متغيرات كثيرة على المستوى الإقليمي والدولي، وتحولات تتسارع وتيرتها لتشكل واقعا دوليا مختلفا في علاقاته وتحالفاته، جعلت تلك التحولات الكونية القارة السمراء ساحة للتنافس الدولي المحموم الأكبر على الاطلاق باعتبارها تمثل مخزونا للموارد الطبيعة غير المستغلة في ظل التناقص المستمر للموارد، ويبرز ذلك التنافس بشكل أكثر وضوحا من خلال التطورات التي تشهدها منطقة وسط وغرب افريقيا، مع تضعضع للنفوذ الغربي الفرنسي التاريخي وصعود لاعبين جدد أكثر تأثيرا وأسرع تمددا مثل روسيا والصين وغيرها من القوى الجديدة.


يتزامن ذلك التنافس الدولي المتزايد مع حركة انقلابات عسكرية وصراعات مسلحة وموجات احتجاجات شعبية في عدة دول افريقية لا سيما دول الساحل والصحراء تهدد النفوذ الفرنسي التاريخي في المنطقة، مع توجه أكثر ميلا للقوى الدولية الجديدة لبناء علاقات تقوم على المصالح المتبادلة بعيدا عن التدخلات في الشؤون الداخلية، وأجبرت الاحتجاجات الشعبية في جمهورية بوركينا فاسو الحكومة الانتقالية هناك على إبعاد القوات الفرنسية الموجودة على أرضيها، وسبقتها في ذلك دولة مالي

ولم يكن قرار واغادوغو الخاص بابعاد القوات الفرنسية الأول وقطعا لن يكون الأخير، إذ سبق وأن سحبت فرنسا في العام الماضي آخر جندي من قواتها في دولة مالي بعد تواجد دام لتسع سنوات، بعد الرفض الشعبي والحكومي للوجود العسكري الفرنسي في البلاد، وجاء مؤخرا انقلاب الحرس الرئاسي في جمهورية النيجر على الرئيس المنتخب محمد بازوم ليقلب الطاولة من جديد، مما جعل النفوذ الفرنسي في منطقة الساحل الافريقي على المحك وفق مراقبين.
السودان ليس بعيدا

كما أن السودان لم يكن بعيدا عن تلك المتغيرات الإقليمية، وما الحرب التي تدور رحاها لأربعة أشهر الا امتدادا لما يحدث في غرب القارة من احداث، إذ يؤكد الخبير العسكري المختص في ادارة الازمات اللواء د. أمين مجذوب لـ(البيان) أن مجريات الأوضاع في السودان مرتبطة بشكل مباشر بما يحدث في بقية القارة جراء تنافس القوى العظمى في القارة الافريقية، ويشير الى أن روسيا حاولت ولا تزال تحاول مزاحمة الولايات المتحدة الامريكية وفرنسا وبريطانيا في الازمة السودانية، باعتبار أن منطقة البحر الأحمر هي منطقة صراع نفوذ بين تلك الدول، بجانب أن هناك ملف ثالث مهم جدا وهو ما يدور في أفريقيا الاوسطى وتشاد ووجود شركة فاغنر للخدمات الأمنية الروسية، هذا الامر عقد كثيرا من الوجود الروسي في افريقيا.

ويؤكد مجذوب أن السودان أصبح وبموقعه الجيواستراتيجي منطقة صراع للنفوذ الإقليمي والدولي، وأضاف :” واضح أن حرب الموانئ بدأت كل دولة تسعى لحجز موقعها على الساحل السوداني، وما يميز الساحل السوداني بانه نظيف ويتحمل وجود موانئ ويقدم خدمات الموانئ ويمر عبر البحر الأحمر 90% من بترول منطقة الخليج، الذي يذهب للولايات المتحدة الامريكية وغلى جنوب شرق اسيا من يسيطر على المجرى المائي يستطيع أن يخنق الطرف الآخر، ومن يهيمن على الأراضي الصالحة للزراعة”.

موطئ قدم
ومع تناقص النفوذ الغربي في القارة الافريقية يتمدد بشكل متسارع النفوذ الروسي والصيني، الذي استطاع أن يجد موطئ قدم في العمق الفرنسي الافريقي، من خلال خلق الشراكات الاقتصادية والتجارية والانفتاح الثقافي، مع ارتفاع حدة الصراع بين الدول العظمي حول الثروات والمعادن التي تزخر بها أفريقيا خاصة بعد أن استدارت فرنسا ظهرها لأفريقيا خلال العقدين الأخيرين، ما فتح المجال للصين أن تتمدد ثقافيا واقتصاديا في افريقيا جنوب الصحراء من خلال تدريس اللغة الصينية في العديد من الجامعات الافريقية واتجاهها للعمل الاغاثي والإنساني والتنموي في افريقيا.

