بين التشبث بالسلطة والوحشية: إلى أين يتجه السودان؟
تاريخ النشر: 12th, October 2023 GMT
(نشر باللغة الألمانية في المجلة الدولية العدد 5/2023 النمسا)
1. المقدمة
أن اندلاع الحرب في العاصمة الخرطوم هو مؤشر لانهيار دولة السودان الحديث الذي حكم على مدى 200 عام بأنظمة استبدادية متتالية قائمة على الهيمنة والاستغلال والتهميش. وكان ذروة الاستبداد و الفساد في فترة النظام العسكري-الإسلامي الذي أطاحت به ثورة ديسمبر 2018.
ورغم الوعي بالمخاطر التي تهدد وحدة واستقرار السودان والدول و الاقاليم المجاورة، إلا أن كل محاولات المجتمع الدولي والإقليمي للضغط على طرفي الصراع للجلوس للمفاوضات باءت بالفشل. وبعد ستة أشهر من القتال المرير، يمكن القول إن السودان الذي كان قائما قبل 15 أبريل 2023، قد انتهى، وبدأ واقع جديد يتشكل. لكن يبقى السؤال: هل هناك إمكانية لبناء سودان جديد و موحد و ديمقراطي على أسس الحرية والسلام والعدالة على أنقاض دولة الهيمنة والاستغلال والتهميش؟ أم أن هناك دولة أو دول استبدادية جديدة في طور التشكل حالياً؟ يحاول هذا المقال الإجابة على هذه الأسئلة من خلال تسليط الضوء على تعقيدات الوضع والتغيرات الكبيرة التي طرأت على المشهد السياسي السوداني منذ اندلاع الحرب حتي الان.
2. مبررات الحرب:"معركة الكرامة" مقابل "معركة إنهاء دولة ١٩٥٦"
بعد ستة أشهر من القتال المتواصل، تدهور الوضع الإنساني في السودان بشكل رهيب، خاصة في المدن التي تستعر فيها الحروب. وبحسب الإحصائيات الرسمية، فقد أسفرت الحرب عن مقتل أكثر من 4000 شخص، وتوفي أضعاف هذا العدد بسبب نقص الرعاية الصحية. كما أدت الحرب إلى نزوح أكثر من 3.8 مليون شخص داخليا وفرار نحو مليون آخرين خارج البلاد، خاصة إلى دول الجوار. كما أن النساء والفتيات معرضات بشكل أكبر لخطر العنف الجنسي والاختطاف والاغتصاب، خاصة في الخرطوم ودارفور. وبلغ عدد حالات الاغتصاب المبلغ عنها 124 حالة وقد يكون العدد الحقيقي أعلي من ذلك بكثير. وأكد منسق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة في بيان له أن الغذاء لم يعد متوفرا في بعض المناطق، خاصة في المناطق التي يتركز فيها القتال مثل الخرطوم وبعض مدن دارفور. ويعاني مئات الآلاف من الأطفال من سوء التغذية الحاد ويواجهون خطر الموت إذا لم يتلقوا العلاج.
ومن المرجح أن يتفاقم هذا الوضع المأساوي مع تزايد مخاطر التحول إلى حرب أهلية واسعة النطاق. ولم تنجح المحاولات حتى الآن لإعادة الطرفين المتحاربين إلى مفاوضات جدة بتيسير من المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية. ويبدو أن الجيش يحاول استعادة السيطرة على الوضع وتحقيق نجاحات تسمح له برفع سقف التفاوض. وعلى الرغم من أن قوات الدعم السريع استولت على العديد من وحدات الجيش الاستراتيجية، وتحاصر الآن مواقع أخرى، ووسعت انتشارها داخل الخرطوم وخارجها، إلا أنها فشلت حتى الآن في تحقيق نصر حاسم على الجيش.من جهة اخري، يخوض الطرفان حرباً إعلامية لكسب التأييد الشعبي وخلق الشرعية لمواصلة القتال.
ويصف الجيش وإسلاميو النظام المخلوع حربهم مع قوات الدعم السريع بـ”معركة الكرامة”. ويزعمون أنهم يقاتلون ميليشيا عرقية عابرة للحدود الوطنية و يريد قادتها الاستيلاء على السلطة بدعم من أطراف خارجية. وانضمت ميليشيات إلاسلاميين إلى الجيش، ومن بينها عناصر من تنظيم داعش، بعضهم حارب في ليبيا وسوريا. وتعتبر ميليشيا البراء بن مالك من أهم المشاركين في الحرب. لكن رغم ذلك فشل الجيش، الذي أضعفه النظام المخلوع لصالح قوات الدعم السريع في القضاء عليهم. ولهذا بدأ البرهان يستنفر الشباب للخدمة العسكرية تحت اسم “معركة الكرامة”. حيث تم افتتاح العديد من المعسكرات التدريبية في معظم الولايات. ورغم أن الاستجابة للاستنفار لم تكن كبيرة كما كان متوقعا، إلا أنها كانت فرصة لإضفاء الشرعية على مشاركة الميليشيات الإسلامية.
