لجريدة عمان:
2024-12-22@04:03:51 GMT

ترجمة الشعر بين الخيانة واصطياد المعاني!

تاريخ النشر: 29th, May 2024 GMT

ترجمة الشعر بين الخيانة واصطياد المعاني!

يشيع في أوساط المثقفين أن ترجمة «الشعر» صعبة، لأنه يعتمد غالبا على ألعاب اللغة والتراكيب والمجاز والمعاني المتعددة، فما حقيقة ذلك؟ كيف يتعامل المترجمون معه؟ وما وجهة نظرهم في صعوبة أو استحالة التعامل معه؟ وهل من المفترض ترجمته بشكله وموسيقاه؟ أم أن المترجم بإمكانه أن ينقله برؤيته؟ وهل يُعتبرُ في تلك الحالة خائنا للنص الأصلي؟ في هذا التحقيق نطرح كل تلك الأسئلة وغيرها على مترجمين مشهود لهم بالكفاءة فماذا قالوا؟

المترجم المصري هاني السعيد يقول إن مسألة الأصعب في الترجمة عموما تكاد تكون نسبية تماما، وقد يسري عليها كل ما يسري على القراءة، والكتابة، والتلقي، والنقد، والتأويل.

ذلك أن الترجمة تتضمن بالضرورة جانبا أو مستوى ما من كل عملية أدبية ومعرفية من هذه العمليات. فهي نوع من القراءة العميقة، وكتابة موازية أو إعادة كتابة، وضرب دقيق ومحكم من التلقي، وتأويل منضبط لا مفر منه.

ويتساءل: «هل يصح القول مثلا إن كتابة الشعر هي الأصعب»؟! ويجيب: «أعتقد أنه إذا تعاملنا مع الترجمة باعتبارها شكلاً أو حتى فرعا أصيلا حقا من الكتابة، فلن نستسيغ إطلاق مثل هذه العبارات عليها دون تفصيل وتدقيق. فمثلما يُفترض أن يعتمد اختيار الشاعر والناثر للنوع أو الأنواع الأدبية التي يكتبها على ميوله ومواهبه الفطرية وقدراته الإبداعية ومهاراته اللغوية، فعلى المترجم أيضاً أن يحاكيه في ذلك كله. هذا إذا أردنا ترجمة حقيقية صادقة نابعة من الميول الأدبية والجمالية لكل مترجم وقدراته وحسه اللغوي، وغير مدفوعة باعتبارات أخرى. عندئذ فقط، ربما لن يكون هناك مجال للحديث عن الأصعب والأسهل في الترجمة.

يستدرك هاني: «ومع ذلك تتوقف درجة الصعوبة في ترجمة الشعر على عوامل عديدة، أهمها -من وجهة نظري الشخصية ومن خلال تجربتي المحدودة- مدى بُعد القصيدة عن روح المترجم، وعدم قدرته على التفاعل معها مهما بلغت أهميتها في لغتها الأصلية. هذا إذا كان المترجم متذوقا للشعر -على الأقل - ويتمتع بما يمكن تسميته «ملكة ترجمة الشعر أصلاً».

من النماذج التي ترجمها هاني واعتبرها الأصعب، يذكر مثالين فقط لما لهما من دلالة خاصة في وجهة نظره: عدة غزليات للشاعر الأردي «مرزا أسد الله خان غالب» (1797 – 1869)، وعدة قصائد نثر للشاعرة الباكستانية «سارة شجفته» (1954 – 1984). يعلق: «صعوبة الكثير من غزليات مرزا غالبا يشهد بها قراؤه ونقاده في لغته الأصلية. وتدل عليها الشروحات العديدة لديوانه، والاختلاف فيما بينها حول تأويل وتفسير الكثير من أبياته. فضلاً عن طبيعة المفهوم الشكلي للغزل في اللغة الأردية، وافتقاده للوحدة العضوية في أغلب الأحيان، ومن ثم صعوبة محاكاته في العربية إلا بقدر كبير من التصرف.. أما قصائد نثر سارة شجفته، فلإغراق أغلبها في التجريد، وإفراطها في الاعتماد على التداعي الحر، وربما لروحها المتنافرة العصية على الاقتناص».

تعريف عجيب

أما المترجم العماني محمد الصارمي فيرى أن الصعوبة في ترجمة الشعر حاضرة دائما، وهناك من قال باستحالة ترجمة الشعر كلياً بل وحرمها، منهم الجاحظ في كتابه «الحيوان» حيث قال إن «الشعر لا يستطاع أن يترجم، ولا يجوز عليه النقل» وللشاعر الأمريكي روبرت فروست تعريف عجيب للشعر يوحي بهذا الأمر فهو يعرف الشعر على أنه: «المفقود بالترجمة».

