المؤرخ التقليدي السوداني و القانوني السوداني و دورهما في إنحطاط الفكر السوداني
تاريخ النشر: 4th, July 2024 GMT
طاهر عمر
قرن من الزمن يفصل بيننا و بين تطور الفكر في المجتمعات الحديثة إذا قارنا إلتصاق المؤرخ التقليدي السوداني بالوثيقة المقدسة و دار الوثائق حيث نجدها تلعب دور المثابة التقليدية في محراب الفكر السوداني مقارنة بظهور مدرسة الحوليات في فرنسا حيث إتجهت جهودهم الفكرية لدراسة التاريخ الإجتماعي و التاريخ الإقتصادي منذ عام 1929 و قبل مدرسة الحوليات بقليل نشرت أفكار ماكس فيبر و حديثة عن فكرة الإقتصاد و المجتمع و فكرة عقلانية الرأسمالية و دلل على عقلانيتها بأنها لم تظهر بعد في المجتمعات التقليدية كحال مجتمعنا السوداني و هنا وجب الإنتباه أي أن ماكس فيبر عندما خاض بحوثه و خرج بأفكاره كان مؤرخ و عالم اجتماع و إقتصادي ملم بتاريخ الفكر الإقتصادي و أدب النظريات الإقتصادية و قانوني.
و من أدب النظريات الإقتصادية و تاريخ الفكر الإقتصادي خرج بفكرة العقلانية الغائبة من دفاتر المؤرخ التقليدي السوداني و القانوني السوداني و نجد أن ماكس فيبر قد تحدث عن زوال سحر العالم أي أن الدين لم يعد يلعب دورا بنيويا في السياسة و الإقتصاد و الإجتماع بعكس جهود المؤرخ التقليدي السوداني المنشغل بالايمان التقليدي و نجد أن أغلب بحوثهم تتحدث عن الطرق الصوفية في السودان و مسألة صحيح الدين و أنصع مثال على ما أقول الدكتور علي صالح كرار و غيره كثر من المؤرخيين التقليديين السودانيين و تجاهلهم بأن من أسباب إنقطاع تطور الفكر العقلاني في السودان إهتمامهم بتاريخ الحركات الدينية و الصوفية حيث نجد أن كثيرا من علماء الإجتماع في العالم العربي ينظرون للمهدية في السودان و السنوسية في ليبيا و الوهابية في السعودية كحركات ساهمت في تعطيل التفكير العقلاني في العالم العربي و الإسلامي إلا المؤرخ السوداني التقليدي.
و كذلك نجد أن محمد ابراهيم أبوسليم من المهتمين بوثائق المهدية الى درجة أنه قد كرمه حزب الأمة في وقت لم ينتبه فيه محمد ابراهيم أبوسليم أن حزب الأمة حزب يقوم على ايمان تقليدي و لو كان محمد ابراهيم أبوسليم ملم بتاريخ الفكر الإقتصادي و أدب النظريات الإقتصادية لأدرك بأن حزب مثل حزب الأمة يعيش على هامش فكرة زوال سحر العالم أي أنه ما زال رازح تحت فكرة الايمان التقليدي و لكن شتان ما بين محمد ابراهيم أبوسليم كمؤرخ تقليدي و ماكس فيبر كمؤرخ و هنا قارنا محمد ابراهيم أبوسليم بماكس فيبر لكي يظهر الفرق بين المؤرخ التقليدي كأبوسليم و ماكس فيبر كمؤرخ و عالم اجتماع و اقتصادي و قانوني.
