سودانايل:
2025-01-27@19:22:38 GMT

مارسيل غوشيه و التحول الديمقراطي في السودان

تاريخ النشر: 28th, March 2024 GMT

طاهر عمر

مارسيل غويشيه فيلسوف و مؤرخ و عالم اجتماع فرنسي له أفكار مهمة جدا فيما يتعلق بالفكر الليبرالي و يعتبر مجهوده الفكري إمتداد لأفكار ريموند أرون و بالتالي يكون ريموند أرون لغوشيه كجسر يوصله بأفكار توكفيل في إبداعه عن مفهوم الدولة الحديثة و فكرة المسؤولية الإجتماعية نحو الفرد. حديثنا عن مارسيل غوشيه يذكرنا بصفة مصاحبة للمفكرين الفرنسيين مثلا ريموند أرون يعتمد على أفكار ديمقراطية توكفيل من قبل قرنيين سابقة و يؤكد ريموند أرون أن ديمقراطية توكفيل جذورها ضاربة في إعتماده على علم إجتماع مونتسكيو حيث نجده يفترض عقلانية الفرد و أخلاقيته و طبعا لا يمكننا أن ننسى إبداع منتسكيو في روح القوانيين.


بالتالي نجد أن مارسيل غوشيه يواصل في بحثه عن التحول في المفاهيم منذ خمسة قرون أي منذ الإصلاح الديني و أفكار مارتن لوثر و كيف فتحت الطريق و حتى لحظة الوصول الى مفهوم الدولة الحديثة و علاقة الفرد المباشرة بالدولة الديمقراطية. ريموند أرون رفض أفكار الوضعية عند ماركس و سان سايمون و اوجست كونت و دوركهايم و أعتمد على أفكار ماكس فيبر و نقده للماركسية من قبل قرن من الزمن و بالتالي أصبح علم الإجتماع بمثابة بعد معرفي في صميم الديالكتيك و منفتح على اللا نهاية و ليس كما يعتقد هيغل في عقل يسوق مسيرة البشرية لنهاية تاريخ متوهمة.
عند ريموند أرون مسيرة البشرية تراجيدية و مأساوية بلا قصد و لا معنى و منفتحة على اللا نهاية و لكن عقلانية الإنسان و أخلاقه جيل عبر جيل تجعله قادر على إدراك التحول في المفاهيم و مواجهة الصعاب و بالتالي يستطيع إعمال معادلة الحرية و العدالة و هي تضبط إيقاع ظاهرة المجتمع البشري. و بالتالي يمكننا أن نلاحظ الفرق بين توهّم هيغل و ماركس في عقل يسوق البشرية لغاية و هي عندهما نهاية التاريخ و لكن عند ريموند أرون أن التاريخ منفتح على اللا نهاية و لا يمكن تتويجه بنهاية بل أن مشكل المجتمعات الحديثة ينتج مصاعب تمسك بتلابيب بعضها البعض الى ما لا نهاية و لكن قدرة الإنسان على إدراك التحول في المفاهيم تجعله يجابه مصاعبه و لا يعرف العجز على مواجهتها الى عقله سبيل.
و عليه يصبح الفكر الليبرالي عند مارسيل غوشيه كتاريخ طبيعي لظاهرة المجتمع البشري و أن الرأسمالية تجابهها مصاعب عدة و لكنها تخرج من كل أزمة أكثر قوة و أكثر خبرة. مارسيل غوشيه نجده إستلف من ماكس فيبر فكرة زوال سحر العالم أي أن المجتمع البشري قد فك إرتباطه من أسر الفكر الديني و لم يعد الفكر الديني يلعب أي دور بنيوي على صعد السياسة و الإجتماع و الإقتصاد في مجتمع ما بعد الثورة الصناعية.
و هنا لابد من ذكر معلومة مهمة. عندما يتحدث ماكس فيبر عن زوال سحر العالم فهو يتحدث عن المجتمعات الحديثة أي يتحدث عن الحضارة الغربية كحضارة قد أصبح فيها الإنسان عقلاني و لا يحتاج لأوامر تأتيه من خارجه أي من الفكر الديني لأن الحضارة الغربية وصلت لمرحلة مجد العقلانية و إبداع العقل البشري في قدرته على إعمال القطيعة مع التراث الديني و هذا ما عجزت عنه الحضارات التقليدية و خاصة الحضارة العربية الإسلامية التقليدية و هي أكثر شراسة في معاداتها للحداثة و فكر عقل الانوار.
