ماذا دهاك يا بُنيَّ؟! أجدك في شجار دائم مع زملائك في المدرسة، مع أبناء الجيران، وحتى مع أبناء الأقارب، فالجميع يشكو مِنك، بل أجدهم يتجنبون وصلك ورفقتك. يا بُنيَّ أراك تغضب وتنقم على كُلِّ مَن حولك. حتى بتُّ لا أرى بصحبتك صاحبًا، ولا برفقتك حبيبًا، أصبحتُ أشفق عليك من نَفْسِك. من فرط حزنك، ومن انكسار قلبك، ومن شدَّة غضبك.
أين ضحكاتك التي تصدح في البيت، وأحاديثك المرحة المزعجة التي تكاد لا تتوقف حتى نستجديَ مِنْك بعضًا من الهدوء؟ افتقدنا مداعباتك السَّمجة مع أبناء عمومتك وأبناء أخوالك، وأغانيك التي تغنِّيها بصوت نشاز وقَدْ أفسدتَ اللَّحن والكلمات فيستصرخك أهل البيت راجين صمتك. فإذا ما نمتَ أو انصرفتَ خيَّم الصَّمت على الدَّار، فنسترجع كلماتك ومواقفك المضحكة، ونتمنَّى عودة إزعاجك. افتقدنا بهجتك التي تفوح في البيت فتعدينا سعادة وسرورًا.
ما الذي أطفأك يا بُنيَّ لِتكونَ أنتَ لستَ أنتَ؟! مَن الذي جنى عليك فأطفأ ابتسامتك وسعادتك ومرحك؟! لا تبحث عن الجاني بعيدًا عَنْك، فسارق سعادتك بَيْنَ أضلعك. فيك أنتَ. وبَيْنَ يدَيْك. إنَّه عقلك الذي جلب لك التَّعاسة. أتذكَّر كمْ كان يُملي عليك أسئلة توغر صدرك؟! لماذا أعطت أُمِّي أخي قطعة كعك أكبر مِنِّي؟ إنَّها لا تحبُّني!!! لماذا خرج أصدقائي معًا ونسوا أن يشاركوني؟! إنَّهم لا يحبُّونني؟! المُعلِّم يركِّز بنظرة وقت الشرح على أصدقائي أمَّا أنا فتعبُرني نظراته عبورًا خاطفًا. إنَّه لا يحبُّني. أملى عليك عقلك قناعةً راسخة بأنَّ مَن حَوْلَك لا يحبُّونك، فغادرت السعادةُ قلبَك وحلَّ محلَّها الغيرة والغضب لتتحوَّلَ بعدها إلى شخص غير محبوب فعلًا.
أجزم بأنَّ عقلك الذي جلب لك التعاسة، فقَدْ كان عقلك يُملي عليك قناعة بأنَّك لَنْ تكُونَ متفوِّقًا لا في الدراسة، ولا في الأنشطة الرياضيَّة، ولا في العلاقات الاجتماعيَّة، حتى اقتنعتَ بأنَّك شخص فاشل، فخسرتَ نجاحات ومكاسب طالما حقَّقتَها، وأصبحت الهزيمة والفشل رفقة حميمة لك. فغادر الفخر والثقة بالنَّفْس قلبَك، وحلَّ محلَّها الانكسار والضعف.
أجزم بأنَّ عقلك الذي جلب لك التعاسة، فقَدْ كان يوهمك بأنَّك مريض فصدَّقته، فعَيَا جسدك وخارت قواك، وحلَّ الخمول والضعف محلَّ القوَّة والحيويَّة والنشاط، ظلَّ عقلك يجلد جسدك حتى أضناه، صدَّقتَ عقلك واستقبلت المرض بالترحاب وكأنَّه واحد من أهل الدَّار. أقنعَك عقلك بالسَّقم، فاعتلَّ جسدك. جلتُ بك جميع المستشفيات والعيادات، وحتى إجازتنا السنويَّة الصَّيفيَّة التي نقضيها في الخارج أصبحنا نمضي أغلب أيَّامها في التجوال بَيْنَ المستشفيات بدلًا من التجوال بَيْنَ الحدائق والمتنزهات. ليقرَّ جميع الأطبَّاء بأنَّك سليم لا علَّة بجسدك. فيصدق ظنِّي بأنَّ عقلك هو الجاني.
ثِق يا ولدي أنَّ عقلك هو الذي يرسم مصيرك ومستقبلك، ألا تذكر قول الله تعالى في الحديث القدسي حين قال رَسُولُ اللهِ : يَقُولُ اللهُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي، إِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ، ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ، ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ هُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً.)
فإن حدَّثك عقلك خيرًا، جاءك الخير من حيث لا تحتسب، وإن حدَّثك عقلك شرًّا جاءك الشَّر من كُلِّ حدَبٍ وصوب . يا ولدي سيطِرْ على أحاديث عقلك بإرادتك، بعزيمتك وبإيمانك؛ لِتنتصرَ عليه، ولِتقودَه نَحْوَ الخير، ولا تجعله يقودك نَحْوَ الشَّر فيُحِل حياتك إلى فشل وجحيم. فأحْسِن الظن بالله تغْنَم، وثِق بربِّك تسعد، وتفاءل بالخير تجده. ولا تجعل من عقلك عدوًّا لك، فأحاديث عقلك ترسم مستقبلك… دمتَ سالمًا يا بُنيَّ.
نجوى عبداللطيف جناحي
كاتبة وباحثة اجتماعية بحرينية
متخصصة في التطوع والوقف الخيري
najanahi@gmail.com
Najwa.janahi@
المصدر: جريدة الوطن
كلمات دلالية: ک عقلک
إقرأ أيضاً: