زهير عثمان حمد

تأثيرات الحداثة الغربية في تفسير وفهم المقدس في الفكر السوداني: دراسة من خلال كتابات مفكرين سودانيين ورؤية ما بعد الاستعمار
مثّل ظهور مفهوم الحداثة في الفكر الإنساني لحظة مربكة للعقل البشري ولمنجزاته المعرفية المحكومة بعصور الإقطاع والأصولية الدينية والتعصب والاستبداد السياسي. السؤال الذي يطرحه الأكاديميون العرب هو: هل الحداثة في العالم العربي ضد الدين بجميع رموزه ومقدساته ومضامينه؟ وهل علة الفكر العربي المعاصر كلها مختزلة في موت الرب كحالة تحد لقراءات حضارية مفعمة بالإيمان والروحانيات ومحكومة بأفكار عظيمة وقيم مطلقة على حد زعم أصحابها؟
مقاربة نقدية لمنزلة المقدس في الفكر السوداني
في سياق الفكر السوداني، تتناول هذه الدراسة مقاربة معرفية نقدية تتعلق بمنزلة المقدس في الفكر الحداثي: هل هو تأصيل لهذه المنزلة أم تأبيد لها؟ الأمر الذي يدفعنا إلى تتبع الروابط الممكنة واللاممكنة بين ظاهرة دينية تسعى جاهدة بكل مقوماتها وأدواتها إلى تأصيل صفة القداسة وإلحاقها بمفاهيم من جنس الوحي والنبوة والملائكة والذات الإلهية، وبين فكر حداثي يتحيّز فيه مبدأ تأبيد السلف شرطًا أساسيًا من شروط إمكان الالتحاق بركب الحداثة، وتحرير العالم من سجن الأسطورة والخرافة، ومن أغلال السحر والفتنة والدهشة إلى عالم تحكمه العقلانية الفردية والحقيقة المادية.