و على طريقة محمد ابراهيم أبوسليم و علي صالح كرار سار المؤرخ التقليدي السوداني فنجد من بينهم من سار في مواكب أدب الهويات القاتلة بدلا من أدب الحريات فنجد أبادماك و الغابة و الصحراء و العودة الى سنار و هنا نجد إختلاط الحابل بالنابل أي إختلاط الشعراء السودانيين بالمؤرخيين التقليديين السودانيين و المؤرخ التقليدي يتقدمهم ليكشف لهم مخابئ سنار و كلهم قد ضلوا عن أن سنار كانت الضلال البعيد لأن مملكة الفونج مبتداء العلاقة العكسية مع فكر الإنسانيين لأن بداية سنار كانت في القرن السادس عشر و هو قرن الإنسانيين بلا منازع و بداية النزعة الإنسانية و مفارقة وحل الفكر الديني و إذا بسنار تبذر في السودان بذور فكر وحل الفكر الديني و عندما إنهارت سنار فاذا بالمهدية ترث سنار و تورّث الشعب السوداني عبر مؤرخيه ذاكرة محروثة بالوصاية و ممنوعة من التفكير في أدب الحريات كما يقول فتحي المسكيني.
و من هنا يتضاعف جهدنا لتوضيح أن أمثال محمد ابراهيم أبوسليم كمؤرخ تقليدي قد ساعد في ترسيخ ذاكرة محروسة بالوصاية و ممنوعة عن التفكير عندما تحدث عن وثائق المهدية بجهد المؤرخ التقليدي و غيره كثر فهل يختلف عنه يوسف فضل كمؤرخ تقليدي؟ كان لا يتحرّج من أن يكون بين حاضري حوار الوثبة و ضحك الكيزان على بقية النخب السودانية فهل يفلت علي صالح كرار و أبوسليم و يوسف فضل و مؤرخي الهوية القاتلة في أبادماك و العودة الى سنار و الغابة و الصحراء من وصف ابن خلدون للمؤرخين عندما وصفهم مقلدون بلداء الطبع و العقل و يغفلون عما يحدث في التاريخ من تغيّر مستمر فيجلبون الأخبار عن الدول و حكايات الوقائع في العصور الأول صورا قد تجردت عن موادها و صفاحا انتضيت عن أغمادها.
قول ابن خلدون أعلاه قد أكدته مدرسة الحوليات عام 1929 عندما أبعدت مؤرخي المنهجية التاريخية و مؤرخي الوثيقة المقدسة و أغلبهم من رجال الدين و الدبلوماسين و العسكر و المضحك أن ساحتنا السودانية تجدها مليئة بكتاب من رجال الدين و العسكر و الدبلوماسين و المؤرخيين التقليديين الى لحظة كتابة هذا المقال و كله بسبب تأخرنا عن ساحات الفكر في المجتمعات الحديثة بقرن كامل. مثلا بفضل فلاسفة و علماء اجتماع و مؤرخيين و إقتصاديين في المجتمعات المتقدمة منذ قرن من الزمن إختفى المؤرخ التقليدي و القانوني في المجتمعات الحديثة و أصبح بفضل الفلسفة السياسية و الفلسفة الإقتصادية أن السياسي يتقدم على عالم الإجتماع و القانوني و أن السياسة قد أصبحت الشرط الإنساني و بالتالي يصبح السياسي هو الذي يقود التغيير.
المضحك أن النخب السودانية الفاشلة بسبب تأخرها عن نخب العالم المتقدم قد أوكلت الوثيقة الدستورية لقانونيي السوداني و إذا بهم يرتضوا بالشراكة مع العسكر و هكذا ضاعت ثورة ديسمبر كأعظم ثورة أنجزها الشعب السوداني المتقدم على نخبه الفاشلة و لو كان هناك السياسي السوداني الذي يفهم أن السياسة قد أصبحت شرطا إنسانيا كما فعل روزفلت في فترة الكساد الإقتصادي العظيم و عبر ببلاده فترة الكساد الإقتصادي العظيم لما تعطلت فترة التحول الديمقراطي في السودان بسبب إنقلاب البرهان الكيزاني و عندما قابل جون ماينرد كينز كإقتصادي روزفلت و حاوره قال وجدته سياسي ملم بتاريخ الفكر الإقتصادي و أدب النظريات الإقتصادية و لهذا كان واضح لروزلفت طريقه الذي يخرجه من الكساد الإقتصادي العظيم.
