سودانايل:
2025-01-29@09:01:21 GMT

الفكر الليبرالي و الإنقسام الوشيك لحزب الأمة

تاريخ النشر: 6th, June 2024 GMT

طاهر عمر

من الملاحظ عندنا أن النخب السودانية تحتاج أن تتصالح مع الفكر الليبرالي و تطور مفاهيمه و هذا التصالح يحتاج لمراجعة مهمة تتجاوز الأحكام المسبقة على الحضارة الغربية و مراجعة العداء الدائم لها و أنها عدو دائم لا ينبغي مهادنته. التعاطي للعداء الدائم للحضارة الغربية نجده يمثل نتاج أزمة حضارة عربية اسلامية تقليدية يجسدها أتباع أحزاب اللجؤ الى الغيب أي أتباع أحزاب الطائفية و أتباع حزب المرشد و أتباع الختم و كذلك أتباع الماركسية الرسولية التي تعكس وجه النسخة المتخشبة من الشيوعية السودانية.



و تحدث عن العداء الدائم للحضارة الغربية عالم الإجتماع الفلسطيني هشام شرابي في كتابه المثقفون العرب و الغرب محاولا معالجة أزمة المثقفين العرب في علاقتهم مع الغرب و في نفس الوقت محاولا فتح نافذة بسعة حلم يسوق نحو التحرر و تجعل من الحرية مطلب يسوق للإنتصار للفرد و العقل و الحرية و لا تكون الحرية في ظل مجتمع يخضع أتباعه لأحزاب اللجؤ للغيب أي أحزاب الخطاب الديني السوداني أو أتباع الأيديولوجيات المتحجرة كما هو سائد في نسخة شيوعية سودانية محنطة. و بالتالي مسألة الإنفتاح على الفكر الليبرالي مسألة مهمة جدا لأنها القادرة على فتح طريق جديد يربط مجتمعنا بالحداثة و فكر عقل الأنوار.

منذ عام 1967 إنتبه هشام شرابي للتحول الهائل في المفاهيم فيما يتعلق بالمسؤولية الإجتماعية نحو الفرد و كذلك مفهوم و معنى الدولة الحديثة و مسألة ممارسة السلطة في مجتمعات ما بعد الثورة الصناعية و الجيد أن هشام شرابي مهتم بتاريخ الحضارة الغربية إبتداء من 1870 و هو يعتبر مرحلة مفصلية منها قد بداءت نهاية فلسفة التاريخ التقليدية و كذلك بداء ت نهاية الليبرالية التقليدية و أمتدت هذه الحقبة لما يقارب الستة عقود حتى ظهرت أشعة فلسفة التاريخ الحديثة مع إندلاع الكساد الإقتصادي العظيم.

و كل جهود هشام شرابي الفكرية تقول أنه ملم بفلسفة التاريخ الحديثة و إلا لما أكد على أن أتباع النسخة الشيوعية المتخشبة و أتباع أحزاب اللجؤ الى الغيب لا يرجى من جهودهم تحول في مستويات الوعي التي تسمح بإنفتاح المجتمع نحو فكر الحداثة و عقل الأنوار و بالتالي تسمح للمجتمع بالتحرر من قيوده.

و تحدث هشام شرابي عن جبن أتباع اليسار في العالم العربي و عدم شجاعتهم التي نجدها قد تجسدت في تواطؤهم مع الخطاب الديني و عندنا في السودان نجد جبن أتباع اليسار و تواطؤهم مع الخطاب الديني قد تجسدت في محاولات عبد الخالق محجوب و بحثه لدور للدين في السياسة في وقت نجد هشام شرابي في نفس زمن تواطؤ عبد الخالق مع الخطاب الديني نجد هشام شرابي يقول أن الخطاب الديني هو الحاضنة التي تفقس سلطة الأب و ميراث التسلط و التواطؤ مع فكرها كما فعل عبد الخالق و تبعه محمد ابراهيم نقد في حوار حول الدولة المدنية و خرج بعلمانية محابية للأديان تضعهما في قائمة مجسدئ الأبوية المستحدثة في السودان.

