مدارات الذاكرة:
قراءات ومراجعات في الأدب والفكر السوداني والألماني
المؤلف: حامد فضل الله
الناشر
دار بدوي للطباعة والنشر، 2024
تقديم
أحمد إبراهيم أبوشوك
****
يُقصد بتقديم الكتب في أغلب الأحيان تزكيتها والتدليل على أهميتها وعرضها على جمهور القراء، أو وضعها في دائرة الضوء بين الأدبيات المثيلة لها نقدًا وتحليلًا، أو التعريف بمؤلفيها المبتدئين وتقديمهم إلى مجتمع الكُتَّاب والباحثين، تعللًا بأنهم إضافات علميَّة واعدة.

ولذلك يجمع فن التقديم بين قراءتين، قراءة تقديم محتوى المنتج، وقراءة تقديم صاحب المنتج وقدرته على السرد العلمي منهجًا وتوثيقًا. والكتاب الذي بين أيدينا لم يكن لمؤلف حديث العهد بالكتابة، يحتاج إلى إشهار اسمه، بل لكاتبٍ متمرسٍ في فضاءات الكتابة المتعددة. وتمثل مسودة كتابه موضوع التقديم العمل الأدبي الرابع الذي سعدتُ بالاطلاع عليه في مرحلة الإعداد للنشر. أما العمل الأول فقد كان بعنوان "أحاديث برلينية حول قضايا أوروبا والإسلام وفي الأدب والفكر" (2013)؛ والثاني كتاب مشترك ومترجم من اللغة الألمانية لمؤلفه أدوارد روبيل، بعنوان: "رحلات في شمال السُّودان وكردفان وشبه جزيرة سينا وساحل الحجاز" (2019)؛ والثالث "أوراق طبيب سوداني مقيم في برلين: ذكريات وقصص ووجوه وقضايا فكرية وأدبية" (2021). وبعد الفراغ من قراءة مسودة هذا الكتاب تذكرتُ شهادة الأستاذ الدكتور كاظم حبيب عن الدكتور حامد فضل الله، مؤلف "أحاديث برلينية"، عندما قال عنه: "وجدت نفسي أمام إنسانٍ مثقفٍ كبيرٍ، واسع الأفق والاطلاع، كثيف القراءة، وكثير التنوع في قراءاته، ابتداءً من الشعر، والنثر، والقصة والرواية، والاقتصاد، والتاريخ، وعلم النفس، والفلسفة، والطب، الذي هو اختصاصه المباشر. كما أنه متعدد الكفاءات، وعميق في رؤيته وتحليلاته للأحداث والوقائع. يمتلك أسلوبًا رشيقًا في الكتابة، وسلسًا في التعبير عما يدور في باله...". وعزز حبيب ذلك بقوله: "إنَّ ما تضمنه هذا الكتاب يُجسِّد شخصيَّة الكاتب بتنوعه الثقافي، وسلوكه الإنساني، وحبه للمعرفة، وخبرته الطويلة، والتجارب الغزيرة التي مر بها، ورغبته الصادقة في عمل الخير، وحيويته الفائقة في المتابعة الفكريَّة والثقافيَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة على مستوى السُّودان والعالم العربي وألمانيا، وحبه للترجمة لإغناء المكتبة العربيَّة".
وهنا مربط الحيرة في تقديم هذا الكتاب، فهو من جنسٍ آخر، لا يشبه الكتابات الأكاديمية في محتواه ونمط عرضه وتحليله، ولا يشبه الكتابات الصحافية لما يكتنزه من عمق معرفي وتفرد في صناعة العنوان والمحتوى. ولذلك حاولت أن أجد خيطًا ناظمًا لمحتوياته، فلم أجده في عناوين موضوعاته المتفرقة: "ذكريات البقعة الحميمة" و"مركز ضحايا التعذيب في برلين"، و"الشاعر الفلسطيني سميح القاسم"، و"المريد البرليني للطيب صالح"، و"الناقد السُّوداني عبد المنعم عجب الفيا"، و"الاستشراق الألماني"، و"مقالة في السفالة: نقد الحاضر العراقي"، و"القبلية والسياسة في السُّودان". لكن بعد إعادة القراءة والتدبر في المحتوى مرة أخرى بدأ ليَّ أنَّ واسطة عقد موضوعاته المتنوعة والمتعارضة أحيانًا هو المؤلف، الذي وصف نفسه بأنه ليس "متخصصًا في الدراسات الإنسانية، ولا في علوم الدين، وإنما طبيب اختصاص، يهتم بالثقافة والأدب والتراث العالمي عامة" والتراث العربي-الإسلامي خاصة. لكن في الحقيقة هو مثقف معياري، تمتد أفكاره إلى خارج نطاق مهنته؛ ولديه القدرة على التفاعل مع الأفكار والثقافات المختلفة والمتناقضة في آن واحدٍ، الأمر الذي يجهد القارئ ويجعله زاهدًا في المحتوى، إذا لم يكن صاحب ثقافة واسعة واهتمامات متعددة.
ومن خلال مطالعتي مسودة هذا الكتاب، شعرتُ أن هناك ثلاث قضايا يستحسن إبرازها في هذا التقديم، دون إفسادٍ لمطالعة القارئ، الذي سيجد في كل موضوعات الكتاب المتشعبة، أو في بعضها، إمتاعًا ومؤانسةً.

