غيّب الموت أمس الأحد الشاعر السوداني الكبير محمد المكي إبراهيم بأحد مستشفيات مدينة الشيخ زايد غرب العاصمة المصرية القاهرة، عن عمر يناهز 85 عاما، بعد صراع مع المرض، وكتب عدد من الأدباء والمثقفين السودانيين ينعونه بنصوص تدخل ضمن أدب الرثاء الذي يُعد من أقدم وأهم الأغراض الأدبية في تاريخ النصوص العربية، فهو فن أدبي يعبّر فيه الكاتب عن حزنه وألمه لفقدان شخص عزيز، مستذكرا مناقب المرثي وخصاله الحميدة.

ويبقى أدب الرثاء العربي شاهدا على عمق المشاعر الإنسانية وقدرة الكلمة على تخليد الذكرى، فهو ليس مجرد تعبير عن الحزن، بل هو احتفاء بالحياة وتأمل في معانيها العميقة.

ومن أبرز من كتب في رثاء الشاعر الراحل محمد المكي إبراهيم الأكاديمي السوداني والكاتب وجدي كامل، والبروفيسور أحمد إبراهيم أبو شوك، فإلى المقالين الرثائيين:

رحيل هرم شعري ناطق ومفعم بالتجاوز
وجدي كامل

 

لم يكونا شاعرين كبيرين فقط، بل صديقين عزيزين جمعت بينهما صداقة ستينية قديمة عميقة، أقام فيها ود المكي قسطا من الزمن، وسكن أحيانا بدار آل عوض الجزولي.

ما بين (الأديب والقانوني السوداني المتوفى نهاية 2023) كمال الجزولي ومحمد المكي إبراهيم أكثر من توأمة، ورباط من صداقة متينة، وذكريات مشتركة، ومحبة مشتركة جمعتهما، وآمال عراض لمستقبل يستحقه هذا الشعب الأبي.

كانت، وحين يغيب محمد المكي في مهاجره المتعددة حسب الوظيفة الدبلوماسية والهجرة الأخيرة لبلاد العم سام تشتعل المراسلات، والاتصالات الهاتفية، وينتظر صديقه كمال قدومه على أحر من الجمر، وما أن يحط الرحال، حتى يقوم كمال بتعطيره على المجالس والجلسات، وينتقلان بعسل المؤانسة من مكان إلى مكان، وتتألق الخرطوم وبيوت المثقفين والفنانين.

الأديب والمحامي السوداني كمال الجزولي تُوفي بالقاهرة في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي (منتدى دال الثقافي، مواقع التواصل)

سعدت بأن كنت شاهدا على ذلك، وواحدا من أولئك الذين تشرفت بيوتهم بزيارتهما معا، بعد مشاهدة فيلمية مشتركة لفيلمي (جراح الحرية).
كانت تلك واحدة من مرات عديدة، استطعت التعرف فيها على الرجل السهل الممتنع، اللطيف، المبتسم، الهادئ، الدمث الخلق، والمعجون بالتواضع الجم، وحب الآخرين.

حزن محمد المكي أيما حزن على وفاة صديق عمره كمال الجزولي، وكانت زيارته للتعزية بالقاهرة بمجرد وصوله لها. ولكن وحسبما كان قد أسر لي الدكتور ابى كمال الجزولي قبل أيام، وكان العلم قد نما إلي أن شاعرنا قد تُوفي سريريا منذ دخوله مستشفى الفؤاد، بأن ود المكي كان وفي حزنه العميق على غياب صديقه بدا مشغولا في تلك الزيارة بالتعرف من ابى على تفاصيل تحضير جثمان الميت، ودفنه، والإجراءات المتبعة بالقاهرة لتلك الطقوس، وكأنه قد اختار الموت، وكأنه قد عاد ليموت في مكان أقرب لموطنه الذي أحب وعشق.

عاد ليموت ويشيّعه من عرف أفضاله الثقافية والإنسانية علينا بعد أن امتنع الوطن الممزق، المحترق هذه المرة عن الاستقبال، وحيث لم تكن هناك (أمته) التي تشتت في بقاع الأرض ونزحت، ولكن يحمد أن احتفظت بكثافة الوجود بقاهرة المعز.
كم كنت أتمنى أن أكون أحد المودعين لولا العوائق.

ها ذا أنا أشاهد الوجوه وقد تبللت بالدموع، وأسمع العويل، وبكاء من عرفوك.
ها ذا أنا أرى وداعا جليلا، ضخما يليق بمقامك وقامتك يا محمد المكي، يا من أسعدتنا بحياتك، ومساهماتك الشعرية المتميزة، المتفردة.