تأثير الحداثة الغربية على الفكر السوداني
الحداثة الغربية أثرت بشكل كبير على الفكر السوداني، سواء من حيث التفسير الديني أو الاجتماعي أو السياسي. كتابات المفكرين السودانيين تعكس هذا التأثير بوضوح، حيث يحاولون الموازنة بين التقليد والحداثة، وبين المقدس والمعاصر.
حسن الترابي: تجديد الفكر الإسلامي
حسن الترابي، أحد أبرز المفكرين الإسلاميين السودانيين، سعى إلى تجديد الفكر الإسلامي وتقديم قراءة عصرية للشريعة الإسلامية تتماشى مع متطلبات الحداثة. كان يعتقد أن الإسلام دين عالمي يمتلك القدرة على التكيف مع كل زمان ومكان. دعا الترابي إلى الاجتهاد والتفسير المتجدد للنصوص الدينية، مؤكدًا أن الفهم التقليدي للإسلام يجب أن يتطور ليواجه تحديات العصر الحديث.
أبو القاسم حاج حمد: الفكر الإسلامي المعاصر
أبو القاسم حاج حمد تناول في كتاباته الفكر الإسلامي من منظور معاصر، محاولًا تقديم تفسير جديد للمقدس يتوافق مع العصر الحديث. كان يعتقد أن الإسلام يجب أن يُفهم من خلال سياقه التاريخي والثقافي، وأن التفسير الحرفي للنصوص الدينية يعوق تقدم المجتمع. دعا حاج حمد إلى مراجعة شاملة للفكر الإسلامي لتتوافق مع القيم الحداثية مثل حقوق الإنسان والديمقراطية.
الصادق المهدي: التأصيل والتحديث
الصادق المهدي، زعيم حزب الأمة وإمام الأنصار، قدم نموذجًا يجمع بين التأصيل الديني والتحديث السياسي. في كتاباته، يجادل المهدي بأن الحداثة لا يجب أن تعني القطيعة مع التراث، بل يمكن أن تتكامل معه. يدعو إلى تفسير متجدد للنصوص الدينية يأخذ في الاعتبار التغيرات الاجتماعية والسياسية، ويؤكد على أن الدين يمكن أن يلعب دورًا إيجابيًا في تعزيز القيم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. يعتبر المهدي أن الحفاظ على الهوية الثقافية والدينية لا يتعارض مع التقدم والتطور، بل هو ضرورة لتحقيق تنمية شاملة ومستدامة.
محمد إبراهيم نقد: نقد الفكر التقليدي
محمد إبراهيم نقد، زعيم الحزب الشيوعي السوداني، قدم نقدًا لاذعًا للفكر الديني التقليدي، معتبرًا أن التمسك بالمقدس بطرق جامدة يعيق تقدم المجتمع السوداني. من خلال كتاباته، دعا نقد إلى العلمانية وفصل الدين عن الدولة، مؤكدًا أن الدين يجب أن يكون قضية شخصية وليست سياسية. رأى نقد أن الحداثة تتطلب تحرير العقل من قيود الأسطورة والخرافة.
صديق الزيلعي: الحداثة والمجتمع السوداني
صديق الزيلعي، من أبرز المفكرين السودانيين في مجال العلوم الاجتماعية، تناول تأثيرات الحداثة على المجتمع السوداني. أكد الزيلعي أن الحداثة ليست مجرد مجموعة من الأفكار الغربية، بل هي عملية تحول اجتماعي وثقافي يجب أن تمر بها كل المجتمعات. دعا إلى إعادة تفسير المقدس بما يتوافق مع قيم الحداثة مثل المساواة والعدالة الاجتماعية.
الحاج وراق: التنوير والحداثة
الحاج وراق، مفكر يساري بارز، قدم في كتاباته رؤية تقدمية للتنوير والحداثة في السودان. رأى أن التحدي الأكبر الذي يواجه الفكر السوداني هو تحقيق التوازن بين التراث والحداثة. دعا وراق إلى ضرورة تبني قيم التنوير مثل العقلانية والعلمية، وإعادة النظر في التفسيرات التقليدية للمقدس بما يعزز التقدم الاجتماعي والسياسي.
رؤية ما بعد الاستعمار
رؤية ما بعد الاستعمار توفر إطارًا لفهم تأثير الحداثة الغربية على الفكر السوداني. يمكن القول أن الحداثة جاءت كجزء من مشروع استعماري، حيث تم فرض قيم ومعايير غربية على المجتمعات المحلية. هذا الأمر أدى إلى تصاعد التوتر بين التقليد والحداثة، وبين المقدس والمعاصر.
يقول إدوارد سعيد، في كتابه "الثقافة والإمبريالية"، أن الاستعمار لم يكن مجرد هيمنة اقتصادية وعسكرية، بل كان أيضًا عملية فرض للهوية والثقافة الغربية. في السودان، أدى هذا إلى حالة من الاغتراب الثقافي والانقسام الفكري. الاستعمار حاول طمس الهوية الدينية والثقافية للسودانيين، مما أدى إلى ردود فعل متنوعة من المقاومة إلى التكيف.
استنتاجات تأثيرات الحداثة الغربية على الفكر السوداني فيما يتعلق بالمقدس متعددة ومعقدة. من خلال كتابات المفكرين السودانيين، نرى محاولات مستمرة للتوفيق بين القيم الدينية والتحديات الحداثية. الرؤية السياسية لما بعد الاستعمار تضيف بعدًا إضافيًا لفهم هذا التفاعل، حيث تبرز أهمية مقاومة الهيمنة الثقافية وإعادة تأصيل الهوية الدينية في سياق معاصر.
و يمكن القول أن الحداثة في الفكر السوداني ليست ضد الدين بحد ذاته، بل هي دعوة لتجديده وتكييفه مع متطلبات العصر، مما يتيح للمجتمع السوداني الحفاظ على هويته الثقافية والدينية مع التقدم والتطور.

 

zuhair.osman@aol.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: على الفکر السودانی فی الفکر السودانی الحداثة الغربیة الفکر الإسلامی بعد الاستعمار الحداثة فی من خلال یجب أن

إقرأ أيضاً:

الإسلام في الفكر الغربي وكيف يرانا الآخر؟.. من أحدث إصدارات الأزهر بمعرض الكتاب

يقدِّم جناح الأزهر الشريف بمعرض القاهرة الدولي للكتاب، في دورته الـ 56 لزوَّاره كتاب "الإسلام في الفكر الغربي"، بقلم الأستاذ الدكتور محمود حمدي زقزوق (1933- 2020م)، أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر بالقاهرة، عضو هيئة كبار العلماء، من سلسلة إصدارات الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء بالأزهر (2025م).

رئيس جامعة الأزهر يذكر أدعية الرسول قبل النوم ويحث عليها مرصد الأزهر: المهدى المنتظر حقيقة.. وهذا دليل كذب المتطرفين (فيديو)

يهدف الدكتور زقزوق من كتابه معرفة كيف يرانا الآخر؛ حتى نستطيع أن نعرض إسلامنا على أسسٍ موضوعيةٍ، لا على أساليب خطابيةٍ وعظيةٍ؛ فهؤلاء يريدون أن يقتنعوا عن فهمٍ وإدراكٍ، فعلينا ألا نقف موقف الدفاع عن الإسلام ورد الهجوم عليه دائمًا، بل علينا أن نقتحم الميدانَ بعرض الإسلام بأسلوبٍ علمي مقنعٍ، يصل إلى عقل كل ذي لب في عالمنا المعاصر، ويستمر تأثيره ويدوم.

