الجغرافيا السياسية للممر الاقتصادي بين الهند وأوروبا.. أحلام غير واقعية بعزل الصين
تاريخ النشر: 12th, October 2023 GMT
سلط الرئيس التنفيذي لشركة تحليلات الخليج، جورجيو كافيرو، الضوء على الجغرافيا السياسية للممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، مشيرا إلى أن زعماء فرنسا وألمانيا والهند وإيطاليا والسعودية والإمارات وأمريكا كشفوا، في قمة مجموعة العشرين، التي عقدت في نيودلهي في سبتمبر/أيلول 2023، عن مشروع ممر شرقي يربط الهند بالإمارات والسعودية والأردن وإسرائيل، وممر شمالي يربط دول الشرق الأوسط بأوروبا.
وذكر كافيرو، في تحليل نشره بموقع المركز العربي بواشنطن وترجمه "الخليج الجديد"، أن الممر الاقتصادي سيعمل على استكمال طرق النقل البري والبحري الموجودة بالفعل، بهدف زيادة الاتصال والتكامل الاقتصادي بين آسيا وأوروبا عبر البنية التحتية للطاقة، والسكك الحديدية، والكابلات عالية السرعة، وممرات الشحن.
وتشكل البلدان المشاركة في المشروع 40% من سكان العالم وحوالي 50% من الاقتصاد العالمي، وسيعتمد الممر على الموانئ البحرية والطرق والمراكز اللوجستية في الإمارات والسعودية، ما يعمل على تعزيز أهمية دول الخليج العربية باعتبارها نقاطًا مهمة في طرق التجارة العالمية.
ويشير كافيرو إلى أبعاد جيوسياسية للممر الاقتصادي تستحق النظر بها في سياق تكيف دول مجلس التعاون الخليجي الست مع واقع التعددية القطبية، فباستثناء عُمان، يتمتع جميع أعضاء هذه المؤسسة شبه الإقليمية بوضع "شريك حوار" في منظمة شنغهاي للتعاون (SCO).
وفي أغسطس/آب، تلقت الإمارات والسعودية دعوات للانضمام إلى كتلة بريكس؛ وسرعان ما قبلت الإمارات الدعوة، ومن المرجح أن تفعل السعودية ذلك أيضاً.
ورغم اندماج بعض دول مجلس التعاون الخليجي في منظمة شنغهاي للتعاون وبريكس، كانت الإمارات والسعودية متحمستين لتوقيع مذكرة تفاهم الممر الاقتصادي، ما يؤكد تأثيرهما المتزايد على إعادة التوازن إلى النظام الاقتصادي العالمي والمشهد الجيوسياسي.
ومن شأن هكذا ممر أن يعزز مركزية دول الخليج العربية الغنية بالطاقة في الاقتصاد العالمي، حيث يستمر مركز الثقل الجيواقتصادي العالمي في التحول بعيدًا عن الغرب إلى الشرق والجنوب العالمي وهو التحول الذي تسارع بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008.
وينبع دعم إدارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، للممر الاقتصادي إلى حد كبير من جهودها لطمأنة حلفاء الولايات المتحدة وشركائها في الشرق الأوسط بشأن التزام واشنطن تجاه المنطقة مع تقديم بديل لمبادرة الحزام والطريق الصينية.
تحدي الوجود الصيني
ويربط كافيرو تحليل جدوى الممر بين آسيا والشرق الأوسط وأوروبا بالنظر في المنافسة بين القوى العظمى وسط ما يسمى "الحرب الباردة الجديدة" بين الولايات المتحدة والصين.
فالصين أطلقت مبادرة الحزام والطريق سعيا إلى ربط آسيا وإفريقيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية مع وضع الصين كمركز للاقتصاد العالمي في القرن الحادي والعشرين. وتلعب دول الخليج العربية أدواراً مركزية في رؤية المبادرة الصينية، لا سيما في ضوء أوجه التآزر بينها وبين رؤية السعودية 2030.
وأثارت علاقات بكين العميقة مع الدول العربية المتحالفة تاريخياً مع الغرب وإسرائيل مخاوف في واشنطن، ما دفع الولايات المتحدة إلى محاولة مواجهة النفوذ الجيواقتصادي الصيني المتوسع في الشرق الأوسط.
وهنا يلفت كافيرو إلى أن رئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي، قال إن الممر العابر للقارات لن يفعل أقل من "دفع التنمية المستدامة للعالم بأسره"، كما أشادت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، بشبكة النقل من السفينة إلى السكك الحديدية ووصفتها بأنها "جسر أخضر ورقمي عبر القارات والحضارات".