و تحت ظلال الأبوية المستحدثة و هي متصالحة مع الخطاب الديني نجد الترقيع و التوفيق الكاذب للنخب السودانية و تحت ظلالها نجدهم يشتركون في تخليد فكر الامام الصادق المهدي كما فعل الحاج وراق و كمال الجزولي و الصادق المهدي أقرب لرجل الدين من رجل السياسة. و تحت ظلال الأبوية المستحدثة التي يتحدث عنها هشام شرابي ينكشف خطاء مؤالفة النور حمد بين العلمانية و الدين و كذلك مؤالفته بين الشيوعية و الفكر الليبرالي كما كتب في كتاب هل يمكن تجديد الحزب الشيوعي السوداني؟ و ما لم يفهم المثقف السوداني معنى الأبوية المستحدثة سيظل قبولهم للكيزان مصيدة قاتلة يجسدها تصديقهم أن عبد الوهاب الأفندي قد نقد تجربة الحركة الإسلامية السودانية و بعد إنقلاب البرهان رجع الأفندي كوز كامل الدسم ليصبح مجسد الأبوية المستحدثة بمعناها الذي تحدث عنه هشام شرابي و لم يفهمه أغلبية النخب السودانية.

لكي نوضح هذه النقطة وجب أن نقول الخلاص من الخنوع لأحزاب اللجؤ الى الغيب و الشيوعية السودانية المتكلسة لا يكون بغير معرفة أن الفكر الليبرالي قد أصبح بديل للفكر الديني و فيه أن النظم الديمقراطية ليست نظم حكم فحسب بل فلسفة لترسيخ فكرة العيش المشترك على أسس العدالة التي لا تتحقق في ظل خطاب ديني لأن في ظل الخطاب الديني ينعدم الحديث عن التسامح الذي لا يكون إلا تحت نظام يفصل الدين عن الدولة و يجعل الفرد قادر على التسامح كما تحدث عنه جون لوك في كتابه رسالة في التسامح.

الغريب أن أغلب النخب السودانية تظن أن خطاب الامام و المرشد و الختم يمكنه أن يكون مدخل للتسامح و هذا سببه لأن المثقف التقليدي السوداني قابع تحت ظلال الأبوية المستحدثة و لا يستطيع التفكير إلا و هو غائص في وحل الفكر الديني و لم يخطر بباله أن الديمقراطية و مفهوم الدولة الحديثة في أبسط صورهما هما عقلنة الفكر و علمنة المجتمع و لهذا السبب سنقول للنخب التقليدية ينتظركم إنقلاب زمان تفاجئكم فيه أفكار الحداثة قائلة أن ما بحوزتكم من عملة تشبه عملة أهل الكهف و لم تشتري من سوق الحداثة و عقل الأنوار شئ.

و عليه قبول المثقف التقليدي السوداني بوجود حزب الامام و حزب الختم و حزب الكيزان علامة على سطوة الأبوية المستحدثة على النخب السودانية و في ظلها لا يحدث تحول ديمقراطي على الإطلاق و لا يكون غير إدمان الفشل و ربما تكون حرب البرهان و صنيعته حميدتي فاتحة لأبواب الجحيم لحروب لا تنتهي إلا بتحول هائل في المفاهيم و كما إختفت إمبراطوريات في أوروبا بسبب الحروب ستختفي بسبب الحروب في السودان أحزاب أتباع المرشد و أتباع الامام و أتباع الختم و تأتي أجيال من جهة المستقبل البعيد تدرك بأن عصرنا هو عصر الحداثة و عصر عقل الأنوار.

و يبداء بعده تأسيس مجتمع يؤمن أفراده بفكرة العيش المشترك و قاعدتها المشاعر الأخلاقية التي تفيض بمجد العقلانية و إبداع العقل البشري معلنة نهاية الفكر الديني و لا يقبل الدين إلا على مستوى الشأن الفردي أما صراع الفرد مع مجتمعه سيكون وفقا لفكر أبسط قواعده إبعاد الفكر الديني لأننا في زمن لم يعد فيه الدين قادر على لعب دور بنيوي على صعد السياسة و الإجتماع و الإقتصاد لأننا في زمن زوال سحر العالم كما تحدث عنه ماكس فيبر عن نهاية الإيمان التقليدي و هو علامة أحزابنا السودانية بماركة امام و مرشد و ختم.

