المصطلح القرآني يتسم بالحياة والحركة والتوليد في المعاني من خلال التراكيب والسياقات التي تطرحها الآيات المعجزة في مبناها ومعناها، وتلك المعاني ترجع بمتعلقاتها إلى المعنى الأساسي للكلمة، ولو تأملنا معنى كلمة "البأس" في كتاب الله لوجدنا أنه بمشتقاته ناضحا بالمعاني والدلالات التي تتصل بالمعنى العام لهذه الكلمة، فالبأس يعني الشدة والقوة والمنعة وشدة الحرب، والابتلاء والعذاب، وكلها دلالات ذات تقارب في المعنى.
ولو تأملنا النص القرآني من خلال الأيام التي نعيشها اليوم في المعركة الدائرة بين الحق والباطل، وبين الظلم والعدل، وبين المسلمين المجاهدين من أبناء فلسطين وبين اليهود الغاصبين أولياء الشيطان، لوجدنا أن القرآن الكريم ذكر البأس في محل ذكر اليهود، وذلك عندما بعث عليهم عبادا أولي بأس شديد، فأخرجوهم من بيت المقدس، وتم سبيهم وقتلهم وتشريدهم فقال تعالى في سورة الإسراء: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا) ومعنى أولي بأس شديد، وذلك عندما هجم عليهم الملك البابلي بختنصر الذي قتلهم وشرد بهم وسباهم، وكانت تلك المرة الأولى التي قضى الله فيها لبني إسرائيل أنهم سيفسدون في الأرض مرتين، فكان جلاؤهم وقتلهم في المرة الأولى التي تم فيها قتلهم وتشريدهم ثم تجمعوا في هذا الكيان الغاصب في دولة الاحتلال وقد وعد الله أن يتم إجلاؤهم أن يبعث الله عليهم من يسوء وجوههم بما يفعل أبطال غزة الآن في انتصاراتهم المتتالية التي تقوض هذا الكيان الغاصب وتقتلعه من جذوره، فقال الله تعالى في سورة الإسراء: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا).
وبين الله أن اليهود فيهم حب شديد وتعلق بالدنيا مما يجعلهم جبناء فقال تعالى في سورة الحشر: (لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ)، فهم لا يقوون على مجابهة القتال وجها لوجه، وإنما طريقتهم تعتمد على الاختباء وراء الجدر أو داخل القرى المحصنة، مبينا مدى الفرقة والتناحر والخصام بينهم، فتظنهم أنهم على يد واحدة، ولكنهم على خلاف ذلك، فعداوتهم بين بعضهم البعض شديدة.
ومن ناحية أخرى نجد أن مشتقات كلمة البأس هي "البأساء" فقال تعالى في سورة البقرة(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)، فامتدح الله الأبرار أنهم يصبرون في البأساء والضراء، والبأساء في هذا الموضع معناها الفقر والحاجة، و(حين البأس)، أي الصبر في شدة القتال في الحرب، فهم الصادقون المتقون.
وأورد الله تعالى كلمة الضراء في موضع آخر وهو في قوله تعالى في سورة البقرة:(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)، فخاطب الله المؤمنين بقوله هل حسبتم أيها المؤمنون أن تدخلوا الجنة ولم يصبكم ما أصاب المؤمنين من قبلكم من الأقوام السابقة، فقد ابتلاهم الله بالبأساء وهو الفقر والحاجة، والضراء وهي الأمراض والأسقام، وقتال الأعداء حتى يستبطئ بعضهم النصر فيقول: متى نصر الله، ألا إن نصر الله قريب.
وقد بين الله سنته في ابتلاء الأمم السابقة، فقد ابتلاهم الله بالفقر والجوع، والأمراض والأسقام حتى يعودوا إلى الله تعالى ويتضرعوا له فقال تعالى في سورة الأنعام: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ)، وأكد الله هذا الأمر في وسورة الأعراف بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ).
