حزب محجوب محمد صالح (١٩٢٨-٢٠٢٤): يا حليل أمونة في غرب الضياباب!
تاريخ النشر: 24th, February 2024 GMT
مجدي الجزولي
أسلم الأستاذ محجوب محمد صالح الروح إلى بارئها في ١٣ فبراير الماضي بالعاصمة المصرية القاهرة بعد حياة عامرة بالعمل الصالح، قضاها في خدمة "الحقيقة". ومآثر محجوب عديدة، فهو صحفي السودان الأول منذ عقود، الساهر على السلطة الرابعة ألا تسقط! جمع محجوب في هذه السكة العلم والعمل، فمن جهده المشترك وبشير محمد سعيد ومحجوب عثمان خرجت جريدة الأيام إلى الوجود في العام ١٩٥٣؛ وهو المشغول بحسن السياسة لا بسلطانها؛ وهو المؤرخ الكاتب لتاريخ الصحافة وتاريخ الحرب والسلام في جنوب السودان؛ وهو المربي على أكثر من صعيد، من بين ذلك لأجيال من الصحفيين.
موضوع هذه الكلمة في نعي المرحوم محجوب محمد صالح هذه الملكة التربوية، وتربية محجوب تربية بالقدوة الحسنة. وكان لهذه القدوة المهنية موضعين بارزين في جريدته الأيام، الأول صفحتاها الأولى والثانية، والثاني عمود رأيه الراتب «أصوات وأصداء» في صفحتها الثالثة. تلتقي قارئة الأيام في الصفحتين الأولى والثانية حصاد الجريدة من «الأخبار» وفي عمود الأستاذ محجوب في الصفحة الثالثة القدوة الحسنة في كتابة «الرأي» بمسؤولية.
رعى المرحوم محجوب من موقع رئاسة تحرير الأيام هذا التمييز الواجب بين الخبر كواقعة وبين الرأي كمسؤولية بحرص شديد. ولذا ظلت أخبار الأيام في بنائها وصياغتها أخبارا بمعنى نقلا لوقائع تحققت المحررة من صدقية وقوعها وترجمت ذلك إلى صياغة خلو من التقييم سوى الذي تفرضه اللغة بسياق المعنى، ولكن لا تنطق به صراحة، فالخبر ينقل ما تأكد وقوعه ويشير إلى المجهول عن تفاصيله دون تفريط في حقيقة الواقعة أو إفراط في التنبؤ بما غاب من تفاصيلها. ولذلك كانت في غالبها قصيرة النص منضبطة العبارة دون تخرص، تعف في معظمها عن المصادر المجهولة والمحجوبة والقوالات المرسلة. لهذا الشغف بقدسية الخبر قاعدة فلسفية مضمرة هي العقيدة في إمكانية التوصل إلى حقيقة واقعة ما، فهي حدث مادي إما وقع أو لم يقع، أي المادية إن طلبت المفهوم.
أما رأي المرحوم محجوب فقد أحاطت به على الدوام المسؤولية. فهو في معظم رأيه يسور واقعة ما بتاريخها، بالأبعاد المكانية والزمانية لحدوثها وبالعوامل الهيكلية التي تحيط بالفاعلين وتحدد اختياراتهم، اقتصادية وسياسية وأيديولوجية ثقافية.. الخ. احترف الأستاذ محجوب توطين الحوادث في تاريخ متصل، وكان هذا جوهر متابعته الطويلة للحرب في جنوب السودان منذ اندلاع شرارتها الأولى في ١٩٥٥، المعرفة التاريخية التي جمعها للقارئة تحت عنوان "أضواء على قضية جنوب السودان". والحرث في محيط حدث ما يخرج به، كما يعلمك الأستاذ محجوب، من حيز الواقعة كخبر، إلى براح التاريخ وقيده في آن؛ أو بصورة أخرى من مادية التجربة إلى إدراك العبرة. ولهذه العناية بتاريخية الوقائع، أي مسيلها في وديان وأخاديد وجروف سبق التاريخ بحفرها، كذلك قاعدة فلسفية مضمرة، هي المادية التاريخية إن طلبت المدرسة.