بالمناسبة الحديث في الأيام الفائتة عن أنقسام وشيك في صفوف حزب الأمة يمكن تفسيره بأنه محاولة من أتباع الامام الجناح الأقرب للخطاب الديني بأن يحافظ على نواة الحزب الدينية و أفكار الخطاب الديني و الايمان التقليدي ظنا منهم بأن تقدم بقيادة حمدوك تسير بإتجاه تأسيس دولة علمانية و بالتالي يجب مقاومة علمانية الدولة و لا يكون ذلك بغير إنشقاق في حزب الأمة و يكون جناح ديني مخلدا لفكر الامام الصادق المهدي الذي كان أكبر حاجز صد لتطور الفكر العلماني في السودان بل كان يصف كل من ينادي بالعلمانية و فكرها في السودان بأنه دهري.

و سينادي أتباع الجناح الديني المنشق من حزب الأمة بفكرة المصالحة مع تيار الإسلام السياسي و غيرها من الحيل كما كان يجيدها الامام الصادق المهدي في محاولاته على نشر فكر الاحياء الديني و فكر الصحوة الإسلامية و أهل القبلة و سيكون إنقسام حزب الأمة بداية مبتداء الأوجاع و هي اللا إستقرار بسبب ضعف فكر الأحزاب الدينية و لا يستطيع أن يتنازل عن فكره الديني و بالتالي سيستمر زمن إحتضار الأحزاب الدينية زمن طويل بطول الحروب في السودان و فاتحتها حرب البرهان و صنيعته الدعم السريع.

لسؤ حظ الشعب السوداني لم تظهر في الأفق ظلال شخصية تاريخية و هي القادرة على أن تقول للشعب السوداني أن الإنسانية التاريخية لا تسمح لنا بالدخول في مجرى التاريخ و السبب فكر أحزابنا الدينية و ايماننا التقليدي و مثقفنا التقليدي و مؤرخنا التقليدي و كل المؤشرات تقول بأن السودان ينتظره زمن كزمن أوروبا بين الحربين العالمتين بعد نهايتهما بعد عقدين إختفت النازية و الفاشية و أيقنت أوروبا من نمط الإنتاج الرأسمالي و أكد على ذلك إختفاء الشيوعية من مجرى التاريخ كأنها لم تكن بعد أربعة عقود من نهاية الحرب العالمية الثانية و كذلك نحن في السودان سنحتاج لزمن طويل زمن العرق و الأوجاع و الدموع و الحروب و بعدها ستنتهي أحزاب الطائفية كما إختفت النازية و الفاشية و الشيوعية و حينها لم تجد من يتحدث عن أسرة المهدي إلا إذا وجدت من يتحدث عن أسرة بسمارك.

لماذا أكدت على أننا نحتاج لزمن طويل حتى ينجلي غبار المعركة و قلت أن السودان ينتظره زمن بطول زمن ما بين الحربين العالمتين. المثل الأول نضربه بتفاؤل هشام شرابي قبل منتصف السبعينيات قال بأن ساعة التحول الهائل في المفاهيم في العالم العربي قد أزفت إلا أنه تراجع و أدرك أن هناك أزمة حضارية للحضارة العربية الإسلامية التقليدية و من أعراضها الأزمة السياسية و بداء يقدم أفكاره في كيفية تجاوزها و للأسف بعد فشل جمال عبد الناصر في ترسيخ قيم الجمهورية ورثت حشوده التيارات الإسلامية و كانوا كقطيع الخنازير المندفع بإتجاه الهاوية كما قال السيد المسيح و المكذب فيتأمل في حال السودان بعد سيطرة الكيزان و تسلطهم على مدى ثلاثة عقود.

