تشهد مصر حاليا تحديات سياسية واقتصادية واجتماعية تتطلب تعاون كافة الأطراف السياسية والقوى الوطنية من أجل الانتقال من نظام استبدادي إلى نظام ديمقراطي يعكس تطلعات وآمال الشعب المصري، تلك الآمال التي مرت بمراحل وإخفاقات خطيرة لم يسبق لها مثيل في تاريخها، خاصة عند قيام ثورة 25 يناير وحتى اليوم.

على مدى السنوات العشر السوداء، تشهد مصر صراعا داخليا امتد منذ ثورة يناير، بين أفراد النخبة السياسية في الداخل والخارج على اختلاف أيديولوجياتهم، مما أثر سلبا على جهود التنسيق لبناء نظام ديمقراطي مدني.

ترجع هذه التحديات إلى الاختلافات العميقة بين أفراد النخبة، والتي يمكن أن تكون مرتبطة برؤى ومصالح أيديولوجية متباينة. ورغم الجهود المبذولة للدفع نحو التغيير وتعزيز التعاون من قبل البعض، إلا أن هذه الجهود لم تحقق نجاحا كبيرا في تحقيق الهدف المنشود حتى اليوم.

ولن أخوض في تفاصيل الماضي، بل فشل النخبة بكل توجهاتها وغياب أي مشروع وطني قبل ثورة يناير وخطة واضحة لشكل دولة مصر المستقبلية، بالإضافة إلى قلة الكوادر ذات الخبرة الحقيقية، هو السبب في تسليم السلطة عام 2011 لمجلس عسكري ليس له حق دستوري في تولي السلطة، ورأينا أغلبية النخب السياسية تتبعه وتتعاون معه، وانتهى الوضع في مصر بسيطرة نظام قمعي طاغٍ نجح في دق إسفين بين القوى الوطنية وتفتيت تلك القوى من الداخل، وبينها وبين القوى الأخرى كما لم يحدث من قبل، وشعب مصر هو من يدفع الثمن.

إقامة الدولة المدنية الديمقراطية الحقيقية يتطلب التعاون والتنسيق بين القوى الوطنية، ويعتمد على تضافر جهود كافة المكونات والفصائل السياسية من أجل تحقيق سبل العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية والتنمية المستدامة، وهذا يمكن تنفيذه في أي وقت إذا كانت هناك نخبة سياسية واعية ومع نكران الذات
إن إقامة الدولة المدنية الديمقراطية الحقيقية يتطلب التعاون والتنسيق بين القوى الوطنية، ويعتمد على تضافر جهود كافة المكونات والفصائل السياسية من أجل تحقيق سبل العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية والتنمية المستدامة، وهذا يمكن تنفيذه في أي وقت إذا كانت هناك نخبة سياسية واعية ومع نكران الذات. وأستطيع أن أقول إنه الآن ونحن على أعتاب استحقاق انتخابي هو أفضل وقت مع ضعف النظام الحالي، ولكننا بحاجة إلى نخبة سياسية تكون شجاعة وتعتقد أنها أقوى لأن الشعب سيقف خلفهم إذا كانت جاده في العمل الضروري من أجل مصر وشعبها، وسنستعرض بعض الخطوات التي يمكن اتخاذها لتعزيز التعاون بين هذه الأطراف لتحقيق التغيير المنشود.

1- تشكيل تحالفات استراتيجية: من أجل تحقيق التغيير المطلوب، يجب على الأحزاب السياسية والقوى الوطنية تشكيل تحالفات استراتيجية تركز على هدف مشترك وتجمع الأفكار والأجندات المختلفة من خلال تبادل المعرفة والموارد، ويمكن لهذه التحالفات أن تكون قوية في مواجهة التحديات وتعزيز فرص النجاح.