منذ قرن من الزمن قد خرج المؤرخ التقليدي و القانوني من دائرة التأثير و أصبح السياسي هو الذي يتقدم على عالم الإجتماع و القانوني و المؤرخ التقليدي و سوف أوضح ذلك في حديثنا عن فكر ريموند أرون في بقية المقال. و جود القانونيين السودانيين في دائرة الفعل السياسي و دورهم في الوثيقة الدستورية التي ورطت الشعب في شراكة العسكر سببها أن النخب السودانية لم تنتبه الى أن القانونيين السودانيين كعبدة نصوص قد أصبحوا خارج دائرة قيادة المجتمعات الحديثة منذ قرن من الزمن و معهم المؤرخ التقليدي و كان من المفترض أن يشرف على الوثيقة الدستورية السياسي المشبّع بروح القانونيين التي تعرف روح عصرنا الحديث و بمساعدة الإقتصادي الذي يفترض في الفرد العقلانية و الأخلاق و المعرفة.
و أقصد أن حمدوك كان من المفترض أن يكون المنظّر للوثيقة الدستورية كسياسي و إقتصادي و هو الأقرب للعب دور السياسي الذي يتقدم على القانونيين و علماء الإجتماع و المؤرخيين التقليديين إلا أن حمدوك كان تحت وصاية قحت و جميعهم يسوقهم عقلهم التقليدي عقل المرشد و الامام و الختم الذي غاب عن إدراكه بأن السياسي و الإقتصادي هما من يقودان مسيرة التحول الديمقراطي و العبور بالشعب السوداني بإتجاه الدولة الحديثة و أن الوثيقة الدستورية في تحولنا الديمقراطي كان ينبغي أن يشرف على أفكارها السياسي و الإقتصادي كما فعل روزفلت عندما عبر فترة الكساد الإقتصادي العظيم.
غياب فكر السياسي المتقدم على عالم الإجتماع و المؤرخ التقليدي من الوثيقة الدستورية التي سيطر عليها عقل القانوني السوداني أدى للبداية المعطوبة لمسيرة التحول الديمقراطي في السودان فكانت وزارة الخارجية وكر كيزان يسيطر على أفقها دبلوماسين أغلبهم يسيطر على فكرهم فكر الوثيقة المقدسة و أغلبهم خدم زمن حكومة الكيزان بذاكرة محروسة بالوصاية و ممنوعة من التفكير و أغلبهم يجهل بأن هناك قرن كامل من الزمن يفصلهم عن إنتهاء زمن المنهجية التاريخية و بداية الإهتمام بالتاريخ الإجتماعي و التاريخ الإقتصادي.
لهذا السبب رأينا كيف كان من بين الدبلوماسين السودانيين من جلس أمام البرهان بعد إنقلابه و أوصاهم بحمل رسالة توضيح إنقلابه للمجتمع الدولي و كانوا بروس الخراف. بالمناسبة ظهور حمدوك و هو يقول بأن شركات الجيش تستولى على أكثر من ثمانيين في المئة من مناشط الإقتصاد السوداني و كان تبدو عليه الحيرة في وقت لو كان متسلح بروح القوانيين التي توحي له بأن السياسي في عصرنا الحديث من يقود التغيير لما ظهر بعقل الحيرة و الإستحالة بل كان سوف يظهر كما روزفلت كسياسي عندما أحاط نفسه بمشرعيين و ذهب في تنفيذ مشروعه السياسي و تنفيذ سياساته الإقتصادية التي قد أخرجت أمريكا من أزمة الكساد الإقتصادي العظيم.