و التجربة الثاني كمثال ثاني نقدم محاولة ريموند أرون و هو يحاول على مدى نصف قرن على تقديم فلسفة تاريخ حديثة و قد شاهد تنامي النازية في المانيا و هو الفرنسي المعجب بعلم اجتماع ماكس فيبر أحتاج فكره لثلاثة عقود حتى إنتصر لتوكفيل بعد إثبات أن ماركسية ماركس لا تجذب غير المثقف المنخدع و بعدها لم تعد فرنسا ماركسية بل توكفيلية و قد إنتصر على فلاسفة ما بعد الحداثة أمثال ميشيل فوكو و جاك دريدا و جاك لاكان و كان فلاسفة ما بعد الحداثة يساون بين النظم الشمولية و النظم الليبرالية بأنها لم تحقق ما يحدق بإتجاهه الإنسان أما ريموند أرون فقد كان يؤكد لميشيل فوكو بأن قدر الإنسان بأن تصبح السياسة هي الشرط الإنساني و بالتالي لا مكان للوثوقيات و الحتميات كما عند ماركس و أوجست كونت.

و يوضح ريموند أرون لميشيل فوكو بأن الابستيمولوجيا ليست كما يظن في حالة قطيعة بين عصر و عصر بل تحمل في طياتها إستمراريتها عابرة من عصر لعصر و إستدل بنظرية شومبيتر في النمو الإقتصادي و السبب بأن ميشيل فوكو كان ينتقد كتاب ريموند أرون بأن في كتاب ريموند أرون وضع منتسكيو من ضمن مؤسسي علم الإجتماع و هو في حقبة سابقة لهم و رد ريموند بأن منتسكيو كان في حقبة ميلاد الجديد من الأفكار و أن فكره يحمل في طياته ذرات علم الإجتماع في نفس اللقاء في عام 1967 كان ريموند أرون قد قدم نقد لكتاب ميشيل فوكو الكلمات و الأشياء يندر أن تجده في فضاء العالم العربي و الإسلامي التقليدي و لمن يريد المزيد فليستمع للقاء بين ميشيل فوكو و ريموند أرون و كان ذلك عام 1967

و بعدها أثبتت الأيام صحة أفكار ريموند أرون و تراجع ميشيل فوكو عن أفكار ما بعد الحداثة و كف عن مهاجمة عقل الأنوار بعد فشل ثورة الشباب في فرنسا في عام 1968 و قد وصفها ريموند أرون بأنها ثورة وعي زائف و المضحك عندنا في السودان ما زال الشيوعي السوداني يرزح تحت نير أفكار فلاسفة ما بعد الحداثة و يتحدث كثير من المفكرين السودانيين عن كتاب ريجيس دوبريه ثورة في الثورة متناسين كتابه مذكرات برجوازي صغير و من هنا نقول للمثقف التقليدي السوداني و المؤرخ التقليدي السوداني بأن زمننا زمن عقل الأنوار فيه تنتهي القراءة الرديئة و يبتدئ فن القراءة كما هي عند إدغار موران.

taheromer86@yahoo.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: النخب السودانیة الفکر اللیبرالی ما بعد الحداثة الصادق المهدی فی السودان حزب الأمة تحت ظلال لا یکون تحدث عن فی کتاب

إقرأ أيضاً:

المثقف التائب: هشاشة الفكر المهزوم

إبراهيم برسي

٢٧ يناير ٢٠٢٥

“في كل تساؤل يكشف هشاشة الوجود، وكل فكرة تكسر أفق المألوف في سردياته، تنبثق الثقافة ككومضة ضوء في فضاء غارق في الظلام.
ليست الثقافة مجرد مسعى إنساني للبحث عن المعرفة، بل هي الوجيف الخفي الذي يرافق خطواتنا في هذا العالم الهش، الذي لا يطيق الثبات.
هي القوة التي تهز البنية، تهدم التصورات القديمة وتعيد صياغة الواقع بنظرة جديدة، تلامس الحواف المجهولة من تجربة الوجود. لكن ماذا يحدث عندما تتخاذل هذه القوة؟ عندما تنقض الثقافة على نفسها بفعل المثقف نفسه، حين يتخلى عن المبادئ التي أنشأتها ونشأت منها، ليبحث عن ملاذات بديلة تحت وطأة الخوف أو الضعف؟
هل تصبح الثقافة مجرد ظلال لروح ضائعة، تعيش في أفق غير مرئي، حيث التبعية تحتفل والمقاومة تسقط؟

