تحولات العلاقة بين المؤلف والنص
تاريخ النشر: 29th, April 2025 GMT
قبل ظهور الذكاء الاصطناعي كانت عملية تأليف النصوص تسير وفقا لقواعد راسخة منذ زمن بعيد، ترى في أن أي نص لابد أن يُنسب لمؤلفه حتى ولو كان هذا النص مقدسا، واستقرت علاقة المؤلف بالنص قائمة على حقه الكامل في ملكيته الفكرية. ولقد اتخذت النصوص أشكالا متعددة في خصائصها اللغوية والأسلوبية وبنيتها الفكرية وتنوعت مجالاتها في الصحافة والأدب والعلم والتوثيق، ومع ذلك فإن هذا التعدد والتنوع كان دليلا على أهمية البعد الإنساني الأصيل في عملية التأليف وتفرد المؤلفين البشر في إنتاجهم للنص وأحقيتهم في ملكيته الفكرية.
ومنذ أن تحولت المعرفة الشفهية إلى الكتابة النصية بدأت رحلة تاريخية طويلة من التفاعل بين الإنسان (المؤلف الذي يحتكر القدرة على التفكير) والتكنولوجيا (ممثلة في أدوات الكتابة والنسخ والمعالجة النصية)، وعلى مدى تاريخ التأليف كانت المعرفة نتاجا للخبرة الإنسانية والتفاعل والقصد الإنساني في المعرفة. وكان للتطورات التكنولوجية أيضا أثر كبير على كفاءة عملية التأليف وفاعليتها في التأثير على المجتمع. وأقصد بالتكنولوجيا، هنا المعنى الأنثروبولوجي المتمثل في تلك الأدوات التي ابتكرها الإنسان لتمكينه من السيطرة على حياته بدءا من القلم وصناعة الورق واختراع الآلة الكاتبة مرورا بالتحول الرقمي نحو ابتكار الحاسوب وبرامجه في المعالجة النصية وصولا إلى ابتكار تطبيقات الذكاء الاصطناعي في تطويرها لنماذج لغوية توليدية.
وبقدر ما واجه المؤلفون عبر هذه الرحلة الطويلة تحديات كبيرة، توفرت لديهم أيضا فرص مهمة أثمرت في تعزيز قدراتهم على التأليف والانتشار وتأكيد حقوقهم القانونية في ملكية النص باعتباره منتجا إنسانيا خالصا. ورغم تعقيدات وتحديات تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي مؤخراً فسوف يظل البعد الإنساني حاضرا بقوة في بناء المعرفة الآن وفي المستقبل، ويكفي القول: إن كل ما تفعله تطبيقات الذكاء الاصطناعي في تطوير نماذج لغوية بارعة في محاكاة التفكير البشري يعتمد بصفة أساسية على كفاء التطبيقات التكنولوجية الجديدة في استخدام الكم الهائل من المعارف الإنسانية التي أنتجها وشارك في تداولها البشر.
وهذا يعني أن جوهر العلاقة بين المؤلف والنص خلال عملية التأليف تقوم على بعدين أساسيين هما: الجهد الإنساني في احتكاره للتفكير والعمليات العقلية من ناحية. واستخدام التكنولوجيا الداعمة للجهد الإنساني من ناحية أخرى. وخلال المراحل السابقة على ظهور الذكاء الاصطناعي ظلت العلاقة بين البعد الإنساني والتكنولوجيا قائمة على أساس الحفاظ على مناطق النفوذ لكلا الطرفين، بحيث يحتكر الإنسان الجانب المعرفي في التأليف، مقابل احتكار التكنولوجيا للأدوات المادية في تيسير العمل الإبداعي والحد من المشقة الجسدية في عملية التأليف والتمكين من الدقة والسرعة والشمول.
