ثيمة او معطى التغيير الحتمي في العادات والتقاليد، بوصفه ظاهرة تعتري اي مجتمع بشري صغر او كبر، خصوصا تبعا لتغير البيئات والظروف المحيطة.
كذلك عمد المؤلف إلى القاء الضوء على بعض المفاهيم الاجتماعية والثقافية السائدة في عدد من البلدان التي زارها وعاش فيها، وخصوصاً نيجيريا وألمانيا، وقارنها مع المفاهيم الموازية لها في المجتمع السوداني. ثم تتبع الكاتب مجريات الاحداث بمعهد الدراسات الأفريقية والآسيوية منذ ان التحق به استاذا في بداية النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي، وحتى لحظة كتابته هذه المذكرات التي صرح هو نفسه بانه قد خطها اثناء الخلوة التي فرضتها عليه وعلى جميع البشر، جائحة كورونا في عام 2020م. والى جانب ذلك، عرض المؤلف تجربته عضواً بمجلس الشخصيات المرموقة في الالية الأفريقية لمراجعة النظراء التابعة للاتحاد الأفريقي، كما تطرق ايضاً إلى أنشطته البحثية، وإسهاماته في خدمة المجتمع من خلال عضويته في عدد من اللجان القومية، مثل ترؤسه المجلس القومي لتطوير وترقية اللغات القومية، ورئاسته المجلس القومي للتراث الثقافي وترقية اللغات القومية، وعضويته باللجنة القومية للأسماء الجغرافية وغير ذلك من الهيئات واللجان.
واختتم المؤلف هذا الكتاب بفصل استعرض فيه انطباعاته عن عدد من الدول التي حظي بزيارتها حتى الان، والتي يبلغ مجموعها 34 دولة، موزعة بين أوروبا والشرق الأوسط والشرق الأقصى وأفريقيا.
ان هذا الكتاب هو بكل تاكيد، كتاب في السيرة الذاتية للمؤلف في المقام الاول، ولكن القارئ الحصيف ،،وذو البصر ،،والواعي، والمهتم، سوف يجني منه قطعاً، فوائد جمة في مجالات ومعارف ومباحث اخرى عديدة، من بينها على سبيل المثال فقط، إضاءات وومضات كاشفة على جوانب مهمة من تاريخ السودان الحديث والمعاصر، وخصوصاً تاريخ صلاته الواشجة مع بلدان وشعوب وسط افريقيا المسلمة، وعلى وجهٍ أخص، تاريخ هجرات طوائف من قبايل الفولاني والهو سا والبرنو وغيرهم إلى أرض السودان، على غرار هجرة مجموعة كبيرة من الفولاني، رعايا سلطنة سوكتو الإسلامية بقيادة الأمير الطاهر مي ويرنو في عام 1903م في ظل اوائل سني حكومة الحكم الثنائي الاستعمارية، والتي تلتها في عام 1904 م ، هجرة لطائفة اخرى من الفولاني الغابيرو الناطقين بلغة الصونغى من مالي، والذين استقرت مجموعة منهم بجنوب كردفان بنواحي كادوقلي و البرداب وغيرها، وواصلت مجموعة منهم سيرها فاستقرت بجنوب النيل الأزرق بنواحي ود هاشم والحجيرات وغيرهما، كما اخبرني بذلك قبل سنوات ، صديقنا وابن دفعتنا في الجامعة، الاخ احمد حامد صالح نقلا عن اسلافه الذين كانوا جزءا من اوليك المهاجرين من مالي في ذلك التاريخ.
والى ذلك، فان هذا الكتاب يشتمل على ملامح وومضات لافتة للنظر في مباحث شتى في مجالات التاريخ الاجتماعي والثقافي، وحتى السياسي في تاريخ السودان الحديث والمعاصر، فضلا عن مباحث اخرى في علوم اللغة والاناسة والفلكلور والفوارق الثقافية بين مختلف الأقطار والشعوب، ثم داخل القطر الواحد والشعب الواحد، مما أتاح له المجال لاجراء جملة من المقارنات والمقابلات المفيدة حقا. وفي معرض تطرقه لمسيرته الشخصية مع الدراسة والعمل لاحقاً، وخاصة في جامعة الخرطوم، طالباً ومعيداً ومحاضراً ورئيس قسم ومديرا لمعهد الدراسات الأفريقية والآسيوية.، وفي هذا السياق، يوقفنا المؤلف على سبيل الاستطراد، على جانب من تاريخ جامعة الخرطوم منذ اوائل السبعينيات من القرن الماضي وحتى نهاية العشرية الاولى من الالفية الجديدة، حيث يطلعنا المؤلف على جوانب إنسانية مشرقة وأخرى سالبة بطبيعة الحال، مما يتصف به بعض البشر من لطف وذوق ونبل وحسن تعامل وكرم وانسانية، او ما يعلق بنفوس بعضهم في المقابل، من مثالب الانانية والأثرة والحسد والعنصرية والميل إلى الكيد والغدر و " الحفر " وهلم جرا. على ان المؤلف قد عرض لجميع ذلك بنفس راضية وواثقة، وعبر عنه بأسلوب أريحي سمح، يفيض بشراً ومسامحة، بل لا تنقصه روح الدعابة في كثير من المواضع.