وعلى حد تعبير رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، فإن الممر الاقتصادي سيكون "أكبر مشروع تعاون في تاريخنا".
ومع ذلك، يلفت يشير إلى ضرورة إدراك صناع القرار في الولايات المتحدة أن أعضاء مجلس التعاون الخليجي لا ينظرون إلى التعددية القطبية كما تنظر إليها واشنطن.
وفي أعقاب الغزو الروسي واسع النطاق لأوكرانيا في فبراير/شباط 2022، تسارع التشعب بين الشرق والغرب وبين الشمال والجنوب العالمي على الساحة الدولية، ما أدى إلى تكثيف الضغوط على دول الخليج العربية "لاختيار جانب" من طرفي الصراع.
لكن أعضاء مجلس التعاون الخليجي اختاروا بدلاً من ذلك تنفيذ سياسات خارجية مستقلة ومتعددة الانحيازات تعتمد على علاقاتهم العميقة مع دول في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة والصين وروسيا.
وبالنسبة لدول الخليج العربية، يعتبر هذا النهج في التعامل مع السياسة الخارجية منطقيا، لأنه يمنح أعضاء مجلس التعاون قدرا أكبر من الاستقلالية والنفوذ في الشؤون العالمية.
ومن خلال العمل مع أكبر عدد ممكن من القوى، بما في ذلك القوى المعادية والمتنافسة لبعضها البعض، يمكن للإمارات والسعودية وغيرها من دول مجلس التعاون الخليجي تعظيم نفوذها الجيوسياسي عبر مناطق متعددة.
ولذا، ومع اختلاف المصالح الجيوسياسية ووجهات النظر حول التعددية القطبية، فإن كل دولة على طول مسار الممر الاقتصادي ستنظر إليه بشكل مختلف.
فواشنطن ستنظر إلى الممر من خلال عدسة وقف الصعود الجيواقتصادي للصين في الشرق الأوسط وتقريب دول مجلس التعاون الخليجي من مدار النفوذ الغربي، فيما ينظر المسؤولون في أبو ظبي والرياض إلى الممر كوسيلة لتحقيق المزيد من التوازن في شبكاتهم في أوروبا وأمريكا الشمالية مع تلك الموجودة في الصين ودول أخرى في الشرق والجنوب العالمي.
فالممر الاقتصادي هو مجرد أحدث فرصة للإمارات والسعودية لتصبحا مراكز ذات أهمية متزايدة للتواصل بين الأقاليم، ما سيساعد خططهما لمزيد من التنويع الاقتصادي بعيدًا عن الهيدروكربونات.
ومع ذلك، فدول مجلس التعاون الخليجي لست وحدها في رفض فكرة الانحياز غربا أو شرقا، فاليونان، الدولة العضو في حلف شمال الأطلسي، مشابهة للإمارات والسعودية في النظر إلى الممر الاقتصادي كوسيلة لتوسيع دورها في الترابط في القرن الحادي والعشرين.
غير أن العقدة الأوروبية الرئيسية لمشروع لممر الاقتصادي هي ميناء بيرايوس، وهو الميناء البحري الرئيسي في أثينا.
وتعد شركة China Ocean Shipping Company (COSCO) المملوكة للدولة الصينية صاحبة المصلحة تاطللاة في هذا الميناء اليوناني الواقع على خليج سارونيك، والذي يعد أيضًا بمثابة نقطة دخول رئيسية إلى أوروبا لمبادرة الحزام والطريق.
ومن وجهة النظر الإماراتية والسعودية، فإن القوى العالمية المهيمنة: الولايات المتحدة والصين وروسيا، ليست وحدها في تشكيل التوازن الجيوسياسي والاقتصادي في العالم، بل يتحقق هذا التشكل بمشاركة "القوى الوسطى" في العالم، ومنها الإمارات والسعودية.
وهنا يشير كافيرو إلى أن أصداء الحرب الروسية الأوكرانية المزعزعة للاستقرار والتي ظهرت عبر قارات متعددة مكنت السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي الأخرى من الاستفادة من مواردها وجغرافيتها لتعزيز أدوارها الأساسية في تحقيق السلام.