ويحكي: «أذكر أني في أيام الدراسة الجامعية حضرت لأستاذ زائر محاضرةً كان يناقش فيها هذا الموضوع ويومها وجَّهتُ إليه سؤالاً: من يحدد هذه الاستحالة في ترجمة الشعر أو ترجمة نص معين؟ ولكني لا أتذكر جوابه، ربما لأن جوابه لم يكن شافيا. الجواب على السؤال في اعتقادي غير ثابت، نظرا لأن الترجمة عمل إبداعي لا تحده قوانين أو نظريات بل إن النظريات تكون لاحقة وتابعة للعمل الإبداعي وليس العكس، والنص الذي لا يمكن ترجمته اليوم أو هنا، قد يُترجم غدا أو هناك، وما يحدد هذا الأمر هو طبيعة النص المترجم، والأهم كفاءة المترجم وما يُتاح بين يديه من ملكات وأدوات إبداعية شخصية وتجارب خاصة وهذه التجارب والأدوات والملكات تمكنه من أن يقول لمن سبقه أحطت بما لا تحط به وجئتك من إبداعي بترجمة مبينة».

ويتحدث الصارمي في نقطة جديدة حول فكرة خيانة النص الأصلي ومتى تكون الترجمة أمينة أو ناجحة: «من القضايا التي لا يمكن فصلها عن ترجمة الشعر قضية الهدف من الترجمة. لماذا نترجم هذه القصيدة؟ هل الترجمة تتم لأغراض بحثية مثلاً؟ لدراسة ظاهرة معينة في أدب ما أو ظاهرة معينة في شعر شاعر من الشعراء؟ وبالتالي تلتزم حرفيا بنقل الكلمات، ويمكن نقل القصيدة نثرا، أم أن الهدف إغناء الأدب المنقول إليه؟ أم هو التعريف بالشاعر المترجم له؟ أم غيرها من الأهداف؟ النص الشعري كائن لغوي حي، وهذا الكائن هو الذي علينا نقله «حيا» إلى لغة أخرى وتكييف حياته مع الخصائص اللغوية للبيئة الجديدة التي سيعيش فيها. أعتقد أن الإخلاص لشاعر القصيدة الأصلية لا يكون بالمحافظة على المعاني القاموسية لقصيدته بل إن ذلك خيانة للشعر والشاعر، والخيانة الحقيقية هنا تتجسَّد في نقلي قصيدته دون روح ودون وقع موسيقي وكأني أجرد وردة من عطرها وملمس بتلاتها الناعم وأحوِّلها إلى وردة بلاستيكية، والأدهى أن أفكك بتلاتها فلا هي بعطرها ولا هي بشكلها».

الصارمي يرى أن الشعر له خصوصيته عن باقي النصوص، فهو ليس مجرد كلمات، بل يحتوي على وقع داخلي وجرس موسيقي، بالإضافة إلى شلال مشاعر يتدفق من الألفاظ طابع شعوري يكتنف النص ويخلق في المتلقي تأثيراً معيناً، وبالتالي فإن النجاح الذي ننشده في ترجمة الشعر هو أن يكون المترجم قادرا على إعادة خلق ذاك التأثير في جمهور اللغة التي ينقل إليها، وأن يكون قادراً أن يولِّد ذاك التأثير في المتلقي الجديد للنص في الضفة الأخرى.

ويضيف: «ترجمة الشعر ربما تكون من أصعب أنواع الترجمة، وأنا لا أترجم الشعر والأدب عموما إلا إلى لغتي الأم وهي اللغة العربية، لاعتبارات عدة أهمها أن المبادرة لترجمة الأدب خصوصاً ينبغي أن تأتي من الضفة الأخرى، أعني من اللغة المنقول إليها، لأن هذه الضفة أدرى بما يتناسب مع ذائقة جمهورها وأدرى بالنص الذي سيلاقي نجاحا عندها. هذا جانب، الجانب الآخر أرى أن التمكن من اللغة المنقول إليها مهم جداً في ترجمة الأدب لما يشتمل عليه الأدب عادة من إحالات ثقافية ولغة رفيعة تركيبا وتصويرا وإذا لم تكن اللغة التي تنقل إليها هي لغتك الأم فإن مقدار الضائع في الترجمة سيكون مرتفعا، حسب رأيي».

