ذخائر اليورانيوم المستنفد بطريقها إلى أوكرانيا.. سلاح مضاد للدروع بقدرات خارقة وحارقة
تاريخ النشر: 2nd, September 2023 GMT
تخطط الولايات المتحدة الأميركية لإرسال ذخائر تحتوي على يورانيوم مستنفد (منضب) إلى أوكرانيا، بحسب وكالة رويترز.
وأشارت وثيقة نشرتها الوكالة، السبت، وأكد محتواها مسؤولان أميركيان بشكل منفصل، إلى أن إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، سترسل لأول مرة ذخائر خارقة للدروع تحتوي على اليورانيوم المستنفد (المنضب) إلى أوكرانيا.
وتطرح تساؤلات عن ماهية هذه الذخائر وقدراتها واستخداماتها، وفيما إذا كانت تعتبر نووية، وتأثير استخدامها في المعارك العسكرية خلال الحرب الدائرة في أوكرانيا، منذ نحو 18 شهرا.
ويوضح اللواء الطيار المتقاعد والخبير العسكري، مأمون أبو نوار، أن "هذه القذائف لا تشكل تغييرا جذريا"، وهي تعتبر مساعدة فقط خلال العمليات العسكرية البرية.
ويقول أبو نوار في حديثه لموقع "الحرة" إن "هذه الذخائر مضادة للدروع، ويمكن أن تستخدم في صواريخ جافلين مثلا أو أي سلاح مضاد للدروع، مشيرا إلى أنه "عادة ما تضاف مادة (اليورانيوم المنضب) إلى الرأس الحربي للمساعدة على الخرق والاحتراق".
وأوضح أن "إصابتها تكون قاتلة لأي مركبة مدرعة (...) ولكن في الحقيقة، يجب أن ننظر إلى الصورة الأكبر، بمعنى أنه إذا قارنا بين هذه الذخائر وطائرات أف 16 من حيث الأولوية، فإن الطائرات أهم".
سلاح سحري؟وأضاف أنه "في الحقيقة لا يوجد سلاح عجيب أو سحري يغير قواعد اللعبة أو مسار الحرب في أوكرانيا، والأسلحة جميعها يجب أن تكون متوازنة، لتخدم المناورة البرية والجوية".
وعلى سبيل المثال "فإن مقاتلات أف 16 ممكن أن تكون فائدتها أكبر في ضرب (...) وخرق الدفاعات الروسية، لأنه بدونها من الصعب جدا أن يتحقق ذلك، إذ أنها تمهد الطريق للقوات على الأرض".
وفي 24 أغسطس الماضي، أعلن رئيس وزراء النرويج، يوناس جار ستوره، خلال زيارة للعاصمة الأوكرانية، كييف، أن أوسلو ستمنح أوكرانيا طائرات أف 16 المقاتلة أميركية الصنع، لتنضم بذلك إلى جهود بقيادة هولندا والدنمارك.
وظلت مقاتلات أف 16 على قائمة طلبات أوكرانيا لفترة طويلة، بسبب قوتها المدمرة وتوفرها على الصعيد العالمي، والمقاتلات مجهزة بمدفع ويمكنها حمل قنابل وقذائف وصواريخ.
وقال رئيس وزراء النرويج في بيان: "نعتزم منح أوكرانيا طائرات أف 16 المقاتلة، وسنقدم مزيدا من التفاصيل عن المنح والأعداد والإطار الزمني للتوصيل في الوقت المناسب".
واجتمع ستوره مع الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، في كييف، وأعلن منح أوكرانيا صواريخ مضادة للطائرات ومعدات أخرى.
وقال وزير الدفاع النرويجي، بيورين أريلد جرام، في بيان "منح مقاتلات أف 16 هذه سيعزز قدرات أوكرانيا العسكرية بشكل كبير".
تدمير الدباباتوبإمكان القذائف من هذا النوع (التي تحتوي على اليورانيوم المنضب) المساعدة في تدمير الدبابات الروسية، وهي جزء من حزمة مساعدات عسكرية جديدة لكييف من المقرر الكشف عنها الأسبوع المقبل، وفقا لرويترز.
ويمكن إطلاق الذخائر من دبابات أبرامز الأميركية التي قال مصدر مطلع إن من المتوقع تسليمها لأوكرانيا، خلال أسابيع.
