الحرة:
2025-04-17@00:05:08 GMT

استراتيجي لتركيا وتهديد لإيران.. ما قصة ممر زنغزور؟

تاريخ النشر: 3rd, October 2023 GMT

استراتيجي لتركيا وتهديد لإيران.. ما قصة ممر زنغزور؟

لم يمض أسبوع على تأكيد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، على ضرورة استكمال فتح معبر زنغزور الأرميني "كونه قضية استراتيجية" حتى خرجت تصريحات من إيران من أعلى المستويات تحذّر من أن "أي تغيير في الجغرافيا السياسية لمنطقة القوقاز" قد يجعلها "غير آمنة ومضطربة".

وجاء تأكيد إردوغان أثناء الزيارة التي أجراها، أواخر سبتمبر الماضي، إلى جيب ناخيشيفان الأذربيجاني، وفي أعقاب استيلاء باكو على إقليم ناغورني قره باغ، خلال عملية عسكرية شنها الجيش لأيام، وانتهت باستسلام الانفصاليين الأرمن.

 

وبعد لقائه نظيره الأذربيجاني، إلهام علييف، قال إردوغان إن بلاده "ستبذل قصارى جهدها لفتح ممر زنغزور، الذي سيربط جمهورية ناختشيفان المتمتعة بالحكم الذاتي ومناطق أخرى من أذربيجان، في أقرب وقت ممكن".

وأضاف أن "تحقيق هذا الممر هو أمر مهم للغاية بالنسبة لتركيا وأذربيجان، وهو مسألة استراتيجية ويجب استكماله"، مشيرا إلى أن "السيارة أو القطار الذي سيغادر باكو سيتمكن من الوصول مباشرة إلى قارص من خلال زانجيزور".

وبينما اعتبر الرئيس التركي أن "الأخوّة التركية الأذربيجانية ستصبح أقوى بكثير من خلال فتح الممر"، تحدث بالقول: "من دواعي سرورنا أن نتلقى إشارات إيجابية من إيران بشأن هذه القضية".

لكن سرعان ما ردت إيران على "الإشارات الإيجابية" بتصريحات حذّرت من خلالها "فتح الممر"، إذ قال أمين سر المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي أكبر أحمديان، إن "أي تغيير في الجغرافيا السياسية لمنطقة القوقاز من شأنه أن يجعل المنطقة غير آمنة ومضطربة بما يفاقم الأزمة القائمة".

وأضاف علي شمخاني، الأمين السابق للمجلس الأعلى للأمن القومي خلال لقائه رئيس مجلس الأمن القومي الأرميني، أرمين غريغوريان، في طهران أن "أي تغيير في جغرافيا جنوب القوقاز هو عمل مسبب للتوتر".

وتابع الناطق باسم الخارجية الإيرانية، ناصر كنعاني، قبل يومين، أن بلاده "تعارض إجراء تغييرات جيوسياسية في المنطقة وهذا هو موقفنا الواضح".

ما هو "زنغزور"؟

و"ممر زنغزور" هو اسم المشروع الذي يهدف إلى ربط أذربيجان مباشرة بجمهورية ناختشيفان المتمتعة بالحكم الذاتي، من خلال وسائل النقل البرية والسكك الحديدية، التي سيتم افتتاحها من هذه المنطقة.

وبمعنى أوسع، يهدف المشروع إلى ربط أذربيجان بتركيا مباشرة، ما يعني قطع التواصل الجغرافي بين أرمينيا وإيران.

وبعد انتهاء حرب قره باغ الثانية عام 2020 تعاملت أذربيجان وأرمينيا مع المشروع بشكل مختلف، ورغم أن اتفاق وقف إطلاق النار الذي توصلا إليه حينها بوساطة روسية، نص البند التاسع فيه على "فتح طرق النقل بين ناختشيفان الذاتي وأذربيجان" أشارت يريفان إلى نقطة مغايرة.

وجاء في نص اتفاقية وقف إطلاق النار قبل 3 سنوات: "باتفاق الطرفين، سيتم تنفيذ بناء خطوط نقل جديدة تربط جمهورية ناختشيفان المتمتعة بالحكم الذاتي بالمناطق الغربية من أذربيجان".

وفي حين أعلنت أرمينيا أنها تدعم "فتح طرق النقل" اعتبرت أن "اسم زانجيزور" لم يستخدم في الاتفاق، ولم يتم ذكره حسب طلب باكو.