أقول باسمك وباسم صديقك وكل من رحل عنا في هذه الظروف القاهرة العصيبة سوف تتوقف الحرب، سينتصر الشعب، وسينكسر حائط السجن الرمزي الكبير الذي شيدته مؤسسات القهر والقمع التاريخية والمستحدثة، وستشتعل الحقول قمحا ووعدا وتمنيا ومدنية.

ستبقى ذكراك خالدة فينا، وفي الأجيال القادمة، ولن تنقطع سقياك لقلوبنا ولذاكرتنا أبدا.

الوداع الوداع، ولا أجد في هذه اللحظات الحزينة أبلغ من مرثيتك لشيخك، وشيخ شعرائنا المحدثين محمد المهدي المجذوب في وداعك المهيب له شعرا عند الرحيل:
من جمالك في الموت
يتخذ الورد زينته
والمواسم حناءها
والعصافير تترك توقيعها في رمالك
برحيلك
ﺃﻇﻠﻤﺖ ﺑﻮﺍﺑﺔ ﺍﻟﺸﻌﺮ ﻭﺃﺑﻮﺍﺏ ﺍﻟﻔﺮﺍﺩﻳﺲ ﺃﺿﺄﻥ
ﺑﺮﺣﻴﻠﻚ ﻳﻨﻔﺼﻞ ﺍﻟﺠﻤﺮ ﻋﻦ ﺻﻨﺪﻝ ﺍﻟﺸﻌﺮ
ﻳﻘﺘﺮﺏ ﺍﻟﻤﻮﺕ
ﻳﺴﻤﻊ ﺻﻮﺕ ﺍﻟﻜﻬﻮﻟﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺮﺑﻊ
ﺗﻔﺘﻘﺪ ﺍﻷﺑﺠﺪﻳﺔ ﺃﻇﻔﺎﺭﻫﺎ
ﺗﺴﺘﺮﺩ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﻭﺩﻳﻌﺘﻬﺎ (ﻟﺆﻟﺆ ﺍﻟﺸﻌﺮ) ﻣﻦ ﻋﺎﻟﻢ
ﻛﺎﻓﺮ ﺑﺎﻟﺴﻤﺎﺀ ﻭﺃﺷﻌﺎﺭﻫﺎ
ﺗﺴﺘﻌﻴﺪ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﻃﻔﻮﻟﺘﻬﺎ
ﻭﺗﻌﻮﺩ إﻟﻴﻚ ﻃﻔﻮﻟﺘﻚ ﺍﻟﺬﺍﻫﺒﺔ

محمد المكي إبراهيم.. الموت في زمن الشتات
البروفيسور: أحمد إبراهيم أبوشوك

في تقديمه لكتاب الدكتور حسن أبشر الطيب، إطلالة في عشق الوطن (أم درمان مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي، 2001)، كتب محمد المكي إبراهيم (1939- 2024) عن جيل العطاء الذي ينتسب إلي من خلال شخص زميل دراسته بجامعة الخرطوم وصديق عمره حسن أبشر الطيب قائلا: "ينتمي المؤلف إلى جيل الستينيات في السودان، هو جيل يجمع إلى الريادة الإبداعية المواكبة المستمرة والتجويد المتفوق والاطلاع الغزير… وهذا السفر الذي بين يدي القارئ الآن شاهد على صحة تلك المقولة، فها هي بين أيدينا ما يقرب من 40 مقالة في مختلف شؤون الحياة والثقافة في السودان. تتناول فيما تتناول أعلامه الكبار: الطيب صالح، والمجذوب، وجمال محمد أحمد، والتجاني الماحي، ومحمد إبراهيم أبو سليم. كما تتناول أهل الفن والإبداع فيه: أحمد المصطفى، وعبد العزيز محمد داود، وليلى المغربي. إلى جانب أشهر آثاره الأدبية المعاصرة: "موسم الهجرة إلى الشمال"، وغضبة الهبباي"، و"أمتي".