وقال أحد المسؤولين الأميركيين الإثنين، إن حزمة المساعدات الجديدة ستتراوح قيمتها بين 240 مليون دولار و375 مليون دولار، بحسب محتواها.
وأضاف المسؤولان أن قيمة ومحتوى الحزمة لم تتحدد بشكل نهائي بعد. ولم يرد البيت الأبيض على طلب للتعقيب من رويترز.
هل هذه الذخائر نووية؟ولدى سؤاله عن إمكانية اعتبار الذخائر التي تحتوي على يورانيوم مستنفد (منضب) نووية أم لا، قال الخبير العسكري إن "الأمر أصبح يعتبر طبيعيا".
وأضاف أن "إسرائيل ودول أوروبية مثلا لديها قذائف برؤوس حربية مزودة بيورانيوم منضب (...) وهي تحتوي على مواد نووية، لكنها غير محرمة، مثل القنابل العنقودية".
قذائف مشابهةوعلى الرغم من أن بريطانيا أرسلت قذائف تحتوي على يورانيوم مستنفد في وقت سابق هذا العام، فإن هذه ستكون أول شحنة ترسلها الولايات المتحدة من تلك القذائف.
واليورانيوم المستنفد هو ناتج ثانوي لعملية تخصيب اليورانيوم ويستخدم في القذائف لأن كثافته الشديدة تمنح القذائف القدرة على اختراق طبقات الدروع بسهولة والاشتعال الذاتي مثيرة سحابة حارقة من الغبار والمعادن.
واستخدمت الولايات المتحدة اليورانيوم المستنفد بكميات ضخمة، في 1990 و2003 خلال حربي الخليج والعراق، وأثناء قصف حلف شمال الأطلسي (الناتو) ليوغوسلافيا السابقة في 1999.
وتقول الوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة إن الدراسات التي أجريت في يوغوسلافيا السابقة والكويت والعراق ولبنان "تشير إلى أن وجود بقايا يورانيوم مستنفد منتشرة في البيئة لا يشكل خطرا إشعاعيا على سكان المناطق المتضررة".
واعتبر الخبير العسكري أن هذه الذخائر "تعتبر مساعدة فقط على أرض المعركة، ولكنها قد لا تغير قواعد اللعبة".
المصدر: الحرة
كلمات دلالية: الیورانیوم المستنفد هذه الذخائر تحتوی على
إقرأ أيضاً:
الشتات بوصفه مَجازًا مضادًا: قراءة نقدية في أطروحة “الشتات قيد التشكل في أستراليا”
الشتات بوصفه مَجازًا مضادًا: قراءة نقدية في أطروحة “الشتات قيد التشكل في أستراليا”للباحث الدكتور عبد الخالق السر
ثمّة نصوص لا تُقرأ فحسب، بل تُنصت، إذ تمتزج فيها التجربة بالتأمل، والسرد بالتحليل، والذات بالجمعي. وأطروحة “الشتات قيد التشكل في أستراليا” لنيل درجة الدكتوراه للباحث عبدالخالق الحسن تنتمي إلى هذا الضرب من الكتابة التي لا تقف عند وصف الظواهر، بل تتساءل عنها، وتقلقها، وتستدعي قواها الخفية لتُفصح.
في قلب هذا المشروع الأكاديمي، ثمة سعي لفهم الذات السودانية في المهجر، لا كحالة تائهة بين وطنين، بل كاحتمال سردي يعيد مساءلة الوطن نفسه، والهوية، والانتماء، والتاريخ، والذاكرة.
من العنوان، يُفهم أن “الشتات” ليس واقعة منجزة، بل عملية جارية؛ “قيد التشكل”. كأنّ الذات السودانية المُهاجرة لم تستقر بعدُ كجماعة في المنفى، بل ما تزال بنية قلقة، تتأرجح بين الانغراس والانفلات، بين الحنين والقطيعة، بين التمثل والتمرد.
تمضي المقدمة في بناء خلفية فلسفية واجتماعية للأطروحة، حيث لا تبدو الهجرة السودانية إلى أستراليا كتدفق بيولوجي أو تحوّل ديمغرافي، بل كجُرح معرفي ناتج عن فشل المشروع الوطني السوداني في تأسيس هوية جامعة تتجاوز القبيلة، والعِرق، والدين، والجهة. وهذا الفشل ليس محض خلل في الأداء السياسي، بل خلل في التصور الجوهري لفكرة “السودان”.