"استراتيجي وتهديد"

ويرى مراقبون تحدث إليهم موقع "الحرة" أنه من خلال هذا الممر سيكون لتركيا صلة مباشرة بباكو تتخطى إيران، وفي هذه الحالة ستفقد الأخيرة نفوذها الاستراتيجي ودخلها العابر وإمكانية الضغط على أذربيجان وأرمينيا في آن معا.

ورغم أن مشروع الممر سبق وأن أكدت عليه تركيا مرارا وتوجست منه إيران، عاد الحديث عنه ليتكرر بكثرة في أعقاب العملية العسكرية الأخيرة، التي انتهت باستيلاء أذربيجان على إقليم قره باغ.

ويوضح الباحث في الشؤون الإيرانية، الدكتور محمود البازي، أن "الصراع في قره باغ وكريديور زانجيزور يمثل التهديد الجيوسياسي الأول لإيران على حدودها الشمالية الغربية منذ حرب قره باغ الأولى".

وتنظر طهران إلى هذه الحرب "كتهديد مباشر بسبب عوامل عدة"، كما يقول البازي لموقع "الحرة".

أولى هذه العوامل تتعلق بـ"استبعادها من عملية السلام، بحيث حصلت كل من تركيا وأذربيجان على الضوء الأخضر الروسي وتم تجاهل طهران في ذلك بعد أن كان هناك تحالف غير رسمي بين الأخيرة وموسكو وأرمينيا لسنوات عديدة".

وبناء على ما سبق "ظهر إسفين آخر في الخلافات الحقيقية بين روسيا وإيران، من حيث تخلي روسيا عن أرمينيا بسبب انشغالها في أوكرانيا، واعترافها نوعا ما بالأمر الواقع الذي يقضي بتفوق تركيا وأذربيجان، بالمقارنة بيريفان".

ويضيف البازي أن "تواجد إسرائيل على الحدود القريبة من إيران، بالتعاون مع أذربيجان" يشكل تهديدا فعليا للأخيرة، إذ قد تعزز من وجودها في القوقاز الجنوبي "بضوء أخضر تركي كذلك".

وترى طهران أن تفعيل ممر "زنغزور" سوف يقطع الحدود المشتركة مع أرمينيا، وفق الباحث ذاته.

وهي تدرك جيدا خطر هذا القطع على أهدافها الجيوسياسية والجيواقتصادية، ولذلك استنفرت قواها العسكرية أثناء الاشتباكات الأخيرة، ولكن دون التدخل.

ماذا عن تركيا؟ 

وفي تصريحاته الأخيرة، قال إردوغان إن بلاده تريد استخدام "زنغزور ولاتشين" كممرين للسلام، وإنه "يجب حل هذه المشكلة دون صراع أو ضجيج".

وأضاف: "إذا لم تمهد أرمينيا الطريق لذلك، فإلى أين ستذهب؟ سوف يمر عبر إيران"، مكملا بالقول: "وتنظر إيران حاليا إلى هذا الأمر بشكل إيجابي. بما أنها كذلك فسيكون من الممكن المرور من أراضيها إلى أذربيجان".

ويشير الكاتب والمحلل سياسي التركي، محمود علوش، إلى أن "الأولوية التركية في مرحلة ما بعد حسم الصراع على قره باغ تتمثل في إنشاء ممر يربط أذربيجان بناخشتيفان وصولا إلى الأراضي التركية".

وهذا المشروع "يعكس التحولات الجيوسياسية التي طرأت على جنوب القوقاز منذ حرب قره باغ الثانية في 2020 وصولا إلى هجوم سبتمبر الخاطف التي تمكنت خلاله أذربيجان من إنهاء الإدارة الانفصالية الأرمينية والسيطرة على الإقليم".

ويوضح علوش لموقع "الحرة" أن "مشروع الممر مهم لكل من تركيا وأذربيجان ولأسباب جيوسياسية واقتصادية"، لكن تواجهه العديد من التعقيدات.

ومنذ حرب قره باغ الثانية عام 2020 لم تعط يريفان أي إشارات إيجابية واضحة على استعدادها للمضي قدما لتنفيذ المشروع، وكان لها تفسيرات خاصة بها للتنصل من التعهد".