وأوضحت هذه النقطة كلمات الامتنان التي وجهها الرئيس الأمريكي، جو بايدن، لنظيره الإماراتي، محمد بن زايد"، في الحدث الذي أقيم في الهند أثناء الكشف عن الممر الاقتصادي في سبتمبر/أيلو الماضي. إ قال بايدن لرئيس الإمارات محمد بن زايد: "شكراً لك، لم نكن هنا دون جهودك".
ويرى كافيرو أن دوافع الرئيس الأمريكي لزيارة جدة في يوليو/تموز 2022 والتخلي عن تعهده خلال حملته الانتخابية بمعاملة السعودية كدولة "منبوذة" تسلط الضوء أيضًا على تقييم البيت الأبيض بأن المملكة مهمة جدًا بحيث لا يمكن تهميشها بالنظر إلى حجم التحديات العالمية التي تواجه الغرب.
الهند والصين وباكستان
تشكل التوترات بين الهند والصين ديناميكيات جيوسياسية تحيط بحوافز الممر الاقتصادي ونيودلهي للمشاركة في هذا الممر العابر للقارات. ومع وصول العلاقات الصينية الهندية إلى أدنى مستوياتها بسبب النزاع الحدودي بينهما، فإن العملاقين الآسيويين يتصارعان على النفوذ، حيث تبذل نيودلهي جهوداً لمواجهة نفوذ الصين في بلدان عبر جبال الهيمالايا وجنوب آسيا.
ومع احتدام المنافسة بين الصين والهند، تمكنت الدول الجزرية في المحيط الهندي، مثل جزر المالديف وسريلانكا من الاستفادة من الاحتكاك المكثف بين بكين ونيودلهي لصالحها؛ وكذلك الأمر بالنسبة لأعضاء مجلس التعاون الخليجي، بحسب كافيرو.
ومن شأن مشروع الممر الاقتصادي أن يمكن حكومة مودي من الاستفادة من الترابط المتزايد بين الهند والسعودية والإمارات ودول الخليج العربية الأخرى، حيث يعمل عدد كبير من الهنود في تلك الدول، بطرق يُنظر إليها على أنها قادرة على وقف نفوذ الصين المتزايد في الشرق الأوسط وأوروبا.
وهنا يشير كافيرو إلى أن إصرار الهند المتزايد على تحدي صعود بكين سيزيد من تصور واشنطن لنيودلهي كشريك مهم في "الحرب الباردة الجديدة".
وفي الوقت الذي تشهد فيه الهند خلافاً غير مسبوق مع كندا، حليفة أمريكا في حلف شمال الأطلسي (الناتو) وجارتها الشمالية، فإن موقف نيودلهي باعتبارها حصناً واضحاً ضد النفوذ الصيني المتوسع من شأنه أن يحفز البيت الأبيض على الأرجح على تجنب الوقوف بشكل وثيق مع أوتاوا ضد القوة شبه القارية.
وفي هذا الصدد، يلفت كافيرو إلى أن التوترات بين الهند وباكستان ذات صلة أيضاً بالجغرافيا السياسية للممر الاقتصادي، فقد عارضت الهند باستمرار مبادرة الحزام والطريق، ويرجع ذلك في جزء كبير منه إلى الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني الذي يمر عبر الأراضي التي تسيطر عليها باكستان والتي تؤكد نيودلهي أنها أرض هندية.
ولذلك، ترى نيودلهي أن الممر الاقتصادي فرصة لتأمين نفوذ أكبر على الصين وباكستان من خلال الانضمام إلى بديل طبيعي لمبادرة الحزام والطريق.
وتحتفظ باكستان بحق النقض على الاتصال البري بين الهند والغرب، لكن الممر الاقتصادي سيكسر هذا النقض الباكستاني، ما يفتح الباب أمام المزيد من التكامل الاقتصادي بين الهند وأوروبا عبر الشرق الأوسط دون الحاجة إلى التعامل مع إسلام أباد بينما تظل النزاعات الإقليمية الهندية الباكستانية دون حل.
اتفاقيات إبراهيم
وترى إدارة بايدن ضرورة لسحب الهند بعيداً عن مجالات نفوذ روسيا وإيران، كما تسعى واشنطن أيضًا إلى إبعاد دول مجلس التعاون الخليجي عن مدارات نفوذ روسيا والصين، مع زيادة دمج إسرائيل في بقية الشرق الأوسط من خلال محاولة إقناع الرياض بالتطبيع مع تل أبيب.
