هيه أبويي، هذا تَرَاه فواد الوالْدين!
تاريخ النشر: 27th, August 2023 GMT
(1)
حين تكون قد تأخرت عن الحياة إلى هذا الحد فعلى نهاياتها ألا تفوتك.
وفي هذا اترك للطَّبالين طبولهم، وللحَفَّارين مجارفهم، وللبكَّائين شماتتهم، وَدَعْ ذكريات الطيور للطيور.
(2)
تعالوا نتنزَّه في هذه المدينة الجبليَّة الجميلة. هلمُّوا نمشي على عظام من بنوها (احتجاجنا الوحيد ضد إنشاء المزيد من العمارات والعِبارات).
(3)
"الرِّفاق" حاولوا أن يحيدوه إلى جادَّة الصَّواب (حتى "الرِّفاق" مجرد خطأ آخر).
وهناك خطأ آخر، وأكبر.
(4)
ثمَّة معضلة كبيرة في الحب: في المرة الأولى أنت تسلِّم نفسك بكل جوارحك إليه بالكامل. وفي المرة الثانية أنت تسلِّم نفسك بكل جوارحك فيه بالكامل (أيضاً). لكنك تتهيَّب وتتخوَّف كثيرا من أية مرَّة قادمة يأتي فيها الحب كي يطالبك بتسليم نفسك وجوارحك بالكامل، لأنك لم تعد تستطيع أن تسلِّم نفسك وجوارحك بالكامل.
ولكنك تفعل ذلك مرة أخرى.
(5)
صارت مهمَّة النِّضال اليومي اليوم واجبا صعبا على القدمين فقط (القلب يعتني بأمره دوما، ومن تلقاء نفسه، خاصة حين يقفز من صدرك إلى ما يقفز إليه، ويتركك صريعا على الجسر).
(6)
لم تعد هناك أيَّة أسرار علميَّة، فيزيائيَّة أو كيميائيَّة، أو ميتافيزيقيَّة، أبستميولوجيَّة أو أنطولوجيَّة، في انبساط وانشراح الحديث الشَّعبي قبل الرَّطانة الأكاديميَّة، وذلك فيما يخص مسألة النوم.
الكتب، والمجلات المتخصِّصة، والذِّكريات، والأبحاث، ونتائج الدراسات المعمليَّة متاحة للجميع (في السِّجن، كان غرامشي، بالمناسبة، يضرب رأسه بالجدار عدة مرات كي يحدث ما يشبه الغيبوبة التي تجعله يتغلب على الصُّداع وينام قليلا).
لكن يبقى هناك سِرٌّ واحد في الشخص الذي لا يستطيع أن ينام (وذلك السِّر سيبقى سِرَّا).
(7)
حياتنا الإنسانيَّة، والأخلاقيَّة، والوطنيَّة، تفتقر إلى الرُّموز الحيويَّة، والعنيدة، والدَّائمة في مثابرتها، وكبريائها، وعنادها، ومعاناتها، وألقها.
رموز الأمس اعتلاها الصدأ وتلابيب الفضائح المنكشفة بأثر رجعي، وبطيء بدرجة أو بأخرى ("لقد قبضوا كلّهم" كما يقول مظفَّر النَّواب).
أما الرُّموز الحديثة (تسمية "الرُّموز" هنا مبدئيَّة واضطراريَّة فحسب) فإنها تتناول وجبة الغداء مع الشُّهداء، وتلتهم العشاء مع من قتلوهم (والجميع يعرف الجميع، والجميع يتغاضى عن الجميع، والجميع يُضاحِك الجميع، والجميع يحضر في أعراس ومآتم الجميع، والجميع ينافق الجميع، والجميع يدَّعي عدم رؤية ما يفعله الجميع، والجميع ماضون وسادرون في الجميع، والجميع ينحرون الذَّبائح والفضائح للجميع، والجميع لا يخجلون من الجميع، والجميع هم الجميع، وهلم جرا..).
لكن هذا كلام ليس للجميع: "لا يستطيع المرء أن يكون متأكدا من أن هناك شيئا يعيش من أجله، إلا إذا كان مستعدَّا للموت في سبيله" (تشي جيفارا).
(8)
خَدَشتِني البارحة بقَصْدٍ خفيٍّ، وجرحتكِ اليوم بِنِيَّة مُبَيَّتة (يحدث ذلك في هذا الذي نُسميه حُبَّاً).