ولذلك يرى الباحث أنه "طالما تعارض أرمينيا فتح الممر من الصعب أن ينجح، بموجب تفاهم بين الفاعلين".

وهناك تعقيدات تتعلق بمستقبل الصراع الأرميني الأذربيجاني، حسب ما يشير علوش، موضحا: "دون أن تكون هناك عملية سلام شاملة بين الطرفين من غير المرجح أن يكون هناك توافق على إنشاء الممر، لأنه سيكون جزء من ديناميكية العلاقات الجديدة بين باكو ويريفان".

ويعتقد الباحث أن "يريفان قد تسعى قد تسعى لاستخدام مشروع الممر كورقة لتحسين موقفها التفاوضي في العلاقات االمستقبلية مع أذربيجان في مرحلة ما بعد قره باغ".

ومن بداية الاتفاق الثلاثي بين باكو ويريفان وموسكو 2020 كانت أرمينيا واضحة من ناحية أنه "لا مشكلة عندها لفتح طرقات وممرات بين البلدان في جنوب القوقاز، لكن تحت أو ضمن أصول القوانين الدولية"، حسب هاكوب مقديس، وهو محاضر جامعي في "أكاديمية الإدارة العامة في أرمينيا".

ويوضح مقديس حديثه بالقول لموقع "الحرة": "أي يكون معبر تحت إشراف القوات الحدودية من أرمينيا وأذربيجان".

لكن "أذربيجان وتركيا تريدان المعبر تحت إشراف كامل من جانبهما وهنا يأتي الرفض من جانب أرمينيا، وليس الرفض كممر عام".

ويتابع المحاضر الجامعي: "أرى الأمور وكأنها هدوء ما قبل العاصفة. إما ستهاجم تركيا وأذربيجان جنوب أرمينيا من بينها مقاطعة سونيك لفتح الممر قسرا وبشكل عسكري، أو ستتم مفاوضات لحل القضية تحت إشراف أرمينيا، وهي المنطقة الواصلة بين الطرفين".

"تهديد أبعد من ممر"

وتُعتبر أذربيجان الناطقة بالتركية والغنية بالنفط وموارد الطاقة الأخرى، حليفة تركيا الرئيسية في المنطقة، وقد دعم إردوغان جميع تحركاتها، لفرض السيطرة واستعادة إقليم ناغورني قره باغ، خلال المعارك المتواصلة.  وطالما يستخدم الرئيس التركي والمسؤولون الآخرون والنواب، عبارة "شعب واحد في بلدين"، حين الإشارة إلى دعم أذربيجان بسبب العرقية الواحدة واللغة.

وتعتبر أذربيجان مورد قوي لتركيا بالنفط والغاز، بجانب المشروعات التجارية العملاقة بين البلدين، والتي يرى مراقبون أتراك أنها ستتصاعد بقوة في حالة "افتتاح زانجيزور".

ويوضح الباحث، البازي، أن طهران تنظر إلى هذا الممر على أنه مرحلة من مجموعة مراحل، تهدف إلى حذفها من خرائط الممرات التجارية العالمية، والتي تسعى إلى ربط آسيا والصين بأوروبا، ولذلك فهي تراقب عن كثب التغيرات على الحدود، وتصرح في أكثر من مرة بأنها ترفض أي تغيير للواقع الجغرافي في المنطقة.

وقال: "إذا ما نظرنا إلى الصورة بشكل أوسع، سوف نرى بأن قلق طهران في محله خصوصا بعد الطرح الأميركي خلال قمة العشرين في الهند، والذي دعي فيه إلى إنشاء ممر تجاري يصل الهند بالإمارات والسعودية ومن ثم إسرائيل وأوربا مستبعدا إيران بشكل كامل".

و أكد الاتحاد الأوربي بالأمس على الاستثمار في ممر تجاري (بقرض تقدر قيمته 120 مليار دولار) يصل كل من الصين وقزاقستان والقفقاز وتركيا لينتهي بأوروبا.

ويتابع البازي: "من خلال هذا زنغزور، تسعى تركيا لتعويض خسارتها للممر الهندي. هذا الممر التجاري كذلك يحذف إيران من الطرح الصيني الموسوم بطريق الحرير. ولذلك ترفض طهران أي محاولات تركية أذربيجانية لتحقيق مثل هذه العملية".