حامد فضل الله والفضاء المعرفي
 أولى هذه القضايا الفضاء المعرفي، الذي صنعه حامد فضل الله مع طيف واسع من الكتب والكُتَّاب والأدباء، وأعني بذلك أن مادة هذا الكتاب ارتكزت إلى شبكة صلات معرفية واسعة، أنشأها حامد العلماني فكرًا وممارسةً، بفضل مهارته في "الفصل بين الخلافات السياسية والفكرية والعقائدية والأيديولوجية، وبين العلاقات الإنسانية". وشملت مخرجات هذه الصلات مراجعة حزمة من الكتب المهمة من وجهة نظره، ونذكر منها: "نبوة محمد: التاريخ والصناعة، مدخل لقراءة نقدية"، لمحمد محمود؛ و"نحو ثقافة تأصيلية"، لمحمد محمود شاويش؛ و"كولونيالية الإسلام السياسي: أزمة الوطن والوطنية والمُواطنة في خطاب الإخوان، السُّودان نموذجًا"، لفتح الرحمن التوم حسن؛ و"رحلتي مع منصور خالد: الخروج من الذات لملاقاة الآخر: جون قرنق والبحث عن السلام والوحدة" للواثق كمير؛ و"أزمة الريح والقلق والحرية: سيرة ذاتية" لحيدر إبراهيم علي؛ و"مديح الألم"، لسيد البحراوي؛ و"الأحزان في السُّودان" لعبد السلام نور الدين. ولازمت هذه المراجعات والملاحظات قراءات متفرقة ذات طابع أدبي وإنساني، تجلى إسهامها في تناول: "الروائي الطيب صالح في عيون الألمان"؛ و"ذكرى رحيل الشاعر الفلسطيني سميح القاسم"؛ و"المبدع والقارئ: أربعينية الروائي والشاعر العراقي صبري هاشم".
تظهر قيمة الاحتفاء بهذا الفضاء المعرفي في تصديرات حامد لبعض الكتب التي راجعها،  فمثلًا عندما حصل على نسخة من الطبعة الثانية (2019) لكتاب "مهارب المبدعين: قراءة في السير والنصوص السُّودانية" لمؤلفه النور حمد، علَّق قائلًا: "أصابتني الدهشة"، بأن الطبعة الأولى للكتاب صدرت عام 2010، والثانية 2019 عن دار المصورات بالخرطوم، "فكيف فلت منى" هذا الكتاب، "بالرغم من حرصي الشديد على متابعة كل ما يصدر في السُّودان، عن طريق الأصدقاء القادمين إلى برلين، إلى جانب متابعة مقالات النور في صحيفة العربي الجديد، والصحف الاِلكترونية السُّودانية العديدة؟ ثم ختم حامد عرضه وتقريظه لمهارب المبدعين بعبارة نفيسة، مفادها: أنَّ "كتاب النور مثل كل الكتب الجادة، يزعزع المستقر والثابت، ويوسع الرؤية". وفي عرضه لكتاب فالح مهدي "مقال في السفالة: نقد الحاضر العراقي"، يقول حامد: "سعدتُ واستفدتُ كثيرًا بقراءة هذا الكتاب القيم، الذي وصلني هديةً من باريس، حيث يقيم المؤلف، الذي التقيتُ به عرضًا قبل فترة طويلة في برلين". وبعد ذلك اللقاء أهدى مهدي كتابًا آخر إلى حامدٍ عن "الخضوع السني والاِحباط الشيعي: نقد العقل الدائري" (2019)، دوَّن إعجابه بهذا الإهداء قائلًا: "هكذا تُبنى العلاقات الفكرية". ويبدو أن محتوى الكتاب قد شد اهتمامه، ودفعه لعقد مقارنة بين العراق والسُّودان في سوء إدارة التنوع العرقي والديني والثقافي، وكيف يمكن أن يقود إلى تمزيق الدولة وتفكيكها. وختم مقارنته بأن سوء إدارة التنوع في السُّودان قد أسهم في إحداث "أزمة الهُوية وتمزيق المجتمع، عندما تمَّ فرض الشريعة الإسلامية في العهد المايوي [1969-1985]، وطرح المشروع الحضاري من قبل الحركة الاِسلامية بعد انقلابها العسكري في العام 1989، وفرض الهُوية العربية الاِسلامية". والتمزق الذي يقصده حامدٌ قد بلغ مداه في انفصال جنوب السُّودان عام 2011. واضح من هذا التعليق أن حامدًا لا يكتفي بعرض محتويات الكتب فحسب، بل يميل حدسه إلى التعليق والمقارنة، ومحاججة النظريات والفرضيات المجردة ومشكلات تطبيقها في الفضاءات الجغرافية والديمغرافية المغايرة التي لم تنشأ فيها.