غير أن التطور اللافت الآن مع ظهور تطبيقات الذكاء الاصطناعي يكشف عن حدوث تداخل كبير وعميق بين دور الإنسان ودور التكنولوجيا، أو بالأحرى هجوم تكنولوجي كاسح على مواطن قوة الإنسان وتفرده بالعمليات العقلية، حيث بدأت هذه التطبيقات في التوغل بقوة داخل صلب عملية التأليف بمحاكاة النماذج اللغوية التوليدية للعمليات العقلية التي كانت حكرا على المؤلف (الإنسان) وكانت دليلا دامغا على قدرته في تأليف نص دقيق ومؤشرا قويا أيضا على جدارته بحقه في الملكية الفكرية للنص. الآن بإمكان الذكاء الاصطناعي توليد نص متماسك ووثيق الصلة بالسياق ويحاكي الخصائص اللغوية والأسلوبية السائدة في مجالات الكتابة المختلفة، وتستطيع التطبيقات أيضا تأليف آلي لقصيدة واستكمال نص روائي بنفس معايير نبرة الأسلوب الأدبي، وتأليف تقرير صحفي وفقا لقواعد العمل الإعلامي الرصين، وإعداد تقرير علمي مزود بتحليلات جيدة للأدبيات تتوافق مع المعايير الأكاديمية في أسلوب الكتابة العلمية، وهذا يؤدي إلى طمس الحدود الصارمة بين البعد الإنساني والتكنولوجيا في كتابة النص، واختفاء الحدود بين النص المُنْتَج من خلال مؤلف إنسان والنص الآلي المتولد بفعل النماذج اللغوية للذكاء الاصطناعي. وهنا تثار أسئلة جوهرية حول صلب تحولات العلاقة بين المؤلف والنص من قبيل: من المؤلف في النص الآلي؟ وماذا عن حقوق الملكية الفكرية؟ وأين تكمن الأصالة في هذا النص؟ وما الذي يشكل هُويته وأصالته؟ ولكي نستطيع فهم التحولات الجديدة في العلاقة بين المؤلف والنص وتداعياتها على هُوية النص الآلي، يتعين في البداية أن نستعرض طبيعة العلاقة بين المؤلف الإنسان والنص وتطورها في مراحل ما قبل الذكاء الاصطناعي:
تطور علاقة المؤلف بالنص
في البدء كانت المعرفة، وكان السبيل إليها تفاعل البشر وتجاربهم الإنسانية في الحياة اليومية، وتداول هذه المعرفة بطريقة شفهية، وكذلك انتقالها وتعلمها عبر الأجيال بطريقة شفهية أيضا. ويمكن النظر إلى تلك المعارف المتداولة شفهيا مجازاً بأنها نصوص شفهية أيضا، وفي هذه المرحلة المبكرة من التطور البشري قبل عصر الكتابة، كانت المعرفة كامنة في الذاكرة الجمعية لدى كُل جماعة إنسانية، حيث تنشأ المعرفة وتتبدل ويعاد إنتاجها بموجب التفاعل التواصلي بين الناس وعبر الأداء اللغوي (ممثلا في الأقوال والأمثال الشفهية، وإلقاء الشعر، والغناء، والابتهال... الخ)، كما أن عمليات تأليف هذه النصوص الشفهية ظلت إنسانية بامتياز وقائمة على تفاعل حر وطوعي بين البشر في أطر جماعية محددة، غير أن تداول هذه النصوص شفهيا يجعلها متنوعة ومتغيرة من جماعة لأخرى ومن مكان لآخر ومن فترة زمنية لأخرى بموجب التفاعل الإنساني المشترك في الحذف والإضافة. ورغم أهمية دور الفرد في الإبداع، فإن عمليات التداول الشفهي تجعل تأليف النص الشفهي عملية جماعية موزعة وقاسما مشتركا بين كافة أعضاء الجماعة التي تحتفظ بالنص في ذاكرتها الجمعية.
ورغم أهمية دور الراوي أو الشاعر الشعبي الفرد في تعديل النص الشفهي وتكييفه مع الجمهور أثناء عمليات الأداء، فإن سلطة الجماعة في الثقافة الشفهية تظل مصدر اليقين النهائي في تحديد معنى النص الشفهي وملكيته وحمايته من الزوال.