ويعتقد الباحث علوش أن "أي محاولة لفرض مشروع الممر بمعزل عن طهران أو باستخدام القوة العسكرية، سيؤدي إلى تأجيج الوضع وقد ينذر بإشعال حرب تنخرط فيها أطراف إقليمية".

وذلك "لأن مسألة الممر تبدو شديدة الحساسية بالنسبة للخارطة الجيوسياسية في جنوب القوقاز".

ويقول علوش: "إردوغان تحدث مؤخرا عن مؤشرات إيجابية من قبل إيران بخصوص الممر وأن طهران يمكن أن تكون الطريق لهذا الممر بدلا عن أرمينيا".

ورغم أن ما سبق "يضعف يريفان في المعادلة"، يوضح الباحث أن "باكو وأنقرة تحاولان وتفضلان أن يمر الممر عبر الأراضي الأرمينية، لأنه سيزيد من ضعف إيران في المعادلة الجيوسياسية في منطقة جنوب القوقاز".

من جهته، يعتقد الباحث البازي أن "تصريح الرئيس التركي بأنه من الممكن أن يمر الممر عبر الأراضي الإيرانية هو تهديد لأرمينيا أكثر منه تفاهم مع إيران"، بمعنى أن إردوغان "يحاول الضغط على أرمينيا بالقبول بمرور هذا الممر من أراضيها بحجة توافر البدائل".

ويعتقد البازي أن "كلا من أذربيجان وتركيا مصممتان على فتح هذا الممر بأي شكل من الأشكال، لكن يتطلب ذلك جهودا وتنازلات ومفاوضات طويلة الأمد لن تحل في القريب المنظور".

ويرى المحاضر الجامعي مقديس أن "إيران ورغم أنها عبرت أنها ستعطي الممر من أراضيها وتحت إشرافها، إلا أن باكو وأنقرة لن تقبلان بذلك".

المصدر: الحرة

كلمات دلالية: ترکیا وأذربیجان الرئیس الترکی جنوب القوقاز مشروع الممر حرب قره باغ هذا الممر أی تغییر من خلال

إقرأ أيضاً:

إيران والولايات المتحدة: تحت ظلال الردع وإعادة تشكيل النظام الدولي

في نيسان/ أبريل 2025، وفيما ينشغل الإعلام الغربي بضجيج تصريحات الرئيس الأمريكي العائد دونالد ترامب حول "إعادة إيران إلى الطاولة تحت التهديد بالقصف"، كانت طهران ترسم معادلة جديدة للتفاوض من خلف ستار هادئ في مسقط. هذه ليست مفاوضات تقليدية، ولا هي امتداد بسيط لاتفاق 2015، بل إعادة تعريف للموازين في ظل واقع استراتيجي متحول. إذ إن إيران، بهدوءٍ مدروس، تُعيد توجيه دفة التفاوض وتُحدّد شروط اللعبة، لا كطرف خاضع للضغوط، بل كفاعل إقليمي صاعد يُجيد التعامل مع تعقيدات القوة والتكتيك السياسي بعيدا عن التبعية والخضوع، وهذه المواقف متأثرة من فشل تهديدات ترامب السابقة سواء تجاه طهران نفسها، أو تلك التي أطلقها ضد حركة حماس التي هدد أكثر من مرة بأنه سوف يفتح أبواب جهنم عليها بينما عاد للتفاوض المباشرة معها.

في الظاهر، تُقدَّم الجولة الأخيرة من المفاوضات غير المباشرة بين واشنطن وطهران، التي جرت في سلطنة عمان، على أنها إنجاز أمريكي يُظهر فعالية "الردع الترامبي"، لكن الحقيقة أكثر تعقيدا بكثير. من يتابع المسار التفاوضي بين الطرفين يعرف أن هذه المحادثات ليست جديدة، وإنما هي امتدادٌ لحوار غير معلن بدأ منذ عام 2020 وتكثف عبر وسطاء خليجيين وأوروبيين، قبل أن يركن إلى الصمت التفاوضي في عُمان. وفيما يتخيّل البعض أن إيران رضخت تحت التهديد، فإن القراءة الدقيقة تكشف أنها كانت ولا تزال الطرف الذي يُحكم إغلاق باب التفاوض وفتحه بحسب توقيت استراتيجي محسوب بدقة بالغة، وهذا ليس مدحا لإيران بل محاولة فهم لواقع تكثر فيه الروايات المتضاربة.