أما فيما يتعلق بالبأس في دلالته على الحرب وشدة القتال، فهنالك مواضع مختلفة من كتاب الله تتضمن هذا المعنى، فنجد في سورة النحل قوله تعالى:(وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ)، فالسرابيل التي تقي من الحر هو ما يلبس من الملابس مثل القميص، وأما السرابيل التي تلبس وتقي من شدة القتال فهي الدروع التي يلبسها المقاتلون وتكون منسوجة من الحلق الحديدي أو المعدن ويتقي بها ضربات السيوف والرماح والسهام.
وقال تعالى في سورة الحديد: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)، فالحديد يستخدم في صناعة السيوف التي تكون للحروب، كما أنه يستخدم في صناعات أخرى لمنفعة الناس.
وفي تحريض الله لرسوله محمد صلى الله عليـه وسلم على القتال: قال تعالى في سورة النساء: (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا)، وقد ذكر الطبري في تفسيره لهذه الآية:(والله أشد بأسًا وأشد تنكيلا )، يقول: "والله أشد نكاية في عدوه، من أهل الكفر به منهم فيك يا محمد وفي أصحابك، فلا تنكُلَنَّ عن قتالهم، فإني راصِدُهم بالبأس والنكاية والتنكيل والعقوبة، لأوهن كيدهم، وأضعف بأسهم، وأعلي الحق عليهم". وفي سورة الأنعام يقول الله تعالى: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ)، أي يذيق بعضكم البعض شدة القتال والحرب، وهذا من مبدأ المدافعة في القتال وهو دفع الله الناس بعضهم لبعض.
وفي سورة الفتح يقول الله تعالى: (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)، وفي هذه الآية يخاطب الله رسوله أن يقول للذين تخلفوا عن ذهاب إلى مكة للقتال، بأنكم ستدعون إلى قتال قوم أصحاب بأس قوي في الحرب، فإما تقاتلونهم حتى يسلموا أو يسلمون بدون قتال.
ومن زاوية أخرى نرى القرآن الكريم يذكر البأس في موطن العذاب، فقال تعالى في سورة الأنعام: (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، أي أن أولئك القوم الذين جاءهم بأسنا وعذابنا رجعوا إلى ربهم ودعوه بضراعة وإخلاص، ولكنهم لم يفعلوا ذلك فقد زين لهم الشيطان أعمالهم. ويقول ربنا في السورة نفسها: (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)، أي أنه لا يرد عذابه عن المجرمين. وفي السياق نفسه نجد ربنا يقول في سورة يوسف: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)، فالله ينجي عباده ولا يرد عذابه عن المجرمين.
وقد أخبرنا الله عز وجل عن أقوام جاءهم العذاب في الليل وهم نائمون فقال تعالى في سورة الأعراف: (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ * فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ).
وقد خاطب الله أهل القرى وهم أهل مكة وما حولها من القرى في أسلوب استفهام استنكاري فقال تعالى في سورة الأعراف:(أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ"، "أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ)، أي هل أمنوا أن يأتيهم عذابنا في الليل وهم نائمون أو في وقت الضحى وهم يلعبون؟
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فقال تعالى فی سورة الله تعالى ال ب أ س اء
إقرأ أيضاً:
لبرق الحمى عهد علي وموثق.. فلسفة العهد في الشعر في صدر الإسلام وما بعده
في أيام ماضية حدثتني إحدى جاراتنا، وكانت غير مسلمة، عن حفظها لعهد قطعته لأبويها، وكيف كانت تسعى وتجاهد في كل خطوة من خطى الحياة ألا تخون عهدها لهما، أذكر أن إعجابي بشخصيتها ازداد حينها وأنا أفكر في حماس الصبا كيف ينتزع الآخرون المختلفون عنا إعجابنا إذا ما تمثلوا أوامر الإسلام في حياتهم، وهي في حقيقتها بدهيات أخلاقية إنسانية، جاء الإسلام ليتممها ويحث على الالتزام بها فحسب.