هذا التصور لازدواج براح التاريخ وقيده هو ما وقع عليه المرحوم كارل ماركس في افتتاح الفصل الأول من كتابه "الثامن عشر من برومير لويس بونابارت" (١٨٥٢) في الصياغة المشهورة: "يصنع البشر تاريخهم، لكن ليس كما يوافق هواهم، وليس في ظروف اختاروها بأنفسهم وإنما في ظروف سبق وقوعها، منقولة إليهم من الماضي. وتراث الأجيال السالفة يلقي بثقله كما الكابوس على أفئدة الأحياء." يواصل ماركس بعد أن أطلق هذا القانون ويكتب: "حتى إن بدا أنهم في شاغل تقليب أنفسهم وأمورهم وافتراع الجديد البديع تجدهم في عهود الأزمات الثورية هذه يستدعون برهبة أشباحا من الماضي لخدمة أغراضهم، يتمثلون الأسماء وشعارات المعارك والأزياء يريدون بهذا السمت المخضرم وبهذه الأصوات المستلفة أداء الفصل الجديد من مسرحية التاريخ."
ينبه ماركس إذن إلى استدعاء الصور والرموز والشعارات والوقائع من الماضي لخدمة غرض في صراع حاضر، وميز هذه من هذا. يتضمن تصويره البديع للابتلاء بالتاريخ تشديدا على فعالية النتف المنتقاة من الماضي في صياغة "سرديات" الحاضر. وهنا محل فضيلة المرحوم محجوب محمد صالح الكبيرة، وعلة الشقاء بغيابها، أي الاعتقاد في إمكانية معارف موضوعية بالتاريخ، المعاصر والذي مضى، معارف لحمتها اختبار صدقية الوقائع، الأخبار بحق، وسداها توطين هذه الوقائع في تاريخ محيط.
ينشأ الرأي المسؤول، مثل الذي كان يكتبه المرحوم محجوب، على قاعدة من هذه المعارف التي توخى طالبها إجلاءها باختبارات الموضوعية. لم يكن الرأي عند المرحوم محجوب رأيا "مطلوقا"، ترجمة لمزاج أو ميل أو تعبيرا نرجسيا عن هوية منتخبة وحجاج، ولا نامت أعين الجبناء؛ لكن ظل المرحوم محجوب مشغولا بقارئته أكثر من مشغوليته بالتعبير عن خاص ذاتيته، يتوخى في رأيه التنقيب عن حقيقة أمر ما لقارئة تسعى هي كذلك لكشف هذه الحقيقة. والقاعدة المشتركة بين الإثنين، الكاتب والقارئة، أن ثمة حقيقة يمكن الكشف عنها بإحسان المعرفة بالوقائع والتدبر في التاريخ المحيط بها وأن هذه الحقيقة متاحة لكل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ويمكن أن تضيف هنا من العبارة الليبرالية: صرف النظر عن عرقه أو دينه أو لونه أو جنسه أو قبيلته أو ميله الجنسي أو ذوقه الأدبي أو فريقه المفضل، أو إذا كان من أنصار الجبلية أو هبة جبرة. ومن هذا الباب كان دأب المرحوم محجوب في صياغة رأيه العبارة الظاهرة الكاشفة والجملة الشفافة جلية المبنى، السهل الممتنع.
تقع هذه العقيدة في وجود حقيقة تاريخية ما يمكن التعرف عليها بموضوعية بوسائل الذهن البشري ويمكن التعبير عنها بلغة بينة العبارة تنقل إلى القارئة المقصود ويمكن إخضاعها لاختبارات الموضوعية ضمن افتراضات المادية التاريخية المار ذكرها، بل ضمن ما هو المنهج العلمي في عمومه. في المقابل، غزت هذا الحرز منذ نهاية السبعينيات الشكوك العظيمة التي قال عنها رسل ما بعد الحداثة أنها أساس عقيدتهم في إعدام إمكانية الحقيقة على إطلاق (على سبيل المثال جان فرانسوا ليوتار في "ما بعد الحداثة: تقرير عن المعرفة"، ١٩٧٩). وحلت محل الحقيقة التي يمكن التنقيب عنها بوسائل ذهنية يشترك فيها كل من ألقى السمع "سرديات" لا وسيلة لاختبارها موضوعيتها، بما أن الموضوعية نفسها بحسب رسل ما بعد الحداثة جرف هار. ولكل سردية وفق هذا التصور نفاذية خاصة في المكان والزمان المعينين وللجماعة المعينة لا تخضع للشك أو التساؤل، فكل سردية والأخرى سيان؛ إذ لا أساس موضوعي للمفاضلة بين سردية وأخرى سوى الشوكة التي تشيع سردية وتغمط أخرى، تحلل هذه وتجرم الثانية غصب كي.