يشير عبد الخالق إلى أن المهاجرين السودانيين لم يغادروا الوطن فحسب، بل حملوه معهم – بذاكرته، بلغته، بخلافاته المؤجلة، بانقساماته الحادة – ليعيدوا تمثيله في المهجر على صورة مألوفة: الجهة تغلب الوطنية، واللغة تفرز الطبقة، والانتماء الإثني يعلو على المجال المشترك. وكما قال إريك فروم: “الحرية التي لا تقترن بتحول داخلي، تُعيد إنتاج القيد على نحو جديد.” وهذا بالضبط ما ترصده الأطروحة: أن الخروج من السودان لم يكن كافيًا للتحرر من منطق السودان، بل أُعيد تشكيل “القيد” داخل فضاء جديد يبدو، للوهلة الأولى، محايدًا.
ينقلنا الفصل الأول إلى الجذر التاريخي للمسألة: السودان كدولة أُريد لها أن تكون “عربية-إسلامية” فوق واقع أفريقي متنوع. لقد فشلت النخب التي تعاقبت على السلطة منذ الاستقلال في الاعتراف بالواقع التعددي، بل عملت على قمعه رمزيًا وماديًا. وقد أُقحِم الدين في خدمة هذا المشروع، لا كإيمان فردي، بل كأداة للهيمنة الرمزية، لتبرير السيطرة، وسحق المختلف. وهنا تستحضر الأطروحة مفهوم بول ريكور عن “الذاكرة الجريحة”، حيث يُقصى الآخر لا لأنه غريب، بل لأنه يُذكّر المركز بـ”مظلوميته المؤجلة”. السودان هنا لا يُنتج ذاتًا جمعية، بل فضاء لإنتاج “الآخر الداخلي” باستمرار: جنوب السودان، دارفور، جبال النوبة، الشرق… إلخ.
ما يقترحه عبد الخالق هنا هو أن هذه الدولة المؤجّلة لم تغب عن المهاجر، بل تسكنه، وتُشكّله، وتدخل حتى في علاقاته اليومية مع بني جلدته في المنفى. وهنا يتحول الشتات من تجربة اغتراب مكاني إلى تجربة اغتراب نفسي مزدوج، تتكثف فيه الغربة كفقد للمكان وكتمزق للرمز في آن واحد.
في الفصل الثاني، يستعرض الدكتور الأدبيات التي تناولت تجارب الشتات السوداني في أوروبا وأمريكا الشمالية، ليُظهر كيف أن عناصر الانقسام التي ظلت تنهش الجسد السوداني في الداخل، قد تسرّبت إلى الخارج بنفس البنية تقريبًا، بل ربما بانسيابية أكبر. إذ أن المسافة الجغرافية لم تُلغِ التراتب الاجتماعي، ولم تُطفئ نار التمييز الإثني أو الانقسام الجهوي، بل منحتها وجوهًا جديدة، وغطاءً “متعددًا ثقافيًا”. حتى المراكز الثقافية السودانية في الغرب، التي يُفترض أن تكون منصات للوحدة، تُدار غالبًا بمنطق المركز والهامش، والهيمنة الرمزية، واحتكار الصوت. وتُظهر الأطروحة أن هذه المراكز تعيد رسم خريطة السودان القديم بطرق رمزية عبر اللغة واللهجة والموقع والتاريخ الشخصي. فتستمر أصوات الخرطوم في التحدث باسم الجميع، بينما تظل المناطق المهمشة – دارفور، جبال النوبة، النيل الأزرق – في الخلفية، ما لم تحضر بوصفها “كوارث” أو “ملفات” يجب التعامل معها من موقع أخلاقي خارجي.
هنا يُستحضر فكر فرانز فانون حين كتب عن “الجلد الأسود والأقنعة البيضاء”، ليؤكد أن الأقنعة التي نرتديها – لا لتخفي هويتنا، بل لتحميها – قد تتحول إلى سجون نفسية. وفي هذا السياق، تتحول طقوس السودانيين في المهجر إلى رموز مشروطة، تمارس تمسكًا هشًا بهوية لم تُبنَ على أساس العدالة أو الاعتراف، بل على إرث طويل من الإقصاء.