الصارمي يرى أن ترجمة القصيدة تكون رحلة عبور من ضفة إلى أخرى، وهي تكون عنده وفق خطوات، أولا: التجول في ضفة اللغة المصدر، المنقول منها، فهذه الضفة تكون مليئة بالزهور الجميلة، فينتقي القصيدة التي يحب والتي تقع في نفسه موقعًا خاصًا، فلا يترجم إلا ما ينتقيه بنفسه وما يحبه دون أن يُفرضُ عليه نص معين، وهذا في ظنه أكثر مدعاة للنجاة وللنجاح في العبور السلس بتلك القصيدة عبر جسر الترجمة وغرسها في لغة الضفة المقابلة لتنمو فيها ويفوح عبيرها بين متحدثي تلك اللغة.

ثانيًا: بعد الانتقاء يعيد قراءة القصيدة أكثر من مرة حتى يتشرَّب ما فيها من جماليات ويعيش معها ويستوعبها في داخله شعوريًا، ثالثًا: يقترب من الشاعر ويقرأ له أكثر من قصيدة ويقرأ عنه ومرجعياته الثقافية والتاريخية والفكرية ومنحاه الأدبي ومنهجه في الكتابة وأسلوبه، رابعًا: يبدأ في الترجمة الحرفية لمفردات القصيدة والمعاني القاموسية للكلمات الواردة فيها بما يضمن النقل الدقيق، كما يبحث في هذه المرحلة عن أي تحليلات كُتبت عن القصيدة أو قراءات نقدية حولها وما قيل عن ضلال المعاني فيها والمسكوت عنه فيها والمخفي بين سطور أبياتها.

خامساً: يترك النص الأصلي جانبًا، ويبدأ رحلة الغوص بين ثنايا الترجمة الحرفية تلك ومعاني القصيدة بحيث يعيش مع القصيدة ويدخل في أجوائها، سادسًا: يبدأ في كتابة نص شعري موازٍ للقصيدة الأصلية وبحكم ملكته الشعرية ومعرفته بعلم العروض العربي وبحوره وأوزانه وقوافي الشعر، يشرع في كتابة قصيدة مترجمة منطلقًا من الترجمة الحرفية لتلك القصيدة، ومتقمصًا للحالة الشعورية السائدة بها.

يعلق: «ترجمة الشعر عندي هي خلق لنص جديد في اللغة المترجم إليها، نص يكون قائمًا بذاته نابتًا في تربة اللغة الهدف ومتغذيًا على ما في تلك التربة من قواعد نحويًا وصرفيًا وبلاغيًا وموسيقيًا ووقعًا داخليًا. ولا بد من التسليم أن ترجمة الشعر منطوية دائما على تضييع وفقد، حتى لو كانت ترجمة نثرية وحرفية دقيقة، فهذه الحرفية في حد ذاتها هي خيانة وتضييع لروح الشعر. وأرى أنه علينا أن ننظر إلى الترجمة بمنظور أعمق من مجرد عملية نقل لمفردات وتراكيب من لغة إلى أخرى، فهي عملية إبداعية

مكتملة الأركان وموازية للأعمال الإبداعية والفنون اللغوية الأخرى، فكما أنَّ هناك فنًا اسمه الشعر، وفنًا يسمى الرواية، والقصة، فليكن هناك فن اسمه الترجمة، يتمايز فيه المترجمون ويختلفون، وما إن ينتهي المترجم من ترجمته يقدم عمله الإبداعي ذلك للجمهور ونترك الحكم في نجاحه وقياس تمايزه على الزمن وعلى المتلقي، أما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض».

خصوصية القصيدة

وبدوره يرى الشاعر والمترجم المصري أحمد يماني أن صعوبة ترجمة الشعر تأتي أساسًا من خصوصية الكتابة الشعرية نفسها ومما يكون للشعر، ما لا يكون لغيره، من تركيب نحوي مختلف، ومن استخدام موسَّع للموارد البلاغية كالتقديم والتأخير والإيجاز والإيحاء، إضافة إلى الإحالات الثقافية والتي يمكن حلُّها، في بعض الأحيان، بشكل ما، عن طريق الهوامش، حيث لا بد من شرح بعض المفاهيم والسياقات الثقافية.

على أن من يتبنون فكرة استحالة ترجمة الشعر، والكلام ليماني، يرجعون الأمر إلى أن الشعر عمل لغوي بالأساس ومن ثم لا يمكن أن يوجد إلا في لغته الأصلية، وأنه يصير غريبا تمامًا ومشوها خارج لغته.