هكذا كانت الكلمة وسيطًا للتعارف الإنساني في فضاء حامد المعرفي، والشاهد في ذلك حوار الشرق والغرب مع أستاذة التاريخ في الجامعة البرلينية، التي التقاها في إحدى حدائق مدينة برلين الجميلة. ووقتها كانت تطالع كتاب "فاوست" ليوهان غوته (1749-1832). وتعتبر شخصية (الدكتور فاوست) واحدة من أبرز رموز الأدب الغربي الحديث والمعاصر، فقد رُسم لها تصور متخيل في أذهان الأوروبيين، حيث ظل فاوست بطلًا لمئات القصص والحكايات الشعبية، حتى تحول إلى شخصية نمطية ورمزًا لحضارة الغرب، بكل أحلامها وإنجازاتها وشرورها. وكان حامد في المقابل يحمل "موسم الهجرة إلى الشمال"، لمؤلفه الطيب صالح (1929-2009)، وبعد حوار فكري تبادلا الكتابين، عربونًا لصداقة بينهما، ربما تثمر فيما بعد. وأثناء الحوار قالت السيدة الألمانية لحامد: "لكنكم تبجلون تاريخكم وتنقصكم النظرة النقدية". فرد عليها قائلًا: "هذه وجهة نظر يمكن قبولها إلى حد غير قليل، ولكننا قادرون على تخطي صعابنا الحالية رغم المعوقات والتدخلات الخارجية". فقاطعته مستنكرة: "هكذا تلجأون دائمًا إلى الحل السهل "نظرية المؤامرة"؛ لتريحوا أنفسكم بدلًا من النقد الذاتي". واكتفي من هذه الحوارية باقتباس من ردود حامد، التي كانت تمثل وجهة نظر الشرق مجازًا، الاقتباس مفاده: "إن صراع الأفكار والحوار العقلاني بين الآراء المتباينة في حد ذاته عمل خلاق، ويدفع إلى الاحترام المتبادل، وتبلور الأفكار. فالأسئلة المصاغة، سواء أكانت فردية أم جماعية، تجد في الغالب إجاباتها في الحوار مع آخرين".
لم يكن تواصل حامد المعرفي قاصرًا على الكتب التي اقتناها من المكتبات، أو التي أُهديت إليه، بل ظل قارئًا مواظبًا لما يُنشر في الوسائط الإلكترونية للكُتَّاب الراسخين في ذهنه، ولذلك يقول "لم أعثر" على كتب عبد المنعم عجب الفيا في القاهرة؛ بل كان "مدخلي له المجلات الإلكترونية، خاصة سودانايل، والراكوبة، وأحيانًا الحوار المتمدن". ثم يجمل تقييمه لعجب الفيا في كلمات، واصفًا إياه بأنه "ناقد متميز، وباحث في الثقافة واللسانيات".
نلحظ أن حامدًا من زاوية أخرى قد تجاوز حدود الكلمة المكتوبة باعتبارها وسيطًا لتغذية رصيده المعرفي، فاجترح منابرَ ثقافية وحقوقية وأخرى. ونذكر منها عضويته في اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء المنظمة العربية لحقوق الإنسان، التي أُنشئت عام 1983 في القاهرة، بهدف حماية حقوق الإنسان وفق المواثيق الدولية التي صادقت البلدان العربية عليها. وفي إحدى زياراته للقاهرة لحضور اجتماعات هذه المنظمة، سُعِدَ حامد بمعرفة عبد الله أحمد النعيم، أستاذ القانون الجنائي المعروف عالميًا، الذي كان يعمل باحثًا في منظمة مراقبة حقوق الإنسان الدولية بالقاهرة. وأخيرًا أثمر هذا اللقاء العابر في دعوة عبد الله النعيم للمشاركة في الندوة التي نظمها منتدى حوار الشرق والغرب في برلين عام 1995 بمناسبة مرور عشر سنواتٍ على استشهاد الأستاذ محمود محمد طه (1909-1985). وسبق لقاء النعيم لقاؤه مع الأديب الروائي الطيب صالح، بمنزل صديقهما المشترك سيدأحمد نقد الله في النصف الثاني من عقد الستينيات، واستثمر حامد ذلك اللقاء القديم، عندما اصطاد الطيب في إحدى زياراته إلى دار لينوس السويسرية، التي ترجمت أعماله إلى اللغة الألمانية ونشرتها. ويقول حامد: "كنت أرافقه إلى مدينة لايبزج، ودرسدن، وبرلين؛ لتقديم أعماله للجمهور الألماني، وكان الحضور دائمًا كثيفًا، والنقاش نوعيّ خصبٌ ممتعٌ". وتوِّجت هذه الزيارات المعرفية والفكرية في الاحتفال الذي نظمته الجالية السُّودانية والنادي السُّوداني ببرلين بالتعاون مع السّفارة السُّودانية، في 25 سبتمبر 2011، تخليدًا لذكرى عبقري الرواية العربية في ندوة بعنوان "الطيب صالح: جسر بين الشرق والغرب". وفضلًا عن ذلك مقاله عن "الروائي الطيب صالح في عيون الألمان"، الذي عرض فيه مراجعات وتعليقات بعض الكُتَّاب والأدباء والنقاد الألمان الذين تناولوا روايات الطيب صالح بالنقد والتحليل، وتحديدًا رواية موسم الهجرة إلى الشمال.