ومع ظهور الكتابة بدأت أولى مراحل التفاعل المعقد بين الجهد الإنساني والأدوات التكنولوجية في إنتاج المعرفة وتداولها، واستمر هذا التفاعل على مدى تاريخ الجنس البشري حتى اليوم. كانت نقطة البداية مع ظهور الكتابة اليدوية بفعل وجود نُخبة مثقفة لديها رغبة جامحة لتداول المعرفة داخل دوائر نُخبوية محددة سواء داخل مجتمع واحد أو عبر عدة مجتمعات تجمعها قومية واحدة. وقد ساهم هذا التحول في وجود نص مدون منسوب لمؤلف محدد يكتسب مصداقيته من المكانة الرمزية لهذا المؤلف في نظر النُخبة وعامة القراء على السواء. ومن ثم أصبحت علاقة المؤلف بالنص المكتوب وثيقة وشخصية وتنطوي على حقوق واضحة في الملكية الفكرية يصعب تجاوزها.
كانت شروط الكتابة اليدوية الجيدة مرهونة بثلاثة عوامل إنسانية وتكنولوجية متداخلة وهي: كاتب لديه قدرات معرفية وقادر على التدوين بحرفية بالغة في الدقة والجهد وحسن الخط، وأدوات تكنولوجية معينة كالقلم أو الريشة المزودة بأحبار، ولوحات من النباتات أو الأخشاب أو الجلود ثم الورق. في هذه المرحلة كان المؤلف هو نفسه من يتولى الكتابة مباشرة بيده، ومن ثم كانت عملية الكتابة يتخللها تفاعل مباشر وعضوي بين التفكير الإنساني والعواطف والمشاعر من ناحية، وأدوات الكتابة ذاتها من ناحية أخرى، حيث كان المؤلف يُفكر فيما يكتب لحظة الكتابة ذاتها، وقد ظل هذا الإحساس قائما إلى وقت قريب لدى تجارب كثير من المؤلفين كبار السن الذين يقترن التفكير لديهم بمجرد الإمساك بالقلم ومحاولة التعبير عن أفكارهم على الورق، وكُلما نَجح المؤلف في كتابة نص محكم بيده يشعر براحة نفسية وسعادة غامرة كأن النص امتداد جسدي وفكري ونفسي له، وكثيرا ما تؤثر هذه العادات على التعلق بالجوانب التكنولوجية كالأقلام والأوراق باعتبارها من لوازم ومتطلبات الكتابة الحميمة والمضنية في الوقت ذاته.
ولدواعي تداول النص كان يتم اللجوء إلى أشخاص يعملون كناسخين لنصوص كُتُب قابلة للتداول، وكانت وظيفة «الناسخ» أو «الكاتب» تقتضي مؤهلات تعليم أولية وإجادة للقراءة والكتابة والخط الجيد للعمل به، وتنحصر مهمته في التدوين فقط بصورة منفصلة عن المؤلف. ورغم ما قدمته التطورات التكنولوجية من دور بارز في دعم المؤلف عبر صناعة الأقلام والأحبار والورق لتعزيز النص، فإن فعل الكتابة اليدوية الغارق في الجهد البشري كان مضنيا وصعبا ونادرا بفعل ندرة المهارات لشغل وظيفة «الكاتب»، كما أن الكتابة اليدوية كانت تستغرق وقتا أطول ويتخللها تصحيحات كثيرة تستنزف كثيرا من الجهد والوقت. ومع ذلك فإن هذا الاستغراق الإنساني في فعل الكتابة اليدوية لدى المؤلفين كان يُضفي عليها حرارة إنسانية وملامح أُسلوبية أصيلة وثيقة الصلة برؤية المؤلفين وقاموسهم اللغوي، وهذا يعزز من أصالة النص ويعطي المؤلفين الحق الكامل في ملكيته الفكرية.