في الفصل الثالث، يُبرهن عبد الخالق على وعي منهجي لافت، إذ يدمج بين المنهج الظاهراتي لفهم التجربة المعاشة، والواقعية النقدية لفهم القوى البنيوية الخفية التي تُنتج تلك التجربة. بهذا المزج، تُقرأ روايات المشاركين لا كمجرد قصص شخصية، بل كبنى لغوية، تمثل الذات في مواجهة التاريخ، والسياسة، والطبقة. ويُذكرنا ذلك بتحليل فيكتور فرانكل، الذي يرى أن استدعاء الألم يُعدّ أحد أشكال مقاومة التشييء، حيث تتحول المعاناة من حدث معزول إلى نص جماعي. وهكذا تصبح شهادة الفرد السوداني في المهجر – أكانت امرأة تتحدث عن الاغتراب، أو شابًا عن الرفض المهني – جزءًا من نص أكبر، يُعيد مساءلة شكل المجتمع، ومعنى الانتماء، وفكرة الوطن. ويتمكّن الدكتور هنا من تفكيك صوت الجالية بوصفه “حقل قوى”، حيث تتصارع الرموز لا فقط من أجل الحضور، بل من أجل تمثيل السودان نفسه. من يحق له أن يتحدث باسم الجالية؟ من يُمنح الميكروفون؟ من تُستدعى شهادته حين يتعلق الأمر بالعنف، أو الاندماج، أو النجاحات الرمزية؟
في الفصل الرابع، يرصد عبد الخالق النشاط السياسي في المهجر كاستمرار للجرح. فالمنفى، في هذه الأطروحة، لا يُغلق الجراح، بل يُعيد فتحها في صيغ جديدة.
الغريب أن معظم التشكيلات السياسية في الشتات، رغم أنها تُرفع باسم “الحرية” و”التغيير”، تعيد إنتاج الانقسام ذاته الذي دمّر السودان: طائفية ناعمة، احتكار للصوت، تهميش للنساء، وشكوك مزمنة في الآخر. كما يلاحظ الدكتور أن النشاط السياسي في الشتات مهووس بـ”سودان لا يسمع”، بينما يتجاهل أستراليا التي يُفترض أنها “الواقع”، وكأن السياسة ليست سوى طقس استرجاع لنداء لم يُجب بعد.
في هذا السياق، لا تصبح السياسة مشروعًا لبناء هوية جديدة، بل منصة لاستمرار النزيف، حيث “الوطن” يصبح شعارًا يتكرر دون فاعلية، ويتم إعادة تدوير الخطابات ذاتها التي هُزمت في الداخل. ويظهر ذلك جليًا في نقد الدكتور لبعض المواقف الماركسية التقليدية التي ما تزال ترى في أستراليا دولة استعمارية رأسمالية لا يمكن التحالف معها سياسيًا، ما يمنعها من التفاعل الواقعي مع شروط الهجرة الجديدة. وهنا تستدعي الدراسة مجددًا أفكار فروم، عن الحرية التي لا تُبنى على مشروع جديد، بل تبقى أسيرة الماضي. فالمنفى لا يُنتج مشروعًا، بل يضخ طاقة لا تُستهلك، تتكرر وتتعثر في شكل مظاهرات صغيرة، بيانات حادة، وخطابات داخلية لا يسمعها إلا من كتبوها.
الفصل الخامس يفتح نافذة بالغة الأهمية على صوت النساء، خصوصًا الليبراليات اللواتي خرجن عن الخط الرسمي للجالية، ليقلن ما لا يُقال. وهن هنا لا يظهرن كضحايا، بل كذوات مُنتجة للمعرفة، تعيدن مساءلة كل شيء: الدين، السلطة، النوع، والعائلة. المدهش أن أقسى المواجهات لم تكن مع المجتمع الأسترالي، بل مع أبناء جلدتهن داخل الجالية، أولئك الذين يُعيدون تمثيل القمع بثياب مدنية.
المرأة السودانية في المهجر، كما تصفها إحدى المشاركات، تُعامل كـ”كائن قابل للترويض”، لا كمواطنة. ومجرد اختيارها لمظهرها، أو صوتها، أو كتابتها، يُقابل بسيل من الشكوك والتهم.