الأسئلة الشائكة والإجابات المثيرة للجدل
لا تخطئ العين الناظرة في ثنايا هذا الكتاب ميل حامد فضل الله تجاه طرح الأسئلة الشائكة، التي تدور في فلك النظريات المجردة ومشكلات الواقع المعقدة ذات المعطيات المتباينة، التي تفسح مساحةً واسعة لسماع الرأي والرأي الآخر. وتظهر تمثُّلات هذا الميل في قضية الاستشراق، وصراع الحضارات، والحداثة ومشروع النهوض الإسلامي-العربي. الاستشراق في عرف الباحثين الأكاديميين اتجاهٌ فكريُّ انداح في أوساط بعض الغربيين، الذين اهتموا بدراسة حضارات وثقافات الأمم الشرقية بصفة عامة وحضارة الإسلام والعرب بصفة خاصة. ومن هذه الزاوية ألقى حامد بعض الإضاءات على الاستشراق الألماني، وقيَّم ما له وما عليه في ضوء الأدبيات التي تناولت هذا المصطلح المثير للجدل من زوايا مختلفة. وفي نقاشه للاستشراق الألماني توقف حامد عند افتراض عبد المنعم عجب الفيا، الذي يرى أن كتاب إدوارد سعيد "المستشرقون: المفاهيم الغربية للشرق"، الذي صدرت طبعته الإنجليزية الأولى عام 1979، قد حوَّل صورة المستشرق "من باحثٍ أكاديميٍ صارمٍ، نذر عمره، وأفنى زهرة شبابه في فك شفرة لغة شرقية منقرضة، أو الكشف عن آثار حضارة مندثرة، أو تحقيق مخطوطة أو مخطوطات نادرة، أو دراسة فترة تاريخية لا يعلم عنها الكثير، إلى صورة مرتزق يعمل بإمرة الإدارات الاستعمارية، لا هدف له سوى تشويه صورة الشرقي، والحط من شأن تراثه ودينه. ورسَّخ الكتاب بذلك لـ"نظرية المؤامرة"، التي أصلًا معششة في أذهان الكثيرين...". وبناءً على هذا الافتراض المزدوج قدَّم حامد نماذجَ من رؤى المستشرقين الألمان وطروحاتهم المعرفية، ثم خلص إلى أن الاستشراق الألماني بهفواته لا يمكن "إنكار ضخامة وعظمة ما حققه... وأنجزه طوال أكثر من قرن ونصف". ويرى حامد أنَّ فرص الحوار المتكافئة، التي أتاحتها الجامعات الألمانية للطلبة المسلمين والعرب، ستعزز مكانة الدراسات العربية والإسلامية في مناهج الدراسات الألمانية، وتفتح مسارات حوار إيجابية، بعيدًا عن إسقاطات النزعة الإمبريالية، المتمركزة حول بسط النفوذ الغربي في البلدان الشرقية ونهب خيراتها وثرواتها. إلا أن وجاهة هذه المرئيات التي طرحها صاحب الكتاب لا تقي الاستشراق نقد وتحفظات أولئك الذين ينظرون إليه من نافذة "نظرية المؤامرة".
وقف حامد عند عبارة "صراع الحضارات" من خلال تناوله لأديبات الطيب صالح في عيون النقاد والباحثين الألمان، مستشهدًا بهانز-بيتر كُونش (Hans-Peter Kunisch)، الذي كتب مقالًا عن "الإنجليزي الأسود على ضفاف النيل: موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح، رواية كلاسيكية لأدب ما بعد الكولونيالية، تُكتشف من جديد"، وذكر في متن حديثه أنَّ الطيب صالح هو أول من طرق باب صراع الحضارات في كتابه "موسم الهجرة إلى الشمال"، الذي ظهرت طبعته الأولى عام 1966، أي قبل ثلاثة عقود من ظهور كتاب صمويل هنتجنتون (Samuel Huntington)، "صدام الحضارات وإعادة صنع النظام العالمي"، الذي ظهرت طبعته الإنجليزية الأولى عام 1996. وفي فضاء صراع الحضارات تطرَّق حامد إلى الندوة، التي نظمها اتحاد المثقفين العرب ببرلين، مستضيفًا جلبير الأشقر، أستاذ العلوم السياسية، وأصلان عبد الكريم، أحد قيادي رابطة العمل الشيوعي بدمشق. وفي متن مقاله عن "نقاش بين الباريسي والبدوي في برلين"، تناول