المصطلح القرآني يتسم بالحياة والحركة والتوليد في المعاني من خلال التراكيب والسياقات التي تطرحها الآيات المعجزة في مبناها ومعناها، وتلك المعاني ترجع بمتعلقاتها إلى المعنى الأساسي للكلمة، ولو تأملنا معنى كلمة "البأس" في كتاب الله لوجدنا أنه بمشتقاته ناضحا بالمعاني والدلالات التي تتصل بالمعنى العام لهذه الكلمة، فالبأس يعني الشدة والقوة والمنعة وشدة الحرب، والابتلاء والعذاب، وكلها دلالات ذات تقارب في المعنى.
ولو تأملنا النص القرآني من خلال الأيام التي نعيشها اليوم في المعركة الدائرة بين الحق والباطل، وبين الظلم والعدل، وبين المسلمين المجاهدين من أبناء فلسطين وبين اليهود الغاصبين أولياء الشيطان، لوجدنا أن القرآن الكريم ذكر البأس في محل ذكر اليهود، وذلك عندما بعث عليهم عبادا أولي بأس شديد، فأخرجوهم من بيت المقدس، وتم سبيهم وقتلهم وتشريدهم فقال تعالى في سورة الإسراء: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا) ومعنى أولي بأس شديد، وذلك عندما هجم عليهم الملك البابلي بختنصر الذي قتلهم وشرد بهم وسباهم، وكانت تلك المرة الأولى التي قضى الله فيها لبني إسرائيل أنهم سيفسدون في الأرض مرتين، فكان جلاؤهم وقتلهم في المرة الأولى التي تم فيها قتلهم وتشريدهم ثم تجمعوا في هذا الكيان الغاصب في دولة الاحتلال وقد وعد الله أن يتم إجلاؤهم أن يبعث الله عليهم من يسوء وجوههم بما يفعل أبطال غزة الآن في انتصاراتهم المتتالية التي تقوض هذا الكيان الغاصب وتقتلعه من جذوره، فقال الله تعالى في سورة الإسراء: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا).
وبين الله أن اليهود فيهم حب شديد وتعلق بالدنيا مما يجعلهم جبناء فقال تعالى في سورة الحشر: (لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ)، فهم لا يقوون على مجابهة القتال وجها لوجه، وإنما طريقتهم تعتمد على الاختباء وراء الجدر أو داخل القرى المحصنة، مبينا مدى الفرقة والتناحر والخصام بينهم، فتظنهم أنهم على يد واحدة، ولكنهم على خلاف ذلك، فعداوتهم بين بعضهم البعض شديدة.
ومن ناحية أخرى نجد أن مشتقات كلمة البأس هي "البأساء" فقال تعالى في سورة البقرة(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)، فامتدح الله الأبرار أنهم يصبرون في البأساء والضراء، والبأساء في هذا الموضع معناها الفقر والحاجة، و(حين البأس)، أي الصبر في شدة القتال في الحرب، فهم الصادقون المتقون.
وأورد الله تعالى كلمة الضراء في موضع آخر وهو في قوله تعالى في سورة البقرة:(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)، فخاطب الله المؤمنين بقوله هل حسبتم أيها المؤمنون أن تدخلوا الجنة ولم يصبكم ما أصاب المؤمنين من قبلكم من الأقوام السابقة، فقد ابتلاهم الله بالبأساء وهو الفقر والحاجة، والضراء وهي الأمراض والأسقام، وقتال الأعداء حتى يستبطئ بعضهم النصر فيقول: متى نصر الله، ألا إن نصر الله قريب.
وقد بين الله سنته في ابتلاء الأمم السابقة، فقد ابتلاهم الله بالفقر والجوع، والأمراض والأسقام حتى يعودوا إلى الله تعالى ويتضرعوا له فقال تعالى في سورة الأنعام: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ)، وأكد الله هذا الأمر في وسورة الأعراف بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ).
أما فيما يتعلق بالبأس في دلالته على الحرب وشدة القتال، فهنالك مواضع مختلفة من كتاب الله تتضمن هذا المعنى، فنجد في سورة النحل قوله تعالى:(وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ)، فالسرابيل التي تقي من الحر هو ما يلبس من الملابس مثل القميص، وأما السرابيل التي تلبس وتقي من شدة القتال فهي الدروع التي يلبسها المقاتلون وتكون منسوجة من الحلق الحديدي أو المعدن ويتقي بها ضربات السيوف والرماح والسهام.
وقال تعالى في سورة الحديد: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)، فالحديد يستخدم في صناعة السيوف التي تكون للحروب، كما أنه يستخدم في صناعات أخرى لمنفعة الناس.