تُقدَّم الجولة الأخيرة من المفاوضات غير المباشرة بين واشنطن وطهران، التي جرت في سلطنة عمان، على أنها إنجاز أمريكي يُظهر فعالية "الردع الترامبي"، لكن الحقيقة أكثر تعقيدا بكثير.
ما يميز الاستراتيجية الإيرانية في هذه الجولة هو اعتمادها على ما يمكن تسميته بـ"سياسة حياكة الردع"، التي تشبه في بنيتها الثقافية فن حياكة السجاد الفارسي: بطيئة، صبورة، لكنها مدروسة بعناية شديدة، بحيث تُحدد الألوان والأنماط وحواف الحركات التفاوضية سلفا. ليس من قبيل المصادفة أن تختار طهران سلطنة عُمان كمسرح للمحادثات، وذلك لأنها تدرك أن مسقط ليست مجرّد وسيط محايد، بل هي شريك ضمني في تثبيت قنوات التفاوض السرية منذ الاتفاق النووي الأول. عُمان، بالنسبة لإيران، هي أكثر من بيئة تفاوضية؛ إنها فضاء سياسي مأمون من الضغوط الغربية، وقادر على احتضان قنوات غير رسمية تفضّلها إيران لتجنّب ضجيج الكاميرات وانفعالات السياسة الاستعراضية الأمريكية.

وفي المقابل، فإن إصرار طهران على اعتماد الشكل غير المباشر في التواصل مع الجانب الأمريكي ليس تفصيلا بروتوكوليا، بل تعبير عميق عن فلسفة تفاوضية ترى أن الاتصال المباشر مع طرف تخلّى عن التزاماته مرارا لا يُكافأ بإعادة الاعتراف به كطرف جدير بالثقة. إيران تعلم أن واشنطن قد انسحبت من الاتفاق النووي عام 2018 دون أي كلفة داخلية، بل وكافأها النظام الدولي آنذاك بصمت مخزٍ، لذا فإن منح الأمريكيين شرف الجلوس وجها لوجه، حتى من الناحية الرمزية، هو امتياز سياسي ومعنوي يجب أن يُكسب لا أن يُمنح.

وعلى مستوى المضامين، فإن رفض إيران القاطع لتوسيع نطاق التفاوض ليشمل ملفات الصواريخ الباليستية أو النفوذ الإقليمي يُعدّ تعبيرا عن وعي عميق بأن هذه التوسعات ليست بريئة، بل تُستخدم كأدوات استنزاف تفاوضي. لذلك، رسمت طهران حدود المفاوضات بدقة: البرنامج النووي ورفع العقوبات، لا أكثر ولا أقل. هذا التحديد ليس انعزالا أو تصلبا، بل استراتيجية احتواء لتكتيك أمريكي معروف يقوم على توسيع المفاوضات لتفريغها من مضمونها. ففي كل مرة تُفتح فيها جبهات جانبية، يكون الهدف هو الضغط لإنتاج تنازلات من خارج المضمون الأساسي.

أما ترامب، فيُدرك أن أي تصعيد عسكري ضد إيران لن يكون عملية جراحية محدودة، بل زلزالا جيواستراتيجيا سيغيّر خرائط النفوذ بالكامل. فإيران، خلافا لما يُروّج، لم تكن يوما دولة يمكن قصفها بلا كلفة. فهي ليست دولة منهارة، بل دولة ذات عمق استراتيجي، وشبكة من التحالفات الممتدة من الخليج إلى البحر المتوسط، مرورا بالبحر الأحمر والقرن الأفريقي. ولذلك، فإن التصعيد اللفظي من قِبل ترامب لا يُعبر عن نية فعلية للحرب، بل هو جزء من الحرب النفسية الأمريكية، التي تهدف إلى خلق انطباع زائف بالهيمنة، دون القدرة على ترجمة هذا الانطباع إلى فعل حقيقي.

ولعل أبرز تجليات نجاح إيران في هذه الجولة أنها استطاعت أن تُفرغ "الردع الأمريكي" من مضمونه، عبر تحويله إلى مجرد خطاب استهلاكي مشابه للحملات الانتخابية الأمريكية، بينما على أرض الواقع، لم تتوقف إيران يوما عن التخصيب، ولم تُفكك أجهزة الطرد المركزي، ولم تفتح حوارا حول ملفها الصاروخي. ما يحدث هو أن الولايات المتحدة باتت تدور في فلك الاستجابة للواقع الإيراني، لا العكس.