بالمناسبة أكثر وجه كالح للحضارة العربية الإسلامية التقليدية متبدّئ نجده في فكر النخب السودانية و إذا أردت أن تتحقق من ذلك ما عليك إلا أن تتذكر حكم الكيزان للسودان لثلاثة عقود. و ما عليك إلا أن تمر على طرح النخب السودانية حتى غير الكيزان و أنظر كيف أنهم عاجزون عن فك إرتباطهم بوحل الفكر الديني و على سبيل المثال لا الحصر أنظر لتواطؤ عبد الله علي ابراهيم مع خطاب الكيزان و لا يختلف عنه الشفيع خضر في المساومة التاريخية و لا الحاج وراق في مهادنة الطائفية و كذلك النور حمد في المؤالفة بين العلمانية و الدين و لا تنسى إشتراك كمال الجزولي في لجنة تخليد فكر الصادق المهدي كرجل دين و هكذا تسير غافلتهم و حاديها الدكتور عبد الله الطيب عندما قال لطه حسين أنه قرر بأن يكون بجانب التراث و الدين و الأمة.
و بالتالي مثل هؤلاء النخب الغائصة في وحل الفكر الديني في السودان يستحيل معها تحول في المفاهيم لتفضي لتحول ديمقراطي لأن الفكر الديمقراطي بإختصار شديد يعني أن يكون بديلا للفكر الديني و هذا عند النخب السودانية أشبه بالمستحيل بأن يدركوا أن الدين ظاهرة إجتماعية و مع أفكار عقل الأنوار و الحداثة لم يعد للدين أي دور بنيوي على صعد السياسة و الإقتصاد و الإجتماع لأن الحداثة قد قضت على جلالة و قداسة المقدس.
و عليه نجد أن في زمن حكومة حمدوك الإنتقالية لم تكن هناك أي تشريعات كبرى تلحق ثورة ديسمبر كثورة كبرى تلقي البنوك الإسلامية في السودان و تلغي ديوان الزكاة كعش كيزان و عليه كان الكيزان على دراية بأنهم يمكنهم مسك أكبر مفكر سوداني من يده التي توجّعه أي خوفه من أن يقول نحن الآن في زمن الحداثة زمن عقلنة الفكر و علمنة المجتمع و فصل الدين عن الدولة رغم أنف الكيزان و رغم أنف من يخافهم من النخب المحنطة.
ضعف النخب السودانية حتى غير الكيزان و تواطؤهم مع الفكر الديني تكشفه مسيرة تونس في حل جهاز القضاء الكيزاني في تونس و إصدار تشريعات تونسية حوكم على ضؤها الغنوشي و كيزانه أما في مصر بمجرد أن أحس المصريون بخطورة الأخوان المسلمين و محاولتهم خلق تمكين كما حصل في السودان خرجت مصر كلها و قطعت أمام الفكر الديني الطريق و ما زالت النخب السودانية الى لحظة كتابة هذا المقال لا تستطيع أن تخرج من تواطؤها مع خطاب الكيزان و بالتالي يستحيل أن يحصل تحول ديمقراطي في السودان و أكبر المفكرين في تواطؤ مع الخطاب الكيزاني.
لهذا ما زال الكيزان يعشمون في السلطة و الرجوع عبر نافذة الجيش السوداني الذي يمثل حثالة النخب السودانية الفاشلة. و بالتالي يصير تخطيط الجيش للحرب مع صنيعته الدعم السريع الهدف منها تشريد الشعب السوداني و هو وحده القادر على زعزعة الكيزان لذلك كان هدف الحرب تشريد الشعب و لكن نقول للبرهان متى ما رجع الشعب رجعت ثورة ديسمبر و عشمك في السلطة سيكون عشم الكلب في ميوة الإبريق و هذا بشرط إذا رجع الشعب بعد الحرب و ظهرت شخصية تاريخية تدرك أننا في لحظة إنقلاب زمان الفكر القديم فيها قد إنقضى و أصبح فكر الكيزان أمام الرياح هباء و الفكر الجديد لم يولد بعد و لكن الأكيد أن زمن الكيزان قد مضى و انقضى.