حامد كتاب الأشقر "صدام الهمجيات: الإرهاب والإرهاب المقابل والفوضى العالمية قبل أيلول وبعده"، وصنَّف عنوانه في قائمة العناوين المثيرة للجدل، مثل "صدام الحضارات"، و"نهاية التاريخ والإنسان الأخير" لفرانسيس فوكوياما. ثمَّ أوضح أن كتاب "صدام الهمجيات" يناقش السلفية الدينية المتمثّلة في الشيخ أسامة بن لادن (1957-2011) والمحافظين الجدد والأصولية المسيحية، وصولًا إلى اليمين المتطرّف، المتمثّل فــي صقور الإدارة الأمريكية الحالية، ثم وضع قلمه على أوجه التشابه والاختلاف بينها. وفي المقابل انتقد أصلان الماركسية والقومية العربية، وصفهما بأنهما لم تسهما في إحداث أي تقدمٍ أو إصلاحٍ يذكر في المجتمعات العربية، بل أفضى أداء المنتسبين إليهما إلى إفراز حالة من "التفسخ والانهيار والخراب المادي والروحي" في المجتمعات العربية، التي أضحت أسيرة "العشائرية والطائفية والعنصرية والدولة التسلطية والشمولية والعسكرية". ويرى أصلان أنه لا فكاك لهذه المجتمعات العربية وحالتها الراهنة إلا إذا استعانت بالغرب. وبهذه الخلاصة المثيرة للجدل كأنه يجتر مأثورة مالك بن نبي (1905-1973)، التي وصفت الشعوب العربية بقابليتها "للاستعمار"، والتي تُشبه في فحواها مقولة ابن خلدون (1332-1406) "المغلوب مولع بتقليد الغالب".
القضية الثالثة قضية الحداثة، التي تناولها حامد في مقاله عن "الحداثة ومشروع النهوض الإسلامي-العربي"، ممهدًا لذلك بتعريفات متعددة لهذا المصطلح الإشكالي، أجملها في أن المصطلح يعني مركزية العقل البشري وإعلاء شأنه في رسم معالم النهضة الأوروبية وتوابعها والمعرفة الإنسانية المتطورة في صحبتها؛ لكن يرى حامد أنَّ هذه النزعة العقلانية قد اقتحمت "بوابات الجوانب الذاتية في الإنسان"، وقوضت "حصون الروح الإنسانية بكل ما تنطوي عليه ... من مشاعر وأحاسيس ... وقيم ذاتية". وتجلَّت استجابة مشروع النهوض الإسلامي-العربي من وجهة نظره في "عقلانية وعي الفارق"، كما يسميها كمال عبد اللطيف، التي برز منتوجها في نصوص رفاعة رافع الطهطاوي، وخير الدين التونسي، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ومناهجهم التوفيقية، المُفتية بأن المنتج الحداثي الأوروبي الدنيوي لا يتعارض مع ثوابت الدين الإسلامي. وعلى الضفة الأخرى ظهر تيار "عقلانية المقايسة والتماثل"، الذي تبناه فرح أنطون، ولطفي السيد، وعلى عبد الرازق، وسلامة موسى، وطه حسين، وعلال الفاسي، مجمعين على معيارية المشروع الحداثي الغربي، الذي ينبغي أن تتباه المجتمعات العربية والإسلامية إذا رغبت مواكبة نهضة العالم الحديث وتطوره. وفي ضوء مراجعته لكتاب محمد محمود شاويش، "نحو ثقافة تأصيلية"، تطرَّق حامد للسؤالين الشهيرين اللذين استشهد بهما شاويش في مقدمته: "لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟" و"ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟". ثم عرض رأي المؤلف التأصيلي شاويش، القاضي بأن سؤال التغريب يُغيِّب الذات وسؤال التأصيل ينطلق منها، فالإسلام "هو الخيمة الأخيرة، التي ستلجأ إليها الأمة العربية، إذا أرادت أن تأخذ مكانها ولا تندثر؛ بل هو الخيمة الأخيرة للبشرية جمعاء، التي تسير بفرعنة لا مثيل لها، نحو الهاوية". فالموضوع في كلياته جدير بالقراءة والتأمل؛ لأنه يثير جملةً من الأسئلة الإشكالية.