لكن يصف محمد المكي إبراهيم الوطن في بداية الألف الثالثة بأنه "يمر بأسوأ أيامه، وأشدها بؤسا وسوء حظ، وفي السنوات الأخيرة من القرن العشرين كانت قد اكتملت مسلسل الخروج من السودان هربا من العسف السياسي، والبؤس الاقتصادي، وغياب الحرية، وإظلام الحياة الفكرية وإجدابها. وكانت السلطة في بداية أمرها تريد إفراغ البلد من ذوي الفكر والرأي، فأفرطت في القسوة عليهم، حتى هجروا البلاد بالألوف، ثم توسعت حلقة الرعب وطالت من لا ينتمي لتلك الفئة من المواطنين، فأجفلت العصافير وخرج السودانيون بالملايين ما بين ناشد حرية، وطالب دنيا يصيبها، أو أمن يشتهيه… وفي المنافي الاختيارية التي تقاطر عليها السودانيون تحول السودان في نفوس بنيه المهاجرين إلى ذكرى سيئة ومدعاة للحسرة واليأس والألم، فالأخبار التي تأتي من تلقائه لا تحمل إلى الجماعة المهاجرة سوى أنباء الفقد والفجيعة والتدني المستمر في نوعية الحياة، والتكرار المميت لكل أخطاء الماضي ورزاياه. وأمام أعينهم كانت سمعة السودان المشرقة تتحول إلى صيت سيئ، وكان اسمه الشريف يتمرغ في الوحول".

الآن رحل محمد المكي إبراهيم إلى الدار الآخرة في يوم الأحد الموافق 29 سبتمبر/أيلول 2024 بقاهرة المعز، وفي زمن شتات لم يشهد السودان له مثيلا من قبل، وحال الوطن أسوأ مما كان عليه في بداية الألفية الثالثة، إذ حولت حرب الخامس عشر من أبريل 2023 واقع أهله إلى جحيم لا يُطاق، بعد أن احتلت قوات الدعم السريع معظم مساكن المواطنين في العاصمة المثلثة وود مدني وغيرها من المدن، ونهبت مقتنياتهم الثمينة، وجعلت حواضن ذكرياتهم وتراثهم أثرا بعد عين، وأجبرتهم على الأمرين، إما النزوح إلى الولايات الآمنة في السودان، أو اللجوء إلى دول الجوار ومهاجر ذوي القربى.

وعن تداعيات الحرب وتعقيدات استمراريتها، تصدق الحقيقة الذهبية التي طرحها الدكتور حسن أبشر الطيب "إن المدفع لا يبنى بيتا، ولا يشفي مريضا، ولا يزرع حقلا، ولا يحصد إلا دمارا. إن الأوطان تُبنى بالمحبة، والتعاطف، وبالاحترام المتبادل للرأي والرأي الآخر، وبالسعي الموصول لتعظيم عناصر الاتفاق، ونبذ مسببات الفرقة، وبالسمو فوق المنافع الذاتية الآنية إلى مصلحة الوطن، بالاحتفاء بكل المبدعين من أبناء الوطن في مختلف الميادين، تقديرا للعبقرية وتجسيدا للقدوة المتميزة، وبالانفتاح الذكي المتبصر على المعطيات والتجارب الإنسانية المعاصرة".

كما يصدق استفهام الشاعر محمد الحسن سالم (حميد)، عندما أنشد قائلا "أخــيــر كــرّاكــة بـتـفــتـح حـفـيـر وتـراقـد الركام *** أم الدبابة البتكشح شخـيـر الـمـوت الزؤام؟ ** درب مـن دم مـاب يـودي حرِب سُبّه حرب حرام *** تـشـيـل وتـشـيـل مـابِ تـدِّي عُـقـب آخــرتا انهزام".

وعندما شعر حسن أبشر الطيب بتعاطف الحركة الديمقراطية السودانية المعارضة لنظام الإنقاذ آنذاك مع بعض أعمال الدمار والتخريب التي كانت تطال خط أنابيب تصدير النفط كتب مقالا بعنوان "هذا كلام أعوج"، ويتمثل اعوجاج ذلك في بُعد نجعته عن القيم العليا التي تطالب الساسة بالعمل من أجل إسعاد الناس أجمعين، ما دامت سعادة الناس تتجسَّد في الحفاظ على مصادر معاشهم اليومي وخروجهم من عنق زجاجة المعاناة، لأن تدميرها يعتبر طغيانا من السياسة على مقدرات الدولة الاقتصادية. فأي سياسي أو عسكري غير عاقل يدمِّر موارد أرزاق الناس ويشردهم من مساكنهم الآمنة، ثم يعدهم بالحكم المدني والديمقراطية، فإنه يضحك على عقولهم في صلف وكبرياء وعدم استحياء، لأن أولويات الحياة الأساسية تقوم على المسكن والمأكل والمشرب والحريات العامة، وما سواها أولويات كمالية مؤجلة لا يستقيم ميسمها إلا باستقامة مَيَاسِم الأولويات الأساسية.