ويحاول الدكتور زقزوق في هذا الكتاب الوقوف على صورة الإسلام في أذهان الأوروبيين، ومصدر هذا التصور، فيقول في مقدمته: «والمعروف أن الرجل الأوروبي يستقي معلوماته عن الإسلام من المختصين في هذا المجال من الأوروبيين، وهؤلاء هم -بطبيعة الحال- من طبقة المستشرقين»، وبناءً على هذا يقدم الدكتور زقزوق في هذا الكتاب عرضًا نقديًّا لثلاثة كتبٍ لهؤلاء المستشرقين؛ لنتعرَّف من خلالها على صورة الإسلام من وجهة نظر مستشرقين غير مسلمين، ومستشرقٍ مسلمٍ.

وقد قسم المؤلف كتابه إلى قسمين، تناول في الأول منهما صورة الإسلام في نظر المستشرقين غير المسلمين، وفيه عرض كتابي: «عقائد الإسلام» لهرمان إشتيجلكر، و«محمد والقرآن» لرودي بارت، وكلاهما من المستشرقين الألمان، وقام بعرضهما عرضًا نقديًّا، فعرَّف بالمؤلف، ومنهجه، وهدفه، ومحتويات الكتاب وجوانبه الإيجابية والسلبية، وفي النهاية يعقب الدكتور زقزوق بذكر ملاحظاته على الكتاب.

أما القسم الثاني فعرض فيه كتاب: «إجابة الأديان» للمستشرق جرهارد تشيسني، وتعتمد فكرة هذا الكتاب على جمع إجابات علماء الأديان على واحدٍ وثلاثين سؤالًا وجهت لهم جميعًا، وهذه الأديان هي: اليهودية، والكاثوليكية، والبروتستانتية، والإسلام، والهندوسية، والبوذية، وكان منهج الدكتور زقزوق في هذا الكتاب هو ترجمة إجابات العالم الذي قام بالرد على الأسئلة المطروحة من وجهة النظر الإسلامية، وهو المستشرق الذي اعتنق الإسلام محمد أسد؛ لتتضح لنا صورة الإسلام في ذهن المسلمين منهم.

وقد جاءت هذه الطبعة الأولى للأمانة العامة لهيئة كبار العلماء عام (2025م) في (180) صفحةً، وصدرت الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء الكتاب بتقديمٍ بقلم الأستاذ الدكتور عباس شومان الأمين العام لهيئة كبار العلماء، ثم بتصديرٍ للأستاذ الدكتور حسن الشافعي عضو هيئة كبار العلماء، ثم قدمت الأمانة العامة ترجمةً موجزةً للأستاذ الدكتور محمود حمدي زقزوق.

ويشارك الأزهر الشريف -للعام التاسع على التوالي- بجناحٍ خاصٍّ في معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الـ 56 وذلك انطلاقًا من مسؤولية الأزهر التعليمية والدعوية في نشر الفكر الإسلامي الوسطي المستنير الذي تبناه طيلة أكثر من ألف عام.

ويقع جناح الأزهر بالمعرض في قاعة التراث رقم "4"، ويمتد على مساحة نحو ألف متر، تشمل عدة أركان، مثل قاعة الندوات، وركن للفتوى، وركن الخط العربي، فضلًا عن ركن للأطفال والمخطوطات.

مقالات مشابهة

  • طارق فهمي: قرارات ترامب ستؤدي إلى تجاذبات إقليمية ودولية وتزايد تأثيرات أمن الطاقة
  • "إنجيل لينكولن" في مكتبة الكونجرس| تعد هذه النسخة من الكتاب المقدس جزءًا من تراث تاريخي هام يعكس القيم الدينية
  • لماذا اختير الماء للعماد؟
  • «الأزهر»: 2 مليون فتوى تتعلق بفقه العبادات والمعاملات وقضايا الفكر
  • تفويت الإفطار قد يهدد حياتك: تأثيرات خطيرة على مريض السكري
  • 5 نصائح لحماية عينيك من تأثيرات الضوء الأزرق والأجهزة الإلكترونية
  • نائب محافظ بني سويف يناقش مستجدات مشروع Stream لمواجهة تأثيرات تغير المناخ
  • العقل الرعوي للنور حمد: جدلية البداوة والتمدن في سرديات الحداثة
  • أوقاف شمال سيناء: تنظم ندوة لنشر الوعي وتعزيز الفكر الوسطي المستنير
  • الإسلام في الفكر الغربي وكيف يرانا الآخر؟.. من أحدث إصدارات الأزهر بمعرض الكتاب