أهمية أفكار مارسيل غوشيه تأتي من أنه يعتبر من الجيل الثاني بعد جيل ريموند أرون و هو يصارع أفكار ما بعد الحداثة و مسألة إلتباس مفهوم الدولة و ممارسة السلطة عند فلاسفة ما بعد الحداثة في تأثرهم بفكر الشيوعية كفكر شمولي بغيض. و قد رأينا كيف إنتصر فكر ريموند أرون عندما وصف فلاسفة ما بعد الحداثة في ثورة الشباب في فرنسا بأنها ثورة وعي زائف و ثورة لا يمكن إلتقاط أفكارها لأنها مجافية لواقع مجتمعات ما بعد الثورة الصناعية.
و بالمناسبة أغلب أفكار الشيوعيين السودانيين و من لف لفهم قاعدتها أفكار فلاسفة ما بعد الحداثة و لو إردت ان تدرك أنظر إلتباس مفهوم الدولة و ممارسة السلطة عند الشيوعي السوداني الذي لا يؤمن بفكرة الدولة من الأساس و تظهر في لا مبالاة الشيوعي السوداني بما يحدث و يطرح طرحه الجذري الذي يوضح بأن الشيوعي السوداني قد أصبح مثقف تراجيدي حسب وصف الطاهر لبيب عالم الإجتماع التونسي للمثقف التراجيدي.
و لكي نفصّل أكثر يختلف مارسيل غوشية مثلا عن ميشيل فوكو في أن ميشيل فوكو كان يرى في الخمينية أنها ثورة و يمكن للدين أن يلعب دور بنيوي و بعدها ندم ندما فظيع على إعتقاده في الخمينية. و إعتقاد ميشيل فوكو في دور للدين في السياسة نجده عند عبد الخالق محجوب في بحثه لدور للدين في السياسة السودانية و في إتباع محمد ابراهيم نقد لعبد الخالق في بحثه لدور للدين في السياسة و قد وصل لعلمانية محابية للأديان في حواره حول الدول المدنية و كلها سبل يتبعها الشيوعي السوداني في محاربته لفكر عقل الأنوار الذي ينتصر للفرد و العقل و الحرية و هذا لا يتفق مع الشيوعي السوداني كشمولي لا يقل عداءه للإشراق و الوضوح عن عداء الكوز لأفكار عقل الأنوار.
عكسه مارسيل غوشيه أي أن مارسيل غوشيه عكس ميشيل فوكو يتحدث عن أن سحر العالم قد زال و لم يعد للدين دور بنيوي في السياسة و الإجتماع و الإقتصاد و هذا رأي توكفيل قبل قرنيين من الزمن و هو يقول يجب أن يجرّد الدين من أي قوة سياسية و يجرد كذلك من أي قوة اقتصادية و يصبح الفكر الليبرالي بديلا للفكر الديني و تصبح علاقة الفرد بالدولة مباشرة.
هذه هي طبيعة المجتمع الديمقراطي مجتمع يهتم بالفرد و يصبج مجتمع من أفراد و ليس مجتمع هامش و مركز و غابة و صحراء و مجتمع أهل القبلة و غيرها من أفكار النخب السودانية الفاشلة التي لم تتحدث حتى اللحظة عن مفهوم الديمقراطية الليبرالية الحديثة.
إلتباس مفهوم الدولة الحديثة و ممارسة السلطة عند الشيوعي السوداني جعلت مثل عبد الله علي ابراهيم مطمئن لتواطؤه مع خطاب الكيزان لأن أفق عبد الله علي ابراهيم لم يهل فيه هلال مفاهيم حديثة كما كان مفهوم الدولة الحديثة و مفهوم ممارسة السلطة في مجتمعات ما بعد الثورة الصناعية عند توكفيل و كذلك يغيب عن أفق عبد الله علي ابراهيم أن مفهوم الديمقراطية الليبرالية ليست نظام حكم فحسب بل هي ترسيخ لفكرة العيش المشترك القائمة على تنزيل مفهوم العدالة و المساواة بين أفراد المجتمع و بالتالي يصبح الفكر الليبرالي بديلا للفكر الديني في ديمقراطية توكفيل.
مارسيل غوشيه في أفقه أن مواثيق حقوق الإنسان تعني نهاية لأي دور بنيوي للفكر الديني في السياسة و الإجتماع و الإقتصاد. و كذلك يعتبر مفهوم الدولة كمفهوم حديث نهاية لأي دور للدين في السياسة و الإجتماع و الإقتصاد لأن علاقة الفرد تصبح مباشرة بالدولة و بالتالي يتضح مفهوم المسؤولية الإجتماعية نحو الفرد.
بقى أن ننبه النخب السودانية على عجزها عن التفكير العقلاني حيث نجد أن أغلب النخب السودانية لا تستطيع التفكير إلا و هي غائصة في وحل الفكر الديني و الأغرب أن النخب السودانية أغلبيتها لا يغشاها الشك في أن الفكر الديني خالد لا يزول و هيهات. و إذا إستمرت النخب السودانية في إستكانتها للفكر الديني و هي نائمة في وثوقياتها و يقينياتها و لا تعرف طريق للشك و منهج النقد سوف يطول زمن الكساد الفكري في السودان. و لكن يظل الأمل في تقدم البشرية كما فتح التقدم التكنولوجي الى رفع مستوى الوعي وسط شباب ثورة ديسمبر و فجرّت ثورة كنست وجود الكيزان و المتواطؤون معهم و ما أكثر المتواطؤون مع خطاب وحل الفكر الديني في السودان.
مسألة خوف النخب السودانية من مواجهة أتباع أحزاب المرشد و الختم و الامام سببها غياب ريادات فكرية ترتقي بالفكر في السودان الى مستوى فكر كل من هشام شرابي و الطاهر لبيب في نقضهما لأتباع أحزاب اللجؤ الى الغيب و نقضهما الى أحزاب الايديولوجيات المتحجرة كما هو في نسخة الشيوعية السودانية المتكلسة.
الذي نحتاجه فكر عقلاني يستطيع تحقيق قطيعة مع التراث الديني فكر يعتمد على تجربة الإنسان وفقا لمقدرات عقله البشري و يفتح أمامنا في السودان طريق الإنسانية التاريخية و الإنسان التاريخي و هذا لا يكون في السودان بسهولة و أغلب النخب السودانية محاصرة بورطة الفكر الأصولي و إستحالة التأصيل كما يقول محمد أركون.
جاء وقت مفارقة وحل الفكر الديني في السودان و كفى خسران أن يصبح المفكر السوداني آخر من يخرج من المعبد و آخر حرّاس الشعلة المقدسة. نعم جاء زمن عقلنة الفكر و علمنة المجتمع و يجب أن تكون مسألة التخطيط لفصل الدين عن الدولة و تبداء بإلغاء البنوك الإسلامية و إلغاء ديوان الزكاة و يتبع لوزارة المالية و ألا تكون في الحكومة القادمة وزارة شؤون دينية و أوقاف لأن علاقة الإنسان بربه شأن فردي و كفى تجارة بالدين.
و الدليل أنظر كيف أبعد ولي العهد السعودي رجال الدين و وصفهم بأنهم بفكرهم المتكلّس و معه لا يمكن تحقيق حداثة و لا تنمية. أنظر الى مصر و هي تكنس فكر الأخوان المسلمين و كذلك تونس و هي تضرب الغنوشي على قفاه لكي تخرجه من التاريخ. متى تخرج النخب السوداني مفكري وحل الفكري الديني و المتواطؤون معهم من التاريخ؟

taheromer86@yahoo.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: عبد الله علی ابراهیم الشیوعی السودانی النخب السودانیة النخب السودانی ما بعد الحداثة خطاب الکیزان فی السیاسة فی المفاهیم فی السودان لا نهایة الدینی فی أفکار ما مع خطاب لا یمکن أی دور

إقرأ أيضاً:

انتصار الكيزان الساحق

مأمون التلب

٢٥ يناير ٢٠٢٥
-----
سيّداتي سادتي
الأعزاء داخل حدود ما كنَّا نسميه وطن، ومن هُم خارجه، ومن لفَّ لفهم من المشردين أمثالي في بقاع الأرض.