و هنا وجب التوضيح لأن الفرق بين روزفات و حمدوك أن الأول كان مدرك بأن زمنه كان لحظة إنقلاب زمان فيه قد وصلت فلسفة التاريخ التقليدية الى منتهاها و أن هناك فلسفة تاريخ حديثة قد بداءت أشعتها في الظهور و بالتالي أن ليبرالية حديثة تحل محل ليبرالية تقليدية و هذا ما غاب عن أفق مثقفنا التقليدي السوداني الى اليوم و لهذا نكرر و نقول أن المثقف السوداني يفصله قرن كامل أي أن مدى قرن كامل يفصله عن الأفكار الحديثة و يحتاج لجهد كبير حتى يقراء ما أنتج من فكر في الفلسفة السياسية و الفلسفة الإقتصادية في المئة سنة الأخيرة لمجابة مشاكل المجتمع الحديث.
مثلا ريموند أرون منذ مطلع الثلاثينيات من القرن المنصرم أسس للعلاقة بين السياسة و الفلسفة و قدم أفكاره في فلسفة نقدية للتاريخ و تحدث عن الإنسانية التاريخية و الإنسان التاريخي مؤكدا على العقلانية و إبداع العقل البشري في فصله للميتا عن الفيزيقيا و إبعاده لأي فكر مسياني أي إبعاد أي فكر ديني بإختصار شديد يقصد أنثروبولوجيا الليبرالية التي تتجسد في ثالوث المعرفة و الأخلاق و الحرية من أجل تشيد مجتمع إنساني بالمعنى الكانطي وفقا لحدود عقله البشري و بعيدا عن توهمات رجال الدين و إعتراضهم على فصل الميتا عن الفيزيقيا و بالتالي فصل الدين عن الدولة و هذا هو كعب أخيل النخب السودانية حيث نجد أن الساحة الفكرية السودانية مليئة بأتباع المرشد و الامام و الختم و يصعب فيها الإدراك على أتباع المرشد و الختم و الامام لفكرة عقلنة الفكر و علمنة المجتمع و من جانب آخر نجد الشيوعي السوداني كخط موازي لأتباع المرشد و الختم و الامام القابعين في سياجاتهم الدوغمائية كذلك نجد الشيوعي السوداني في فلسفته القطعية و قد أورثته الحتميات و الوثوقيات لعقل يسوق لنهايات متوهمة كغاية لاهوتية للماركسية و المضحك في زمن الشك و النقد.
taheromer86@yahoo.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الوثیقة الدستوریة الفکر الإقتصادی النخب السودانیة فی المجتمعات فی السودان ماکس فیبر نجد أن
إقرأ أيضاً:
مفتي الجمهورية: الفقر والجهل والمرض ثلاثية خطيرة تُغذي الفكر المتطرف
ألقى الدكتور نظير عياد، مفتي الجمهورية ورئيس الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم، محاضرة بعنوان "التطرف وأثره على المجتمع"، بجامعة عين شمس، ضمن ندوة تثقيفية أقامتها الجامعة بحضور نخبة من القيادات الأكاديمية والطلابية.
وقد استقبل الدكتور محمد ضياء زين العابدين، رئيس جامعة عين شمس، فضيلة المفتي بكل حفاوة وتقدير، مشيرًا إلى دَور دار الإفتاء المصرية في تعزيز القيم الإنسانية ونشر الوعي الديني الوسطي. وأكد رئيس الجامعة أن الحوار هو السبيل الأمثل للقضاء على التطرف، وأن التعاون بين المؤسسات الدينية والأكاديمية ضروري لفهم هذه الظاهرة والتصدي لها.
صرَّح الدكتور نظير عياد، مفتي الجمهورية ورئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، بأن الحديث عن التطرف ليس من باب الرفاهية، بل هو من الأمور التي ينبغي أن تسير عليها المؤسسات، خاصة في ظل مواجهة المؤسسات الدينية باتهامات باطلة تربطها بالإرهاب.
