يشير الطعام إلى تلك العادات الغذائية الصحية التي تحافظ على حياة الناس وصحتهم، وبالتالي فإنها تعكس الثقافة المجتمعية وما يرتبط بها من عادات وممارسات تميِّز مجتمعا ما عن غيره، أو فئة اجتماعية عن غيرها، فهذه الثقافة مكوِّن أصيل لا تقل أهميته عن القيم الإنسانية الأخرى التي تشكِّل الهُوية، لذا فإن الطعام ليس ذا قيمة غذائية وحسب، بل أيضا له قيمة ثقافية متأصِّلة في المجتمع ومترسِّخة في فكره وممارساته اليومية.
إن ثقافة الطعام تتضمن تلك العادات المرتبطة بالإعداد، والتقديم، وطريقة الأكل، والتخزين، وأيضا كيفية استهلاكه، وما يرتبط به من احتفالات وغير ذلك، وهي بذلك ترتبط بعوامل عدة كالموارد المتعلقة بالإنتاج سواء أكانت المناخ أو التربة أو المياه، وحتى الوقود والتقنيات، إضافة إلى أنها تكشف طبيعة الحياة التي يعيشها أفراد المجتمع ومدى التطوُّر التقني ومستوى الرفاه، وكذلك مدى انفتاحهم على الثقافات الأخرى، ولهذا سنجد أن هذه الثقافة من القيم الأصيلة التي تحرص المجتمعات على الحفاظ عليها وترسيخها ونقلها إلى الأجيال بل واتخاذها قيمة مضافة لهُوية الدولة، وهذا ما نراه جليا في مفاهيم (سياحة الطعام).
لقد حرصت الأمم على هذه الثقافة وجعلتها رمزا من رموز المحبة والعطاء والإيثار؛ ذلك لأن تقديم الطعام وتبادله وتهاديه وحتى تقديمه في الولائم والمناسبات الاجتماعية والدينية وغيرها، يُعد رمزا لتلك القيم الإنسانية التي تربَّت عليها المجتمعات، كلٌ حسب عاداته وتقاليده وطرائقه وقدرته، ولهذا فإن الطعام يُعد تعبيرا عن تلك المحبة بين أفراد المجتمع أو بين المجتمعات بعضها بعضا.
إن الطعام بالنسبة للمجتمعات صمام الأمان الذي يحميها اجتماعيا وصحيا واقتصاديا، ويحافظ على رفاهها، ولأنه كذلك فقد عملت الدول على الحفاظ على موارده المستدامة التي تحقق (الأمن الغذائي)، وتجعله متاحا للجميع بما يدعم مبادئ المساواة والعدالة، فالطعام هنا أساس للحفاظ على روابط مجتمعية قادرة على النمو الصحي والمجتمعي، وبالتالي ضمان مشاركة فاعلة في التنمية المجتمعية.
ولذلك فإن هذه الثقافة في ارتباطها بالمجتمع ونموه المعرفي والصحي والاقتصادي، لا تقوم على الحفاظ على سياقاتها العامة باعتبارها ثقافة مجتمعية وقيمة إنسانية، بل أيضا تتجلى في أنماط الاستهلاك التي تتَّبعها المجتمعات؛ فتلك الأنماط تكشف مدى وعي الأفراد بأهمية الطعام وقدرتهم على الحفاظ عليه بما يضمن لهم وللأجيال أمنا غذائيا مستداما، وهنا تكون ثقافة استهلاك الطعام من القيم الإنسانية المهمة في المجتمعات الحديثة.
يكشف تقرير مؤشر هدر الأغذية 2024، (فكِّر في توفير الطعام. متابعة التقدم المحرز للحد من هدر الغذاء إلى النصف)، الصادر عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP)، أن هذا الهدر يُعد فشلا في المجتمعات على مستوى العالم، إذ يتم «التخلُّص من أكثر من تريليون دولار أمريكي من الطعام كل عام»، وهو كذلك فشل بيئي حيث «توِّلد نفايات الطعام ما يُقدَّر بنحو 8-10%من انبعاثات غازات الدفيئة على مستوى العالم»، الأمر الذي يدُّل على وجود إشكال على المستوى المجتمعي والبيئي وكذلك الاقتصادي، إضافة إلى التحديات التي تواجه المجتمعات في مجالات الزراعة والتصنيع وغيرها.
