الحركة الشعبية لتحرير السودان.. بدأت حركة تحرر وانتهت إلى فصائل متنازعة
تاريخ النشر: 18th, August 2024 GMT
حركة سياسية عسكرية، تأسست عام 1983 وتعتبر نفسها حركة "تحرر وطني"، واتخذت من القتال وسيلة للتعبير عن مطالبها. تبنت رؤية "تأسيس سودان ديمقراطي علماني"، مع التركيز على المساواة والعدالة لجميع السودانيين.
خاضت صراعات مع الحكومات المتعاقبة في السودان ووقّعت عددا من الاتفاقيات معها أدت لتولي قياداتها مناصب رفيعة في الدولة، قبل أن ينفصل جنوب السودان ويصبح دولة.
بعد انفصال جنوب السودان في 2011 أصبحت الحركة الحزب الرئيس والحاكم في البلاد، وشهدت انشقاقات داخلية وصراعات بين قادتها.
النشأة والتأسيسمع بدايات الحرب الأهلية السودانية عام 1955 ظهرت بجنوب السودان حركة مسلحة تسمى "أنيانيا"، وهي عبارة في إحدى اللغات المحلية تعني "سُمّ الثعبان".
قاد هذه الحركة اللواء أميليو تافانق، الذي تمت تنحيته لاحقا، وتولى جوزيف لاغو رئاسة الحركة وواصل التمرد ضد الجيش السوداني، الذي كان يقوده جعفر نميري.
وبحلول عام 1971 خاضت الحركة وجناحها السياسي محادثات مع الحكومة السودانية حول الحكم الذاتي لإقليم جنوب السودان وإنهاء الأعمال العدائية.
وتوجت هذه المحادثات بتوقيع اتفاق في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا يوم 27 فبراير/شباط 1972 أنهى صراعا دام 17 عاما.
عقب اتفاق أديس أبابا تم استيعاب أفراد حركة أنيانيا في الجيش السوداني، غير أنه حدثت انتفاضات متفرقة تدعو لتمرد عسكري في جنوب السودان ضد حكومة نميري، وتهدد باللجوء إلى خيار الصراع المسلح طويل الأمد.
وكان أبرز تلك الانتفاضات تمرد حامية أكوبو العسكرية عام 1975، والتي انتقد قادتها ما سموه "مناورات نميري ومحاولاته إلغاء اتفاقية أديس أبابا"، فاتحد بعض قادة الحامية وشكّلوا حركة جديدة سموها "أنيانيا 2" في منطقة أعالي النيل.
ولاحقا في عام 1982 تشكلت حركة مسلحة أخرى بالاسم نفسه في منطقة بحر الغزال، وتزامنا مع ذلك نظم عدد من القيادات السياسية الجنوبية والطلاب حركات وأنشطة سرية لتعبئة الجماهير في الجنوب ضد إلغاء اتفاقية أديس أبابا.
في مايو/أيار 1983 رفضت كتيبة من الجنوبيين بقيادة الرائد كاربينو كوانين بول التوجه نحو الشمال، فتم تكليف العقيد جون قرنق إخماد هذا التمرد، وبدلا من ذلك اختار قرنق الانحياز للمتمردين في الحرب الأهلية السودانية الثانية.
وأسس قرنق وكاربينو وآخرون الحركة الشعبية لتحرير السودان وجناحها العسكري الجيش الشعبي لتحرير السودان في 31 يوليو/تموز 1983.
وعبرت الحركة -التي أعلنت نفسها حركة "تحرر وطني"- عن سخطها من نظام نميري وعزمها على "معالجة مظالمه بقوة السلاح".
الفكر والأيديولوجياتبنت الحركة رؤية "تأسيس سودان موحد ديمقراطي وعلماني"، بينما كانت ترى مجموعة أخرى منها خيار انفصال جنوب السودان عن السودان أمرا ضروريا.
وطالبت الحركة بـ"تحقيق الحرية والمساواة والعدالة لجميع السودانيين"، وعبّرت عن "رفضها لنظام الحكم الاستبدادي القائم على تهميش المجموعات الإثنية".
كما دعت إلى "تحرير السودان بأكمله"، إذ رأت أن تعريف المشكلة على أنها "المشكلة الجنوبية" هو في حد ذاته تهميش للجنوبيين، وأن المشكلة هي مشكلة السودان كاملا.