طروحات الاندماج وأحلام العودة إلى أرض الوطن
يرى حامد فضل الله أن خشية المهاجرين من الاندماج، إذا ارتضوا الإقامة المستدامة في مهاجرهم المضيفة، غير مبررة؛ لأن الاندماج من وجهة نظره هو الطريق الوحيد للعيش المشترك، والتفاهم والتفاعل والتلاقح، أو التأثير المتبادل بين الثقافات الوافدة وثقافة أبناء الأرض، دون أن يسلب ذلك ثوابت الهويات المهاجرة. بالرغم من هذه الرؤية التي ارتضاها حامدٌ منهجًا وممارسةً لنفسه؛ إلا أن حنينه إلى بقعة أم درمان واهتمامه بقضايا الوطن (السُّودان) ظلا ثابتين في مفكرته اليومية وكتاباته الراتبة عن السُّودان وأهل السُّودان. ويظهر هذا الحنين جليًا في مقاله عن "ذكريات البقعة الحميمة"، الذي ناقش فيه سفر صديقه عبد السلام نور الدين، "الأحزان في السُّودان". فحقًا أن "الأوطان ليست ظواهر جغرافية" ثابتة، كما يصفها منصور خالد؛ لكنها قيم متحركة على سهول "قلوب أصحابها". ولذلك عندما سئل الطيب صالح في حوار تلفزيوني: "ألم يحن وقت هجرة الطيِّب صالح جنوبًا للاستمتاع بدفء العشيرة والأهل، بعيدًا عن بلاد تموت من البرد حيتانها؟" فردَّ على محاوره خالد الأعيسر قائلًا "أنا دائمًا أقول حين أواجه بهذا السؤال بأنني أحمل السُّودان بين أضلاعي... ولست في حاجة إلى أن أعود إليه؛ لأنني عايش فيه... لكن عندي أمل قوي إن شاء الله قبل ما نودع هذه الدنيا، نزور البلد، ونشمّ هواها، ونشمّ تربتها، ونرى مَنْ بقي من الأصحاب". وقد أكَّد حامد هذا الانتماء الوجداني في مقاله عن "الحلم الذي أصبح واقعًا: قصة مركز القرشي للتدريب المهني والتلمذة الصناعية"، المركز أسسه من حر ماله وبمساعدات الأصدقاء الخُلَّص في الخرطوم بحري؛ استجابةً لرغبةٍ ظلت تراوده أكثر في أربعة عقود. اُفتتح المركز في نهاية عام 2022، وبدأت الدراسة في مجال كهرباء السيارات في يوم الاثنين الموافق 20 فبراير 2023، في شكل كورسات قصيرة لمدة ثلاثة أشهر؛ لكن اندلعت الحرب اللعينة في 15 أبريل 2023، وشكلت عائقًا وجوديًا لاستمرار المركز. لكن المهم في الأمر أن حامدًا قد سدد فاتورة دينه المستحق إلى أهل السُّودان، وترك لهم أثرًا خالدًا يمثله "مركز القرشي للتدريب المهني والتلمذة الصناعية".
اختم هذا التقديم بالتهنئة الصادقة إلى الشيخ الثمانيني المبدع، الدكتور حامد فضل الله القرشي، الذي لم تقعده شيخوخة العمر، ولا رهق الأمراض العارضة، ولا فقد الزوج الوفية عن ممارسة هواياته المفضلة: الكتابة الجادة، والعمل الثقافي والإنساني العام. وإلى جانب سفر "مدارات الذاكرة: قراءات ومراجعات في الأدب والفكر السُّوداني والألماني" موضوع تقديمنا الآن، أنتج حامد مجلدين آخرين في هذا العام (2024)، أهداهما إلى زوجته الراحلة برجيته فضل الله، أحدهما بعنوان "الإسلام والاندماج في ألمانيا وأوروبا: آراء حول الشرق الأوسط ومستقبله"، والآخر بعنوان: "عن الحروب ... وقضايا الثورة وشؤون الأدب". فلا غرو في أن هذه الثلاثية ستشكل إضافة نوعية للمكتبة العربية، وفصولًا جديدة في أبواب الإمتاع والمؤانسة.