ويعد توسيع اتفاقيات إبراهيم أمرًا أساسيًا لاستراتيجية السياسة الخارجية للبيت الأبيض في الشرق الأوسط. وفي هذه المرحلة، من غير الواضح ما إذا كانت السعودية ستتخلى رسميًا عن مبادرة السلام العربية وتضفي الطابع الرسمي على العلاقات مع إسرائيل دون تقديم تنازلات كبيرة للفلسطينيين.
ومع ذلك، فباستثناء انضمام السعودية إلى اتفاقيات إبراهيم، تشير جميع الدلائل إلى أن العلاقة السعودية الإسرائيلية الفعلية ستستمر في الاتساع.
وقد سلط وزيرا السياحة والاتصالات الإسرائيليان، اللذان زارا الرياض في سبتمبر/أكتوبر، وفتح السعودية مجالها الجوي أمام الرحلات الجوية الإسرائيلية في عام 2022، الضوء على مشاركة المملكة في الاتجاه العام للمنطقة العربية نحو التطبيع.
ويتمتع الممر الاقتصادي بالقدرة على تعزيز "التطبيع الاقتصادي" بين البلدين، وهو ما يمكن أن يعزز أهداف رؤية السعودية 2030، خاصة عندما يتعلق الأمر بالاستثمار والتكنولوجيا.
ويقدر البيت الأبيض أن اتفاق التطبيع بين الرياض وتل أبيب من شأنه أن يعمل على إبعاد المملكة عن فلك نفوذ بكين. ومع ذلك، يبدو أن هذا مجرد تفكير بالتمني بحسب كافيرو، موضحا: "نظراً لواقع التعددية القطبية وتضاؤل ثقة السعودية في موثوقية الولايات المتحدة كشريك أمني في الشرق الأوسط، فضلاً عن القيمة العالية للغاية التي توليها الرياض لعلاقتها المتعمقة باستمرار مع الصين، فمن المرجح أن البيت الأبيض يفتقر إلى الوسائل. لإقناع السعودية بإجراء تغييرات جوهرية على شراكتها مع بكين بما يتماشى مع مصالح واشنطن".
ويرى كافيرو أنه سيكون من الخطأ تقييم تطبيع دولة عربية مع إسرائيل بأنه يستلزم ابتعاد الدولة العربية المذكورة عن الصين، ضاربا المثل بتعمق العلاقات الصينية الإماراتية في العام الماضي، الذي شهد توقيع اتفاقيات إبراهيم، وهو التعمق الذي بلغ حد إجراء الإمارات والصين مناورات عسكرية مشتركة في وقت سابق من هذا العام.
وبغض النظر عما إذا كانت العلاقات السعودية الإسرائيلية أصبحت رسمية أم لا، فإن الرياض، مثل أبو ظبي، ستواصل السعي لإبقاء خياراتها مفتوحة أثناء الاستعداد لـ "عصر الخليج ما بعد أمريكا". وفي نهاية المطاف، تعد الصين اللاعب الأكثر أهمية من وجهة نظر سعي السعودية للحصول على قدر أكبر من الاستقلال الجيوسياسي عن واشنطن.
الطريق الجيوسياسي للأمام
ويرى كافيرو أنه من الصعب التنبؤ بكل العواقب الجيوسياسية للممر الاقتصادي، خاصة في ضوء المتغيرات العديدة غير المعروفة بالمعادلة في هذه المرحلة المبكرة، ومع ذلك، فمن المحتمل أن يسلط الممر الاقتصادي مزيدًا من الضوء على اختلاف جوهري في الطريقة التي تنظر بها واشنطن وعواصم دول الخليج العربية إلى صعود الصين وانتقال العالم بعيدًا عن الأحادية القطبية التي تقودها الولايات المتحدة.
وفي حين ينظر صناع السياسات في الولايات المتحدة في كثير من الأحيان إلى المنافسة بين واشنطن وبكين في سياق محصلته صفر، حيث يعتبر أي من المكاسب الجيواقتصادية للصين في الشرق الأوسط خسارة للغرب افتراضيا، فإن المسؤولين في دول مجلس التعاون الخليجي يرفضون هذا التقييم.
وتنظر الحكومتان الإماراتية والسعودية إلى علاقاتهما مع الغرب والصين في سياق لعبة ذات محصلة إيجابية. ويرفض صناع السياسات في كل منهما قبول تعرضهم لضغوط للوقوف إلى جانب واشنطن أو بكين وسط "الحرب الباردة الجديدة".