في المقابل، أطلقت قوات الدعم السريع على الحرب اسم “معركة إنهاء دولة 1956”، أي دولة ما بعد الاستقلال. ويتهمون أنظمة ما بعد الاستقلال بتهميشهم وحرمان مناطقهم من الخدمات والبنيات التحتية واستغلال مواردهم. هناك العديد من مقاطع الفيديو لجنود الدعم السريع التي يتحدثون فيها عن قضاياهم السياسية التي يقاتلون من اجلها، اي انهم الآن لا يقاتلون من أجل المال فقط. وكان الانضمام إلى قوات الدعم السريع يعتبر فرصة لكسب لقمة العيش لهؤلاء الشباب الذين ينحدرون من القبائل الرعوية المتضررة من الجفاف والتصحر. كما انهم مقاتلون شرسون بحكم ثقافتهم البدوية وبيئتهم الصحراوية القاسية. وكانت سيكون الوضع اكثر قتامة لو أن هذا العدد الكبير من الجنود المتوحشين اعتمدوا خطابات دينية متطرفة مثل بوكو حرام في نيجيريا أو داعش في سوريا و العراق. ويبدو أن تبني قوات الدعم السريع لخطاب دعم المهمشين والتحول الديمقراطي جاء تحت تأثير بعض الثوار اليساريين الذين أصبحوا مستشارين لحميدتي بعد الإطاحة بنظام البشير. ويبدو أيضًا أنهم لعبوا دورًا في إقناع حميدتي بدعم الاتفاق السياسي الذي كان سيعيد مسار التحول الديمقراطي. وأثار هذا التغيير في الموقف السياسي لحميدتي استفزاز إسلاميي النظام المخلوع، الذين أنشأوا قوات الدعم السريع خصيصًا لحماية نظامهم.
وبسبب خطاب قوات الدعم السريع الداعم للمهمشين، انضمت إليها العديد من الميليشيات القبلية من مناطق دارفور وأنجاسانا وكردفان والجزيرة والبطانة. وأدى ذلك أيضاً إلى انقسامات في الحركات المسلحة التي وقعت اتفاق جوبا للسلام 2020، واتخذت موقفاً محايداً من طرفي القتال في البداية. حيث انقسمت حركة العدل والمساواة بعد لقاء بعض قياداتها بعبد الرحيم دقلو القائد الثاني لقوات الدعم السريع في تشاد. كما انضم القائد شوتال، الذي انشق عن الحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال جناح عقار، إلى قوات الدعم السريع. وبحسب شهود عيان ومقاطع فيديو منشورة على مواقع التواصل الاجتماعي، فإن أعداد قوات الدعم السريع في تزايد، وهو ما يؤكد ما قاله حميدتي في خطاب مسجل مؤخرا.
الان تبين أن محاولة القضاء على قوات الدعم السريع، التي تضخمت علي حساب الجيش، مجرد وهم وسوء تقدير للوضع. و كشفت هذه الحرب مدي ضعف الجيش الذي اصبح محاصرا و يدافع الآن فقط عن بعض وحداته في الخرطوم. ولم يتمكن من استعادة السيطرة على أي من المواقع التي استولت عليها قوات الدعم السريع. ومن بينها مصنع اليرموك للأسلحة والاحتياطي المركزي، حيث صادروا مخزوناً ضخماً من الأسلحة. وفي مقاطع فيديو متداولة على نطاق واسع، هدد القادة الميدانيون لقوات الدعم السريع بالقاء القبض علي عناصر النظام المخلوع حتي لو تطلب ذلك ملاحقتهم في كافة المدن. وهذا يعني أنه إذا أصر البرهان على مواصلة الحرب، لن يترددوا في غزو كل مدن وقرى السودان كما حدث في الخرطوم ونيالا والجنينة وغيرها من قرى دارفور وكردفان.