وأضاف أن التطرف ليس مقتصرًا على الدين فقط، بل هو مجاوزة الحد في الفكر، سواء كان ذلك بالتشدد أو بالتحرر المبالغ فيه، حيث يدعو البعض إلى تمييع الدين واجتزاء النصوص، موضحا أن الغلو في التمسك بأمور خارجة عن المألوف يُعَدُّ من أشكال التطرف التي يجب التحذير منها.
وأضاف المفتي أنه عندما نتحدَّث عن التطرف يجب التفرقة بين الدين نفسه وبين أتباعه، فالحكم على الدين من خلال تصرفات المنتسبين إليه ظلم بيِّن، موضحا أن الدين جاء لتحقيق مجموعة من المقاصد، وإذا تمَّ الاعتداء على هذه المقاصد يكون ذلك تطرفًا فكريًّا واضحًا. فالمقاصد الكلية للدين إذا غابت، أدى ذلك إلى فساد الدنيا والدين معًا.
وأشار المفتي إلى أن هناك بعضَ أصحاب الأجندات المختلفة الذين يسعون إلى تشويه صورة الدين وتقليل قيمة العقل والاستهانة بالدماء، مؤكدًا أنَّ الدين في جوهره رسالة إصلاحية تحقِّق الصلاح في الدنيا والفلاح في الآخرة، وتضع إطارًا للعلاقة بين الإنسان وربه، وأضاف أن هذا الدين العظيم لم يترك حتى العلاقات الإنسانية دون ضوابط دقيقة تنظِّمه، بل وضع أطرًا للتعامل مع الجميع.
وأكَّد المفتي أنه من الخطأ الكبير إلصاق التشدد بالدين، موضحًا أن أسباب التطرف بعيدة كل البُعد عن جوهر الدين. وأوضح أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم بُعث بالحنيفية السَّمحة التي تراعي حقوق الله والكون والبلاد والعباد دون إفراط أو تفريط، معربا عن شُكره للمؤسسات التربوية والجامعات التي تهتمُّ بمثل هذه القضايا المهمة، لأن هذه المؤسسات تعدُّ من أهم الأماكن التي ينبغي أن تُعنى بتشكيل وعي الأجيال لمواجهة التطرف.
وأردف المفتي أن التطرف ليس ظاهرة حديثة، بل هو نتاج تراكمات اجتماعية وثقافية وتربوية وسياسية واقتصادية. قد تكون هناك أسباب دينية، لكنها ليست الأكثر تأثيرًا في نشأة التطرف وانتشاره. لذا، فإن مواجهة هذه الظاهرة تتطلَّب تكاتف جميع المؤسسات للعمل وَفْقَ رؤية واضحة وشاملة، وأكَّد أن الدين هو طوق النجاة للأمم، حيث نجد أنَّ الحضارات التي ازدهرت ماديًّا شهدت في الوقت نفسه انحدارًا أخلاقيًّا وسلوكيًّا، وهو ما يعكس أهمية الحفاظ على القيم الدينية والأخلاقية.
كما أشار المفتي إلى أن الله أيَّد الخلق بوحيين: الوحي المنظور وهو العالم الخارجي الذي نراه ونتأمله، والوحي المسطور وهو الكتاب السماوي. وبيَّن فضيلته أن هناك جوانب يتشابك فيها العلم مع الدين وجوانب أخرى تستقل كل منهما عن الآخر، وهذا يعكس التكامل بينهما لا التعارض.
وأكَّد أن الإنسان يجب أن يُترك للبحث دون قيود، ولكن في إطار أخلاقيات البحث العلمي حتى لا نصل إلى مرحلة "نشتري الموت بأيدينا".
وشدَّد المفتي على أن الإنسان قد غزا الفضاء، واستولى على البر والبحر، وحقَّق إنجازاتٍ عظيمةً ورفاهية غير مسبوقة، لكنه يبقى عاجزًا أمام سرِّ وجوده في الحياة الدنيا. وأشار إلى أنَّ العلم رغم تقدماته لا يمكنه تفسير كل شيء، وأن هذا يؤكد محدودية العلم، مضيفا أن {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] هي حقيقة علمية تؤكِّد أن الإنسان لا يستطيع إدراك كل ما يتعلق بالوجود.