وتكشف الأطروحة عن التوتر الحاد الذي تعيشه النساء بين الهوية الفردية و”الهوية الجمعية المفروضة”، خاصة حين يتعلّق الأمر بالتعبير عن الذات، والعلاقات العابرة للثقافة، واللغة التي تُختار في الحديث، وحتى طريقة ارتداء الملابس. ومع ذلك، فهؤلاء النسوة لا يُقدّمن أنفسهن كضحايا، بل كمخرجات لصوت جديد يُكافح لأجل تشييد سردية أنثوية سودانية بديلة، خارجة عن القوالب، ومتصالحة مع الذات. هذا الصوت، وإن بقي مهمشًا في مؤسسات الجالية، إلا أنه يُحدث أثرًا عميقًا في الأجيال اللاحقة، ويخلق تقاطعات مثمرة بين الجندر، العرق، والتجربة.
أما الفصل السادس، فهو أقرب إلى مرآة تكشف هشاشة ما يُسمى بالجالية. فحتى في قلب المنفى، يستمر التمييز الطبقي، والجهوي، والديني، بل يتخذ أحيانًا أشكالًا أشد مراوغة: لهجة معينة تُعد أكثر “سودانوية”، اسم معين يُعتبر “راقٍ”، وجمعيات تُنشأ لا لتمثيل التنوع، بل لتثبيت التفوق الرمزي. الزواج هنا يتحول إلى امتحان إثني، واللغة إلى اختبار انتماء، والموسيقى إلى إعلان طبقي. كل شيء يُفرز، وكل فرد يُصنّف، في نظام يعيد تمثيل الخرطوم دون الحاجة إلى جغرافيا. ويتناول عبد الخالق هذه البنية بجرأة واضحة، مشيرًا إلى أن بعض السودانيين الذين ينتمون إلى الطبقة المتعلمة من الخرطوم غالبًا ما يحتكرون فضاء التمثيل في الإعلام والهيئات الاستشارية، في حين يُهمّش الآخرون الذين جاؤوا من معسكرات اللجوء، أو ممن لا يمتلكون رأس المال الرمزي الكافي.
في الفصل السابع، يغوص الدكتور عبد الخالق في العلاقة بين الجالية السودانية والمجتمع الأسترالي. ورغم سياسة التعدد الثقافي، إلا أن المهاجر السوداني يُطلب منه أن “يقدّم نفسه” لا كفاعل، بل كـ”ضيف ثقافي”. وحين يُعرض في الإعلام، فإما بوصفه ضحية، أو مصدر خطر. أستراليا لا تعترف بالسوداني كاملًا، بل تقبله بوصفه حالة استثنائية، مشروطة، قابلة للزينة والاحتفاء في المواسم، لا للشراكة الحقيقية. وهنا يظهر السؤال المرير: ماذا يعني أن تُطلب منك المواطنة، لكن بلا اعتراف؟ أن يُقال لك: “كن مثلنا”، في الوقت الذي تُعامل فيه كأنك غير مرئي؟
ويُظهر الدكتور أن اندماج السودانيين في أستراليا هو اندماج “مشروط بالصمت”، أي أنه يُطلب منك أن تندمج بشرط ألا تُزعج السردية الرسمية، ألا تتحدث عن العرق، أو العنصرية، أو الذكريات المؤلمة. لكن السوداني في المهجر لا يملك رفاهية النسيان، ولا خيار التماهي الكامل، بل يجد نفسه متموضعًا في مساحة رمادية بين الحضور والتشكيك. ولهذا يتحول الكثير من السودانيين إلى “حالة تمثيل دائم”: يجب أن يكونوا مثالًا للنجاح، أو للنجاة، أو للبؤس… المهم أن يكونوا قابليين للتفسير ضمن سردية الدولة، لا خارجها.
أما الفصل الثامن، فهو انسياب وجداني لطبقة عميقة من التجربة. الحنين هنا لا يُقدّم كعاطفة، بل كأداة للتماسك، كبوصلة رمزية. المهاجر السوداني لا يشتاق للسودان كما هو، بل كما يجب أن يكون، أو كما يتخيله. الوطن لا يعود جغرافيًا، بل يصبح استدعاءً شعريًا، ورغبة فلسفية في المعنى. لكن عبد الخالق لا يقع في رومانسية الحنين، بل يُسائلها: هل يُعيقنا الحنين عن الانخراط في الواقع؟ هل يُمكن أن يتحول التعلّق بالماضي إلى قيد خفي يمنع تشكل الذات الجديدة؟ بعض المشاركين تحدّثوا عن الحنين بوصفه طقسًا يوميًا – في الموسيقى، في الطعام، في الأحاديث الجانبية – بينما آخرون اعتبروه شكلاً من أشكال “الانحباس النفسي” الذي يُعطل التفاعل مع المحيط الجديد. ولأن السؤال يُطرح من داخل التجربة، لا من فوقها، فإن جوابه يظل مفتوحًا، صادقًا، ومرتجًا مثل ضوء بعيد لا يُطفأ.