وعندما تمكن البرهان فجأة من الهروب من الحصار الذي استمر أكثر من أربعة أشهر، كان من المتوقع أن يتوجه إلى جدة لاستئناف المفاوضات. لكن الآمال تبددت عندما أكد في كلمته أمام القوات المسلحة في بورتسودان أنه سيواصل الحرب حتى تدمير قوات الدعم السريع. دون أن يبدي اي قلق علي الوضع المأساوي الذي يعيشه السودانيين ولا خسائر الجيش في هذه الحرب. ويبدو أنه استجاب لضغوط عناصر النظام المخلوع، الذين سبقوا حديثه ببيان أكدوا فيه رفضهم للتفاوض. وهذا خطاب متوقع لأن قادتهم الذين فروا من السجون بدأوا بالفعل نشاطهم السياسي والتعبئة للحرب في شرق السودان. وبدلاً من الذهاب إلى جدة، قام البرهان برحلات خارجية للحصول على الدعم السياسي والعسكري. بدأ بمصر، ثم جنوب السودان، إريتريا، أوغندا، قطر، وتركيا. لكن جميع الدول التي زارها، بما فيها قطر وتركيا، اللتان تشكلان محور الإسلام السياسي، أكدت دعمها للمفاوضات في جدة. وترددت شائعات بأن البرهان يعتزم تشكيل حكومة مؤقتة تعمل من بورتسودان. لكن حميدتي هدد في تسجيل صوتي أنه إذا شكل البرهان حكومة في بورتسودان فإنه سيعلن حكومة في الخرطوم. ويبدو أن إسلاميي النظام المخلوع يخططون لإقامة دولتهم ولو في جزء صغير من السودان. لكن حلم إنشاء عاصمة جديدة في بورتسودان أحبط بشكل غير متوقع بعد مناوشات بين الجيش وقوات الزعيم القبلي شيبة ضرار بشرق السودان. لذا، يجد البرهان نفسه في موقف صعب، بين ضغوط إسلاميي النظام المخلوع، والحرب التي تتوسع وتقترب من مقره الجديد في بورتسودان بعد هروبه من الخرطوم.
رغم ذلك، واصل البرهان التصعيد في خطابه للجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 21 سبتمبر/أيلول الماضي. وطالب المجتمع الدولي بادانة قوات الدعم السريع كقوة إرهابية بسبب ارتكابها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، خاصة في دارفور. و قال إنه ملتزم بعملية التحول الديمقراطي، إلا أنه لم يقدم رؤية واضحة عن كيفية تحقيق ذلك دون إنهاء الحرب. وبعد ذلك قال رئيس المحكمة الجنائية الدولية في مقابلة إنه أبلغ البرهان بأنه سيكون ضمن من يتم التحقيق معهم بشأن جرائم في دارفور. ويبدو أن هذه إحدى أدوات الضغط عليه لبدء المفاوضات. وبعد ذلك، صرح البرهان لبعض وسائل الإعلام بأنه مستعد للسفر إلى جدة إذا طلب منه ذلك. الا انه لن يتمكن من الالتزام بما قال إلا بموافقة أعضاء النظام المخلوع. الذين تورطوا في حرب مريرة كانوا يعتقدون انها ستنتهي في سويعات قليلة، لكن باعتبارها فرصتهم الاخيرة سيخوضونها حتي النهاية. باستخدام شباب مضللين بمفاهيم ايديولوجيه دينية متطرفة، يقاتلون تماشيا مع شعارهم الشهير "فلترق منا الدماء او ترق منهم دماء او فلترق كل الدماء". و لذلك سيواصلون حربهم لاستعادة السلطة ولو اريقت دماء كل السودانيين و لن يترددوا في تقسيم السودان، كما فعلوا من قبل مع جنوب السودان.
من ناحية أخرى، خاطب حميدتي الجمعية العامة للأمم المتحدة عبر الفيديو حول الوضع في السودان ورؤيته للحل. وشدد على استعداده للتوصل إلى وقف طويل الأمد لإطلاق النار والتفاوض على حل سياسي. وعرض رؤيتهم للحل السياسي في السودان، والتي غطت بعض القضايا الرئيسية، بما في ذلك إنشاء جيش محترف موحد، وفترة الحكم المدني الانتقالي، وبناء السلام الشامل والعدالة الانتقالية، والانتخابات والتعداد السكاني ووضع الدستور. بالإضافة إلى ذلك، اقترح نظامً حوكمة فدراليً وفصل الدولة عن الهويات الدينية والثقافية والعرقية. وشدد على ضرورة إجراء مفاوضات سياسية تشمل أكبر قاعدة سياسية واجتماعية، باستثناء عناصر النظام المخلوع والقوى المناهضة للتحول الديمقراطي. وعلى المقياس النظري فهي رؤية شاملة وجيدة يمكنها تقديم حلول جذرية للمعضلة السودانية. الا ان التحدي الأكبر هو الإجابة على بعض الأسئلة المهمة مثل: ، هل يمكن ان يكون لقادة قوات الدعمي السريع دور في تشكيل مستقبل السودان بعد ان شاكت قواتهم في سفك الدماء والدمار والتخريب ؟ وهل سيتمكنون من كبح جماح جنودهم الشرسين؟ الذين سيعتقدون انهم دفعوا ثمن التغيير مما قد يشكل تهديدا للأمن الوطني والإقليمي.