ما يجري في مسقط اليوم ليس مجرد مفاوضات على النووي، بل هو معركة سردية شاملة حول من يمتلك شرعية تحديد شروط الأمن الإقليمي. فبينما تُروّج واشنطن لنموذج "الردع مقابل التنازل"، تسعى طهران لفرض معادلة "الندية مقابل الحوار"
وعلى مستوى التوقيت، فإن اختيار طهران لاستئناف التفاوض في هذه المرحلة يعكس إدراكا ذكيا بأنها تقف اليوم في لحظة تحوّل إقليمي ودولي تمنحها أفضلية نسبية. فمن جهة، يعاني الغرب من تآكل في شرعية النموذج الليبرالي بعد أزمات أوكرانيا وغزة التي تم تدميرها وتشريد شعبها بدعم غير مسبوق لآلة القتل الإسرائيلية، ومن جهة أخرى، بدأت واشنطن تفقد القدرة على احتواء كل الجبهات المفتوحة في آنٍ واحد، خصوصا مع عودة روسيا إلى المعادلة الدولية، وتصاعد الدور الصيني في الشرق والجنوب العالمي. إيران ترى في كل ذلك فرصة استراتيجية لتعزيز أوراقها التفاوضية، لا بوصفها دولة منعزلة، بل كقوة إقليمية قادرة على فرض شروطها، ولو عبر صمت تفاوضي محسوب.

إن ما يجري في مسقط اليوم ليس مجرد مفاوضات على النووي، بل هو معركة سردية شاملة حول من يمتلك شرعية تحديد شروط الأمن الإقليمي. فبينما تُروّج واشنطن لنموذج "الردع مقابل التنازل"، تسعى طهران لفرض معادلة "الندية مقابل الحوار"، وهي معادلة تُفجّر المنطق الأمريكي الأحادي الذي لطالما افترض أن الهيمنة العسكرية تمنح تفويضا سياسيا مطلقا.

ومع ذلك، لا يعني هذا أن الطريق أمام إيران مفروش بالورود، فهناك تحديات جدية، ليس أقلها الضغط الداخلي نتيجة الأزمة الاقتصادية، ومحاولات بعض الأنظمة الإقليمية تصوير أي اتفاق محتمل على أنه "ضعف في الموقف الإيراني". لكنّ إيران، بخبرتها الطويلة في إدارة التناقضات، أثبتت قدرتها على استيعاب هذه الضغوط وتوظيفها لصالح تعزيز الموقف التفاوضي، بدل أن تتحول إلى نقاط وهن.

في النهاية، لا يمكن النظر إلى المفاوضات غير المباشرة الجارية اليوم باعتبارها عملية بحث عن حل، بل هي شكل من أشكال الصراع المقنّن على تحديد قواعد الاشتباك في النظام الإقليمي الجديد. وإيران، بفهمها العميق للتاريخ، تعرف أن من يملك القدرة على فرض إيقاع التفاوض هو من يتحكم بنتائجه. ولذلك، فبينما ينشغل ترامب بالكاميرات، تنشغل طهران بهندسة الطاولة.

هي لا تتفاوض لتتنازل، بل لتُكرّس واقعا جديدا، تُجبر فيه الآخر على الاعتراف، لا بالملف النووي فقط، بل بإيران كفاعل لا يمكن تجاوزه في معادلات القوة الإقليمية والدولية.

مقالات مشابهة

  • إيران على مسافة قصيرة من العتبة النووية
  • إيران تحذر من نقل المباحثات النووية من مسقط إلى روما
  • إشارة سلبية.. إيران تحذر من تغيير مكان المحادثات مع واشنطن
  • الطباطبائي: عدم استهداف إيران عسكريا استقراراً للمنطقة
  • إيران: الحق في تخصيب اليورانيوم ليس مطروحا للتفاوض
  • لماذا عاد ترامب إلى المفاوضات مع إيران؟
  • وزير البترول يبحث مع سفير أذربيجان فرص التعاون استراتيجي بين البلدين
  • إيران والولايات المتحدة: تحت ظلال الردع وإعادة تشكيل النظام الدولي
  • عقوبات أوروبية على إيران لاحتجازها رعايا غربيين
  • عقوبات أوروبية جديدة على إيران