2- الحوار والتواصل البناء: من أجل بناء جسور التفاهم والثقة بين مختلف الأطراف والقوى السياسية، لا بد من تعزيز الحوار البناء وتسهيل التواصل بينها. ويمكن تنظيم منتديات وندوات تجمع ممثلي الأحزاب والمجتمع المدني لمناقشة قضايا البلاد والبحث عن نقاط الاتفاق، وهذا سيساهم في التغلب على الخلافات وفهم وجهات نظر بعضها البعض بشكل أفضل.

3- توسيع قاعدة الدعم الشعبي ورفع الوعي: إن قوة أي تغيير ديمقراطي تعتمد على دعم الشعب، لذلك يجب على الأحزاب والقوى الوطنية أن تعمل على توسيع قاعدتها التأييدية من خلال التواصل مع مختلف شرائح المجتمع وتقديم رؤية واضحة للمستقبل. ويمكن تحقيق ذلك من خلال حملات التوعية وورش العمل التي تشرح مبادئ وفوائد الديمقراطية.

4- وضع رؤية مشتركة: لا بد من وجود رؤية واضحة ومشتركة لمستقبل مصر تتفق عليها الأحزاب والقوى السياسية الوطنية المشاركة في التحالفات، وينبغي أن تتضمن هذه الرؤية خطط وبرامج للتغيير والإصلاح، مع تحديد أهداف وقيم ديمقراطية مشتركة وتوافقية تقوم على تعزيز حقوق الإنسان وسيادة القانون والمشاركة الشعبية، بالإضافة إلى آليات تنفيذ محددة.

5- بناء الثقة: بناء الثقة عامل حاسم في تحقيق التعاون بين الأحزاب والقوى السياسية، ويجب أن يلتزم الطرفان بالوفاء بالتزاماتهما واحترام الاتفاقيات المتبادلة. يمكن تعزيز الثقة من خلال مشاركة الجميع في صياغة الخطط واتخاذ القرارات.

6- التركيز على القضايا الجماعية: يجب أن يكون التركيز على القضايا الجماعية التي تهم المصريين كافة، ومن خلال توفير الحلول للمشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، يمكن للأحزاب والقوى المتحالفة أن تحصل على دعم أوسع من الشعب المصري.

نتعامل مع نظام استبدادي قمعي، القرارات هناك دكتاتورية، وحتى من يعمل في أي منصب مع النظام فهو ينفذ وليس له قرار ولا وجهة نظر. والنتيجة التي نعرفها هي إفقار غالبية الشعب وإهمال الأراضي المصرية وحقول الغاز ومياه النيل، مع ديون لن نتمكن من سدادها، ولذلك فإن خياراتنا محدودة ويجب دراستها بعناية وحكمة
كيفية التعامل مع الانتخابات الرئاسية

مع قدوم موسم الانتخابات الرئاسية العام المقبل، يبدأ الجدل حول المشاركة أو المقاطعة، وكل طرف لديه أسباب وحجج بأن قراره هو الذي يجب أن يتبعه الجميع، وهذا أمر طبيعي في أغلب الانتخابات، لكن في مصر الأمر مختلف لأننا نتعامل مع نظام استبدادي قمعي، القرارات هناك دكتاتورية، وحتى من يعمل في أي منصب مع النظام فهو ينفذ وليس له قرار ولا وجهة نظر. والنتيجة التي نعرفها هي إفقار غالبية الشعب وإهمال الأراضي المصرية وحقول الغاز ومياه النيل، مع ديون لن نتمكن من سدادها، ولذلك فإن خياراتنا محدودة ويجب دراستها بعناية وحكمة.

تخلصت العديد من الدول من الحكم الدكتاتوري عن طريق الانتخابات أو التصويت لمنع الحاكم المستبد من الترشح للانتخابات لولاية ثالثة. وبالطبع، نعلم صعوبة تنفيذ ذلك في مصر، لكن البدء في الوقوف بشكل جماعي ضد الاستبداد هو أول خطوة للتغيير، لأن الأنظمة القمعية تنجح بتقسيم النخب والشعب بطريقة فرّق تسد. لذلك فإن الخطوة الأولى هي التعاون معاً ورفض استمرار سيطرة الحكم العسكري على السياسة والاقتصاد ونشر الفساد الواضح للجميع، وهذه بداية إعادة السلطة للشعب حتى تتغير مصر من أجل الشعب ومن أجل الأجيال القادمة التي تستحق العزة والكرامة.