3. صدمة الحرب والاصطفاف السياسي المرتبك للقوى الثورية
كان اندلاع الحرب في العاصمة الخرطوم بمثابة صدمة كبيرة، ليس فقط للسكان، بل للنخبة السياسية والثقافية أيضًا. ولم يكن يتوقع أحد أن تصل نيران الحروب المشتعلة في مختلف المناطق منذ عقود إلى مقر إقامته الآمن في الخرطوم. واعتبرت الخرطوم من أكثر مدن أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى أماناً وأكثرها تعايشاً بين مكوناتها، رغم أنها كانت منقسمة اجتماعياً ومكانياً بشكل واضح. ووصفت الخرطوم بأنها مدينة أنانية استولت على السلطة والثروة ولم تتأثر بالحروب في المناطق المهمشة. ولا تهتم حتى بمن نزح إليها، وأغلبهم من النساء والأطفال والشيوخ الذين يعيشون في أحياء عشوائية على أطراف المدينة تفتقر معظم ضروريات الحياة.
وأدى انفجار المعركة وسط الخرطوم، حيث مقر الجيش والوحدات العسكرية الرئيسية، إلى سقوط عشرات القتلى والجرحى منذ الساعات الأولى. واضطر السكان إلى الفرار دون أن يتمكنوا من حمل أي شيء معهم. وحتى لو عادوا، فلن يجدوا المنازل التي تركوها وراءهم، حيث تم نهب جميع أثاثها، حتى الأبواب والنوافذ، كما تم تدمير بعض المنازل بالطيران العسكري. وحملت قوات الدعم السريع مسؤولية ارتكاب هذه الجرائم، خاصة أنها معروفة بممارساتها السابقة في دارفور وفي مجزرة فض الاعتصام. مما أدى إلى كراهية وعداوة غير مسبوقة تجاههم، ويتم وصفهم بالبلطجية والمتعطشين للدماء والمرتزقة الأجانب من دول الساحل. وأدى ذلك إلى اصطفاف بعض سكان الأحياء الوسطى مع الجيش والمطالبة بالقضاء على قوات الدعم السريع.
ومن ناحية أخرى، فإن معظم سكان اطراف الخرطوم لم يغادروا المدينة لعدم قدرتهم على تحمل تكاليف السفر الباهظة للغاية. وبدأت قوات الدعم السريع بتوزيع المواد الغذائية عليهم بعد نفاذها من الأسواق. وأدى ذلك إلى انحياز بعض سكان هذه المناطق لقوات الدعم السريع. علاوة علي ذلك و بحسب أحد الناشطين المتواجدين في الخرطوم، فإن بعض سكان هذه الأحياء شاركوا في نهب الأسواق والمصانع والمنازل في وسط المدينة التي فر سكانها. هذا يعني ان الفوضى التي أحدثتها الحرب يعطي فرصة لمن واجهوا مظالم تاريخية للانتقام معتقدين انهم يقومون بأخذ راجع اموالهم المسلوبة. كما ان الجيش الي اعتبرهم حاضنة اجتماعية لقوات الدعم السريع بدأ يستهدفه بقصف الطيران و المدافع. كما حدث في سوق 6 بحي مايو ومناطق أخرى في اطراف مدن الخرطوم الثلاث.
أما بالنسبة لدارفور، حيث يأتي غالبية جنود قوات الدعم السريع، فقد كان للحرب طابع عرقي منذ البداية. ووقع الصراع الأعنف في الجنينة، حيث قُتل الآلاف، معظمهم من قبيلة المساليت، ومن بينهم حاكم ولاية غرب دارفور. واتهمت قوات الدعم السريع بارتكاب عمليات تطهير عرقي في الجنينة ومدن أخرى. كما حدثت صراعات قبلية بين القبائل ذات الأصول العربية، مما قد يؤثر على وحدة قوات الدعم السريع. وبحسب بعض تصريحات قيادات في قوات الدعم السريع فإن هناك أيادي خفية للاستخبارات العسكرية تعمل على تأجيج الصراع بين المجموعات القبلية في دارفور. ويعيد هذا الاستقطاب والتحيز العرقي إلى الأذهان الأحداث المأساوية التي شهدها اقليم دارفور في الفترة 2003-2004.