لا حقيقة وفق هذا التصور سوى الهوى في معنى "واتبع هواه وكان أمره فرطا"، ولا جغرافية ذهنية مشتركة سوى اصطراع السرديات، سرديتي جغمت سرديتك. يرافق هذا التحول عن الحقيقة كإمكانية حتى إلى السرديات كأديان خاصة تحولا مكافئا من النص إلى الصورة، من الصراع الفكري في مجال عام تخضع المقولات فيه لاختبارات الموضوعية إلى الردم المتبادل بين أنصار سرديات متسابقة على الغلبة الدعائية في سوق للإعلانات، من عمود المرحوم محجوب إلى الفيديو القصير. والطريف المهلك أن الكاميرا التي تكشف حسا حتى عن مسامات جلد المتحدث ومر النمل في الأرض التي يقف عليها، تبتعد باقترابها الميكروسكوبي بالمتلقية المتأهبة اطرادا عن حقيقة ما ترى وتسمع. على عكس هذه المشهدية الميون الحقيقة التي ظل يحرث من أجلها المرحوم محجوب بحر الأحداث "تلاقيط"، تحتجب وتتستر، حيية نادرة، فاترة الطرف ساحرة، يا حليلها أمونة في غرب الضياباب!
m.elgizouli@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: محجوب محمد صالح الأستاذ محجوب من الماضی
إقرأ أيضاً:
الجارديان البريطانية: الرئيس الأمريكي يختبر حدود السلطة التنفيذية ويهمش الكونجرس.. ويزعزع استقرار الاقتصاد العالمي.. استيلاء «ترامب» على السلطة انقلاب محجوب بالفوضى
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
رأت صحيفة "الجارديان" البريطانية أن الرئيس الأمريكي؛ دونالد ترمب، يثير أزمة دستورية فى الولايات المتحدة، بزعم امتلاكه سلطات واسعة النطاق لتجاوز سيطرة الكونجرس على الإنفاق فى محاولة لمركزية السلطة المالية فى يد السلطة التنفيذية. وإذا نجح فى ذلك، كما يحذر الحائز على جائزة نوبل "بول كروجمان"؛ فسوف يكون ذلك بمثابة انقلاب فى القرن الحادى والعشرين؛ حيث تنزلق السلطة من أيدى المسئولين المنتخبين. ويقول "إن القصة الحقيقية المخفية وراء الحرب التجارية التى يشنها الرئيس هى اختطاف الحكومة"؛ و"كروجمان" محق.
وأضافت "الجارديان" فى افتتاحيتها يوم الثلاثاء الماضي، أنه من خلال اغتصاب السلطة لإغلاق البرامج الحكومية حسب الرغبة - حتى تلك التى يمولها الكونجرس - يمكن لترامب خفض الإنفاق الفيدرالى والضرائب بينما يتظاهر بموازنة الحسابات. فى الواقع، يسرق الفقراء لإثراء الأثرياء.
وتابعت: "فى عالم حيث تم تحريف المصطلحات الاقتصادية لتصوير الاستغلال على أنه "خلق الثروة"؛ فإن جرأة ترامب - وأتباعه - على الاستفادة الشخصية مذهلة. فلسفة ترامب بسيطة: دع الأثرياء يفعلون ما يريدون، مع القليل من الإشراف أو بدونه. ستكون النتيجة ثروة هائلة لقلة مختارة بينما تصبح الحياة أكثر سوءًا وأقصر بالنسبة للكثيرين".
وأشارت الصحيفة البريطانية إلى أن خطة "ترامب" قد بدأت تتبلور فى نهاية الأسبوع الماضى عندما أقال مسئولا رفيع المستوى فى وزارة الخزانة كان يمنع صديقه الملياردير إيلون ماسك من الوصول إلى نظام الدفع الفيدرالي؛ ما أدى إلى كشف البيانات الشخصية الحساسة لملايين الأمريكيين، بالإضافة إلى تفاصيل المقاولين العموميين الذين يتنافسون مباشرة مع أعمال "ماسك".
ويصرف النظام أكثر من ٥ تريليونات دولار سنويا، ويهدف "ماسك" وحلفاؤه، كما كتب المحلل ناثان تانكوس، "بشكل واضح إلى إعادة تصميمه" لخدمة أجندة "ترامب"؛ ما يفتح الباب أمام الرئيس الأمريكى للسعى إلى الانتقام من خصومه السياسيين.
وقال المحلل "تانكوس": "كى نرى التأثير، يكفى أن ننظر إلى إحدى الخطوات الأولى التى اتخذها ترامب:
- تجميد تريليونات الدولارات من الإنفاق الفيدرالى وخاصة على المساعدات الخارجية، والمنظمات غير الحكومية.
- مبادرات التنوع والإنصاف والإدماج، وأيديولوجية النوع الاجتماعي.
- الصفقة الخضراء الجديدة.
وقد منعت المحاكم هذا الإجراء باعتباره غير دستورى ولكن ليس قبل أن يخلف دمارًا هائلًا فى الوكالات الحكومية والمنظمات غير الربحية، وخاصة تلك التى تساعد الفئات الضعيفة مثل المحاربين القدامى المشردين.
ويزعم "ماسك" أنه سيغلق الوكالة الأمريكية للمساعدات الدولية ــ ولكن هذا لا يزال محل جدال؛ لأن هيئة فيدرالية ملزمة قانونًا بإدارة المساعدات.
وكما هو الحال مع حربه التجارية؛ فإن ادعاء "ترامب" بامتلاكه سلطة "الحجز" ــ الحق المفترض فى وقف الإنفاق من جانب واحد ــ يكشف عن التناقض الجوهرى فى استيلائه على السلطة؛ فهو يتصرف مثل الملك لأنه أضعف من أن يحكم كرئيس.
وهو يمارس الرسوم الجمركية متى شاء، متجاوزًا الكونجرس بمزاعم "الأمن القومي" ــ ومع ذلك فقد أبرم صفقة مع المكسيك اعتبرها الجانبان انتصارًا.
ولاية ترامب الأولى
وفى ولايته الأولى، تم تسويق حملة الحماية التى شنها "ترامب" - الرسوم الجمركية على الصين، وتعديل اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية ومهاجمة سياسات التجارة للحلفاء - على أنها ثورة. بدلًا من ذلك، كانت جرحًا ذاتيًا.
وفرضت إدارته ٨٠ مليار دولار فى "ضرائب" جديدة على الأمريكيين من خلال الرسوم الجمركية، فقط لرؤية سلاسل التوريد تعيد توجيهها إلى فيتنام وإندونيسيا بدلًا من إعادة الوظائف إلى الوطن. التكلفة الحقيقية؟ ضربة بنسبة ٠.٢٪ للناتج المحلى الإجمالى و١٤٢٠٠٠ وظيفة مفقودة، وفقًا لمؤسسة الضرائب.
واختتمت "الجارديان" بالتأكيد على أنه بدون استثمار جاد فى الصناعة المحلية، لن تنجح استراتيجية التجارة "أمريكا أولاً" فى إعادة بناء التصنيع الأمريكي؛ بل أدت فقط إلى ارتفاع التكاليف.
وفوضى "ترامب" ليست ثقة - إنها يأس، إنه يحاول استحضار القوة التى لا يمتلكها بالفعل، إنه يصنع تصورًا للهيمنة على أمل أن يقبلها الأمريكيون ببساطة، الخطر الحقيقى هو السماح لوهمه بالقوة أن يصبح حقيقة.