ويتساءل: «لكن لماذا الاستمرار في ترجمة الشعر إذن؟»، ويجيب: «لأن هناك من يرون بإمكانية الترجمة، وأن المعنى يمكن نقله، الصورة كذلك، روح القصيدة، وأما ما لا يمكن نقله ويضيع بالضرورة في الترجمة فهو اللغة نفسها، وهذا أمر بديهي، لكن من الممكن محاولة خلق لغة معادلة للغة الشاعر الأصلية، فلا يمكن وضع اللغة نفسها لشاعر كلاسيكي وشاعر معاصر، ولا لشاعر يبحث عن التجديد في مقابل شاعر يميل إلى لغة أقدم، إضافة إلى خصوصية كل بلد في التعامل مع لغة الشعر، وهو أمر نجده في العربية وفي الإسبانية على سبيل المثال. أذكر أنني عملت لفترة على ترجمة عدد من قصائد الشعر التشيلي إلى العربية، وهو البلد الحافل بكبار الشعراء والشاعرات، وقد أهدتني حينها صديقة شاعرة تشيلية قاموسًا للغة الإسبانية التشيلية، قاموسًا داخل اللغة نفسها لفك شفرات الخصوصية اللغوية لأحد البلدان الناطقة بالإسبانية. إذن الصعوبات متعددة. لكنني ممن يؤمنون بترجمة الشعر، وعليَّ أن أقر أيضًا بأن نجاح الترجمة يختلف من قصيدة إلى أخرى، ومن صوت شعري إلى آخر، ويبقى التوفيق في الترجمة مرتبطًا بلحظة من لحظات الإبداع نفسه، مثلما يحدث في الكتابة الشعرية ذاتها».

أسباب وظروف

أما المترجم الأردني من أصول فلسطينية تحسين الخطيب فيبدأ كلامه بالتأكيد على أن ترجمةَ الشعر ليست صعبة، ولكنها ليست سهلةً أبدًا. ويقول: «كل شيء يتوقف على «مَن» يصنع الترجمة، وعلى «الظروف» التي تحيط بِـ«آلية»، أو«سيرورة» الصنعة، وعلى «الأسباب» الموجبة لهذه الصنعة. فمن ينطلق في الترجمة من «حالة عشق» تتلبسه تجاه عمل بعينه، غير ذلك الذي ينطلق من غاية «منفعية» صرفة! ومَن عاش طويلاً مع عمل ما، وبات يشعر وكأنه هو الذي كتب ذلك العمل، ليس كمن «يأتي» إلى النص وهو «غريب» عنه تماماً. المعايشة، معايشة العمل الشعري، والغوص في أعماق أعماقه، شرط أساسي، في نظري، لـ«نجاح» الترجمة التي «قد» تكون قادرة على خلق نص شعري «عظيم»، يعيش زمنًا طويلًا، دون أن يفقد بريقه! وهذا يذكرني بعزرا باوند، أحد أبرز رموز الحداثة الشعرية، الذي قال إن عصر الآداب العظيمة هو عصر الترجمات العظيمة»!

وأضاف: «هذه المعايشة، التي لا بُد أن تفضي، في النهاية، إلى تحقيق «درجة» معينة من «الشعرية» في الترجمة، مهمةٌ لا يصلح لها (في نظري، دائمًا، بالطبع!) إلا الشعراء. وليس، بالضرورة، أن يكون الشاعر هو ذلك الذي يكتب الشعر، وإنما ذلك الذي يقضي أوقاته في حالة شعرية دائمة. فكم من ترجمات أنجزها «شعراء» مطبوعون، كانت جافة وخالية تماماً من الشعر؟! وكم من ترجمات أنجزها مترجمون (لا نكاد نعرف أنهم شعراء!) كانت لغة ترجماتهم لغةً شفيفةً، وذات حمولة شعرية عالية، تلمس الروح، وتغور في أعماق النفس، على الفور؟! إن أصعب شيء يلاقيه مترجم الشعر (القابض على الجمر) في العالم العربي، في الوقت الراهن، هي «قلة» التقدير التي يحظى بها «الشعر المترجم» في الأوساط الثقافية، عمومًا. اُنظر، على سبيل المثال، إلى الجوائز «الكبرى» التي تُمنح للترجمة، عربيًا، لن تجد بينها أي جائزة مُنحت إلى كتاب شعر مُترجَم؟! فأصحاب الأصوات المسموعة، في تلك الأوساط، يرون أن ترجمة الشعر هي ترجمة سهلة (بمعنى أنها لا تحتاج إلى جهد كبير!) ولذلك فهي لا تحتاج، أساسًا، إلى إشادة وتقدير. وثمة من يرى (وهنا الطامة الكبرى) أن الثقافة العربية الراهنة لا تحتاج إلى الشعر المترجم، في الأصل. وثمة من يقيس المُنجَز الترجمي (وهنا طامة أكبر) انطلاقًا من «العنوان»، أو من الموضوع «البراق» في حد ذاته، أو من عدد الصفحات، فقط؛ فكلما كان الكتاب المُترجَم «أكاديميًا»، و«ضخما» (ومزدانا بالشروحات والحواشي والتعليقات) كان أجدر بالاحتفاء! في الوقت الذي نرى الغرب يحتفي بكتب شعرية مترجمة، صغيرة الحجم، بل ويمنحونها الجوائز المرموقة، عامًا بعد عام»!