ومن الواضح أن المرارة التي خلفتها الحرب والخسائر الشخصية أدت إلى استقطاب حاد، كما تزايدت الخطابات العنصرية، خاصة على وسائل التواصل الاجتماعي. ولسوء الحظ، لم تنج حتى النخب السياسية والثقافية والاجتماعية التي تشكل العمود الفقري للثورة من هذا الاستقطاب. وتعتبر هذه المرحلة الأخطر في مسيرة الثورة التي ظلت سلمية لأكثر من أربع سنوات رغم العنف الذي واجهته من الاجهزة الامنية بما فيها طرفي النزاع الحالي. ولا يمكن لأحد أن يتخيل أن أياً من الثوار السلميين الذين كانوا يطلقون شعار "العسكر للثكنات و الجنجويد يتحل" سوف تدفعه صدمة الحرب للانضمام إلى أحد طرفي الصراع. ولا شك أن هذا الوضع يعتبر أحد مؤشرات الانزلاق نحو حرب أهلية واسعة النطاق، مما يعني ضياع الأمل في التحول الديمقراطي الذي كان حلم الثوار.
وكان من المتوقع أن تدفع مأساة الحرب قوى الثورة، التي كانت تعاني من انقسام حاد، إلى التوحد. و كانت قوى الثورة انقسمت إلى مجموعتين: مجموعة طالبت بتغيير جذري، ورفضت التفاوض مع العسكر، وطالبت بإزاحتهم بالكامل من السلطة. ويقود هذه المجموعة الحزب الشيوعي وأحزاب يسارية أخرى وبعض لجان المقاومة والنقابات المهنية. ولم تقدم جماعة التغيير الجذري رؤية واضحة حول كيفية انتزاع السلطة من قبضة الانقلابيين الذين يحتمون بترسانة عسكرية ضخمة. أما المجموعة الأخرى فكانت مؤيدة للتسوية التفاوضية (ما يعرف بالهبوط الناعم)، و تشمل قوى الحرية والتغيير – المجلس المركزي وأطراف أخرى، بالإضافة إلى بعض لجان المقاومة والنقابات المهنية. في فترة ما قبل الحرب، فشلت كل المحاولات لتوحيد المجموعتين لتعزيز وحدة قوي الثورة.
والآن، بعد اندلاع الحرب بين قادة الانقلاب أنفسهم، انحاز بعض السياسيين والنخب، بما في ذلك بعض جماعة التغيير الجذري، إلى جانب الجيش، ومن بينهم بعض الناشطين في لجان المقاومة. وحتى أولئك الذين يطالبون بإنهاء الحرب لا يقدمون رؤي واضحة حول كيفية استعادة مسار التحول الديمقراطي. بل الغريب انهم لا زالوا يركزون على مهاجمة قادة قوى الحرية ولتغيير- المجلس المركزي ويتهمونهم بالتحيز لقوات الدعم السريع. و بأنهم عملاء للولايات المتحدة وحلفائها، ويقصدون المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. من ناحية أخرى، فان قوى الحرية والتغيير-المجلس المركزي التي شاركت في العملية السياسية لاستعادة مسار التحول الديمقراطي تواجه حملة إعلامية شرسة من إسلاميي النظام المخلوع يتهمونهم باشعال الحرب. ويدعون بان لقوي الحرية و التغيير - المجلس المركزي لديهم خطة لتصفية الجيش السوداني لصالح قوات الدعم السريع. ورغم ذلك، فقد اعلنت قوي الحرية التغيير – المركزي موقفها المناهض للحرب منذ البداية، ويحاول قادتها لعب دور ممثلي ثورة ديسمبر 2018. ولذلك سافروا إلى عدد من دول الجوار والدول العربية لعرض رؤيتهم حول الوضع في السودان. الا ان ما يؤخذ عليهم هو التوجه للخارج قبل توحيد الجبهة الداخلية ممثلة في قوي الثورة و القواعد الشعبية. لذا فان قادة قوي الحرية و التغيير -المركزي بتصرفاتهم هذه يمارسون نوع من الهيمنة بادعائهم تمثيل قوي الثورة و التحول الديمقراطي دون ان يكون لديهم دعم كافي.