إن أنماط التخلُّص من الطعام تكشف ثقافة الاستهلاك التي جرَّت المجتمعات الحديثة إلى النظر إلى الطعام باعتباره مادة مستهلكة، الأمر الذي أصبح شراؤه والتخلُّص منه أمرا يسيرا، ولهذا فإن هذه المجتمعات بقدر اهتمامها بالطعام بوصفه قيمة، فإنها تستهلكه وتتخلَّص منه دونما النظر إلى تلك التحديات والإشكالات البيئية والاقتصادية التي يمكن أن تواجهها مستقبلا، والأمر هنا لا يعني أن الأفراد وحدهم من يتسبَّبون في هدر الأغذية بل أيضا سياسات التصنيع وسلاسل التوريد، وأنظمة البيع وغير ذلك كله يزيد من ذلك الهدر إلاَّ إذا ما تم العمل على تحسينها وتطويرها بما يضمن الحفاظ على الأغذية وأمنها.
ولأن ثقافة الطعام قيمة حضارية ومعرفية وأصل من أصول الهُوية الإنسانية، فإن طرائق الاستهلاك أيضا تنضوى تحت تلك الثقافة، بل إنها تقدِّم صورة ذهنية عن المجتمع و وعيه وفهمه لأهمية الطعام في ظل التداعيات الاقتصادية والتحديات التي تواجهها سلاسل التوريد في العالم، خاصة مع تلك الإشكالات السياسية والحروب، إضافة إلى تنافس القوى الاقتصادية العالمية، وهذا الفهم والوعي ينعكس على أنماط حمايتنا لثقافتنا الوطنية المرتبطة بالطعام والحفاظ عليه باعتباره قيمة؛ فالرفاه لا يعني الاستهلاك بقدر ما يعني جوهر تلك القيمة ومحورها.
ولعل ما أشار إليه تقرير مؤشر هدر الأغذية 2024، من أن هناك مجتمعات تهدر الأغذية بكميات عالية، في حين توجد في المقابل مجتمعات تعاني من نقص الأغذية بل هناك من يموت جوعا في دول قريبة، حيث «يتأثَّر ما يقارب 783 مليون شخص بالجوع كل عام، ويعاني 150 مليون طفل دون سن الخامسة من توقف النمو بسبب النقص الحاد في العناصر الغذائية الأساسية في وجباتهم الغذائية» – حسب التقرير –، ولهذا فإن الأمر هنا لا يتعلَّق بثقافتنا وحسب بقدر ما يكشف عن قيمنا الإنسانية ومشاركتنا للآخر.
لهذا فإن الحد من هدر الطعام يُعد تضامنا مع تلك المجتمعات التي تعاني من تحديات حقيقية مهما كانت الأسباب سواء أكانت بسبب الحروب أو الظروف الاقتصادية أو غير ذلك، الأمر الذي سيوفِّر فرصا للحفاظ على استدامة الأغذية وأمنها في المجتمع، وبالتالي الحد أيضا من إشكالات التضخم الذي تعاني منه الكثير من الدول؛ فهدر الطعام وتحويله من وجبات ذات قيمة ثقافية إلى نفايات تشكل عبئا على المجتمع لا يعني سوى عدم شعورنا بالمسؤولية.
وانطلاقا من هذه الأهمية اعتنت عُمان بالأغذية وتوسَّعت في دعم النُظم الغذائية المستدامة، وأوجدت البرامج والخطط لتوفير الغذاء في الأسواق بأسعار مناسبة لتكون في متناول أفراد المجتمع، كما عملت في مقابل ذلك على توعية المجتمع بأهمية الأغذية والحد من هدرها، وضرورة الحفاظ عليها باعتبارها موردا تنمويا مهما؛ فتوفُّر الأغذية والحفاظ عليها مرتبط باقتصاد الدولة والنمو السكاني وتغير المناخ وغير ذلك، وبالتالي فإن إدارة مواردها وحمايتها والعمل على تنميتها مطلب وطني مشترك.
إن فهمنا لثقافة الطعام والاهتمام بأنماطه وسبل الحفاظ عليه، بل وحتى طرائق إنتاجه، يمكِّننا من تطويره باستخدام التقنيات الحديثة الصديقة للبيئة، والاقتصادات الحيوية، وتثمين الموارد الطبيعية وإلائها أهمية في التنوُّع الاقتصادي، وبالتالي العمل على تحسين الإنتاجات المرتبطة بالأغذية وتكثيرها، بما يضمن مستويات عالية من الأمن الغذائي، ولعل ما تقوم به الدولة في هذا المجال يعكس الوعي المتزايد بأهمية هذه الثقافة وتقديم أفضل الخدمات المرتبطة بها.
ولأن الدولة تقوم بجهود كبيرة في مجالات الأمن الغذائي وما يرتبط به من ناحية، والحفاظ على خصوصية الأغذية العمانية وثقافتها باعتبارها أحد أصول الهُوية العمانية من ناحية أخرى، فإن علينا جميعا واجبا في ترشيد الاستهلاك والنظر إلى الطعام بوصفه قيمة أكثر منه استهلاكا، فهو جوهر وليس مادة، ولذلك وجب الحد من هدره لأنه نعمة من نِعم الله علينا، والنعمة واجبة الشكر والمحافظة عليها لأنها أمانة، فلنحافظ على الأمانات.