أحمد إبراهيم أبوشوك
جامعة قطر، الدوحة
21 فبراير 2024

ahmedabushouk62@hotmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: المجتمعات العربیة الطیب صالح فی حامد فضل الله هذا الکتاب فی برلین حامد ا قائل ا کتاب ا فی الس

إقرأ أيضاً:

أن تكون إنسانا .. أن تكون متعلما

يخرج من بطن أمه لا يجيد إلا البكاء، لا يعرف إلا الغريزة الفطرية للبقاء وهي أن يكون في حضن أمه، ينمو قليلا فيتعلم أن هنالك طعاما آخر غير حليب الأم، يتعلم أن يجلس، أن يحبو بيديه ورجليه، أن يقف على قدميه ويمشي بهما، وكل مرحلة من هذه المراحل ينمو فيها جسده وهو يكتسب مهارة جديدة بناء على النمو والتدريب، بعدها يبدأ دماغه في التفوق على النمو الجسدي، اكتسابه لأسماء الأشخاص والأشياء من حوله، يبدأ في استخدام أسماء الأشياء في حديثه ولغته.

هذه المرحلة من عمر الإنسان، نجد أنها تلتقي مع المعرفة والقدرة على تعلم الأشياء والأسماء التي فضل الله بها آدم عليه السلام على ملائكته في قصة خلق آدم عليه السلام واستخلافه وذريته من بعده على هذه الأرض.

القدرة على التعلم عند الإنسان هي المسألة المركزية التي فضله الله بها على بقية خلقه، حتى على الملائكة المكرمين، الذين خلقهم الله وأعطاهم العلم المكتمل الذي يحتاجونه، ولا مزيد من الاكتساب المعرفي والعلمي، فهم لا ينمون فكريا ولا جسديا، ولذلك عندما طلب منهم الله أن ينبؤوه بأسماء الأشياء عجزوا عن ذلك «قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ» فما يخرج عن علمهم الذي وهبهم الله إياه لا دراية لهم به، أما الإنسان فإنه يكتسب المعرفة ويراكمها، ويبتكر الأشياء مسمياتها ويفتق المعاني ويربطها ببعضها، ويضيف عليها، ويمزج بين المعارف ويدمجها في مخيلته ويبني عالما متخيلا قبل أن يقوم بتنفيذه على الواقع، فهو كائن متعلم معرفته تنمو وقدرته هائلة على ابتكار الأشياء، فلذلك استحق مسألة الاستخلاف في الأرض وتعميرها.

وقد جاء أمر الله لملائكته بأن تسجد لآدم بعد أن بين له مزيته عليهم في مسألة اكتساب العلم، وهذا يدل دلالة عميقة على أهمية العلم والتعلم، وعلى الرغم من أن هذه العلوم جميعها هي هبة من الله للإنسان إلا أنه جعله يسعى لاكتسابها وأن يبذل جهده وعقله وماله لكي يحصل عليها، بعد أن يجرب ويخطئ حتى يصيب، وقد قال الله تعالى في سورة العلق: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ».