حقيقة مزيفة

وعلى عكس الخطيب يرى الروائي والمترجم المصري أحمد عبد اللطيف أن «هناك أشياء يبتكرها الشعراء، ويرددها بعد ذلك الكُتَّاب والمترجمون باعتبارها حقيقةً، لكنها ليست إلا حقيقة مزيفة. من هذه الأشياء، أن الشعر يصعب كتابته، وأن الشاعر يحتاج إلى مجهود مضاعف لكتابة قصيدة مقارنة بالروائي وهو يكتب رواية. وأن الشعر يجب أن يترجمه شاعر، وأن ترجمة الشعر مستحيلة. على أرض الواقع، ويقول: «ليست هذه إلا مغالطة لتقديس الشعر والشعراء، والتقليل من الكُتاب الآخرين والمترجمين الآخرين. ببساطة، كتابة الشعر تحتاج إلى شاعر، كتابة الرواية تحتاج إلى روائي، ترجمة الأدب تحتاج إلى مترجم أدبي. فلننظر إلى ترجمة الشعر مثلاً. كان الشعر صعبًا حين كان مقفىً وموزونًا، وغاية المترجم أن ينقله هكذا، مقفىً وموزونًا. أما وقد صارت قصيدة النثر هي المسيطرة في الشعر العالمي منذ زمن، ثم باتت المهيمنة في الشعر العربي، فما الصعوبة في ترجمته بالنسبة لمترجم هو بالأساس قارئ للشاعر وقارئ للأدب وتتحقق فيه شروط المترجم من حيث الكفاءة والمهنية واللغة؟ ليست ترجمة ديوان الشعر بأصعب من ترجمة رواية، ولا ترجمة كتاب فلسفي أو فكري، ولا ترجمة كتاب علمي».

ويتابع: «هنا أتكلم بالتحديد عن مترجمين مهنتهم الترجمة، يجيدون اللغتين بالأساس، ويتمتعون بحساسية تسمح لهم بفهم النص والتفاعل معه. ترجمة الشعر، إذن، ليست صعبة، وإنما تحتاج، شأن الترجمات الأخرى، إلى مترجمين أدبيين، لا مترجمين علميين أو اقتصاديين. كما تحتاج كتابة الشعر إلى شعراء وليس إلى وزراء تربية وتعليم. أظن أن ترجمة الشعر لا تواجه صعوبة في وجود مترجمين له، وإنما في دور نشر تتحمَّس له وقارئ يقبل عليه. لأن تجارب ترجمة الشعر في العشرين عامًا الأخيرة مثيرة للشفقة، إذ اقتصرت على أسماء دور نشر قليلة جداً مقارنة بالرواية مثلاً».

من جهتها، تقول الشاعرة والمترجمة المصرية فاطمة ناعوت إن ترجمة الشعر عمل ينطوي على لون من المغامرة والجرأة. لهذا يشبهها الشاعر الأمريكي «ويليس بارنستون»، بخطيئة حواء الجسور في تذوق شجرة المعرفة. أما هي فتميلُ إلى تشبيهها بخطيئة بروميثيوس النبيلة، حين سرق شعلة النار من السماء، متحديا زيوس رب الأرباب الذي أعلن أن النور/المعرفة مُلكٌ للآلهة وحدهم، لا يجوز للبشر التمتع بها. فما كان من بروميثيوس المغامر إلا أن اغتصبَ من الشمس شعاعًا ومنحه لأهل الأرض، لينال عقابه الأبدي الأشهر، إلى آخر الأسطورة الإغريقية.

تضيف: «يوسَمُ المترجمُ دومًا بأنه الخائن، أو اللص، أو الوسيط، أو السمسار، أو المفتئت على الأصل. بل إن اللصوص فيما بينهم، أقصد المترجمين، نراهم يتهمُ بعضُهم بعضا إما بعدم الأمانة نتيجة تجنب النقل الحَرفي، أو بالركاكة نتيجة فرط الأمانة الحَرفية، وكل طرف يحكم من خلال مفهومه الخاص عن الترجمة ومن خلال مدرسته الخاصة التي تبنَّاها عبر رحلته بين الألسن. فالمترجم إذن هو ذاك المجرم الذي تطارده العدالة، ويطارده، أيضاً، المجرمون الآخرون. لكن الشاهدَ أن الترجمة هي فن الكشف. أو العصا السحرية التي تزيل الحُجُبَ عن المتلقي الأجنبي لتضعَ ثقافاتِ العالم بين أصابعه. والمترجمُ هو ذلك الفنان الذي يؤرقه ولعُ الكشف والتنقيب عن النفائس، فيبذل الجهدَ والوقتَ من أجل اكتشاف واستكشاف عمل فنان آخر، ليعيدَ خلقه في عباءة جديدة».