4. القيادة من المستقبل الواعد: البحث عن الحلول وإيجاد وجهات النظر متعددة
إن هذه الحرب التي أشعلت لمنع استكمال العملية السياسية التي يسرتها وتراقبها منظمات ودول إقليمية ودولية، تؤكد أن حل المعضلة السودانية لن يأتي من الخارج. وتوقعت قوى التغيير والتغيير التي شاركت في العملية السياسية أن تؤدي الضغوط التي يمارسها المجتمع الدولي إلى إقناع مدبري الانقلاب بالتوقيع على الاتفاق، وهو ما لم يحدث. وبعد اندلاع هذه الحرب المأساوية، كان هناك إجماع دولي على عدم دعم أي من طرفي الصراع، لكن الضغط عليهم للجلوس معا للتفاوض لم ينجح حتى الآن. ويبدو أن تجربة الحروب في ليبيا واليمن وسوريا دفعت المجتمع الدولي والإقليمي إلى إعطاء الأولوية للحل التفاوضي. وهذا لا يعني بالضرورة أن جميع الدول ستحافظ على الحياد المعلن، إذ ظل السودان منذ فترة طويلة ساحة للتنافس الدولي والإقليمي. في البداية، حاولت مصر، التي اتُهمت بالتدخل العسكري قبل اندلاع الحرب، خلق إجماع إقليمي يدعم الجيش كمؤسسة دولة بحجة حماية السودان من التفكك الوشيك. لكن جهودهم مع الاتحاد الأفريقي والجامعة العربية ودول الجوار باءت بالفشل، بسبب تضارب المصالح مع طرفي الصراع. ولا تزال هناك شائعات حول دعم مصر للجيش في مجال الطيران وإمكانية التدخل المصري إذا استمرت الحرب. كما تتهم الإمارات بتهريب الأسلحة عبر الحدود الليبية إلى قوات الدعم السريع. وبالإضافة إلى علاقات قوات الفاغنر الروسية مع الجانبين، هناك الآن شائعات حول دعمها لقوات الدعم السريع. ومن المؤكد أن أي تدخل روسي سيستخدمه الأميركيون كذريعة للتدخل. وإذا فشلت الجهود الرامية إلى وقف الحرب، فسوف يصبح السودان مسرحاً لصراعات القوى العظمى الدولية والإقليمية.
ورغم أن البرهان يعرف مخاطر هذه الحرب وتكاليفها الباهظة، إلا أنه غير قادر على اتخاذ قرار يمكن أن ينقذ البلاد من حرب أهلية واسعة النطاق. وهذا يؤكد أنه لا يستطيع تجاوز إسلاميي النظام المخلوع، الذين ظلوا، منذ استولوا على السلطة في انقلاب عسكري عام 1989، يرددون أن من يريد السلطة عليه أن يستولي عليها بالقوة. وهذا ما دفع كافة الأحزاب السودانية، بما في ذلك حزب الأمة والاتحاديين والشيوعيين وحزب البعث وغيرها، إلى حمل السلاح في التسعينيات. ورغم تحالف أحزاب المعارضة مع الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق، إلا أنها فشلت في إسقاط النظام. الفرق هو أن الحروب السابقة حدثت بعيداً عن العاصمة الخرطوم، لكنها تسببت أيضاً في مقتل وتشريد مئات الآلاف من قراهم الآمنة. وعندما انقسم الإسلاميون على السلطة، لم يترددوا في إشعال المزيد من الحروب. وأشعلت الحرب في دارفور حركات مسلحة موالية لحسن الترابي عراب النظام الإسلامي قبل الإطاحة به نهاية عام 1999. بينما استخدم حزب المؤتمر الوطني، الإسلاميون الموالون للبشير، ميليشيات قبلية من أصول عربية تعرف باسم الجنجويد. ولم يكن البشير يثق بالجيش الذي ساهم تمكين الإسلاميين في السنوات العشر الأولى في تحويله إلى مؤسسة تدين بالولاء لنظام الاسلاميين، وخاصة زعيمهم الترابي. وبعد عشر سنوات من بدء الحرب في دارفور، تم تقنين الميليشيات الموالية للنظام فيما يعرف بقوات الدعم السريع. والتي أصبحت تستخدم لقمع أي تحركات مسلحة أو سلمية مناهضة للنظام في جميع أنحاء السودان.