ولو أتينا إلى ما يجب أن يتعلمه الأطفال في مقتبل عمرهم لوجدنا أن الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام قال: «علموا أولادكم القرآن ، فإنه أول ما ينبغي أن يتعلم من علم الله هو» فالقرآن الكريم هو مفتاح العلوم الدينية، وهو نصها المقدس، وهو التشريع الذي تنبني عليه المعتقدات والأحكام، وما يتم تعليمه في الصغر وفي بداية التكوين المعرفي والعلمي هو الذي سيكون مستقبلا بمثابة النموذج الذي يقاس عليه، والمصفاة التي تغربل الأفكار والعلوم، فلذلك لزم أن يكون القرآن وعلومه المعيار الذي يقاس عليه ما بعده.

ومن التوفيق الإلهي أن جعل قصار السور التي هي في الجزء الثلاثين والتي عادة ما يبتدأ بتعليمها بعد الفاتحة أن جعلها سورا مكية، ما عدا سور جعلها مدنية وهي «المطففين والبينة والنصر والفلق والناس» ومعنى ذلك أن السور المكية تدور آياتها حول الإيمان بالله وإقامة الدليل على قدرة الله تعالى في خلقه وفي كونه وعلى البعث والحساب، والتي تشكل الجانب العقدي هي التي ينبغي أن يتعلم من القرآن.

ونحن على أبواب عام دراسي جديد فإنه على الطلبة أن يستشعروا عظيم الأهمية لمسألة طلب العلم، فطالب العلم له شأن عظيم عند الله وخلقه، وهو طريق يوصل صاحبه إلى الجنة، فقد قال الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام: «منْ سَلَكَ طَريقًا يَبْتَغِي فِيهِ علْمًا سهَّل اللَّه لَه طَريقًا إِلَى الجنةِ، وَإنَّ الملائِكَةَ لَتَضَعُ أجْنِحَتَهَا لِطالب الْعِلْمِ رِضًا بِما يَصْنَعُ، وَإنَّ الْعالِم لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ منْ في السَّمَواتِ ومنْ فِي الأرْضِ حتَّى الحِيتانُ في الماءِ، وفَضْلُ الْعَالِم عَلَى الْعابِدِ كَفَضْلِ الْقَمر عَلى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وإنَّ الْعُلَماءَ وَرَثَةُ الأنْبِياءِ وإنَّ الأنْبِياءَ لَمْ يُورِّثُوا دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا وإنَّما ورَّثُوا الْعِلْمَ، فَمنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحظٍّ وَافِرٍ» فلك أن تتخيل أن الملائكة تحفك بأجنحتها وأن الحيتان في أعماق البحار تستغفر لك، فهذه من المبشرات الغيبية التي أخبرنا به الرسول صلى الله عليه وسلم.

ويجب على طالب العلم أن يتحلى بالتواضع وحسن الخلق، فالمتكبر يدعي المعرفة ويمنعه كبره من السعي للحصول على الحقيقة، وأن كل معرفة مكتسبة هي نفي لجهل سابق، فأحرى بالإنسان بعد أن ينفي عنه الجهل أن يكون متواضعا لأستاذه ومتواضعا أمام الله، الذي من عليه بأن منحه هذه المعرفة، ولذلك كان العلماء أهم أكثر تواضعا وخشية وخوفا من الله لتوسع مداركهم ومعرفتهم بقدر الله وقدرته، فلذلك قدروا الله حق قدره، فأصبحوا أكثر خلق الله خشية له، قال الله تعالى في كتابه العزيز: «إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ».

وكذلك على طالب العلم أن يكون شجاعا وجريئا في البحث عن المعرفة، وأن يبعد عنه صفة الخجل، فقد قال الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام: «لا ينال العلم خجول ولا متكبر».

مقالات مشابهة

  • مصطفى بكري: مصر تواجه التحديات والمؤامرات بالعقل والفكر والرؤية (فيديو)
  • حقوق المرأة العربية لها أهلها والغرباء يمتنعون
  • نداء عاجل: أوقفوا الحوارات واللقاءت مع الأوباش الإرهابيين
  • الإطار التنسيقي الشيعي بالعراق.. إشكالية وحدة المواقف السياسية وتحولات النفوذ
  • أن تكون إنسانا .. أن تكون متعلما
  • من وعي كلمة السيد القائد حول آخر المستجدات 29 أغسطس 2024م
  • محمد حامد جمعة: 20 مسلحًا اقتحموا شقتي وكانوا يصيحون ويطلقون الرصاص
  • البرلمان العربي: عدوان الاحتلال في الضفة الغربية انتهاك صارخ للقانون الدولي والإنساني
  • مهرجان فينيسيا السينمائي 81| العرض الأول لـ فيلم Joker: Folie à Deux
  • برلماني يطالب الحكومة بمتابعة التحقيقات حول مقتل الباحثة المصرية ريم حامد