على الشعب والنخب السياسية مسؤولية كبيرة وعلى الجميع أن يفهموها، ومسؤوليتنا إنقاذ البلاد من تلك السلطة الفاسدة والمستبدة. لذلك يجب على الجميع أن ينسوا ويتغاضوا عن الخلافات الأيديولوجية، وأن يكفّوا عن مهاجمة بعضهم البعض، وأن يكفوا عن اتهام أي شخص أينما كان موقفه سابقا، وعلينا أن نتعاون مع الجميع لكل من يقف اليوم ضد النظام الدكتاتوري.

ومن المؤسف أن النخب السياسية تتعامل مع الانتخابات وكأنها عملية تنافسية، تماماً كما كانت انتخابات 2012 عندما تنافس 13 مرشحاً في انتخابات حرة ونزيهة. إن انتخابات 2024 يجب أن يخوضها شخص واحد ضد مرشح النظام الاستبدادي، وعليهم دعم ذلك الشخص بكل قوتهم، ويجب أن يكون العمل موجهة لدعم المرشح المدني، ويجب أن يكون له برنامج معتدل ولا يمثل أي اتجاه معين، بل يمثل الشعب المصري واحتياجاته. ويجب على الجميع دعم برنامج المرشح الذي سنتفق عليه، بل وتحسين برنامجه إذا تمكنا من ذلك.

انتخابات 2024

ونحن على أعتاب الانتخابات الرئاسية في مصر، حيث يسود نظام سياسي استبدادي، من الضروري للمعارضة التي تطمح للتغيير نحو النظام الديمقراطي أن تشارك في تنسيق جهودها للدخول بشخص واحد، وحشد الشعب للمشاركة من أجل إسقاط النظام الاستبدادي.

ونحن على أعتاب الانتخابات الرئاسية في مصر، حيث يسود نظام سياسي استبدادي، من الضروري للمعارضة التي تطمح للتغيير نحو النظام الديمقراطي أن تشارك في تنسيق جهودها للدخول بشخص واحد، وحشد الشعب للمشاركة من أجل إسقاط النظام الاستبدادي
وفي هذه اللحظة الحاسمة، يجب على معارضي النظام الحالي أن يجتمعوا تحت راية واحدة، تمثل رؤية وخطة واضحة للانتقال نحو الديمقراطية الحقيقية. إن التشتت والانقسام قد يضعف الجهود ويقوي قبضة النظام الحاكم، لذا يجب على المعارضين أن يتحدوا من أجل تحقيق هدفهم المشترك وهو بناء مصر الجديدة على أسس الديمقراطية وحقوق الإنسان.

والخطوة التالية تتطلب التنسيق لاختيار الشخص الذي يمثل الوحدة والانسجام بين مختلف الأطياف والقوى المتعارضة. وينبغي أن يكون هذا الشخص رمزا للتغيير والأمل، وله القدرة على جمع الجميع حوله وتحفيزهم على المشاركة الفعالة في العملية الديمقراطية، ومن الضروري أن تكون لديه رؤية واضحة للتحول، وخطة عمل متينة لبناء مؤسسات ديمقراطية تعزز حقوق الإنسان وتضمن توزيع السلطة والعدالة الاجتماعية.

ومن أجل تحقيق هذه الأهداف، على المعارضة أن تبذل جهداً كبيراً في تعبئة الجماهير وتوعيتها بأهمية المشاركة في العملية الانتخابية، ويجب عليها استخدام وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي لنشر رسالتها وإلهام الناس بالثقة في قدرتهم على التغيير. إن الوعي بأهمية الانتخابات وتأثيرها على مستقبل مصر يمكن أن يحفز الناخبين على المشاركة بفعالية.