طموح حميدتي المتزايد للسلطة اتضح عندما تم استدعاء قوات الدعم السريع إلى الخرطوم من قبل البشير لقمع ثورة ديسمبر 2018، لكن حميدتي رفض ذلك. ومنذ تلك اللحظة، بدأ إسلاميو النظام المخلوع التخطيط للقضاء على حميدتي لخطورته كمنافس عسكري-سياسي. وبعد الإطاحة بالبشير بضغوط من الثورة السلمية، في أبريل 2019، تم ضم حميدتي إلى المجلس العسكري الانتقالي لتأمين جانبه. وبعد أقل من شهرين، تورط في مجزرة الاعتصام، لكنه أدرك الخدعة وقام بسجن بعض من يعتقد أنهم وراء خطة فض الاعتصام. لكن الحملة الإعلامية ضد حميدتي وقوات الدعم السريع أخافته ودفعته للمشاركة في انقلاب 25 أكتوبر 2021 . ثم جاءت نقطة التحول الأخيرة بعد أن اكتشف حميدتي أن البرهان، شريكه في الانقلاب، يعمل على إعادة أعضاء النظام المخلوع. ولذلك انقلب عليه وانحاز إلى الاتفاق السياسي ووعد بحمايته، مما أدى إلى هذه الحرب المأساوية. ويبدو أن حميدتي كان على أتم الاستعداد لهذه المواجهة، بالمال والعتاد والجنود. استفاد هو من العلاقات الخارجية التي طورها في السنوات الأخيرة مع دول الخليج وروسيا وغيرها. علاوة علي ذلك تمكن بعد انلاع الحرب من استقطاب العديد من الجنود والميليشيات القبلية، التي يمكنها اجتياح جميع مدن وقري السودان. ومن ناحية أخرى، يحاول الإسلاميون الآن استعادة السيطرة على المعركة من خلال اتباع "سياسة الأرض المحروقة" التي اتبعها الأسد في سوريا. الذي تمكن من السيطرة على الأرض، بل شرد أهلها حول العالم.
وبات من المؤكد أن أياً من طرفي الحرب لم ولن يتمكن من تحقيق النصر إلا على شظايا السودان وقتل وتشريد شعبه. ولذلك فإن السودانيين، في الداخل والخارج، هم المتضررون من هذه الأوضاع المأساوية التي خلقتها الحرب، ويجب أن يكون لهم دور فعال في إنهاء الحرب. بدلاً من المشاهدة السلبية والانتظار حتي يجر طرفا الحرب البلاد الي حرب أهلية التي اصبحت مؤشراتها واضحة. ولذلك، يجب على كافة القوى السياسية والاجتماعية توحيد جهودها، والتخلي عن التشرذم والارتباك بين طرفي الصراع، ونبذ الخطاب العنصري الذي من شأنه تعميق الخلافات وتدمير النسيج الاجتماعي. إن هذه الفترة الحساسة من تاريخ السودان تتطلب درجة أعلى من الوعي بالمخاطر وطريقة مختلفة في التفكير. لا يتم حل المشكلات أبدًا بنفس طريقة التفكير التي ساهمت في خلقها. ويتطلب هذا التغيير ما يلي:
• لتعزيز السلام، يجب نبذ الكراهية والعنصرية والتعالي. كما يجب على الجميع أن يتقبل ويعترف بأن ما حدث في الخرطوم والمدن الأخرى قد حدث من قبل في الجنوب ودارفور وأنجاسانا وجبال النوبة. ويجب الاعتراف بالمظالم التاريخية التي تدفع مئات الآلاف من الشباب للانضمام إلى الحركات المسلحة، بما في ذلك قوات الدعم السريع. إن ظاهرة قوات الدعم السريع التي بدأت مع عصابات الجنجويد، لها أسباب واقعية تتمثل في فقدان القبائل الرعوية ذات الأصول العربية لمصادر رزقها بسبب الجفاف والتصحر. ويرتبط هذا في حد ذاته بقضايا الاستثمار الزراعي الذي كان يموله البنك الدولي. وقد مهد الاستعمار الطريق لذلك من خلال تسجيل معظم أراضي السودان باسم الحكومة وحرمان المجتمعات المحلية من حقهم في الأرض. ولذلك فإن تجاهل هذه المظالم المتراكمة عند تحليل هذه الظاهرة المعقدة هو تبسيط مضلل. ويحاول البعض اختصار الظاهرة في مراحلها الأخيرة، عندما استخدم النظام المخلوع هؤلاء الشباب في حرب دارفور والمهام اللاحقة. وفي الحقيقة ان شباب المنحدرين من القبائل ذات الأصول العربية، الأكثر تأثرا بالجفاف و التصحر، استغلت لمحاربة الحركات المسلحة من القبائل ذات الأصول الأفريقية، والتي تعاني أيضا من التهميش. وتم حشد الشباب من الجانبين ليكونوا وقودا للحرب بين حزبي الإسلاميين المتنافسين على السلطة. وبالنظر إلى تجارب الشعوب، وخاصة في جنوب أفريقيا ورواندا، فإن الطريق إلى السلام المستدام والمستقبل المزدهر يتطلب الاعتراف بالجرائم والمظالم التاريخية والحالية والعفو على أساس العدالة الانتقالية.