واعتبر أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة أفريقيا العالمية بالخرطوم د. الزمزمي بشير لـ(البيان) أن التمدد الروسي في افريقيا محدود حتى الآن، ولكنه مؤثر ويمكن أن يكون أكثر تأثيرا خلال السنوات المقبلة لا سيما بعد التحولات ومجريات الاحداث على المستوى الدولي، التي ستنعكس على شكل التحالفات القائمة، غير أنه لفت إلى النفوذ الصيني الذي بات الأكثر تمددا في القارة الافريقية لا سيما فيما يتعلق بالمجال الاقتصادي والتجاري، وابتعاده عن التدخل في طبيعة الأنظمة الحكم.

ويشير بشير إلى أن هناك حالة من الملل وشعور عام بالضيق من الوجود النفوذ الفرنسي في عدد من دول غرب افريقيا لا سيما مالي وتشاد وافريقيا الوسطى وبوركينا فاسو، والنيجر والذي ستنتقل عدوته إلى بقية شعوب المنطقة التي تخضع تاريخيا للنفوذ الغربي عموما والنفوذ الفرنسي بشكل خاص، إذ نجحت فرنسا عبر الموالين لها في تحجيم الأصوات المناوئة لجودها في تلك الدول، ولكنه أشار غلى أنه وبعد المتغيرات العالمية ليس بمقدورها السيطرة على الأصوات الرافضة لها في المنطقة.

ولفت إلى بروز نخب جديدة في دول غرب افريقيا اعتنقت ثقافات جديدة وتحمل أفكارا مناهضة للهيمنة الفرنسية، إذ تعتبر أن الوجود الفرنسي حجم دول الغرب الافريقي عن النهوض، واتجهت تلك النخب إلى محاولة خلق شراكات جديدة بعيدا عن الغرب، ووجدت الأبواب مشرعة أمامها عبر المنح الدراسية المقدمة في الجامعات والكليات العسكرية الروسية الصينية والعربية، مع تراجع ملحوظ في حجم المنح الدراسية من قبل الجامعات الفرنسية، بالإضافة للفرص الاقتصادية والتجارية المتاحة من قبل تلك الدول.

توغل صيني
ويؤكد بشير أن الصين نجحت في التوغل في القارة السمراء من خلال المبادرات الاقتصادية العملية، إذ استطاعت أن تخلق علاقات اقتصادية متماسكة مع الكثير من البلدان الافريقية، وعقدت حتى الآن أكثر من ست قمم افريقية صينية تركزت جلها حول العمليات الاقتصادية وكيفية رفع حجم التبادل التجاري بين الصين والدول الافريقية، ويلفت إلى أن مبادرة طريق الحرير الجديد التي وجدت تأييدا من العشرات من دول القارة، فتحت الأفق لشراكات ضخمة، في مشاريع تنموية تبلغ قيمتها مئات المليارات من الدولارات، مما يتيح المنافع المتبادلة بين الصين وافريقيا .

وتوقع أستاذ العلوم السياسية بجامعة أفريقيا العالمية د. الزمزمي بشير أن يتمدد النفوذ الروسي في القارة السمراء بشكل أكبر في غضون السنوات القادمة، ويلفت الى أن هناك الكثير من القيادات الافريقية الصاعدة تلقت دراستها في روسيا وتأثرت بالنموذج الروسي المناوئ للغرب، ما يشير إلى هناك أجيال جديدة في دول الغرب افريقيا تحديدا لديها شعورعام مناوئ لفرنسا، بجانب أن التغيرات السياسية التي شهدتها عدد من دول غرب افريقيا أدت الى تغيير الطبقات الحاكمة مع صعود للقيادات الجديدة التي لديها ميول نحو الصين وروسيا والدول العربية وتحمل كراهية للنفوذ الفرنسي .

تزايد السخط الشعبي
بدوره يلفت المحلل السياسي الجميل الفاضل لـ(البيان) الى موجة الانقلابات العسكرية في السنوات الأخيرة في منطقة الغرب الافريقي، وما تبع ذلك من تغير في المواقف والعلاقات التقليدية القائمة ما بين فرنسا والدول الفرانكفونية، بجانب الموجة الشعبية الرافضة في ذات الدول للنفوذ الفرنسي، إذ أن في غالب التغيرات التي جرت عن طريق انقلابات عسكرية في غرب القارة الافريقية، ناتجة عن الشعور الشعبي العام بأن فرنسا ظلت تستغل ثروات وموارد دول غرب افريقيا، وتم تنفيذ حملات لترسيخ تلك المفاهيم لدى الشعوب في تلك المنطقة وبدأت حالة التململ الشعبي من الوجود الفرنسي.

ويضيف الفاضل الى أن من العوامل التي قادت تزايد السخط ضد فرنسا الأداء الميداني الضعيف بحسب الفاضل للقوات الفرنسية في عملية برخان التي تهدف لمحاربة التمرد في الساحل الافريقي، ما ولد شعور بأن فرنسا ليس لديها ما تقدمه لتلك الدول من خلال الوجود العسكري على الأرض، وفي ذات الوقت فإن تلك القوات تتهم بأنها تمثل غطاءا لنهب ثروات شعوب الساحل.