الأعلام جون قرنقولد جون قرنق يوم 23 يونيو/حزيران 1945 في بلدة بور بجنوب السودان، وانضم عام 1971 إلى حركة "أنيانيا" التي أسسها جوزيف لاغو.
وبعد توقيع اتفاقية أديس أبابا مع الحركة، انضم قرنق إلى الجيش السوداني برتبة نقيب، وتمت ترقيته لاحقا في عام 1981 إلى رتبة عقيد.
في مايو/أيار 1983 تم تكليف قرنق بإخماد تمرد عسكري في جنوب السودان، لكنه انضم إلى المتمردين وأسس معهم الحركة الشعبية لتحرير السودان.
دخلت الحركة في مفاوضات مع حكومة الرئيس السابق عمر البشير، اذ أدى اتفاق السلام الشامل في عام 2003 لتولي قرنق منصب نائب الرئيس ورئيس حكومة جنوب السودان.
توفي جون قرنق في 30 يوليو /تموز 2005 إثر تحطم طائرته المروحية خلال عودته من أوغندا.
ولد سلفاكير ميارديت عام 1951 في ولاية بحر الغزال بجنوب السودان. بدأ حياته العسكرية جنديا في الجيش السوداني قبل أن يلتحق بقوات قرنق، وفي عام 1986 أصبح نائبا لقائد الأركان ومكلفا بالعمليات في الجيش الشعبي لتحرير السودان.
بعد توقيع اتفاق مشاكوس وعودة الحركة الشعبية لتحرير السودان إلى الخرطوم، تقلد سلفاكير في يوليو/تموز 2005 منصب نائب رئيس حكومة جنوب السودان في إطار المرحلة الانتقالية، وبعد رحيل قرنق حل مكانه وأدى اليمين نائبا لرئيس السودان في 11 أغسطس/آب 2005.
تولى سلفاكير رئاسة دولة جنوب السودان التي أعلن عنها بعد استفتاء تقرير المصير في 9 يناير/كانون الثاني 2011.
ولد رياك مشار تيني عام 1953 في مدينة لير بجنوب السودان، وبدأ مسيرته السياسية بانضمامه عام 1984 إلى الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق، بعدما اندلعت الموجة الثانية من الصراع المسلح بين الحركة والحكومة السودانية.
عقب انفصال جنوب السودان عن شماله أصبح مشار نائبا لرئيس الدولة الوليدة، ثم أقيل في عام 2013 بتهمة "تدبير انقلاب"، وأدى ذلك إلى اندلاع قتال بينهما ثم تحول لصراع بين قبيلتيهما الدينكا والنوير.
وبمقتضى اتفاق السلام المبرم بينهما خلال عام 2015 عاد مشار إلى جوبا في أبريل/نيسان 2016 وتسلم منصب نائب الرئيس حتى يوليو/تموز 2016 حينما عين تعبان دينق خلفا له.
ولد عبد العزيز آدم الحلو بقرية "الفيض أم عبد الله" بجبال النوبة، وتلقى تعليمه الأولي بمدرسة (دلامي) والمتوسطة بمدرسة الدلنج المتوسطة، ثم الثانوية بمدرسة كادقلي الثانوية وأكمل دراسته الجامعية بكلية الاقتصاد بجامعة الخرطوم.
خلال دراسته الجامعية التقى "يوسف كوه المكي"، الذي ينتمي للمنطقة ذاتها، وأسسا معا رابطة طلاب جنوب كردفان بجامعة الخرطوم، وبعد تخرُّجهما نشطا في تعبئة شباب وخريجي جبال النوبة حول قضايا الإقليم.
وأسفرت تلك الجهود عن تكوين تنظيم "الكمولو"، وساعد الحلو رفيقه يوسف كوه على تأسيس الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان بجبال النوبة.
عقب انفصال جنوب السودان قاد الحلو الحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال وتبنت نهجا يهدف إلى "تأسيس سودان جديد ديمقراطي علماني لامركزي يُديره مدنيون".
ولد مالك عقار في عام 1956 بمدينة باو بولاية النيل الأزرق، ودرس المرحلة الابتدائية بمدينة الكرمك، والمرحلة الوسطى بمدينة الروصيرص، ثم انتقل إلى العاصمة لدراسة المرحلة الثانوية بمدرسة الخرطوم القديمة الثانوية. أكمل تعليمه الجامعي بإحدى الجامعات الأوغندية.
انضم للحركة الشعبية لتحرير السودان عام 1985 وتولى رئاسة قطاعها العسكري على الحدود السودانية الإثيوبية جنوب النيل الأزرق، قبل أن يتولى مسؤولية إقليم النيل الأزرق.
عين وزيرا للصناعة عام 2005 ثم حاكما لإقليم النيل الأزرق بعد فوزه بالانتخابات المحلية، لكنه عاد للقتال ضد الجيش السوداني، وعقب انفصال جنوب السودان عين عقار نائبا لرئيس الحركة قطاع الشمال، التي يقودها عبد العزيز الحلو.
بعد إطاحة الثورة الشعبية بالبشير عام 2019، شارك عقار في المفاوضات مع المجلس العسكري الانتقالي، ووقّع اتفاق جوبا للسلام في أكتوبر/تشرين الأول 2020، وعيّن عضوا بمجلس السيادة قبل أن يتم تعيينه نائبا لرئيسه عقب اندلاع الصراع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في 15 أبريل/نيسان 2023.
ولد ياسر سعيد عرمان في 5 أكتوبر/تشرين الأول 1961 بقرية سعيد بولاية الجزيرة وسط السودان، ودرس بجامعة القاهرة -فرع الخرطوم- وتخرج من كلية الحقوق عام 1986.
خلال فترة الجامعة انضم عرمان للحزب الشيوعي السوداني قبل أن يتركه لينضم للحركة الشعبية لتحرير السودان أواخر عام 1986 في دولة إريتريا، ثم أصبح ناطقا رسميا باسم الحركة ونائبا للأمين العام لشؤون قطاع الشمال ثم أمينا عاما للحركة في القطاع.
ساهم في صياغة وتوقيع اتفاقية السلام الشامل التي أنهت الحرب بين شمال السودان وجنوبه عام 2005، والتي حملته لرئاسة كتلة الحركة في البرلمان.
انشق عن الحركة بقطاع النيل الأزرق بقيادة مالك عقار في أغسطس/آب 2022 وأسس الحركة الشعبية لتحرير السودان-التيار الثوري الديمقراطي.
أبرز المحطاتمنذ عام 1985 تطورت الحركة الشعبية لتحرير السودان وامتدت عملياتها العسكرية بمناطق جنوب السودان المختلفة وجبال النوبة والنيل الأزرق ودارفور.
وعقب انعقاد المؤتمر العام للحركة في شقدوم عام 1994، أوصى المؤتمرون بوضع دستور للحركة والجيش الشعبي، أُصدر لاحقا عام 1998 مقسما ما سمتها الحركة "المناطق المحررة" إلى 5 جبهات هي أعالي النيل وبحر الغزال والاستوائية وجبال النوبة والنيل الأزرق.
وقّعت الحركة الشعبية لتحرير السودان وحكومة البشير اتفاقية السلام الشامل في 9 يناير/كانون الثاني 2005، ومنح إقليم جنوب السودان حكما ذاتيا، كما منحت وضعيات خاصة لإقليمي جنوب كردفان والنيل الأزرق ومنطقة أبيي، واقتضت الاتفاقية تحويل الحركة من تنظيم سياسي عسكري إلى تنظيم سياسي، وتمت بموجبها تعديلات داخلية بالحركة.
في 15 فبراير/شباط 2011 قرر المكتب السياسي للحركة فك الارتباط السياسي والعسكري بين الحركة في الشمال بقيادة عبد العزيز الحلو والحركة في الجنوب بقيادة باقان أموم أوكيج.
وفي 9 يوليو/تموز 2011 أُعلن رسميا انفصال جنوب السودان بعد استفتاء شعبي، وأصبحت الحركة الشعبية لتحرير السودان هي الحزب الحاكم للدولة الجديدة.
تولى سلفاكير منصب نائب رئيس الحركة ورئيس جنوب السودان، بينما قاد الحركة نائبه رياك مشار قبل أن يندلع بينهما خلاف حاد أدى لاندلاع اشتباكات مسلحة بين تياريهما خلّف مئات القتلى حتى عام 2015 حين وقعت اتفاقية بين سلفاكير ومشار بأديس أبابا، غير أنها لم تنجح وتواصلت الاشتباكات.
شهدت الحركة انقسامات في جنوب السودان وشماله، ففي الجنوب انشقت إلى جناحين، أحدهما يتزعمه سلفاكير، أما الفصيل المعارض من الحركة فيتزعمه رياك مشار.
في عام 2017 انقسمت الحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال بعد إقالة مالك عقار وياسر عرمان ومنعهما من دخول "المناطق المحررة" بجبال النوبة، وتم تعيين عبد العزيز الحلو رئيسا للحركة بجبال النوبة وكردفان بينما ترأس الجناح الآخر مالك عقار بمنطقة النيل الأزرق.
وفي 17 أغسطس/آب 2022 انقسمت الحركة التي يقودها عقار إلى جناحين أحدهما يتزعمه عقار، الذي اختير آنذاك عضوا في مجلس السيادة الانتقالي والثانية بقيادة نائبه ياسر عرمان القيادي بتحالف قوى الحرية والتغيير.
وظلت الخلافات في جنوب السودان معلقة، وخاصة الملف المرتبط بالترتيبات الأمنية التي تقضي بدمج مقاتلي الحركة الشعبية-جناح مشار في الجيش الحكومي وإعادة انتشاره في مناطق سيطرة المعارضة.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات الحرکة الشعبیة لتحریر السودان انفصال جنوب السودان عبد العزیز الحلو فی جنوب السودان الجیش السودانی بجنوب السودان الجیش الشعبی النیل الأزرق یولیو تموز السودان فی أدیس أبابا یاسر عرمان الحرکة فی مالک عقار منصب نائب فی الجیش جون قرنق قبل أن فی عام
إقرأ أيضاً:
هل تندلع الحرب في جنوب السودان مجددا؟
ملخص
ربما يكون على الأطراف الراعية تحجيم فرص الحرب بجنوب السودان ضرورة الاتجاه إلى بلورة اتفاقات شاملة وليست جزئية للسلام في الصراعات ذات الطابع العرقي والقبلي، لأنها الأكثر قدرة على الديمومة، وتعد استثماراً سياسياً طويل الأجل بما يجعل الكلف لهذه الاتفاقات الشاملة أقل من نظيرتها الجزئية على الصعيد الاقتصادي.
يشهد جنوب السودان حالاً من تصاعد التوتر السياسي والأمني منذ أشهر عدة توجت بالهجوم على طائرة تابعة للأمم المتحدة، إذ قتل جنود تابعون للحكومة، أي الجيش الشعبي. التوتر المتصاعد يرشح جنوب السودان لاندلاع الفصل الثاني من الحرب الأهلية التي أنتج فصلها الأول 2013 - 2015 نحو 400 ألف ضحية، فضلاً عن نزوح مليوني نسمة من بلداتهم.
الرئيس سلفا كير يؤكد خياره في عدم الانزلاق إلى الحرب عبر التصريحات، لكن هل يملك الرئيس الجنوب سوداني معطيات النجاة من الحرب؟ غالب الظن لا، ذلك أن جنوب السودان دولة ذات مسارح متعددة للحرب مترابطة على مستوى النخب التي هي في حال تمرد وعدم رضا على المركز السياسي، هذا التمرد النخبوي له مجموعة من الأسباب بعضها تاريخي وبعضها قبلي.
وكذلك ارتبط هذا التمرد بطبيعة أداء دولة الاستقلال الوطني المعلنة عام 2011، التي يسيطر عليها حالياً حال حادة من الاحتقان السياسي أسفرت عن هجوم من جانب ميليشيات الجيش الأبيض التابعة لنائب الرئيس رياك مشار على مرتكز عسكري تابع للجيش الشعبي، أي الرئاسة في منطقة الناصر قبل 10 أيام تقريباً، وذلك في تطور يعني حدوث شروخ مؤثرة في اتفاق سلام 2018.
وعرف اتفاق 2018 باسم الاتفاق المنشط لحل النزاع في جمهورية جنوب السودان، الذي أسهم في تهدئة الصراع بين الرئيس سلفا كير ونائبه رياك مشار، الذي اندلع بينهما الصراع المسلح عام 2013 بتشكيل حكومة وحدة انتقالية2019. ومع ذلك تأخر إنشاء تشكيلها حتى فبراير (شباط) 2020، إذ تولى كير منصب رئيس الحكومة الانتقالية ومشار منصب النائب الأول للرئيس.
وبينما مدد الطرفان الفترة الانتقالية المقرر انتهاؤها في فبراير 2020 إلى وقتنا الراهن، يمارس الرئيس سلفا كير تغييراً في هذه الحكومة من عناصر موالية له، فأقال وزيرة الدفاع زوجة مشار، وحاكم البنك المركزي. وأخيراً أقال وزير النفط كانج شول، ونائب قائد الجيش غابرييل دوب لام، بينما وضع مسؤولون عسكريون كبار متحالفون مع مشار رهن الإقامة الجبرية، كما جرى اعتقال الوزير المعني بجهود إحلال السلام في البلاد ستيفن بار كول لفترة محدودة، وهو من السياسيين المشاركين في مفاوضات "اتفاق السلام" عام 2018.
صحيح أن الحكومة التزمت بإجراء المسح السكاني عام 2022 المؤسس للإجراءات السياسية المتضمنة في اتفاق السلام المنشط، فضلاً عن شروط التنمية المتوازنة، لكنها تجاهلت التشاور مع الأحزاب في شأن تشكيل الحكومة الانتقالية، ولم يتم وضع دستور دائم للبلاد، كما لم يتم وضع التشريعات اللازمة لتشكيل محاكم مختلطة، إذ تقع مسؤولية إنشاء المحكمة المختلطة على عاتق مفوضية الاتحاد الأفريقي. ونظراً إلى معارضة الحكومة المستمرة فقد ترددت مفوضية الاتحاد الأفريقي في إنشاء المحكمة المختلطة من جانب واحد. وفي الوقت نفسه جرت عرقلة إنشاء هيئة تسوية النزاعات.
وفي عام 2024 ونظراً إلى تصاعد مؤشرات التوتر السياسي والقبلي وأيضاً الأمني، جرى نشر قوات حفظ سلام إضافية وقوات عاجلة في النقاط الساخنة في جنوب السودان، التي عانت خطف المدنيين، ونزوح نتيجة التغير المناخي والمجاعات الغذائية.
وهكذا تبلورت عوامل التوتر السياسي، مما أسفر عن تأجيل الانتخابات الرئاسية، أكثر من مرة لتكون سنوات حكم سلفا كير 14 عاماً متصلة، إذ من المقرر أن يجري إجراؤها على المستوى النظري نهاية العام المقبل.
على المستوى التاريخي
نتيجة الحساسيات القبلية بين القبائل الجنوب سودانية المترتبة على هيمنة قبيلة الدينكا الأكبر من حيث عدد السكان لجأ الرئيس نميري في اتفاق أديس أبابا إلى السلام عام 1972 إلى تقسيم جنوب السودان إلى ثلاث ولايات تتمتع بنوع من الإدارة المستقلة بما يضمن خفض مستوى التوترات القبلية.
على أن انهيار اتفاق عام 1972 بين شمال وجنوب السودان بسبب اكتشاف البترول في الجنوب ورغبة الشمال في الاستفادة منه أبرز فكرة التقسيم لجنوب السودان التي ظلت مسيطرة على النخب المتضررة من سيطرة قبيلة الدينكا، مما أسفر عن الاتجاه نحو المطالبة بأنماط حكم تراوح ما بين اللامركزية والكونفيدرالية في جنوب السودان، وذلك في مؤتمرات عقدت في وقت مبكر من هذه الألفية، كما تكررت أعوام 2014 و2015 في الولاية الاستوائية، إذ جرت العودة إلى فكرة الانقسام، أي الكوكورا بلغة الباري، التي طرحت من جانب جوزيف لاجو عام 1981، في خطوة نظر إليها باعتبار أنها تسهم في هيمنة الشمال على جنوب السودان، مما أسهم بدوره في اندلاع صراعات مسلحة، خصوصاً في إقليم الاستوائية في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي.
على المستوى القبلي
بدأت الحرب الأهلية في البلاد ديسمبر (كانون الثاني) 2013، في البداية بين أنصار الرئيس سلفا كير ميارديت، الذي تقع قاعدته السياسية في منطقة بحر الغزال في شمال غربي البلاد، ضد المتمردين على سلطته من منطقة أعالي النيل الكبرى في الشمال الشرقي.
الصراع بدأ لأسباب سياسية من جانب أطراف كانت مرتبطة بجون قرنق الزعيم التاريخي لجنوب السودان، لكنه تطور ليكون صراعاً قبلياً بين الدينكا القبيلة المهيمنة في جنوب السودان وبين النوير الأقل وزناً، لكنها تملك مناطق إنتاج البترول السوداني.
اتفاقا السلام اللذان عُقدا عامي 2015 و2018 لم يتطرقا إلى الطرف الثالث في المعادلة القبلية في جنوب السودان، وهي الولاية الاستوائية التي تمتد على الثلث الجنوبي من البلاد، وتتموضع فيها عاصمة البلاد جوبا. تجاهل الولاية الاستوائية كان سبباً في اندلاع أعمال العنف في جميع أنحاء الولاية في النصف الثاني من عام 2016، إذ تدفق مئات الآلاف من سكان الاستوائية فراراً إلى أوغندا، فيما يسمى أكبر نزوح للاجئين في أفريقيا منذ الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994.
هذا التطور صدم المراقبين وفتح الباب للنظر في شأن طبيعة وخطورة الانقسامات الداخلية في جنوب السودان بصورة عامة، إذ جرت إضافة حال السخط الاستوائي لعوامل التوتر في جنوب السودان، وكذلك تداعياته الراهنة في ضوء العنف الذي مارسته قوات الجيش الشعبي ضد المواطنين الاستوائيين، من حيث تصاعد السخط على قبيلة الدينكا المهيمنة التي لا ترى أنه لا حقوق للاستوائيين على قاعدة أنهم لم يشاركوا في مجهودات الحصول على الاستقلال عن الدولة الأم السودان.
وهكذا، فإن اتفاق السلام، الذي أنتج وقف إطلاق نار ناجح جزئياً بين قوات كير ومشار، لم يكن إلا اتفاقاً جزئياً، لم يفعل كثيراً لمعالجة الأزمة الوطنية الأوسع أو إنهاء انعدام الأمن المتفشي في جميع أنحاء جنوب السودان. وكما هي الحال مع عديد من محن جنوب السودان، فإن الأزمة والصراع في الإقليم الاستوائي ينبعان من معضلات بنيوية عميقة، وهما إرث عقود من الصراع قبل استقلال جنوب السودان والإخفاقات السياسية لنخبته السياسية.
في هذا السياق فإن تجنب الحرب التي بدأت شرارتها في الأفق وتحقيق السلام المستدام يتطلب من مواطني جنوب السودان أن يتحملوا المهمة غير المكتملة لاتفاق 2018 المتمثلة في الاتفاق فيما بينهم على كيفية تقاسم السلطة والموارد والسيادة في الدولة التي ناضلوا طويلاً من أجل إنشائها.
أما على الصعيد الدولي وفي ضوء التفاعلات الدولية المرتبطة بسياسات دونالد ترمب، وطبيعة الأزمات المنبثقة منها في أوروبا، وكذلك الانشغال بترتيبات الشرق الأوسط المتعلقة بمستقبل غزة فإنه من المطلوب أن تنشغل قيادات إقليمية في منطقة البحيرات العظمى بوجود احتمالات باندلاع حرب أهلية جديدة في جنوب السودان، وربما يكون يوري موسيفني الرئيس الأوغندي هو المرشح لتجديد أدواره المرتبطة باستقرار جنوب السودان، خصوصاً في ضوء تداعيات الحالة في جنوب السودان على بلاده، من حيث ارتفاع معدلات النزوح إليها.
وربما يكون على الأطراف الراعية تحجيم فرص الحرب بجنوب السودان ضرورة الاتجاه إلى بلورة اتفاقات شاملة وليست جزئية للسلام في الصراعات ذات الطابع العرقي والقبلي، لأنها الأكثر قدرة على الديمومة، وتعد استثماراً سياسياً طويل الأجل بما يجعل الكلف لهذه الاتفاقات الشاملة أقل من نظيرتها الجزئية على الصعيد الاقتصادي.
نقلا عن اندبندنت عربية