وتظل دول مجلس التعاون الخليجي مصممة على توسيع شبكاتها في الغرب والشرق والجنوب العالمي في نفس الوقت.
في التحليل النهائي، يخلص كافيرو إلى أن المسؤولين في واشنطن والعواصم الأوروبية المتفائلين بشأن تأثير الممر الاقتصادي على صعود الصين الجيواقتصادي في الشرق الأوسط قد يجدون أن تفاؤلهم في غير محله.
فرغم أن هذا الممر الضخم يعد بالعديد من الفرص لتعميق الروابط الاقتصادية والتجارية والاستثمارية بين الدول الغربية والإمارات والسعودية، إلا أنه من غير الواقعي الاعتقاد بأنه سيؤدي إلى انسحاب هاتين القوتين العربيتين الخليجيتين من العلاقات مع الصين.
المصدر | جورجيو كافيرو / المركز العربي بواشنطن - ترجمة وتحرير الخليج الجديدالمصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: السعودية الإمارات الحزام والطريق الصين الولايات المتحدة دول مجلس التعاون الخلیجی الإمارات والسعودیة دول الخلیج العربیة التعددیة القطبیة الولایات المتحدة اتفاقیات إبراهیم الممر الاقتصادی فی الشرق الأوسط الحزام والطریق الاقتصادی بین البیت الأبیض إلى الممر العربیة ا بین الهند من خلال ومع ذلک
إقرأ أيضاً:
القبيلة في اليمن.. حراك الجغرافيا ومسار التاريخ
رسائل جادة ومحرجة، متعددة الاتجاهات، ومتنوعة الدلالات، يبعث بها هذه الأيام حراك القبائل اليمنية، ذات الميراث الراسخ أمام قوة وضعف "مركزية" الدولة، وذلك في مختلف مناطق البلاد المناهضة للوضع القائم في صنعاء، إلى القيادة والحكومة "الشرعية" المعترف بها دوليا وكذلك إلى الإقليم المجاور والعالم المتضرر من ممارسات جماعة الحوثي المتحالفة مع إيران، في خطوط الملاحة الدولية في طول وعرض البحار المحيطة باليمن خلال العامين الماضيين.
تفاقمت الأزمة الإنسانية في هذا البلد إلى حدود تكاد لا تطاق... بعض القبائل اليمنية ترى أن القيادة والحكومة تخلتا عن مهامهما الاستراتيجية في إعادة اليمن إلى وضعه الطبيعي، وأصبحتا غارقتين في مساومات مع الفرقاء داخل مجلس القيادة الرئاسي ورئاسة الوزراء على السلطة والمال والنفوذ، وفشلتا في محاولاتهما لإعادة ضبط إيقاع الأداء بين مكوناتهما.
يجري ذلك على وقع الاتهامات المتبادلة بينهما بشأن ملفات عدة، فضلا عن التخبط في كيفية إدارة الأزمة الاقتصادية الطاحنة في عموم البلاد، خصوصا مع الانهيار القياسي لقيمة العملة الوطنية والارتفاع الحاد في أسعار المواد الغذائية والدوائية الأساسية.
في الواقع، تواجه البلاد وضعا مأساويا معقدا تداخلت فيه أزمات من كل نوع، اقتصادية وأمنية، وغاب معها أي أفق لإيجاد حل سياسي للصراع الذي طال أمده مع جماعة الحوثيين التي أخذت تستقوي عسكريا وتتغذى سياسيا على حساب ضعف وتفكك المعسكر المناوئ لها، ومن ورائها إيران، التي تدير من على بُعد "مسرح أعراس الغفلة" في المنطقة.
مؤخرا، أكد لقاء موسع عقده شيوخ ووجهاء القبائل من عدة محافظات في ضواحي مدينة مأرب على "الجهوزية التامة" لدى قبائل مذحج وحِمْيَر "لمواجهة ميليشيا الحوثي بكل الوسائل الممكنة، وإسناد القوات المسلحة حتى تحرير اليمن واستعادة مؤسسات الدولة" وذلك بحسب بيان للقاء.
أكثر من ذلك دعا البيان الحكومة الشرعية إلى "العودة إلى أرض الوطن لقيادة وإدارة المعركة من الداخل، وتوفير كافة الإمكانات العسكرية واللوجستية لدعم جبهات القتال في مواجهة الحوثيين" وإعلان "معركة تحرير شاملة" كما قال البيان.