وبالإضافة إلى ذلك، ينبغي تجنيد الشباب والشابات للانضمام إلى هذه الحملة من أجل التغيير. الشباب هم مستقبل مصر، ويمكن أن يكون لقوتهم وحماسهم تأثير كبير على العملية السياسية، ويجب إتاحة الفرص للشباب للمشاركة الفعالة وطرح أفكارهم وآرائهم في بناء النظام الديمقراطي الجديد.

وفي نهاية المطاف، يجب أن تكون هذه الجهود جزءا من استراتيجية شاملة تهدف إلى تحقيق التغيير الديمقراطي في مصر. ومن خلال تنسيق المعارضة، واختيار الزعيم المناسب، وتعبئة الجماهير، يمكن تحقيق التحول نحو نظام سياسي يحترم حقوق الإنسان ويعزز المشاركة المجتمعية والعدالة.

إن مصر تستحق مستقبلا أفضل وأكثر ديمقراطية، ومن واجب كل مواطن ومواطنة أن يسعى لتحقيق هذا الهدف من خلال التعاون والمشاركة الفعالة في العملية السياسية، من أجل بناء وطن يسوده العدل والحرية والديمقراطية. ومن خلال تعزيز الحوار، وتحديد الأهداف المشتركة، وتشكيل التحالفات، وبناء الثقة، يمكن تحقيق تغيير إيجابي نحو مستقبل أكثر ديمقراطية وازدهارا لمصر وشعبها.

المرشح أحمد الطنطاوي

لقد أصبح واضحا للجميع أن المرشح المحتمل أحمد الطنطاوي هو المرشح الجاد الوحيد الذي يتحدث بثقة في نفسه وفي الناس من خلال أفكار يتحدث عنها بوضوح ويجيب على العديد من الأسئلة الموجهة إليه بشفافية وموضوعية؛ فهو مرشح محترف يفهم ما يقوله، وعلى الجميع الاستماع إليه بعناية وانتباه والابتعاد عن الحكم المسبق عليه، أو اتهامه بالعمل لصالح النظام أو مساعدة الإخوان المسلمين على العودة مرة أخرى للحكم.

هذه تصورات وعلينا أن نثق ببعضنا البعض، حتى لو اختلفت وجهات نظرنا، لأننا نعلم أن الأنظمة الاستبدادية تعمل على خلق إسفين بين الناس.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه مصر الديمقراطية الانتخابات مصر السيسي انتخابات الديمقراطية مرشحين مقالات مقالات مقالات سياسة أفكار سياسة رياضة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الانتخابات الرئاسیة القوى الوطنیة من أجل تحقیق على الجمیع بین القوى أن تکون یجب على من خلال أن یکون یجب أن فی مصر

إقرأ أيضاً:

التحول الديموغرافي وتوجيه مجتمعات المستقبل

في الحديثِ عن المستقبل تبرز بعض العوامل والإشارات التي تأخذ حيزًا أكبر من غيرها في نقاشات المستقبل؛ وذلك كونها تتصل بعالم (الأشياء)، وتكون ملموسة ومشاهدة بشكل مباشر في حياة الأفراد (متخصصين وعامة)، وبالتالي فإن تقديرهم لأولويتها في تحريك المستقبل وتغيير واقع الحياة الإنسانية والمجتمعات يكون أكبر. ومن ذلك التقنيات الحديثة وأهمها ما تولده اليوم فتوحات الذكاء الاصطناعي من تطبيقات وبرمجيات تتقدم بالزمن، وتغير خارطة تموضع الذكاء، وتعيد فتح جدلية تفوق ذكاء الآلة في مقابل ذكاء البشر. غير أن بعض العوامل والإشارات الأخرى المرتبطة بالمستقبل - رغم رصدها - وتكرار الحديث عنها فإنها لا تأخذ ذات الحيز من (الهاجس البشري) في ضرورة العمل والقدرة على تدبير مسارات التكيف أو التعامل معها، وقد يرد ذلك لكونها غير ملموسة أو محسوسة بشكل مباشر، ولا تؤثر على المعيش المدرك اليومي، وقد ترتبط في الذهنية العامة بمستقبل يمكن السيطرة عليه وتفاديه أو سهولة التكيف معه، ومنها المتغير الديموغرافي؛ والذي تكمن حساسيته ليس فقط في المؤشرات (الكمية) المتصلة بتوقعاته وسيناريوهاته، وإنما في القراءات الاجتماعية والاقتصادية التي يمكن أن يولدها ذلك (الكم)، بحسب طبيعة كل مجتمع وتركيبته وسبل تدبير نظامه السياسي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي.