إذا يا سادتي دعونا نجمع القول "أرضا سلاح"؛ لأن إيقاف الحرب لا يعني إعفاء الذين ارتكبوا الجرائم والفظائع في حق الشعب المسكين من العقوبة، ولا يعني إشراك الذين كانوا سببا في الحرب أن يكون جزءا من الحل. لكن إيقاف الحرب يُسهم في إبقاء ما لم يُدمَّر من بنية البلاد التحتية، وفي الحافظ على الوطن من التقسيم وجعله نهبا لمصالح الدول الإقليمية والعالمية، وفي صون أرواح أبنائه وبناته الذين يحلمون بغدٍ أفضل. إيقاف الحرب، يا سادتي، يعني الحفاظ على مؤسسات الدولة، وإعادة احتكار العنف القانوني لجيش مهني واحد وقوات شرطة مؤهلة، ويعني التخلص من المليشيات المسلحة، والتواضع على نظام حكم يكون تداول السلطة فيه بطرق ديمقراطية سليمة. ولا يتحقق ذلك إلا بتوافق الصف الوطني. والشاهد في ذلك قول الرئيس الرواندي بول كاغامي (Paul Kagame)، الذي انتشل بلاده من ركام الحرب الأهلية الضروس والعداوات العرقية إلى البناء والإعمار، عندما صرّح قائلا "إنّ تقدم بلادنا سببه أنتم أيها الروانديون، خاصة الشباب والنساء منكم، الذين أخذوا زمام المبادرة لتقرير مصير بلادهم من خلال روح العمل والابتكار والوطنية كمفتاح للرقي والتنمية […]، فليس ذلك بسبب وجود الفاتيكان، أو الكعبة، أو البيت الأبيض، أو الإليزيه، أو تاج محل" في بلادنا.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات محمد المکی إبراهیم کمال الجزولی

إقرأ أيضاً:

إبراهيم شقلاوي يكتب: المصباح يثير جدلًا !

في خضم التحولات المزلزلة التي يشهدها السودان منذ اندلاع حرب 15 أبريل 2023 ، تبرز حقائق لم تعد تحتمل التأجيل، أولها أن السيادة الوطنية لا تُصان بالشعارات، بل تُبنى على ركائز الاستعداد الاستراتيجي، ووعي جمعي يدرك أن الأوطان لا تحرسها الجيوش وحدها، بل تستبسل شعوبها في الذود عنها.

تغريدة قائد “فيلق البراء بن مالك”، التي أعلن فيها عن الاستعداد لتجهيز نصف مليون شاب كقوة احتياط تحت إمرة القوات المسلحة ومؤسسات الدولة، تمثل انعكاسًا لهذا الفهم الجديد. ليست دعوة للتجنيد الموازي، بل تصور استراتيجي لقوة دعم مدنية، جاهزة دون أعباء على الدولة، تكون امتدادًا شعبيًا للجيش، وسندًا وقت الحاجة.

فحين يُطرح إعداد نصف مليون شاب متدرب على حمل السلاح، فالمقصود ليس المواجهة العسكرية فحسب، بل إعداد جيل جديد، واعٍ بواجبات السيادة، وقادر على حماية قراره الوطني، في زمن تتساقط فيه الدول من الداخل، لا بفعل الجيوش ، بل من خلال استهداف الوعي، والاقتصاد، ومؤسسات الدولة.

هذه الحرب كما عبّر عنها المصباح طلحة، ليست حرب حدود أو سلطة، بل حرب وجود ضد مشروع تفكيك الدولة الوطنية لصالح المشروع الاستعماري الذي يدار بأدوات محلية وإقليمية. لا مكان هنا للعفوية، فالمشهد يشير إلى محاولة منظمة لتجريد السودان من أدوات قراره، وتحويله إلى دولة مستباحة وتحكم في مواردها تُدار من الخارج، وتُحكم بوكلاء الداخل.

في قلب هذا المشهد، لا يمكن إغفال الأدوار الإقليمية التي تجاوزت الدعم الإنساني إلى محاولة التأثير في مسارات الصراع عبر أدوات متعددة، من دعم مليشيا الدعم السريع، إلى تصدير خطاب سلام زائف، مما يكرّس واقعًا جديدًا يستبدل البندقية بالمؤتمرات، والسيادة الوطنية بتوصيات الدبلوماسيات الدولية.

المطلوب ليس فقط دعم القوات المسلحة ورفع أجورها وتحسين بيئة عملها وحشد الإمكانات لها، بل بناء منظومة رديفة من الشباب، مدربة ومؤمنة بدورها، تمثل قوة فكرية وميدانية، تفهم أن الوطن لا يُحمى فقط بالبندقية، بل بالوعي والعلم ، والإرادة، والاستعداد.