وعقب اقتحام حملة عسكرية حوثية لقرية ورقة، التابعة لـ"مخلاف إسبيل في عنس" لمحاولة اختطاف وجاهات وزعامات قبلية عبّر بيانٌ صادر عن اجتماع طارئ للقبيلة رفضها تسليم أي شخص من أبنائها تطالب به الميليشيات الحوثية، بأي تهمة".
واتفقت مكونات القبيلة على منع العناصر المسلحة التابعة للحوثيين من دخول أراضي القبيلة والتصدي لأي حملات عسكرية حوثية، واعتبارها غنيمة للقبيلة وأبنائها.
معنى ودلالات الحراك
مؤدى كل تلك الرسائل بالمختصر يعكس شعورا عميقا، لدى القبائل، بالإحباط، ويأسا من إمكانية أن تقابله القيادة "الرئاسية" والحكومة بتحرك مماثل في مواجهة الحوثيين الذين أوغلوا في إهانة القبيلة ومحاولة إذلال رموزها وإضعاف وجودها وزعزعة استقرارها، ويحاولون اليوم الاستفراد بها قبيلة بعد أخرى على غرار ما شهدته محافظات يمنية عدة خلال العامين الأخيرين.
الحديث هنا عن القبيلة في اليمن إقرارٌ وقراءةٌ موضوعيةٌ بأن "مؤسسة القبيلة" لا تزال حقيقة قائمة ليس في اليمن الذي ينتمي معظم سكانه إليها، ولكن أيضا في كثير من البلدان والمجتمعات العربية.
حاولت دول في المشرق العربي ذات الرخاء الاقتصادي ترويض القبيلة، كما سعت القبيلة إلى تطوير نفسها والاستفادة من الفرص المتاحة أمامها لابتعاث أبنائها إلى أفضل الجامعات في العالم والعودة بعد تخرجهم لتبوؤ مواقع لائقة، لكن الأمر في الحالة اليمنية لم يكن كذلك تماما، بل يمكن أن نقول كان مختلفا بسبب عمق وقوة موروث أعراف وقيم وتقاليد القبيلة.
ماذا عن القبيلة في اليمن؟
ما لا يجب الاستهانة به اليوم أن حاضر القبيلة الآن يختلف عن ماضيها... تظل في الواقع بناء مؤسسيا قائما على منظومات من الأعراف الصارمة، ونسيج عصبي من علاقات النسب والقرابات والارتباط الشديد بالأرض وموارد البيئة، ولذلك نشأ العمران واللباس وحتى اللهجات ونمط العيش المتمايز بين منطقة وأخرى، واندلع الكثير من النزاعات والتنافس، لكن كل ذلك سرعان ما كان يخفت عبر العصور كلما تداعت الوساطات لمعالجتها وإيجاد "قواعد" لتنظيم علاقات الجوار بما يحقق التراضي والقبول المتبادل بالحلول مهما كان بعضها قاسيا ومؤلما.
لا يمكن تصور اليمن بلا قبائل ولا تخيل القبيلة دون سلاح الذي ظل في نظر القبائل أداة لردع الاستبداد الداخلي ومواجهة أطماع التدخلات الخارجية وطرد أي وجود لها.
ماذا عن القبيلة في اليمن؟
لكن الصورة العامة للقبيلة قد تبدو الآن مختلفة من منطقة لأخرى، بل هي كذلك، فقبائل حضرموت أقل عصبية وشدة من قبائل الغرب في شبوة وأبيَن والضالع ويافع وغيرها، وقريبة نسبيا من قبائل الوسط في تعز وإب، بينما لا تزال في شمال الشمال عصية وقوية الشكيمة والعناد.
هل عصرنة القبيلة ممكنة؟ نعم، حدث ذلك بمستويات متفاوتة خلال الأعوام السبعين الماضية.
في المستوى الأول جرت عادة الحكومات المتعاقبة في اليمن بالتعاون مع الجارة السعودية على التعامل باحترام ومودة مع قبائل الشمال الشرسة تحديدا، وفي مرحلة تالية في عهد الرئيس الراحل علي عبدالله صالح باستقطاب رؤوس قبائل الشمال وترويضها واستخدامها أصواتا في الانتخابات وبنادق في الحروب، لكن ما حدث بعد ذلك هو أن زعامات القبائل انفصلت عن قواعدها وانشغلت بمصالحها مع السلطة في صنعاء وبَنت دورا وشيَدت قصورا وابتعثت الكثير من أبنائها للدراسة في أوروبا والولايات المتحدة على نفقاتها الخاصة، بينما ظل أبناء قبائلها يعانون من شظف العيش وشح التعليم ما شجع بعض أفرادها على "التفكير خارج الصندوق" والتمرد عليها، ما أدى إلى ضعفها، فيما لم يستطع الحوثيون سوى استغلال فقر وبؤس بعض أبنائها للزج بهم في أتون الحروب.