وتواصل شرح وجهة نظرها: «أيا ما كانت شهرة القطعة الأدبية المنقولة في موطنها الأصل، فإنها ستولد في موطن اللغة المستضيفة لها كطفلٍ يتيم مغترب بلا تاريخٍ أو مرجعية راسخة لدى قارئها الجديد. تشبه غربتُها غربةَ «دون كيخوته دى لامانتشا» الأسباني الذي وجد نفسه وقد نقله حصانُه فجأة إلى شيكاغو. فتأتي القصيدة في عباءة غموض دراماتيكية سوداء، تحمل تاريخ مجتمع بعيد بتراثه ومحملاته الثقافية، ثم يأتي فعلُ الترجمة ليلعب لُعبته فيخلق كائنًا جديدًا مميزًا ذا جيناتٍ وراثية جديدة، تحمل ملامح حضارتين متباينتين. فالترجمةُ تخلقُ طفلاً قُدِّر له أن يحيا إلى الأبد بين موطنين: الموطن الأم والموطن الجديد، إلا أنه بمجرد أن يعبرَ نهاية الجسر في ثوبه الجديد سوف يسعى للحياة ككائن مستقل يحيا ويتنفس في أرض جديدة، ولكنه يظل يرمي ببصره نحو موطنه الأصلي. بعضُ القصائد المترجمة قد تنسى مع الوقت أرض ميلادها القديمة، لكنها في الأخير تظل تحمل جوازي سفر».

فاطمة ناعوت ترى أن الترجمة، بوصفها فن السفر عبر الألسن يلزمها، شأنَ كل سفرٍ، شيءٌ من التكيف والمرونة والذكاء كذلك. لأن ترجمة الشعر لا تعني بحال إيجادَ مقابلٍ معجمي لكل كلمة في القصيدة، لكن المترجم، إذا كان شاعرًا، سوف يعي أن القصيدة الآن تحاول الارتحال من منظومة إلى أخرى، تتباين معها كل التباين في الميزان الصرفي والصوتي والنحوي والدلالي والزماني والمجازي والبلاغي والتراثي والمعرفي وغير ذلك من مفردات القطع الأدبية. ومن ثم لا يمكن بحال أن يزعم مترجمُ الشعر أنه بصدد ترجمة القصيدة انطلاقاً من حرصه على إيصال معانيها لسببين. أولًا: الشعر في ذاته لغةٌ غير إيصالية أو إبلاغية، أي أن الشاعر لا يرمي إلى توصيل معلوماتٍ أو أفكار إلى القارئ من خلال قصيدته أو إبلاغه بشيء محدد، بل إن القصيدةَ ذاتها لا بد ألا تُفصِحَ عن مضمونها على نحو واضح، فالشاعر يعمد إلى تشفير القول أو إعمال ما نسميه طاقة المسكوت عنه من أجل استقطار روح الشعر، ومن أجل فتح النص على دلالاته. وإلا غدت القصيدةُ مقالًا صحفيًا هدفه طرح بعض المعلومات والبيانات.

ثانيًا: المترجم الذي يزعم أنه يُترجِم عينَ ما قصد الشاعر هو مبالغٌ وغيرُ صادقٍ بالضرورة. لأن أحداً لا يمكنه الزعم بمعرفة ما يقصده الشاعر تحديدًا في قصيدته، ولو كان مقصدُ الشاعرِ واضحًا مبذولًا في النص ما كان هذا شعرًا، أو كان من الشعر الضعيف الذي لا يستحق عناءَ القراءة، فضلا عن عناء الترجمة.

شفرات الشعر

وتبدأ المترجمة المصرية أمل جمال كلامها بالإشارة إلى أن ترجمة الشعر أصعب من ترجمة الرواية والقصة القصيرة، فالشعر مليء بالاستعارات، والشفرات الثقافية للمجتمع الذي تحمل صفاته وخصوصيته، والقصائد لا يفهمها بشكلها الصحيح سوى أبناء ثقافة شاعرها. القصائد محمَّلة بالمجاز والصور الخيالية، والدلالات الخاصة بالحيوانات، والنباتات، والتفاؤل والتشاؤم، والأمثال والحِكم، أما السرد فقماشة إبداع واسعة تحتمل التفسير وتعطي لقارئها روحها وتجسِّد الأحداث والمواقف، فتوصل للقارئ رسالتها الجمالية.