ويرى الجميل الفاضل أن كل تلك العوامل ساعدت روسيا على خلق قادة حلفاء موالين لها في منطقة الغرب الافريقي، مشيرا إلى أن وجود قوات فاغنر الروسية في بعض البلدان خاصة في افريقيا الوسطى، وما تقوم به من أدوار في حماية السلطة القائمة الآن بانجي، ما أدى إلى موجة طرد السفراء في مالي أو بروكينا فاسو التي منحت القوات الفرنسية المتواجدة في أراضيها مهلة شهر للمغادرة.

ويرجع الفاضل تضعضع النفوذ الفرنسي لأخطاء فرنسا في المنطقة والأداء الضعيف لعملية برخان، فضلا عن الانطباعات السالبة التي ترسخت وفق عمل دعائي واعلامي منظم ضد فرنسا، تزامن مع انقلابات عسكرية، ووجد قادة تلك الانقلابات ضالتهم في التعاون مع روسيا التي لا تتمنع في التعامل مع الأنظمة الانقلابية، عكس الدول الغربية التي تقيدها قوانينها وبرلمانتها من التعامل مع النظم الانقلابية.

الخرطوم – طارق عثمان

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: القارة الافریقیة دول غرب افریقیا النفوذ الفرنسی القارة السمراء فی افریقیا فی القارة تلک الدول من خلال

إقرأ أيضاً:

نتنياهو يجتمع مع الجيش لبحث النفوذ التركي في سورية

تل أبيب (زمان التركية) – أعلن مكتب رئيس وزراء الإحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أنه سيعقد قريبًا اجتماعًا أمنيًا جديدًا لمناقشة الوجود التركي في سوريا، وذلك بمشاركة كبار المسؤولين في المؤسسة الدفاعية، في أعقاب جلسات مماثلة الأسبوع الماضي.

تصاعد التهديدات والتلويح بالمواجهة

وبحسب مصادر إعلامية إسرائيلية، لوّح نتنياهو بإمكانية حدوث “مواجهة” مع تركيا في سوريا، وسط مخاوف متزايدة من تزايد النفوذ التركي هناك. وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي قد عقد مشاورات أمنية الأسبوع الماضي لمناقشة التداعيات المحتملة للتحركات التركية في المنطقة.

وأشارت التقارير إلى وجود اتصالات بين أنقرة ودمشق تتعلق بتسليم مناطق قريبة من مدينة تدمر (وسط سوريا) للجيش التركي، مقابل دعم اقتصادي وعسكري تقدمه تركيا للنظام السوري، وهي خطوة تثير قلقًا إسرائيليًا متزايدًا.

مخاوف من تعزيز القدرات العسكرية السورية

ووفقًا لموقع “واللا” العبري، فإن النظام السوري يعمل حاليًا على إعادة بناء قواعد عسكرية وتعزيز قدراته الصاروخية والدفاعية، خاصة في المناطق الجنوبية القريبة من الحدود مع إسرائيل.

وفي السياق ذاته، أفادت “القناة 12” العبرية بأن نتنياهو، عبر مستشاريه، يدفع وسائل الإعلام الإسرائيلية نحو الترويج لفكرة أن “المواجهة مع تركيا على الأراضي السورية باتت حتمية”.

توصيات باستعداد عسكري لمواجهة تركيا

وأوضحت تقارير إسرائيلية أن لجنة حكومية حديثة أوصت نتنياهو بالاستعداد لاحتمال نشوب حرب مع تركيا، في ظل قلق تل أبيب من تنامي التقارب بين أنقرة ودمشق بعد سقوط نظام بشار الأسد.

ويعكس هذا التصعيد مرحلة جديدة من التوتر في المنطقة، مع تزايد التداخل بين المصالح الإقليمية للقوى الكبرى في سوريا، ما يفتح الباب أمام سيناريوهات أكثر تعقيدًا في المستقبل القريب.

Tags: أردوغانإسرائيلالعلاقات التركية السوريةتركيانتنياهو

مقالات مشابهة

  • تاريخ من نار.. تعرف على نتائج مواجهات الزمالك مع فرق جنوب افريقيا
  • فرنسا تتولى رئاسة مجلس الأمن الدولي للشهر الجاري
  • الصليب والهلال الأحمر الدولي: نعمل على توفير الخدمات لمنكوبي زلزال ميانمار
  • العثور على مجوهرات نادرة بالصدفة في فرنسا
  • النفوذ الإيراني في العراق يصمد رغم ضغوط واشنطن
  • الصليب والهلال الأحمر الدولي: زلزال ميانمار أثر على نحو 1.5 مليون مواطن
  • ترميم جدار بالصدفة يقود للكشف عن مجوهرات نادرة في فرنسا
  • الاتحاد الدولي للصليب الأحمر يُندد بمجزرة المسعفين في رفح
  • بالصدفة.. اكتشاف مجوهرات نادرة في فرنسا
  • نتنياهو يجتمع مع الجيش لبحث النفوذ التركي في سورية