لطالما كنت كثير التساؤل خلال مرافقاتي المتعددة للرئيس الراحل صالح في زياراته لبعض المناطق القبلية ولقاءاته الطويلة مع زعمائها، وأسأل نفسي وأتجرأ أحيانا على سؤاله، لماذا تذهب إلى شيوخ القبائل ولا يأتون إليك وأنت رئيس الدولة؟ فيكون جوابه دائما "لا يمكن حكم كل قبائل اليمن بطريقة واحدة"، كان هناك في رأيه أكثر من أسلوب للتعامل مع تضاريس الجغرافيا الاجتماعية للقبيلة.
لكن الوضع اليوم يبدو مختلفا، حيث يمكن القول إن القبيلة بدأت تتعامل مع الأوضاع القائمة بوعي خاص دون الحاجة إلى زعمائها التقليديين ولا إلى القيادة والحكومة ولا الحوثيين بالطبع، فلا القيادة "الشكلية" لما بقي لليمن، رئاسة وحكومة، ولا النخب والأحزاب، في رأي القبائل، قادرة على استيعاب مظلوميات ومطالب غالبية المواطنين.
قال لي شيخٌ قبلي التقيته مؤخرا: "نحن لا نريد رئيسا صاحب فخامة وكثيرٌ من أبناء شعبه يقتاتون من براميل القمامة". وأضاف هذا الشيخ المجروح: "لم تعد لبطاقات هويتنا الشخصية في الداخل قيمة ولا لجوازات سفرنا في الخارج أي اعتبار"، على حد تعبيره.
ماذا يحدث اليوم؟
إذا لم يكن الحراك القبلي الآن ملهماً ويستنهض همم الجميع، فإن زمام الأمر يوشك أن ينفلت من يد القيادة والحكومة، ولن يجدي بعد ذلك أي تحرك لهما في المحافل الدولية، بل إن ذلك يهدد بزوال مشروعيتهما في تمثيل الإجماع الوطني في الداخل والخارج معا.
الأمر بالغ الجدية إلى حد الخطورة، ما لم ينسجم أداء القيادة والحكومة وما تبقى من قوات الجيش الداعمة لهما مع مطالب الحراك الشعبي القبلي والمجتمعي والوطني العام.
تخرج القبيلة اليوم عن صمتها، مستعدة للقتال، في حين تنتظر الأحزاب والنخب السياسية الخارج للتدخل، حتى بعد أن تيقنت أن الإقليم والعالم أدارا لليمن ظهريهما، وتناسيا الصراع الدائر فيه، وأخذ الكل في المنطقة وأوروبا والولايات المتحدة بل والعالم أجمع ينشغل بأموره ورؤاه المستقبلية لمشاريعه وطموحاته الاقتصادية والسياسية الخاصة.
الراهن اليمني يحتقن أكثر فأكثر بالسخط والغضب إزاء حالة الانقسام السياسي وتفاقم أزماته المعيشية والأمنية دون معالجات حقيقية جادة.
يذكرنا حراك القبائل الأخير بملحمة "مطارح مأرب" عندما جرى استنفار قبائلها المسلحة ومحاربيها الأشداء لدعم قوات التحالف العربي والجيش لصد هجمات الحوثيين على مأرب، حيث سقط على أسوارها ألوفٌ مؤلفة من بسطاء قبائل البلاد من الجانبين، ومعهم في جانب الحوثيين ضباط وخبراء من الحرس الثوري الإيراني و"حزب الله" اللبناني.
ميزان القبيلة
الحراك القبلي يذكرنا أيضا بأن للقبائل "ميزانا دقيقا حساسا" لقياس الأمور عند الشدائد وحساب نتائجها، كما يُقاس الذهب، وكيف أنها لا تحتمل الوقوف إلى ما لا نهاية مع أي طرف يوشك على الخسران والسقوط.