تحيّة طيّبة وبعد؛
لقد شاهدنا الحرب بدايةً عندما كنّا نراقب، بغباءٍ لا يُمكن أن يُصدَّق، التشييد المَصبوب صبَّاً لاهثاً لما درجنا على تسميته بـ"سور الجيش العظيم"، ربّما نكايةً في الصين، وفي أنفسنا من بعدها، إذ حتّى التسمية كانت تُشير إلى الحرب. نمرّ كلّ يومٍ بشارع القيادة العامة، نراقب وننتظر، كالخرفان تماماً وهي تسعى سعياً نحوَ عيد ضحيّتها، تأكل برسيم القَتَلة بشراهةٍ لتَسمنَ في انتظار المسالخ على أبواب البيوت. نمرّ بشارع القيادة ونلاحظ أن القيادة ذاتها بدأت تختفي عن الأنظار، إضافةً للبشاعة والقبح الذي غمر ذلك السور الأسمنتي المُفبرَك، وقد كان هو نفسه الخندق الأخير الذي بدأوا في حفره، وفي اللحظة التي اكتملَ فيها البناء بدأت مواجهتهم الحقيقيّة مع عدوّهم غير المُتوقَّع، ابنهم العاق، دعمهم السريع، وأسرة "حمايتهم"، الذي أدهشوه بكذبهم المستمرّ، وتدليله الذي لم يشك لحظةً في صِدقه، إلى أن انقلبوا في أكتوبر ضدّ الحكومة الانتقالية، ووجدوا أن ابنهم العاق قد ابتلَعَ الطُعم، ها هي الهمسات التي انطلقت من فم البرهان إلى أذن البشير وهو في طريقه من بيته بالقيادة العامة إلى الجامع لتأدية صلاة الفجر؛ ها هي الهمسات تتحوَّل إلى واقع: استحمل الذل القادم ولا تنشغل بالمستقبل، سنعود بالقوّة.
وفعلاً بدأت القوّة بفضّ اعتصام القيادة العامّة، وبدأت الحرب الأخلاقيَّة المُهيِّجة لمشاعر المُسلمين تُدار بوجوه جديدة وأسماء برّاقة بل وثوَّار حقيقةً، استنكروا على النساء مساهمتهم الأبرز في الثورة وأخرجوا حرابهم الأخلاقيّة ركّبوا القرآن على أسنّتها، وتقدّموا الصفوف وقادوا ثورتهم المضادّة بكلّ حنكتهم القديمة الرَّاسخة في دحر النساء وتدمير أرواح الشباب بقتل أصدقائهم وصديقاتهم أمام أعينهم، إن كان اغتيالاً برصاصةٍ أم كان باغتصاب، أم كان بدهس الرؤوس بالبوت.
كانوا فعلاً قد سوّروا أنفسهم ليؤمنوها من دعمهم السريع، لم يكن سور الجيش ضدَّ الثوار، كان ضدّ حلفائهم، وكان البناء قد بدأ منذ أن انتحرت خطتهم لدحر الثورة على حدود الثلاثين من يونيو. إعداد الجيش للحرب كان قديماً، الجديد أننا كنّا خارج كلّ معادلة، لقد تُركنا لوحدناً، مجرّدين من الأسلحة، في مواجهة دعهمهم السريع الذي شيدوا الخندق خوفاً منه.
رأينا جميعنا الحرب حيّة تسيرُ بين الناس، تأكل الطعام وتلبس ملابسنا وتجاورنا عند ستَّ الشاي حتَّى، انتظرنا حتَّى رأينا المجنزرات ذاتها تدخل العاصمة وكأنها نسمةُ حرٍّ أو سحابة صيف عابرة، كنّا ننظر من نوافذ المواصلات -نحن الخرفان المهيّئة للذبح- ونقول في سرّنا: لن يتهوّر طرفٌ ويُغير على الآخر، لا، لن تحدث الحرب في الخرطوم أبداً. نقول ذلك وهي كانت تحدث منذ أمدٍ بعيد، حتَّى أن لمسها كان مُمكناً جدّاً.
لم نصدّق لأننا بلهاء، لأننا بكينا عندما تسلَّم المدنيّون الحُكم، وقلنا ربّما ما ينطق به جميع هؤلاء العساكر، ربّما كان لديهم ضميرٌ سريٌّ في مكانٍ ما، ومن المُحتمل أن يستطيع كلّ الجمال الهائل في اعتصامات المُدن والقيادة، كل جمال الشباب أن يُنبت في ظلاماتهم السحيقة زهرة. بل صدّقنا -حتَّى بعد أن ذبحونا أمام بوّاباتهم- أن هزيمتهم ممكنة لأننا رأينا كلّ السودان يتدفق في الشوارع يوم الثلاثين من يونيو: عندما برزت قوّة شعوب السودان في بحيرة القرن الواحد وعشرين الدمويّة، خرجت أيادي شعوب السودان لمرةٍ أخيرة، تحاول أن تُذكّر الإنسانيَّة بإنسانيّتها، لكنّ قادة الأمم المُتّحدة لا يُبصرون، أمامهم خرائط مُختلفة عن تلك التي نعرفها، لديهم خريطة عالم غامضة، مُقسَّمة حسب جبال الذهب، وحُفر النفط الثاقبة لقلب الأرض، ومعادن نفيسة هنا وهناك في الأرض الإفريقيّة الحزينة، تمتدّ حدَّ تُلصق معها قارَّة كاملة كأمريكا الجنوبيَّة مثلاً؟ خريطتهم لا تعرف الحدود، ولا تغشاها حتّى الطيور المهاجرة، ولا كان تِعب منك جَنَاح، ولا يحزنون.
كان علي عثمان -الشيطان مُجسّداً في اللحم والدم- على حقّ؛ عندما هدَّد كل شعوب السودان بكتائب الظل كان رحيماً بهم، كان -والحق يقال- يعطف علينا، يُخبرنا بأنهم سيدّمرون السودان إن ثُرنا ضدّهم، ويُمكنهم أن ينطقوا -بكل سهولة- بردٍّ كهذا:
- يا سعادتك، البلد دي بالطريقة دي حتتفرتق.
- خلّيها تتفرتق، بتمشي وتجينا راجعة.
لقد نجحت الخطَّة، ولا بأس بأن نذكر هنا شهداء الحركة الإسلاميّة، الشباب الغض الذي قدَّم روحه فداءً لهكذا خطّة شيطانيّة، لأنهم شهداؤنا أيضاً، وشبابنا الحبيب الذي ضاع لأجل إثراء الكيزان بالسلطة والمال، كما هي العادة دائماً، ومثلما كانت ولم تتوقَّف.
أرجو أن نتوقّف عن التعالي الساذج على وعي الشعب: لماذا نظنّ أن انتصار الكيزان على الدعم السريع لن يُفرِح الشعب فرحاً حدّ يقفز الأطفال من شدّته حول الجثث المقتولة أو المذبوحة حديثاً على قارعة الطريق، مباشرةً تحت السماء التي يكبّرون لها؟.
لم تذق شعوب السودان -في الوسط والشمال النيلي وشرقه، وعاصمتهم الخرطوم- ما ظلّ يحدث باستمرار في أطرافه الأخرى، وربّما أكون قاسياً عندما أُشيرُ إلى أن صمتهم الممتد، منذ حروب جنوبهم المُستقل، مروراً بدارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق؛ كان هو الطريق الذي مهَّد لاختراع الدعم السريع وتمدّده وتكوّنه: يجب أن ننظر إلى تكوين هذا الدعم السريع مراراً وتكراراً: "قال أحدهم بعد فض الاعتصام: والله ما كنّا عارفين الكَتِل حرام إلا لمن جينا الخرطوم دي”! كذلك لم يعرفوا شيئاً عن مشاعر المُغتَصبة ولا عن ربّها الذي يكبّرون له وهم يهمّون بهذه الأفعال الوالغة في بحيرة الجنون الدمويّة المُخزّنة في أذهانهم، هذه الطريقة الجبانة في الحرب، عندما تقتل ابن الأم أمامها وهي عارية اليدين والفؤاد، ذلك لأنه ذكرٌ "وَد عَبيد".
والآن، علينا أن نعترف. أن الحركة الإسلاميّة، بكلّ أذرعها الأخطبوطيّة الراسخة، قد انتصرت انتصاراً ساحقاً في هذه الحرب، وأقول ساحقاً ليس مُجارةً للجملة المكررة، بل إنني أعني "السَحق" بكلّ ما تعنيه الكلمة، إذ طال البلاد بطولها وعرضها، وعرَّض إنسانها لأبشع كابوسٍ يُمكن أن يُواجهه إنسان: الدعم السريع، الجنجويد، حرس الحدود، الدفاع الشعبي، الأمن الشعبي، جهاز الأمن و"المقابرات"، هيئة العمليّات النازعة لأعضاء البنات والأبناء الصغار.
ونتذكّر، أن الآلهة، بكلّ أشكالها وأنواعها في هذا العالم، لم تكن يوماً مع الحق والعدالة، ولن يُجدي انتظارها، إذ أن مهمّة الإنسان -كما يُعبّر عنها هنري ميللر بقوّة أحسدها عليه- هي أن "يستأصل الغريزة المُميتة، اللامحدودة في تشعّبها ومظاهرها. لا فائدة من مناشدة الله، كما أنه من العقم مقابلة قوّة بقوّة. كل معركةٍ هي زواج مُسربل بالدم والألم، كل حربٍ هي هزيمة لروح الإنسانيّة. ما الحرب إلا استعراض هائل على النمط الدرامي للصراعات الصوريّة، الجوفاء، المثيرة للسخريّة التي تحدث يوميّاً في كل مكانٍ وحتى أثناء ما يُسمَّى بأوقات السلم. كل إنسانٍ يُساهم في استمرارٍ في هذه المجزرة، حتى أولئك الذين يبدون منعزلين. كلنا متورّطون، كلنا مشاركون طوعاً أو كرهاً. الأرض هي خَلقنا ويجب أن نقبل بثمار خلقِنَا. وما دمنا نرفض التفكير بلغة خير العالم وخيرات العالم، بنظام العالم، بسلام العالم، فسنظلّ نُخدع ونقتل بعضنا بعضاً. ويمكن أن يستمرّ هذا حتى يوم القيامة، إذا أردنا له. لا شيء يمكن أن يُوجِدَ عالماً جديداً وأفضل إلا رغبتنا فيه. الإنسان يقتل خوفاً – الخوف أفعوان متعدد الرؤوس. وما إن نبدأ بالذبح فلن نكفّ عنه. ولن تكفي الأبديّة لإبادة الشياطين الذين يعذبوننا. مَنْ وَضَع الشياطين هناك؟ هذا سؤال على كلٍّ منا أن يطرحه على نفسه. ليفتّش كل إنسانٍ في قلبه. لا الله ولا الشيطان هو المسؤول، وطبعاً ليس أيّاً من الوحوش السقيمة كهتلر، وموسليني، وستالين، ولا بعابع مثل الكاثوليكيّة، والرأسمالية، والشيوعيّة؛ منْ وَضَع الشياطين في قلوبنا لتعذّبنا؟ سؤال جيّد".
انتصر الكيزان، انتصاراً ساحقاً، وعادوا بنا، بما رأيناه في سفارتنا في بريطانيا، بتتفيه العالم أجمع واحتقارهم للإنسان على لسان ولد أحمق، ربما كانت نظاراته أعقل منه، عندما صرخ، ذات الصرخة العقيمة بأن: افصلوا السودان عن العالم لأن لا معنى للعالم من دون وجودنا، نحن الشياطين العقيمة، التي لا تملك شيئاً سوى مجرّد لسان صارخ لا يدري كيف ينطق اللغة.
برغم كلّ هذا العته اللا معقول، أريد أن أقول، أن عودتنا للإنسانيّة وإسهامنا في منع القتل، وقتل الأطفال بالتحديد، لن يحدث إن لم ندرك حقيقة مركزيّة الثورة السودانية في تذكيرها للعالم بإنسانيّته، هذه التي يبرع في تسميتها أهل الإنقاذ بالتالي:
"ثورة الإنقاذ" هذه كانت إنقاذاً من الحياة نفسها، بكل ما فيها من عنفوان وصلابة ومحبّة للكائنات بكلّ أنواعها: النبات، والجماد، والحيوان، ثمّ الإنسان. يعتقد معظم المُتَدَّيِّنين أن الأرض مجرّد محطة، مُجرَّد دنيا منحطّة، وبذلك يحق للإنسان بأن يحطّم هذه الدنيا، أن يقتل أمّه الأرض: أن يبقر بطون الحوامل، وأن يجتزَّ الأشجار من جذورها، والأزهار من عطورها، وكل ما ينتمي للأرض هو في الحقيقة من عمل الشيطان، وأن الإنقاذ يجب أن يكون من الحياة، وضدَّها، ضدَّ الإنسان، لأجل أمور تافهة كما سُميت بـ"السيادة".
إن لم يتنازل البشر عن ما أسموه بالسيادة الوطنيّة، وكلّ الخبل المرتبط بأعلام الدول، وبالوطنية، وبالحدود السياسية التي رُسمت في أوربا إبان تقسيم العالم؛ إن لم يُدرك البشر الهزيمة الأوليَّة التي هزمتهم بأن سمتهم دولاً وأمم؟. إن لم يُدركوا الحماقة الهائلة المُسمّاة "وطنية"؟ لن نُدرك الشيطان الأساسي الساكن داخل كلّ حركةِ نُقدِمُ عليها أو حرفاً أحببناه.
إن لم نعترف بانتصار الكيزان؟ لن نستطيع مقاومة ما هو أصعب وأصعب من ما عشناه من حياتنا في مقاومة الموت.
لقد انتصر الكيزان، علينا مواجهة المستقبل بقلبٍ مفتوح، وبمحبّة خالصة لشهداء حركتهم الإسلاميّة من أحبابنا الشباب. أما من تبقَّى منهم، من المجرمين المُستغرقين في جنونهم اللحظي، فلست أدري ما الذي يُمكن أن نَغفر لهم به.
نحن لسنا آلهة، ولكننا نعرفُ كيف تنفصل الآلهة عن آلام البشر، وتُراقبُ، رغم ذلك، كيفيّة استغراقهم في الحبّ إن مرَّ نسيمٌ، إن هطلت أمطار، أو نبتت نباتات، أو صرخ حيوان، أو أشرقت الشمس، أو انخسفت الأرض وتحوَّلت، بقدرة قادر، إلى نجمة ميّتة لن يذكرها الكون أبداً.

mamoun.elfatib1982@gmail.com  

مقالات مشابهة

  • هل تستغل جوبا الأزمة السودانية لفرض واقع جديد في أبيي؟
  • بابا الفاتيكان يحث الأطراف السودانية على بدء مفاوضات لتحقيق السلام
  • منظمات المجتمع السودانية تعلن مناصرتها لقضايا سكان الكنابي بولاية الجزيرة
  • الصحة العالمية: 70 قتيلا في الهجوم على المشفى في مدينة الفاشر السودانية  
  • حسام هيبة: 240 مليون دولار الاستثمارات السودانية في مصر
  • الإمارات تُدين بشدة استهداف المستشفى السعودي في الفاشر السودانية
  • هيئة الاستثمار: المناطق الحرة في جنوب مصر تحقق ميزة تنافسية للصناعات السودانية
  • رئيس الهيئة الشعبية السودانية لإسناد القوات المسلحة وبناء السودان يشيد بإلتقاء الجيوش الذي يمثل نهاية المليشيا
  • انتصار الكيزان الساحق
  • الأزمة السودانية تزداد تعقيدا.. ما المنتظر من إدارة الرئيس ترامب؟