(9)
لا أستطيع ائتمانك على كل الأسرار التي اندلقتُ بها لك البارحة (لكني أثق أكثر في تلك القُبلة العَجُول، الخَجُول، الجَفُول، عند باب الشّقة).
البحر اليوم كبير، وأزرق.
(10)
أنتِ القُطْن.
(11)
مشكلتهم هي أنني لا أنسى، ومشكلتي هي أنني أتذكر.
(12)
الحياة ليست واجبا على الجميع.
(13)
على الحب أن يحدث من بعيد فقط (كلما اقترب ضاعت ذاكرته، وخاب مسعاه).
(14)
لن أموت لأجلكِ (سأفعل ذلك لأجلي، من باب الكَفَّارة فقط).
(15)
كان يماطل النَّفس ويغويها بوعد أنه سيلقيها من نافذة شقَّته الواقعة في الدور العاشر.
هَمَّ بذلك في هذه الليلة، لكنه وجد أن الطابق العاشر قد انتحر.
(16)
لا يكتب الكاتب لأنه متكئ على كل تاريخ الكتابة من قبله، بل يكتب بسبب ذلك التاريخ.
(17)
يكيل بمكيالين لأنكم لم تعطوه ثالثا.
(18)
سبقتنا الحدوس، ونسانا الموت.
(19)
دخل إلى السِّجن، ثم خرج من السِّجن (لكن الزنزانة لم تغادره).
(20)
أخفقتُ في الحب مرة أخرى (لكن ليس كمن ينشد فرصة جديدة للتوظيف).
(21)
في أواخر طفولتي وأوائل الصبا، في مجز الصغرى، كنت أسمع مواطناتي وخالاتي القرويَّات (أتذكر معظمهن بالاسم أو ذاكرة الوجوه) وهنَّ يستعملن كلمة "الوالْدين" (بصيغة المثنَّى، وبالنُّطق البلدي) للإشارة إلى "الوالدة" (التي هي، كما نعلم، مفرد في قواعد اللغة). ليست المسألة تثنية المفرد (الوالدة) فحسب، ولكن أيضا كان "الوالد" يُزاح، أو لا يُعتَرَف به لغويَّا، في هذه المفردة. يصير وجود الأب لا معنى له في النُّطق والآذان، ولا يتمكن من الاختباء تحت عباءة "الوالْديْن/ الأم".
أتذكر جيَّدا أن كلمة "الوالْدين" هذه (في تعيين الأم فقط) كانت تربكني فيما كنت قادرا على تعلمه من كلمات لساننا مثل "الوالد"، و"الوالدة"، و"الأب"، و"الأم". غير أني أحببت كلمة "الوالدين" هذه بطريقة مغناطيسيَّة، ولا أدَّعي أبداً أنني أحببت كلمة "الوالدين" بسبب إقصائها للأب. لم تسمح لي غضاضتي العُمريَّة بالتأمل في الكلمة قدر قبولها بلا أدنى تحفظات أو شروط. كانت كلمة "الوالدين" (مرة أخرى، في الإشارة إلى الأم فقط) عذبة ولطيفة، وبصورة من الصُّور كان "الوالد" يتراجع، بل يختفي تماما من المشهد.
وكانت كلمة "الوالدين" هذه تشيع وتزدهر خاصَّة حين يحدث خطب جلل، أو فاجعة، أو موت لدينا. على سبيل المثال، حين تنتحب أم بسبب وفاة ولدها الصَّبي غرقا أو الهلاك في حادث سيارة من تلك التي كانت تقلُّ الصِّبية إلى معسكرات الجيش في أوائل السبعينيَّات، أو ما إلى ذلك من حيثيَّات الموت الباكر وغير المُبرَّر في زمن عصيب، حيث تسارع جارات الأم ومن هُنَّ في صُحبتها إلى تبرير عويل وانتحاب أم الفقيد بهذه العبارة الخاشعة والتبريريَّة التي تحاول إيجاد العذر وتفعيل التَّعاطف: "هيه أبويي، هذا تراه فواد الوالدين، وما باليد حيلة"!
مضت السِّنين، وها أنا أدرك، في هذه الليلة، كل شيء.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: والجمیع ی فی هذه م نفسک
إقرأ أيضاً:
كلمة هامة لقائد الثورة اليوم
تتناول الكلمة آخر تطورات العدوان الإسرائيلي على غزة ولبنان والمستجدات الإقليمية.