لقد علمتنا هذه الحرب أن لا نصر بدون إعداد، ولا سيادة دون شباب يحملون السلاح بيد، والوعي باليد الأخرى. آن للشارع السوداني أن يتحول من مساحة للانتظار إلى رصيد جاهز لكل طارئ.. كما آن للشباب أن يتصدروا المشهد السوداني قيادة وريادة ووحدة صف دون إقصاء أو استعلاء علي الآخرين .

ومن هنا تبرز أهمية نماذج إقليمية ملهمة ؛ فكما أعادت رواندا بناء ذاتها عقب العام 1994بعد واحدة من أفظع المآسي الإنسانية في التاريخ الحديث، مستثمرة في شبابها عبر التعليم والمشاركة السياسية والريادة التقنية، يمكن للسودان أن يحذو ذات المسار، بمقاربات شاملة تستنهض طاقات الشباب، وتصقل وعيهم بحقهم في الحلم، والمشاركة، والدفاع عن وطنهم.

الدارس لواقع الشباب السوداني اليوم يدرك أن الرهان لا ينبغي أن يكون على الدولة وحدها، بل على الشراكة المجتمعية، بمشاركة المؤسسات التعليمية، والمنظمات المدنية، والقطاع الخاص . وحدة الفعل التشاركي هو القادر على تحويل جراح الحرب إلى طاقة بناء.

التغريدة التي نشرها قائد “فيلق البراء” والتي نقلتها منصة “نبأ السودان”، جاءت بصيغة تكشف عن تطور نوعي في فهم طبيعة المعركة. كتب: “استراتيجيتنا إعداد نصف مليون مجاهد كقوة احتياط ضاربة متى ما احتاجها الوطن، تحت قيادة القوات المسلحة ومؤسسات الدولة، دون أعباء إدارية على الدولة.” إنها ليست دعوة لميليشيا، بل تصور لاستعداد وطني شعبي مندمج داخل مؤسسة الدولة.

ردود الفعل على التغريدة لم تكن سطحية، بل طالبت بزيادة العدد إلى أكثر من ذلك ، وهي ليست مبالغة بقدر ما هي صرخة وعي أمام واقع أرادوا له أن يُطمر. فالحرب الأخيرة لم تكن مواجهة عسكرية عادية، بل محاولة منظمة لإسقاط الدولة من الداخل، مدفوعة بأجندات دولية، وأدوات إقليمية.

لذلك يجب ان نعلم وبحسب ما نراه من وجه الحقيقة بأن الذين هندسوا مشروع تفكيك السودان لن توقفهم معركة واحدة بل ستظل معاركهم متجددة . لذلك النصر الحقيقي يبدأ من الوعي والتنظيم والإرادة. وما لم نتحول إلى دولة ذات مشروع وطني يوحد أهلها ويبني السلام من الداخل، وتحمي قرارها بوعي شبابها، فستبقى السيادة حلمًا مؤجلاً.

ولأن الشعوب الحية وحدها من تدرك أن السيادة لا تُمنح بل تُنتزع، تظل اللحظة الأخطر حين يغيب وعي الدفاع عن القرار المستقل. فكما قال روسو: “الشعوب لا تفقد حريتها دفعة واحدة، بل تفقدها حين تتخلى عن حقها في أن تقرر.” وعليه، فإن أي مشروع وطني للفنون أو الإنتاج أو السياسة، لا يكتمل إلا بتجذير هذا الوعي، وتحويله من شعار إلى فعل يومي يُمارَس وإرادة وطنية قادرة علي الإستجابة .
دمتم بخير وعافية.

إبراهيم شقلاوي
الخميس 24 أبريل 2025

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • عمق الجروح: مرافعة من أجل عدالة انتقالية سودانية
  • شاهد بالفيديو.. مواطنون سودانيون يحاصرون رئيس حزب المؤتمر السوداني إبراهيم الشيخ بهتافات معادية ويرفضون دخوله مباني السفارة السودانية بالقاهرة
  • إبراهيم شقلاوي يكتب: قَدَر البرهان وعفوية حماد عبد الله
  • شركة السودان للاقطان تشرع في إعادة إعمار وتأهيل مادمرته الحرب فى مجال النسيج
  • عودة الي جواز سفر السفير الشاعر محمدالمكي إبراهيم
  • إبراهيم شقلاوي يكتب: المصباح يثير جدلًا !
  • نوبة صَحَيَانْ، لكافة أهل السودان
  • الاقتصاد السوداني بين دمار الحرب وخرافة الإنتاج
  • اتفاق المنامة السوداني الذي يتجاهله الجميع
  • أمسية وفاء باتحاد كُتّاب مصر تحيي سيرة شاعر ومفكر السودان الكبير الراحل محمد المكي إبراهيم