هل هناك نماذج ترجمتها واعتبرتِها الأصعب؟ أسأل وتجيب: «بكل تأكيد هناك صعوبات لا أنساها. أثناء ترجمتي لقصيدة تخص الشاعر الأمريكي الراحل سام هاميل ارتبكت أمام الدلالات والرموز البوذية. فالشاعر كان يعتنق الفلسفة البوذية وليست الديانة البوذية – على حد قوله لي- فاضطررت للقراءة عن البوذية وفي البوذية لكي أستطيع نقل المعنى بشكل صحيح. وأحمد الله أننا كنا نتواصل وندقق معاً المعاني. كنت أسأله فيوضِّح ما يصعب على القارئ العربي فهمه، وعليَّ أنا بالتأكيد. كان سام يتفهم ذلك جيدًا؛ لأنه كان أيضًا مترجمًا لقصائد من لغات أخرى. هناك أيضًا خصوصية الثقافة الإفريقية التي واجهتُها أثناء ترجمتي لديوان «نار جميلة» للشاعرة الكاميرونية الأمريكية الدكتورة جويس آش فيما يخص دلالة الأقنعة مثلًا والملابس والتاريخ. ما دفعني للتواصل معها ومشاركتها كل ما أترجمه أولًا بأول».

قالب الشعر

ويعددُ الشاعر والمترجم المغربي رشيد وحتى أسباب صعوبة ترجمة الشعرِ، وعلى رأسها ارتباطُه، أكثَرَ مِن باقي الأجناس بالشكلِ، فالقصيدةُ معنى ومبنى، أكثر من باقي الأشكالِ الكتابية، لذلكَ يستهجِنُ رشيد ترجمةَ قالَبٍ شعري يخص ثقافةً معيَنةً في قالبٍ شعري يخص أُخرى، كترجمة رباعياتِ الخيَامِ الفارسيةِ في عمودِ الشعرِ العربي؛ وكترجمةِ السونيتةِ في شكلِ قصيدة موزونة متعددةِ القوافي.

ويقول: «كيف لمترجم أن ينقل الإيقاع الهادر، أو المحاكاة الصوتية في: مكر مفر مقبل مدبر معا / كجلمود صخر حطه السيل من علٍ، كيف له أن ينقل - فقط! - شطرًا يكاد لا يقول التكرار فيه شيئًا، إلى لغة لا تقبل التكرار: عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى؟».

ويعلق: «استناد الشعر العربي إلى الوزن بين حركة وسكون مع نظام شطرين وتقفية يجعل الترجمة شبه مستحيلة، خصوصا في لغات يستند إيقاعها إلى النبر. تُترجم النصوص ترجمة تصمد طويلا في وجه الشيخوخة عندما تستقل نسبيا عن الأصل كترجمة الملك جيمس للكتاب المقدس، وترجمتا بودلير ومالارمي لپو، وترجمة فيتزجيرالد لرباعيات الخيام».

ويحكي: «جربتُ ترجمة بعض سونيتات بودلير نثرا، رُحماك يا رب لعظيم خطيئتي! ولن أجرُؤَ أبدًا على ترجمة شعر پُول ڤرلين المُمَوسَق بشكل يستحيل معه نقل جناساته وترادفاته الصوتية ولا حتى إيجاد مقابِل موضوعي لها في العربية. مالارمي أيضًا شاعرٌ يصعب نقله من ثقافةٍ إلى أخرى، لا فقط لسبكه سونيتاته في شكلٍ صارِم الإنشاءِ، وإنما أيضا للعبه بتركيبة الجملة وتتابُع أجزائها بحيث قد تفصل بين الفعل وفاعله أكثر من خمسة أبيات».

وفي نقطة جديدة يتحدث عن استسهال كتابة الهايكو أو ترجمتها. يقول رشيد: «صارَ كل من يكتبُ قصيدة في ثلاثةِ أبيات، مع قفلة في شكل صورة فجائية أو مشهد غريب يعد نفسه شاعرَ هايكُو، ونحن هنا لا نصادِرُ على حق أحدٍ في الكتابة؛ وإنما نزعمُ أن الهايكو ليس شكلًا مَرِنًا أبدًا، وإنما هو قبلَ كل شيء رؤية للوجودِ، لا يمكن عزلها عن البوذيَةِ وباقي روحانياتِ الشرق الأقصى، هي اعتقادٌ شعري، بكل معاني الاعتقاد».