الفكر هو مرآة الوجود، لكنه لا يكتفي بعكسه بل يسعى لإعادة تشكيله. والمثقف، في جوهره، ليس مجرد مفسر للواقع، بل هو المبدع الذي يحاول أن يرسم مسارًا جديدًا نحو المستقبل.
لكن السؤال يظل: ما الذي يحدث عندما يخون المثقف نفسه؟ هل يصبح الفكر مجرد ظلال تتبع أقدام صاحبه؟ أم أنه يظل نورًا يتحدى الظلام؟

في مواجهة الواقع القاسي، قد يجد المثقف نفسه في معركة بين الأمل والمقاومة، فتتحول أفكاره إلى تمزقات بين المبادئ والملاذات الزائفة. من هنا يبدأ صراع بين المثقف المبدئي، الذي يظل ثابتًا رغم العواصف، والمثقف التائب الذي يهرب من معركته ليلتجئ إلى أرض الغيبيات.
إن المثقف، حينما يتنكر لمبادئه، يصبح كالشجرة التي قطعت جذورها بإرادتها، تهيم في فضاء مفتوح بلا هوية، بلا هدف.

“الفكر لا يقف عند حدود الفهم، بل يتجاوزها إلى فعل التغيير؛ وما يربط بين المثقف ووجوده هو قدرته على التأثير في العالم من حوله، وهو اختبار حيوي لا يمكن تجاوزه.”

إن المثقف التائب أشبه بشجرة قطعت جذورها بإرادتها. بعد أن كانت تستمد قوتها من التربة الصلبة للمبدأ، تهيم في فضاء الغيبيات كغيمة خاوية، لا تستطيع أن تُنزل المطر ولا أن تستقر في مكان معين. نرى هذا التراجع جليًا في تحولات بعض المثقفين، سواء كانوا عربًا أو عالميين، الذين انطلقوا من مشاريع تنويرية وعقلانية ثم، بفعل الضغوط أو الإغراءات أو الإحباط، عادوا إلى أحضان الدين أو خطاب الغيبيات. يقول جان بول سارتر، الذي رفض في نهاية حياته نداءات الكنيسة ليتوب عن إلحاده: “لا يمكننا أن نكون نصف أحياء ونصف موتى. الفكرة، مثل الكائن الحي، تموت حينما نتخلى عنها.”

المثقف التائب يخون الفكرة، لكنه يبرر خيانته بحجج “روحية” أو “اجتماعية”. هنا نجد أمثلة واضحة: أنور الجندي، الذي بدأ مشروعه ككاتب حداثي، ثم انقلب مدافعًا عن “التراث” ضد التنوير، يشبه شخصًا هجر معركة في منتصفها ليصبح جنديًا في صفوف العدو. هذه الخيانة لا تحدث علنًا، بل تُقدَّم كمصالحة مع الذات أو اكتشاف لـ”الحقيقة”. التوبة الفكرية، في الكثير من الحالات، ليست سوى ستار يغطي به المثقف عجزه عن مواجهة الواقع القاسي الذي يرفض أن يتغير.

وعلى النقيض، المثقف المبدئي هو من يظل ثابتًا رغم العواصف. هو مثل ماركس الذي قال: “الفلاسفة اكتفوا بتفسير العالم، بينما المطلوب تغييره.” هذا المثقف لا يرى المبادئ كرفاهية أو زينة شخصية، بل كجزء لا يتجزأ من كيانه. إن فرج فودة، الذي قُتل بسبب دفاعه عن العلمانية، وعبد الخالق محجوب، الذي رفض المساومة على العدالة الاجتماعية حتى الموت، هما مثالان على الثبات الفكري الذي لا يتزعزع. المثقف المبدئي هو من يعيش أفكاره حتى النهاية، مهما كان الثمن.