لنا في هذا الأمر أمثلة في تاريخ اليمن الوسيط والقريب على سبيل المثال لا الحصر، فعند استباحة القبائل لصنعاء بعد فشل الثورة الدستورية عام 1948 بسبب "فتوى" أصدرها إمام اليمن آنذاك (أحمد يحيى حميد الدين) ضد فتوى شرعية أخرى تولى تنفيذها نسيبه (عبدالله بن علي الوزير) حيث تم قتل والد الإمام أحمد في ثورة شبه مسلحة في 17 فبراير/شباط 1948 أملا في صياغة دستور للبلاد... من قام بقتل الإمام يحيى حميد الدين كان الزعيم القبلي الشاعر الثائر الشيخ علي بن ناصر القردعي وذلك في منطقة حِزْيَز جنوبي مدينة صنعاء.
تدخل الجيش المصري في ستينات القرن الماضي
تداعت عدة قبائل يمنية على نحو غير مسبوق رافضة وجود قوات مصرية أرسلها جمال عبد الناصر لنجدة الثورة اليمنية التي اندلعت ضد النظام الإمامي "المستبد والمتخلف والفاسد"... صحيحٌ أن ذلك كان في خضم مشروعين إقليميين متنافسين، لكن اليمن في المحصلة النهائية كان ساحته ووقوده، وخسر الكثير من أبنائه وموارده في معركة لم يكن له فيها ناقةٌ ولا جمل لينتهي الأمر بعد نكسة 5 يونيو/حزيران 1967 بتسليم عبد الناصر زمام الحل والعقد في الأزمة اليمنية للملك فيصل بن عبد العزيز الذي أنجز ما يمكن اعتباره حلا تاريخيا، حينذاك، لتلك الأزمة التي تدخلت فيها مصر، بكلفة بشرية ومادية عالية.
اغتيال الحمدي
في منتصف سبعينات القرن الماضي، عندما وصل الرئيس الراحل إبراهيم الحمدي إلى سدة الحكم عمل جاهدا على إقصاء رموز المؤسسة القبلية ذات النفوذ داخل الجيش وفي أجهزة الأمن، والعلاقة الجيدة مع السعودية و"بعث العراق"، كما سعى إلى خلق أسس جديدة للعلاقة بين الدولة والقبيلة، لكن الأخيرة تمردت عليه خصوصا في مناطق الشمال الغربي حيث تتمركز قبيلة "حاشد" وفي الشمال الشرقي، معقل قبيلة "بكيل" الأمر الذي أدى في النهاية إلى مقتل الحمدي على يد طرف قبلي من أحد بطون القبيلة الأولى.
خذلان القبيلة للرئيس صالح
ثم تكرر الأمر في تخلي ما عُرف بـ"قبائل طوق صنعاء" عن الرئيس الراحل علي عبد الله صالح. تعلم صالح من تجارب رؤساء بلاده السابقين أن نظام حكمه لا يمكن له أن يدوم حتى بتوريثه لأبنائه أو يستمر في الحد الأدنى دون تحديات ومعارضة وتنافس على الجاه والثروة مع القبائل.
أخذ يستثمر كثيرا في رعاية شيوخ جدد في القبائل المنافسة لسلطته على حساب الزعامات التقليدية لهذه القبائل بهدف إضعاف الأخيرة والتحكم بها، فكانت النتيجة أن أضاع هيبتها أمام أفرادها الذين لم يتسن له الوقت والظروف لجعلهم يقفون على أقدامهم وفرض أنفسهم كـ"وجاهات" وازنة لها كلمتها الملزمة لأفراد القبيلة. وعندما قوي عود بعض أبنائها لجأ إلى التخلص منهم عبر زجهم في صراع مع جماعة الحوثيين الذين تحالف معهم، وكانت نهاية حكمه وشخصه على أيديهم.
كثيرون اليوم داخل اليمن وخارجه يعتقدون أن هذا الوقت يفترض أن "يكون لحظة صواب في توجيه بوصلة السير نحو أفق للحل السياسي أو العسكري"، والاستفادة من مجمل المتغيرات في المشهد السياسي محليا وإقليميا وعالميا.
أجادت القبائل أداء دور رافد وفاعل في بعض مراحل بناء مشروع الدولة، لكنها كثيرا ما انكفأت على نفسها حين غاب هذا المشروع الحامل لحلم الدولة الوطنية، وقررت الحفاظ على ما بيدها من أرض ومقدرات وموقع في خرائط الصراع، فإن أراد الجميع "دولة للكل" فهي جاهزة، وإن لم يريدوا ذلك فهي عند نهاية المطاف باقية في أماكنها ولن تخسر شيئا.