• يجب على النخب السياسية والثقافية أن تتخلى عن الغطرسة والتفكير الأناني والرغبة في الهيمنة التي ورثتها عن المستعمرين. فالكل يدعي امتلاك الحقيقة المطلقة، ويسعى إلى فرض هيمنة رؤيته علي الاخرين. وهو ما ساهم في التشرذم على مستوى النخب والانفصال بينها وبين قواعدها الشعبية التي من المفترض أنها تمثلها. وكمبدأ أساسي لإدارة الاختلاف، يجب الاعتراف بتنوع تجارب واحتياجات وتطلعات المجموعات الاجتماعية المختلفة، فضلاً عن الاختلافات في وجهات النظر والحلول المقترحة. ومن أجل إيجاد الحلول ووجهات النظر الإبداعية، يجب علينا أن نستمع لبعضنا البعض بقلوب وعقول مفتوحة. وبالتالي الاستفادة من وجهات النظر المختلفة لتكوين ذكاء جماعي قادر على حل القضايا المعقدة و اهمها كيفية ايقاف الحرب واعادة بناء السودان علي اسس جديدة.
• يجب على الجميع أن ينظروا بعين البصيرة إلى المستقبل الواعد، على غرار تطلعات وطموحات شهداء الثورات السودانية، والبحث عن سبل التغلب على التحديات في الطريق. وهذا ما يسمى القيادة من مستقبل واعد. ويتطلب هذا أولاً تغيير أنماط التفكير القديمة التي تسببت في الأزمة. وهو التحول من التفكير الخطي والأناني إلى التفكير الايكولوجي (ego-thinking to eco-thinking) الذي يأخذ في الاعتبار مختلف الأنظمة المتقاطعة التي تؤثر على الواقع. بما في ذلك النظم الاقتصادية والاجتماعية والجنسانية والثقافية والعرقية على المستويات المحلية والوطنية والإقليمية والدولية.
وبهذا يمكن للقوى السياسية والاجتماعية السودانية الداعمة للتغيير الديمقراطي تشكيل قيادة موحدة بدلاً من الانقسام الحالي وتطوير مشروع سياسي وطني متفق عليه. يعيد هيكلة مؤسسات الدولة على أساس دستور جديد يضمن الحريات ويعترف بالتنوع. كما يتضمن خطة للتنمية المستدامة والعادلة تركز على معالجة المظالم التاريخية. وبهذا يمكن تعبئة جماهير الثورة مرة أخرى للضغط على طرفي الصراع لإنهاء الاقتتال واستعادة مسار التحول الديمقراطي.
marfa_1998@hotmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: لقوات الدعم السریع قوات الدعم السریع المجلس المرکزی المجتمع الدولی الدعم السریع ا فی بورتسودان اندلاع الحرب السیطرة على طرفی الصراع فی السودان فی الخرطوم على السلطة بما فی ذلک فی دارفور هذه الحرب العدید من حرب أهلیة الذی کان الحرب فی یجب على خاصة فی إلا أنه أکثر من ما حدث بعد ان إلا أن
إقرأ أيضاً:
مقتل 18 شخصاً في هجومين لقوات الدعم السريع غربي السودان
قتل 18 شخصاً وأصيب خمسة آخرون بجروح، يوم أمس (السبت)، في هجومين منفصلين لقوات الدعم السريع في ولاية شمال دارفور غربي السودان، وفقاً لجماعة طبية ومسؤول حكومي، وقالت شبكة أطباء السودان، أن 15 شخصاً قتلوا وأصيب خمسة آخرون جراء هجوم نفذته قوات الدعم السريع على منطقة برديك وقرى قريبة.
وبشكل منفصل، قال مدير عام الوزارة إبراهيم خاطر، إن «المستشفى السعودي بالفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، تعرض اليوم للقصف بالمدفعية الثقيلة من قبل الدعم السريع، مما أدى إلى مقتل ثلاثة أشخاص».
وأكد خاطر أن الفرق الطبية العاملة بالمستشفى لم تصب بأذى.
وتتواصل الاشتباكات العنيفة بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع في الفاشر منذ 10 مايو (أيار) الماضي. وقد تأثرت المدينة، التي يقدر عدد سكانها بحوالي 1.5 مليون شخص، بما في ذلك 800 ألف نازح داخلي، بشدة جراء النزاع.
وأسفر النزاع المستمر في السودان، الذي بدأ في منتصف أبريل (نيسان) 2023، عن مقتل أكثر من 24 ألفاً و 850 شخصاً ونزوح ملايين الأشخاص، وفقاً لأحدث تقديرات المنظمات الدولية.
بورتسودان: «الشرق الأوسط»