في الإسلام يعرف المنافق من نكصه للعهود التي قطعها على نفسه، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا عاهد أخلف، وإذا خاصم فجر". ومن هنا ازدادت مكانة العهد بعد الإسلام حين ارتبط بالعقيدة، وصار عقدة وثيقة من عقد الإيمان المتينة، فقد قال تعالى في سورة الإسراء/34: ﴿وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا﴾.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2"في حديقة الشاي" لبدوي خليفة.. رواية تحاكي واقعا تاريخيا مأزوماlist 2 of 2الروائي الفلسطيني صبحي فحماوي يحكى مأساة النكبة ويمزج الأسطورة بالتاريخend of listفالعهد بين الإنسان وربه لا يطلع عليه سواهما، وقد جاء في القرآن الكريم أمر صريح بالوفاء بالعهود؛ ففي سورة الأنعام/152 يقول تعالى : ﴿وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون﴾. ويقول سبحانه في سورة النحل/91: ﴿وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون﴾.
ونهى عن نقض العهد بقوله عز وجل: ﴿ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون﴾ [النحل :95]. كما حذر من عاقبة نقض العهود فقال في سورة البقرة/27: ﴿الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون فى الأرض أولئك هم الخاسرون﴾.
ووصف الذين ينكثون وينقضون عهودهم فقال في سورة الأنفال/55-56: ﴿إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون * الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم فى كل مرة وهم لا يتقون﴾. ووصفهم بالفاسقين في سورة الأعراف/102 فقال عز وجل: ﴿وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين﴾.
إعلانوقد مدح الله تعالى في القرآن الكريم من يحفظون عهودهم ويوفون بها فقال في سورة الرعد/20-23: ﴿الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق*والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب* والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولٰئك لهم عقبى الدار *جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم ۖ والملائكة يدخلون عليهم من كل باب﴾.
ووعدهم الله تعالى بالفردوس الأعلى في سورة (المؤمنون) فقال: ﴿والذين هم لآماناتهم وعهدهم راعون *والذين هم علىٰ صلواتهم يحافظون *أولٰئك هم الوارثون* الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون ﴾. وفي سورة البقرة /177 يقول سبحانه وتعالى : ﴿والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس ۗ أولٰئك الذين صدقوا ۖ وأولٰئك هم المتقون ﴾.
وفي ذلك يقول سيد قطب في الظلال: "وعهد الله مطلق يشمل كل عهد، وميثاق الله مطلق يشمل كل ميثاق. والعهد الأكبر الذي تقوم عليه العهود كلها هو عهد الإيمان؛ والميثاق الأكبر الذي تتجمع عليه المواثيق كلها هو ميثاق الوفاء بمقتضيات هذا الإيمان". ثم يكمل فيقول: "ثم تترتب على العهد الإلهي والميثاق الرباني كل العهود والمواثيق مع البشر.
سواء مع الرسول أو مع الناس. ذوي قرابة أو أجانب. أفرادا أم جماعات. فالذي يرعى العهد الأول يرعى سائر العهود، لأن رعايتها فريضة؛ والذي ينهض بتكاليف الميثاق الأول يؤدي كل ما هو مطلوب منه للناس، لأن هذا داخل في تكاليف الميثاق".
كل ما سبق يؤكد حرص الإسلام على الالتزام بالعهود التي تقطع، فالإنسان يعرف بكلمته، والأخلاق كلمة، والموقف كلمة، والرجولة كلمة. ومما يدل على أهمية الوفاء بالعهد أنه جاء في الدعاء المعروف بسيد الاستغفار عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء لك بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت".
ونقض العهد يعد في الإسلام من الكبائر وفقا للعلامة ابن حجر الهيتمي، إذ قال: "ومما يدل على تأكد العهود وأن الإخلال بالوفاء بها كبيرة الحديث المتفق عليه : "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كان فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر".