علم النفس الاشتراكي يفسر هذا الصراع بين التوبة والمبدأ في ضوء نظرية الاغتراب التي تحدث عنها إريك فروم. فروم يرى أن المثقف الذي يتخلى عن مشروعه العقلاني يعود إلى الدين أو الغيبيات لأنه يشعر بالاغتراب عن العالم الذي لم يستطع تغييره. هذا الاغتراب يثير في نفسه إحساسًا بالفراغ الروحي، فيسعى إلى ملء هذا الفراغ بطمأنينة زائفة تأتيه من الدين أو الموروثات غير العقلانية. هذه الطمأنينة، رغم أنها تمنحه راحة مؤقتة، إلا أنها في النهاية تقتل الفكرة التي كان يحملها يومًا ما، وتبعده عن مواجهة الواقع.

المثقف التائب يشبه سفينة فقدت بوصلتها، فتبحر عشوائيًا باحثة عن ميناء آمن، حتى لو كان هذا الميناء محاطًا بالصخور. بينما المثقف المبدئي هو كطائر يحلق بلا توقف، يعلم أن التحليق مؤلم ومرهق، لكنه لا يقبل السقوط.
يمكننا أن نستشهد هنا بجورج لوكاتش، الذي ظل ملتزمًا بمبادئه الاشتراكية رغم كل التحديات، وكان يقول: “الحرية ليست أن تختار بين الراحة والمعاناة، بل أن تختار طريقك رغم المعاناة.”

المفارقة العجيبة هي أن المثقف التائب غالبًا ما يجد القبول الاجتماعي سريعًا، بينما المثقف المبدئي يعيش على الهامش. المجتمع يميل دائمًا إلى احتضان من يبرر له الوضع الراهن، بينما يخشى من يطالب بالتغيير. هذا التناقض يذكرنا بكلمات نيتشه: “الحقائق التي تخدم الراحة هي أكاذيب مقنّعة.” المثقف التائب يبيع الوهم المريح، بينما المثقف المبدئي يبيع الحقيقة المزعجة.

في نهاية المطاف، المثقف ليس مجرد مفكر أو كاتب، بل هو روح قلقة تسعى وراء العدالة، الحرية، والحقيقة. إذا تخلى عن هذه الروح، فإنه يتحول إلى ظل باهت لنفسه. وهنا تظهر المفارقة الحقيقية: المثقف المبدئي قد يموت وحيدًا ومهمشًا، لكنه يظل خالدًا في أفكاره، بينما المثقف التائب قد يُحتفى به مؤقتًا، لكنه يموت مرتين: مرة عندما يخون مبدأه، ومرة أخرى عندما يُنسى.

zoolsaay@yahoo.com  

مقالات مشابهة

  • ماذا حدث بمهرجان «كومبه ميلا» الديني في الهند؟.. تدافع ومقتل العشرات
  • حزب الأمة القومي يجيز “مشروع الخلاص الوطني” لإنهاء الحرب
  • مدرب المنتخب السوداني يتحدى: «صقور الجديان» قادرون على المنافسة في أمم أفريقيا 2025
  • جوتيريش يدين بشدة الهجوم على مستشفى بإقليم دارفور السوداني
  • المثقف التائب: هشاشة الفكر المهزوم
  • رئيس أركان الجيش السوداني: وصلنا إلى نقاط فاصلة
  • بالإنشاد الديني.. مسرح 23 يوليو بالمحلة يحتفل بذكرى الإسراء والمعراج
  • مدير المخابرات السوداني يحدد موعد وشروط إنتهاء الحرب
  • وزير الخارجية السوداني لـ “المحقق”: موقف كينيا تغير وروتو لن يعترف بحكومة منفى في السودان
  • رئيس مجلس السيادة السوداني: شعبنا يصطف خلف قواته المسلحة ضد الدعم السريع