وينتهي الفصل التاسع إلى خلاصاتٍ مفتوحة؛ إذ أن الشتات، كما يقترح عبد الخالق، ليس حصيلة بل حركة، وليس انفصالًا بل تحوّلًا دائمًا. فلا يُنتج ذاتًا ثابتة، بل سردية تتشكل من الشظايا والتوترات التي لا تنتهي. وربما تكون أعظم مساهمة لهذه الأطروحة أنها لا تبحث عن خلاص، بل عن وعي جديد، متصالح مع تعدده، شجاع في اعترافه، لا يطلب المركز، ولا يخجل من الهامش.
ومن هذا الوعي النقدي الذي تفتحه الأطروحة، يتبدى سؤالٌ محوري لا يمكن تجاوزه: هل استطاع الشتات السوداني أن يتحرر من قيده القديم، أم لا يزال معلقًا بين عالمين؟
وفي ضوء ما سبق، يبدو أن المهاجرين السودانيين في أستراليا، كجماعة، لم يتمكنوا بعد من تحقيق اندماجٍ ملحوظ أو انتماء مكتمل للفضاء الجديد. ما زالت الذاكرة الجمعية، بكل تناقضاتها وانقساماتها، تقيّد هذا الشتات بتجاذبات المكان الأول. وكأن الذات السودانية في المهجر تعيش حالة مُعلقة بين “هنا” و”هناك”، بين واقع جديد لا يُستثمر بالكامل، وماضٍ يرفض أن يغدو ماضيًا. ومع ذلك، لا ينبغي إغفال أن بعض الأفراد والجماعات – مثل الأقباط السودانيين – قد استطاعوا عبر مسارات خاصة تحقيق درجة أوسع من الاندماج والانتماء، مما يثبت أن إمكان التحول موجود، لكنه يتطلب تفكيكًا أعمق للبُنى الرمزية التي يُعاد إنتاجها حتى في قلب المنفى.
وبعد هذا التوغّل النقدي في أطروحة الدكتور عبد الخالق السر، أجدني لا أكتفي بقراءة النص، بل أدخل في حوار معه. فهذه الدراسة لم تقتصر على تحليل تجربة الشتات السوداني في أستراليا، بل فتحت إمكانية تأويل أكثر اتساعًا لفكرة الشتات بوصفه شكلًا من أشكال التمزق المعرفي والسياسي للذات في مواجهة التاريخ والهوية والانتماء. وقد حاولت، عبر هذا النص النقدي، أن أستدعي ما هو غائب في الخطاب الأكاديمي التقليدي: اللغة كجُرح، والصوت كفعل مقاومة، والحنين كطيف لا يسكن الماضي بل يطارد الحاضر. إن ما تضيفه هذه القراءة، في تقديري، هو مساءلةٌ مزدوجة: مساءلة لمفهوم “السودانوية” كما تتموضع في المنفى، ولمفهوم “المواطنة” كما يُعاد إنتاجه تحت قناع التعددية. هي محاولة لإخراج الصوت السوداني من تمثيله النمطي بوصفه ضحية، وإعادة صياغته كذات ناقدة، متشظية، ومُنتجة للمعرفة من قلب التصدع لا من ضفاف الانسجام.
والشتات هنا لا يُقرأ كانفصال عن الوطن، بل كمحاولة مضادة لاحتكاره، وكاحتمال رمزي لكتابة سردية بديلة عن الانتماء، والهوية، والذات الجمعية التي لم يكتمل نسيجها بعد.
وهكذا، يظل الشتات السوداني، في ضوء هذه الأطروحة، فعل مقاومة ضد اختزال الهوية، ومختبرًا مفتوحًا لإعادة تخليق الذات خارج خرائط الانقسام، في رحلة لا تبحث عن يقينٍ، بل عن مساحة أوسع للتماهي مع تعددها وإمكانها الإنساني.
zoolsaay@yahoo.com