العهد في شعر صدر الإسلام وما بعدهبقي العهد والوفاء قيمة أخلاقية عليا، تأثر بها الشعراء في ضوء تعاليم الإسلام التي شددت على وجوب الوفاء بالعهود، والإخلاص للوعود بالإيجاب والتنفيذ. كما صار للعهود في الإسلام أبعاد دينية وأخلاقية أشد متانة من ذي قبل.
ففي صدر الإسلام نرى شاعر الرسول حسان بن ثابت يمدح الزبير بن العوام ابن عمة رسول الله (صفية) وحواريه، بثباته على عهد الرسول وعهد الإسلام، مشيرا إلى التزامه بالنهج والوفاء لسنة النبي ﷺ؛ فيقول:
أقام على عهد النبي وهديه
حواريه والقول بالفعل يعدل
وفي سياق الغزل وأحاديث الهوى نستذكر قصيدة الشاعر الحجازي عمر بن أبي ربيعة مع محبوبته هند التي كانت تعد ولا تنجز، وتماطل ولا تفي، بدلال أنثوي جميل:
إعلانليت هندا أنجزتنا ما تعد
وشفت أنفسنا مما تجد
كلما قلت متى ميعادنا
ضحكت هند وقالت بعد غد
أما عن العهد بين الأصحاب فيحدثنا الشاعر العباسي أبو فراس الحمداني عن قلة الوفاء بين الأصحاب، وكيف عز الصاحب الحقيقي الوفي في زمنهم، فما لنا بهذا الزمن وقد طغت المنفعة والمصلحة على أدق العلاقات الإنسانية وأرقها وأسماها! يقول الحمداني واصفا حاله وهو يجول بطرفه بين الأصحاب عله يجد كريما أصيلا يمكن الاتكاء عليه بوصفه مثالا للوفاء والصحبة الحقيقية في زمن عز فيه الخليل، فيقول معلنا يأسه:
ومن ذا الذي يبقى على العهد إنهم
و إن كثرت دعواهم لقليل
أقلب طرفي لا أرى غير صاحب
يميل مع النعماء حيث تميل
وصرنا نرى أن المتارك محسن
وأن صديقا لا يضر خليل
أكل خليل هكذا غير منصف
وكل زمان بالكرام بخيل
كيف تجلى مفهوم العهد في العصور الإسلامية المتأخرة؟في كتاب (أناشيد أبي مازن) تطالعنا قصيدة بعنوان "جدد العهد" للشاعر عبد الحكيم عابدين، صهر الداعية الإسلامي حسن البنا رحمهما الله، يتحدث فيها عن تجديد العهد في الإسلام قاصدا تجديد النية والعزم على التمسك بمبادئ الإسلام والذود عنها بتمثلها في مفاصل الحياة كلها، داعيا كل مسلم إلى تجديد العهد والربط بين القول والعمل وخدمة الإسلام بما يستطيع إليه سبيلا؛ فيقول:
جدد العهد وجنبني الكلام
إنما الإسلام دين العاملين
وانشر الحق ولا تخش الطغاة
فبصدق العزم يعلو كل دين
فتية الإسلام هيا
نتفانى في الجهاد
لنرى القرآن هديا
ساطعا في كل واد
وطني الإسلام لا أفدي سواه
وبنوه أين كانوا إخوتي
سجل الفتيان عهدا صادقا
أنهم للحق والعليا فدا
بارك اللهم هذا الموثقا
واستعدوا قد دنا يوم الندا
موقف الشعراء من نقض العهودنكث العهود مثلبة يحاسب عليها العرف المجتمعي والخلق الإنساني منذ العصر الجاهلي، وصار وقعه في الإسلام أقوى لأنه بطبيعة الحال يتوقع من المسلم الحق أن يتمثل بأوامر الله وسنته تمثلا دقيقا، ويبتعد عن كل ما يشوب المروءة ويعكر صفو الخلق القويم.