حسن عبدالموجود قاص وصحفي مصري

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: کتابة الشعر فی الترجمة تحتاج إلى ن الترجمة الترجمة ا أن الشعر إلى أخرى صعوبة فی أکثر من من خلال لا یمکن مترجم ا ما کان شاعر ا التی ت

إقرأ أيضاً:

جودة الترجمة "السمع-بصرية".. بين عين الخبير ونظرة المشاهد

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

ضمن البرنامج الثقافي المرافق لفعاليات معرض جدة للكتاب 2024، الذي تنظمه هيئة الأدب والنشر والترجمة، قدمت الدكتورة عبير محمد القحطاني جلسة حوارية بعنوان "جودة الترجمة السمع-بصرية بين الخبير والمشاهد"، تناولت فيها أبرز الأسس والأدوات المستخدمة في الترجمة السمعبصرية، والتحديات التي تواجه هذا المجال، إلى جانب استعراض المعايير والمؤشرات التي تحدد جودة الترجمة.

وبدأت الورشة بشكر هيئة الأدب والنشر والترجمة على جهودها في دعم الثقافة والإبداع، ثم انتقلت لتسليط الضوء على العقبات الرئيسية التي تواجه الترجمة السمع-بصرية، وذكرت منها ضرورة مراعاة الفئة المستهدفة من حيث العمر، والخلفية الثقافية، والبيئة الاجتماعية، بالإضافة إلى التحديات الزمنية التي تتطلب التزامن المثالي بين النص المترجم والمحتوى الأصلي. كما تناولت أهمية الرقابة ودور الخبرة في تحديد ما يمكن ترجمته وما ينبغي استبعاده، مع مراعاة الحساسيات الثقافية.

وتطرَّقت الدكتورة عبير إلى أنواع الترجمة السمع-بصرية، مثل الدبلجة، والوصف السمعي، وترجمة السيناريو، وترجمة التعليق الصوتي، وأوضحت عناصر تقييم جودة الترجمة، التي تشمل دقة النصوص، والتزامن مع الحوار، ووضوح الخطوط وسهولة القراءة، وأهمية الترجمة الثقافية في نقل المعاني بين الثقافات المختلفة.

وأشادت الدكتورة عبير بترجمة الفيلم السعودي "نورة"، معتبرة أن الترجمة السمع-بصرية تتطلَّب فهماً عميقاً للفروق الثقافية والإقليمية داخل المملكة، وضرورة مراعاة الاختلافات العمرية بين الفئات المستهدفة، من الأطفال إلى البالغين.

واختُتمت الورشة بمداخلات ثرية من الحضور، أضافت أبعاداً جديدة للنقاش وأثْرت الحوار حول موضوع الترجمة السمع-بصرية.

الدكتورة عبير، حاصلة على درجة الماجستير في الترجمة الطبية والأبحاث النفسية للأطفال، وشهادة الدكتوراه في الترجمة السمع-بصرية، استعانت بتحليل أمثلة واقعية لأعمال سينمائية مترجمة، حيث قيَّمت جودتها من زاويتين: منظور الخبير المتخصص، ومنظور المشاهد العادي.

يُذكر أن معرض جدة للكتاب 2024 يفتح أبوابه يومياً من الساعة 11 صباحاً حتى 12 منتصف الليل، عدا يوم الجمعة حيث تبدأ الزيارة من الساعة 2 ظهراً، ويستمر حتى 21 ديسمبر الجاري، مقدِّماً للزوار تجربة ثقافية متنوعة تشمل أنشطة أدبية وحوارات فكرية.

مقالات مشابهة

  • اللسان والإنسان.. دعوة لتيسير تعلم العربية عبر الذكاء الاصطناعي
  • جودة الترجمة "السمع-بصرية".. بين عين الخبير ونظرة المشاهد
  • "لغة تعرف أُلاّفهما".. أمسية شعرية تقيمها وزارة الثقافة احتفالًا بيوم اللغة العربية
  • التوفيق: وزارة الأوقاف تعمل حاليا على ترجمة معانى القرآن الكريم إلى الأمازيغية
  • برج الحوت.. حظك اليوم السبت21 ديسمبر: الحب هو اللغة التي نفهمها جميعًا
  • هي الزهراءُ ساميةُ المعاني
  • حكم قراءة القرآن الكريم وكتابته بغير العربية.. الإفتاء توضح
  • إيناس العباسي: الشعر ابن الوحدة.. لا يحتاج للرفقة أو الضجيج
  • معهد أمريكي: ما الذي يمكن أن يخلفه سقوط الأسد من تأثير مباشر على اليمن؟ (ترجمة خاصة)
  • القصيدة ١ مع زرادشت ‬