وتابع قائلًا: إنه عندما يُقحم العقل في أمور ليست من مجاله، فإن ذلك يؤدِّي إلى الغلوِّ والتطرُّف. لذلك، يجب أن تسلط المناهج التربوية الضوءَ على محاسن الدين، الذي بدأ مع خلق الإنسان تحت شرائع مختلفة تدعو للتعايش والتسامح والتراحم. وأوضح أن الرسالات السماوية جاءت بالوصايا العشر التي يجب أن تكون جزءًا أصيلًا في المناهج التعليمية.
وأضاف فضيلةُ المفتي أنه على الرغم من وصولنا إلى القرن الواحد والعشرين، ما زلنا نواجه مشكلة الثأر، رغم أن أطراف النزاع قد يكونون من ذوي العلم والوجاهة. وقال إن العقلية التي تقول: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23] ما زالت سائدة في بعض البيئات التي تُحكم بالعادات أو الفهم الخاطئ لثقافة معينة، مما قد يُنتج تطرفًا فكريًّا.
مما يؤكد على دَور المورثات الخاطئة أيضًا في تفشي ظواهر التطرف لدى المجتمع.
كما أشار إلى أنَّ الصحبة لها تأثير كبير في تكوين الفكر، حيث إنَّ الكثير من العائدين من الجماعات الإرهابية أشاروا إلى أن الصاحب والصديق كانا البوابة الأولى للتطرف. لذلك، شدد المفتي على ضرورة تحري الصاحب الصالح الذي يأخذ بيد صاحبه إلى الحق والثبات عليه.
وفي حديثه عن العوامل التي تؤدي إلى التطرف، ذكر المفتي أن الفقر والجهل والمرض هي ثلاثة أضلاع خطيرة تهدد المجتمع، حيث إن الكثير ممن انضموا إلى الجماعات المتطرفة كانوا ضحية للفقر المدقع والجهل.
وأضاف أن الإعلام قد يكون أداة بناء أو هدم، حيث يمكن أن يُسهم في نشر القيم السلبية من خلال الترويج لمسلسلات وأفلام تدعو للمثلية والانحلال الأخلاقي.
كما أكد على ضرورة مواجهة الفكر بالفكر والآلة بالآلة، واستخدام المحتوى الإعلامي والتربوي لنشر القيم الصحيحة.
وأضاف أنَّ المؤسسات التعليمية والإعلامية ومنصات التواصل الاجتماعي يجب أن تتكاتف للتصدي للألعاب الإلكترونية التي تدعو للعنف والقتل وللحدِّ من تصدير الفكر المتطرف. وأشار إلى أن بعض القضايا قد تكون بسيطة، لكن بعض وسائل الإعلام قد تعمَّد إلى تضخيمها لتحقيق "الترند"، دون مراعاة للمآلات والآثار والنتائج؛ مما يستوجب من الإعلاميين تحرِّي المسؤولية في نشر الأخبار.
وتوجَّه المفتي للإعلاميين قائلًا: أنتم على ثغر خطير من ثغور الدين والوطن، فاتقوا الله فيما وضعكم فيه.
وفي ختام كلمته، أشار المفتي إلى أن الغلو والتشدد يؤديان إلى تضييق الحياة على الناس من خلال التكفير والتفسيق، مما يعطي مبررًا للتخريب بدلًا من الإعمار. وأكد أن العلم مفتاح التطور، ويجب الانفتاح على مختلف مجالاته، بما فيها علم الفلك، للاستفادة من أدواته لتحقيق التقدم والرقي.
وفي ختام الندوة تقدَّم رئيس الجامعة بالشكر له مهديًا إليه درع الجامعة في لفتة تقدير وامتنان لما يبذله فضيلة المفتي من جهود لنشر الوعي والفكر الوسطي.