وقد أبدع الشعراء في صدر الإسلام وما بعده في تصوير قبح نكث العهود إبداعا يجعل المتلقي ينفر من هذا الفعل نفورا عظيما، فنقض العهود يجعل الإنسان يسبح في مستنقع من اللا معنى، إذ يتوقع نقض العهد، وإخلاف الوعد، والغدر في أي وقت ومن أي شخص، فتصبح الثقة أشبه بغيمة بيضاء بديعة المنظر، توهم المرء بقربها وفيئها، لكن سرعان ما تبغته باسوداد جوفها وهطلها الشديد من غير ميعاد أو نذير، فيخرج المرء من وهم الفيء إلى بلل الفجأة الذي يحمل غبار الجو وأتربته، ويترك آثارا من الطين في النفس، لا يمكن جلاؤها بغير الغيث اللطيف الوفير الذي يأتي بعد جلاء السماء ونقاء الهواء!
وفي تصوير هذا الشعور بنكث العهود وما يخلفه في نفس المرء يقول الشاعر كعب بن زهير بن أبي سلمى:
لشتان من يدعو فيوفي بعهده
ومن هو للعهد المؤكد خالع
ويؤكد الفكرة نفسها الشاعر كعب بن مالك فيقول:
فدونك واعلم أن نقض عهودنا
أباه الملا منا الذين تبايعوا
ثم يأتي بعد ذلك الشاعر العباسي أبو العلاء المعري، المعروف بفيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة، مؤكدا وناصحا، أنه ينبغي على المرء أن يتجنب الوعد إن لم يجد من نفسه أهلا له، فإن في ذلك مجلبة للذم، وقدحا في الأخلاق؛ إذ يقول:
تجنب الوعد يوما أن تفوه به
فإن وعدت فلا يذممك إنجاز
واصمت فإن كلام المرء يهلكه
وإن نطقت فإفصاح وإيجاز
وإن عجزت عن الخيرات تفعلها
فلا يكن دون ترك الشر إعجاز
وقال شاعر آخر واصفا حال الناس بين وفي وغدار، وأصيل وخائن أفاك، وبين صادق مصدق ومنافق كذاب:
الناس من الهوى على أصناف
هذا نقض العهد وهذا واف
إن نقض العهد بحسب الوصف القرآني أشبه بنقض الغزل بعد إعداده وإحكامه، فقد قال تعالى في سورة النحل/ 92: ﴿ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون﴾.
فمن ينقض عهده كتلك الحمقاء الخرقاء التي تغزل ثم تنقض غزلها، وقيل في التفسير إن الوصف في الآية الكريمة يعود إلى ريطة بنت عمرو بن كعب بن سعد، التي كانت تنقض غزلها بعد جهد ودأب، فلا يبقى بين يديها غزل تعتد به، ولا صوف ينتفع به.
وقد كانوا في الجاهلية يعقدون العهود بجانب نار يوقدونها، فيذكرون خيرها، ويدعون بالحرمان من خيرها على من نقض العهد، وحل العقد، كما جاء في قول العسكري: "وإنما كانوا يخصون النار بذلك لأن منفعتها تختص بالإنسان، لا يشاركه فيها شيء من الحيوان غيره".
وقال الزمخشري أيضا: "كانوا يوقدون نارا عند التحالف، فيدعون الله بحرمان منافعها، وإصابة مضارها على من ينقض العهد، ويخيس بالعقد، ويقولون في الحلف: الدم الدم، والهدم الهدم، لا يزيده طلوع الشمس إلا شدا، وطول الليالي إلا مدا، ما بل بحر صوفة، وما أقام رضوى بمكانه".
لم يغب في العصور اللاحقة لصدر الإسلام الحديث عن الوفاء للمحبوب، بل ظل حاضرا حضوره في الجاهلية وأكثر، فها هو الشاعر الأندلسي ابن فركون يحدثنا عن عهود هواه التي تتجدد باستمرار، فلا ينقضها ولا ينكثها، بل يزداد وفاء لها مع تقادم الليالي والأيام، مهما اشتدت آلام الهوى وعذاباته، إذ يرى نفسه فاق مجنون ليلى في وفائه وصدقه وثباته على عهد المحبوبة:
إعلانعهود غرامي لا تزال جديدة
وأربع جسمي عافيات دوارس
فمن قاسني فيما أقاس من الهوى
بقيس وليلى أخطأته المقايس
ومثله في الوفاء للمحبوبة، وصدق الود، وإنجاز الوعد، الشاعر العثماني منجك باشا، إذ يقول:
أحبتنا لئن زالت عهود
لكم فعهودنا أبدا تدوم
وإن طار الفراق بنا تركنا
قلوبا في دياركم تحوم
لكن الشاعر الأندلسي ابن حيوس كان له رأي آخر، فقد ذهب إلى أنه ما للنساء وعود، لا سيما في زواريب العشق والهوى:
أما الحسان فما لهن عهود
ولهن عنك وما ظلمن محيد
وفي العصر الأيوبي يطالعنا الشاعر المعروف بلقبه (بلبل الغرام الحاجري)، وهو حسام الدين عيسى بن سنجر بن براهم الحاجري، الشاعر الذي اشتهر أيضا برقة ألفاظه، وحسن معانيه، يعود أصله إلى بلدة حاجر في الحجاز؛ يطالعنا بحديث الشوق إلى الديار، وتجديد العهد والميثاق والوفاء للوطن الذي تتجاذبه الأشواق إليه كلما هب نسيم من قبله، فيقول:
لبرق الحمى عهد علي وموثق
إذا لاح نجديا بدمعيي أشرق
أراه بعين حين يلمع مدمع اش
تياق وقلب خافق حين يخفق
وفي حديث العهد أستذكر قصيدة للشاعر العراقي عبد الستار بكر النعيمي، كان قد كتبها لابنته التي سماها (عهد)؛ يقول فيها:
عهدا بأني سوف أفديك
بالروح بعد الله أحميك
لا زلت طفلة سبعة ركضت
في ساحتي والقلب يحييك
يا عهد، عهد صفائنا أزل
إن مت فالذكرى تسليك
لا تذكري إلا جميل أبي
ك لأنه ما يوم يبكيك
إن مت فالذكرى تسليك
لا تذكري إلا جميل أبي
ك لأنه ما يوم يبكيك
في كل فجر أذرعي انتصبت
أدعو إله الكون يحميك
الله أسأل -عهد- يا كبدي
لصلاح أمرك –عهد- يهديك
ومن بديع صدق العهد لدى الشعراء في العصر الحديث وثباتهم وحضهم عليه، والتغني بما يجلبه على صاحبه من مكارم ما كتبه الشاعر المصري وحيد حامد الدهشان:
باق على العهد لا يسلو أحبته .. وليس في شرعه غدر ولا ضجر
من قلبه فجرت أنهار عاطفة .. تسقي الأحبة عذبا ليس ينكدر
باق على العهد والإيمان رايته.. والحب دستوره يملي فيأتمر
باق على العهد روح الصدق .. تسكنه لا بالكنود ولا فظ ولا أشر
في وجه إخوانه تنساب بسمته .. قربى إلى ربه يا حظ من ظفروا
الوفاء بالعهد سمة أصيلة من سمات الشخصية المسلمة، ويعني البعد كل البعد عن الكذب والغدر والخيانة، والمسلم الحق يدعو إلى دين الله بأخلاقه التي تربى عليها من كتاب ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وبأفعاله وتصرفاته التي يحفظ بها شرف المسلم وصدقه وأمانته.
إن الوفاء بالعهد من أعظم الأخلاق التي تفتح قلوب الآخرين للإسلام. رزقنا الله وإياكم الوفاء والأوفياء على طول الطريق مهما تشعبت المفارق واختلطت المشاهد، وتاهت الأفكار، وصعب الثبات، وتزلزلت الأركان.