عائشة الدرمكية باحثة متخصصة في مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: ثقافة الطعام هدر الأغذیة هذه الثقافة فی المجتمع على الحفاظ الحفاظ على ر الأغذیة اله ویة من هدر
إقرأ أيضاً:
برنامج الأغذية العالمي يوقف دعم علاج سوء التغذية في مناطق الحوثيين
يمن مونيتور/ صنعاء/ غرفة الأخبار:
أوقف برنامج الأغذية العالمي تقديم الدعم لعلاج حالات سوء التغذية في المناطق التي تسيطر عليها جماعة الحوثيين في اليمن-حسبما أفاد تقرير للبرنامج التابع للأمم المتحدة يوم الاثنين.
وأوضح البرنامج، في تقرير حول الوضع الإنساني في اليمن، أن الإمدادات الضرورية لاستمرار برنامجه الخاص بعلاج حالات سوء التغذية متوسطة الحدة قد توقفت تمامًا بعد أبريل/نيسان الجاري في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية التي تقع تحت سيطرة الحوثيين.
أفاد التقرير بأن البرنامج قد تم تقليصه بشكل كبير نتيجة لمحدودية التمويل، مما أدى إلى تولي منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) مسؤولية تغطية حالات سوء التغذية متوسطة الحدة عالية الخطورة في المديريات ذات الأولوية، التي كان برنامج الأغذية العالمي يتكفل بها سابقًا.
ويواجه البرنامج تحديات مالية كبيرة منذ إعلان الولايات المتحدة، أكبر ممول له، عن تعليق مؤقت للمساعدات الخارجية لمدة 90 يومًا في يناير/كانون الثاني الماضي- حسب التقرير
ومنذ عام 2015، قدم البرنامج مساعدات لليمن بهدف منع وقوع المجاعة، معتمدًا على الدعم المقدم من المؤسسات والدول، وعلى رأسها الولايات المتحدة.
ولن يقتصر الأمر على المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين فحسب، إذ أشار التقرير إلى أن البرنامج نفسه سيواجه أيضا نقصا حادا في الإمدادات والتمويل اعتبارا من أغسطس آب المقبل في المناطق الواقعة ضمن نفوذ الحكومة اليمنية المعترف بها دوليا-حسب ما أفادت وكالة رويترز.
وقال إن استمرار النقص الحاد في التمويل دفعه إلى تقليص أنشطته في البلاد بشدة “إذ يتم تنفيذ برنامج الوقاية من سوء التغذية بمستويات مخفضة، الأمر الذي أثر على نحو 654 ألفا من الأطفال والنساء الحوامل والمرضعات والفتيات، أي ما يعادل 80 في المئة من المستهدفين في خطة الاستجابة الإنسانية للعام 2025”.
وأضاف أن عملياته في اليمن لا تزال تعاني فجوة تمويلية كبيرة، إذ لم يحصل سوى على 20 في المئة فقط من إجمالي متطلبات التمويل البالغة 564 مليون دولار للفترة من مايو أيار إلى أكتوبر تشرين الأول.
وتشير معلومات حديثة ليونيسيف إلى أن نحو 80 في المئة من اليمنيين يحتاجون للمساعدة وأن “طفلا من بين كل طفلين دون سن الخامسة يعاني حاليا من سوء التغذية الحاد”، بما في ذلك “أكثر من 540 ألفا دون السن الخامسة يعانون من سوء التغذية الحاد الشديد”، إلى جانب 1.4 مليون امرأة حامل ومرضع.
وتقول الأمم المتحدة إن أكثر من 80 بالمئة من سكان اليمن الذي يعاني “أكبر أزمة إنسانية في العالم” يحتاجون إلى مساعدات، ويقف ملايين على شفا مجاعة واسعة النطاق في ظل انهيار الاقتصاد وتضاؤل احتياطيات النقد الأجنبي.
لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *
التعليق *
الاسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني
احفظ اسمي، بريدي الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح لاستخدامها المرة المقبلة في تعليقي.
Δ
شاهد أيضاً إغلاق أخبار محليةرسالة المعلم أهم شيئ بنسبة لهم ، أما الجانب المادي يزعمون بإ...
يلعن اب#وكم يا ولاد ال&كلب يا مناف&قين...
نقدرعملكم الاعلامي في توخي الصدق والامانه في نقل الكلمه الصا...
نشكركم على اخباركم الطيبه والصحيحه وارجو المصداقيه في مهنتكم...
التغيرات المناخية اصبحت القاتل الخفي ، الذي من المهم جدا وضع...