ثمة مؤشرات لا يمكن إغفالها في الحديث عن متغير الديموغرافيا ومستقبله، فالنمو العالمي لأعداد السكان بنحو 18% بين عامي 2025 حتى 2050 يحمل في طياته أوجهًا متباينة لطبيعة هذا النمو، وتوزيعه، والحصص الاقتصادية لمكاسبه، والأعباء الاقتصادية والاجتماعية المترتبة على نقصه في أقطار واقتصادات بعينها. واقتراب معدلات الخصوبة العالمية من (مستويات الإحلال) حسب توقعات عام 2050 لتكون عند (2.1) ولادة لكل أمرة يفتح أسئلة حول الدوافع والمسببات الصحية والاجتماعية لوضع الخصوبة العالمي، ففي السياق الاجتماعي هل تبدو ثمة أفكار وإيديولوجيا جديدة ناشئة تحرك المجتمعات نحو حسر موجات الزواج، أو حين الزواج حسر معدلات الإنجاب (طواعية). انشغلت النظرية الاجتماعية خلال العقود الفائتة بتبرير ذلك بسبب تركيبة الأسر الجديدة (النواة)، وممارسات الفاعلين الأسريين، من خروج المرأة بشكل موسع للانخراط في العمل والاقتصاد، إلى تزايد المسؤوليات الاقتصادية للمربين، إلى دخول مفاهيم جديدة في معادلة التربية، وهو ما استدعى الأسر الجديدة إلى تبني عقيدة (الإنجاب المحدد) في مقابل (التربية المكتملة)، ولكن لا يزال السؤال قائمًا: هل هذه المبررات الاجتماعية تصلح وحدها لتفسير حالة الخصوبة العالمية اليوم؟ أم أن هناك متغيرات تتعلق بقناعات الأفراد أنفسهم قد تغيرت حتى في ظل انخراطهم في تكوين أسر جديدة. ومن المؤشرات البارزة في سياق المتغير الديموغرافي تحصل القارة الإفريقية على نصيب الأسد من حصة النمو السكاني العالمي، في مقابل انحسار تلك النسب في أوروبا وبعض بلدان أمريكا الشمالية، وتطرح هذه المؤشرات أسئلة حول سؤال الطلب على القوى العاملة، وخاصة في الاقتصادات المتقدمة التي ستعاني من الانحسار في معدلات السكان في سن العمل، وهل سيغير ذلك خارطة الهجرة العالمية، لتكون هجرة قائمة على الطلب أكثر من كونها هجرة قائمة على الحاجة مثلما هو الوضع العالمي الراهن. كيف ستنشأ كذلك أنماط جديدة للعمل عن بعد، والعمل في قارات مختلفة من قارة واحدة لشخص واحد، وكيف سيعالج انتماء الإنسان الاقتصادي ومساهمته الاقتصادية ضمن منظومات الناتج المحلي القومي وإنتاجية العمالة في ظل خدمته في أكثر من قُطر وقارة. وفي المقابل كيف تستفيد إفريقيا (اقتصاديًا) من حالة الانفجار السكاني في بعض دولها، خصوصًا مع توسع نطاق القوى العاملة، وهل ستركز المؤسسات الرائدة في التعليم والتدريب جهودها في الدول الإفريقية لخلق جيل من المهارات والمعارف قادر على تحقيق الانتقال الاقتصادي.

الواقع أننا يمكن تقسيم دول العالم في سبيل تعاملها مع المتغير الديموغرافي اليوم إلى خمسة نطاقات أساسية: دول عملت على تمكين سياسات الهجرة إليها بشكل مطلق ومباشر عبر الحوافز والتسهيلات وسياسات الجذب والاستقطاب، ودول عملت على تمكين تلك السياسات وفي سياق مواز طورت سياسات للهوية الوطنية ولحماية التركيبة السكانية الأصيلة، ودول تحاول تقييد مسائل الهجرة والإقامة والمحافظة على المكون الأصيل لمجتمعاتها، ودول لا زالت تنتهج سياسات غير متسقة بين الجذب والاستقطاب وبين محاولات تمكين المكون الأصيل لمجتمعاتها، ودول تحاول المراهنة على نظم تنمية الموارد البشرية والحماية الاجتماعية للتعامل مع المتغير الديموغرافية دون النظر إلى السياسات الأخرى التكميلية مثل سياسات الهجرة والإقامة. تكاد الخارطة العالمية تتقسم - حسب حدود رصدنا - بين هذه النطاقات الخمسة. وفي تقديرنا فإن حساسية المتغير الديموغرافي تتطلب سياسات يتم صنعها بحساسية ودقة؛ بحيث توازن في (حالتنا المحلية) بين أربعة عناصر أساسية: حاجيات نمو الاقتصاد وتنويعه وتوسيع هياكله الانتاجية، المحافظة على عناصر الهوية الوطنية بوصفها سمة للتنمية والنمو، تحقيق الاكتفاء الاقتصادي للسكان خاصة فئة السكان في سن العمل، وديمومة البيئة المتكاملة لرعاية الأشخاص ما بعد سن العمل والحفاظ على مستويات أفضل من الصحة العامة لهم. وفي تقديرنا كذلك فإن التعامل مع المتغير الديموغرافي لن يكون محصورًا بمجرد وجود السياسة السكانية بل يكون عبر عملية تنسيق ومواءمة كافة السياسات الاجتماعية والاقتصادية لتكون متفقة على مقصد (سيناريو) ديموغرافي واضح ومحدد، تنطلق منه وتتمحور حوله، فإذا كان مقصد السيناريو تعظيم الاستفادة من السكان في سن العمل باعتبار فرصة النافذة الديموغرافية، سعت قطاعات التعليم والتدريب والتأهيل لتغيير مقارباتها نحو تحقيق هذا المقصد، ووسع الاقتصاد فرصه للعمل والريادة لهذه الفئة، وحسنت مؤسسات الرعاية الشبابية الظروف الكاملة للنمو الأمثل لهذه الفئة بما يخدم تحقيق مقاصد السيناريو الوطني المنشود.

مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية فـي سلطنة عُمان

مقالات مشابهة

  • الراعي: الشعب ينتظر من السلطة السياسية أن توفر السلام والعدالة والاستقرار
  • لأول مرة بعد سقوط الطاغية… السوريون يحتفلون بذكرى انطلاق الثورة في ساحة الأمويين
  • أهالي حمص في ذكرى الثورة.. الشعب السوري واحد
  • التحول الديموغرافي وتوجيه مجتمعات المستقبل
  • فنانون ناصروا الثورة السورية منذ بدايتها ودفعوا الثمن راضين
  • بحضور الأحزاب والكيانات السياسية.. الجيل الديمقراطي ينظم سحوره السنوي
  • العميد طارق :القوى الوطنية تتُقرِّب من النصر المؤزر واستعادة الدولة ومعركة اليمنيين ضد الحوثيين هي معركة أجيال ولن تتوقف إلا بدفن خرافة الولاية
  • أحد أبطال أكتوبر: الشعب المصري تحمل الكثير من اجل تحقيق نصر أكتوبر
  • بهدف معالجة آثار مهنة الصرافة بدون ترخيص.. المركزي يلزم مؤسسات الصرافة في مناطق سيطرة القوى الثورية قبل سقوط النظام بتوفيق أوضاعها
  • هيئة إدارية جديدة للجمعية الوطنية للتنمية السياسية