وفي تحريض الله لرسوله محمد صلى الله عليـه وسلم على القتال: قال تعالى في سورة النساء: (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا)، وقد ذكر الطبري في تفسيره لهذه الآية:(والله أشد بأسًا وأشد تنكيلا )، يقول: "والله أشد نكاية في عدوه، من أهل الكفر به منهم فيك يا محمد وفي أصحابك، فلا تنكُلَنَّ عن قتالهم، فإني راصِدُهم بالبأس والنكاية والتنكيل والعقوبة، لأوهن كيدهم، وأضعف بأسهم، وأعلي الحق عليهم". وفي سورة الأنعام يقول الله تعالى: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ)، أي يذيق بعضكم البعض شدة القتال والحرب، وهذا من مبدأ المدافعة في القتال وهو دفع الله الناس بعضهم لبعض.
وفي سورة الفتح يقول الله تعالى: (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)، وفي هذه الآية يخاطب الله رسوله أن يقول للذين تخلفوا عن ذهاب إلى مكة للقتال، بأنكم ستدعون إلى قتال قوم أصحاب بأس قوي في الحرب، فإما تقاتلونهم حتى يسلموا أو يسلمون بدون قتال.
ومن زاوية أخرى نرى القرآن الكريم يذكر البأس في موطن العذاب، فقال تعالى في سورة الأنعام: (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، أي أن أولئك القوم الذين جاءهم بأسنا وعذابنا رجعوا إلى ربهم ودعوه بضراعة وإخلاص، ولكنهم لم يفعلوا ذلك فقد زين لهم الشيطان أعمالهم. ويقول ربنا في السورة نفسها: (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)، أي أنه لا يرد عذابه عن المجرمين. وفي السياق نفسه نجد ربنا يقول في سورة يوسف: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)، فالله ينجي عباده ولا يرد عذابه عن المجرمين.
وقد أخبرنا الله عز وجل عن أقوام جاءهم العذاب في الليل وهم نائمون فقال تعالى في سورة الأعراف: (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ * فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ).
وقد خاطب الله أهل القرى وهم أهل مكة وما حولها من القرى في أسلوب استفهام استنكاري فقال تعالى في سورة الأعراف:(أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ"، "أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ)، أي هل أمنوا أن يأتيهم عذابنا في الليل وهم نائمون أو في وقت الضحى وهم يلعبون؟
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فقال تعالى فی سورة الله تعالى ال ب أ س اء
إقرأ أيضاً:
آخر ما قاله هاني الناظر قبل وفاته.. ابنه يكشف سر تعلقه بآية من القرآن
رغم مرور أكثر من 9 أشهر على رحيل طبيب الإنسانية، الدكتور هاني الناظر أستاذ الجلدية الشهير، متأثرًا بإصابته بسرطان الدم، ما تزال سيرته الطبيب حينما تذكر، تفوح بأعمال الخير التي قدمها، وتصاحبها الثناء وحسن الكلام.
واليوم، قرر نجل محمد الناظر، نجل طبيب الجلدية، كشف آخر ما قاله والده الفقيد، وكيف تعلق بآية من القرآن، فهم معناها جيدًا، وظل يرددها حتى الموت.
وكتب محمد الناظر، عبر الحساب الرسمي لوالده الراحل، على «فيسبوك»: «هحكي لكم قصة لدكتور هاني الناظر، من أكتر القصص المؤثرة في حياته، ولعلها تفيد ناس كتير، كان رحمه الله مش حافظ من القرآن إلا الفاتحة وكام سورة من السور القصيرة، لكنه كان دايمًا يردد قول الله تعالى (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا)».
وتابع نجل هاني الناظر: «في مرة من المرات كنت قاعد معاه وبنتكلم وقالها قدامي، قلت له أنت عارف الآية ديه في سورة إيه؟ قال لي لا، بس المهم معناها، قلت صح طبعا، عامة هي في سورة التوبة، وباقي الآية (هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون)، بعدها بكام يوم كنا بنتكلم، لقيته راح قايل الآية كلها، فاستغربت، ابتسم كده في فخر وقال لي أنا حفظتها، وكان مبسوط جدًا.. ومن يومها كان دايما بيرددها كلها في أي موقف يحصل معاه».
آخر كلمات هاني الناظر قبل الوفاةربما كانت الآية القرآنية، التي ألهم الله عز وجل إليها الطبيب الراحل، لحفظها جيدًا، هي آخر ما تردد على لسانه، بل آخر ما ردده في حياته، حتى أن دخل في غيبوبة طويلة، وهو يرددها قبل أن تصعد روحه بارئها، بحسب ما ذكر نجله.
وكشف نجل هاني الناظر: «في أواخر فترة تعبه، كان فاقد الوعي بقاله فترة طويلة، وفي يوم كنت جنبه أنا وأمي لقيناه فاق، وبدأ يتكلم معانا خفيف، وبعدين قالنا بصوا (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون)، سيبوني أنام شوية وماتعملوش صوت عشان أعرف أنام».
وتابع: «نام، ودخل في غيبوبة ومافاقش لحد ما حصلت الوفاة، وكانت ديه آخر حاجة قالها في حياته، والإنسان لما بيعيش بشيء، بيموت عليه.. رحم الله الدكتور هاني الناظر وغفر له».