وفي القرن الخامس عشر حدث تحول جديد في علاقة المؤلف بالنص بفعل اختراع المطبعة علي يد يوهان جوتنبرج Johannes Gutenberg (1398 م - 1468 م) بحيث انفصلت عملية تأليف النص عن عملية تداوله، وأصبحت مهمة المؤلف تقديم مخطوط قابل للتداول، وتتولى المطبعة مراجعته وإعداده للطباعة بنسخ كثيرة يُمكن أن تصل إلى جمهور كبير من القراء، هذا التطور التكنولوجي أحدث ثورة كبيرة في عالم النشر ومكّْن المؤلفين من اكتساب الشهرة وتداول أفكارهم على نطاق واسع في إطار صناعة منفصلة تماما عن عمليات التأليف، وساهم أيضا في تعزيز أصالة النص بمقتضى نوعين من الحقوق القانونية: حق المؤلف بموجب الملكية الفكرية للنص، والحق المادي في النشر بموجب الطباعة والتوزيع. ورغم ذلك قُوبل ظهور تكنولوجيا الطباعة في البداية بكثير من الشك والريبة خوفا على أصالة النصوص واحتمالات التلاعب بها، حدث ذلك في كثير من البلدان وحتي داخل أوروبا ذاتها وأبرز المخاوف كانت الخشية من انقراض مهن الكتبة والخطاطين وإعداد المخطوطات والخوف على زوال جماليات فن تصميم المخطوطات وتراجع فن الخط، والخوف من الطباعة لأسباب رقابية تتعلق باحتمالات استغلالها في التضليل المعلوماتي والتحريف والتلاعب بالنصوص لإثارة الفتن، ومن المثير أيضا أن رجال الدين في العالم العربي افتوا بتحريم المطبعة ليس فقط خوفا على تحريف الكتب الدينية بل أيضا بالادعاء أن الكتب المطبوعة يمكن أن تقلل من همم الطلاب وعدم حفظهم للعلم ونسيانه.
ظلت عملية كتابة النص الأصلي بيد المؤلف قائمة لأكثر من أربعة عقود في ظل الطباعة باعتبار أن النص الأصلي المكتوب يدويا يُُمثل أساس الملكية الفكرية للمؤلف. وتغير هذا الوضع مع ظهور الكتابة الآلية في أواخر القرن التاسع عشر، عندما تم اختراع الآلة الكاتبة. وبذلك أصبح هناك نوعان منفصلان من الكتابة: الأولى كتابة يدوية للنص كمسودة أولية بيد المؤلف، والثانية كتابة آلية للنص موحدة الملامح نقلا عن مخطوط المؤلف باستخدام الآلة الكاتبة، ويتم إعداد نص الآلة الكاتبة بالاستعانة بآخرين من المحترفين على استخدامها. وهذه النسخة الأخيرة يمكن دفعها للطباعة على نطاق واسع، وساعد هذا التطور التكنولوجي على سرعة الكتابة الآلية الموحدة القابلة للطباعة مع تراجع الكتابة اليدوية التي باتت تنحصر في إطار العملية الفكرية التي يقوم بها المؤلف عند القيام بإعداد النص الأصلي فقط.
مع ظهور الحواسب الآلية الشخصية وبرامج معالجة النصوص في أواخر القرن العشرين حدث تحول آخر نحو ما يسمى بالكتابة الرقمية، حيث مكن هذا التطور التكنولوجي المؤلفين من القيام بالكتابة بأنفسهم باستخدام الحواسب الآلية الشخصية وإمكانية نقل الملفات وتعديل النص بالحذف والإضافة والتنسيق بسهولة وسرعة فائقة. بالإضافة إلى إمكانية نَسخ عدة نُسخ بسهولة وسرعة كبيرة بما يتطابق تماما مع النص الأصلي. وبمرور الوقت بدأ الاعتماد المباشر على نُسخة واحدة يكتُبها المؤلف بِنفسه مُستخدما الحاسب الآلي، وبذلك تراجعت الكتابة اليدوية تماما وحلت محلها الكتابة الرقمية الموحدة باستخدام لوحة المفاتيح على الحاسبات الشخصية. لم يعد هناك نسخة أصلية ثابتة بخط يد المؤلف، بل عِدة نُسخ رقمية قابلة للتحرير والتعديل باستمرار وبسهولة من جانب المؤلف. ويمثل ذلك تطورا كبيرا في العلاقة التفاعلية بين الإنسان (المؤلف) والآلة (الحاسب الآلي) عند كتابة النص، وبقدر ما أدى ذلك إلى مزيد من سهولة تعامل المؤلف مع النص وتحكمه فيه، ساهم أيضا في تحديات تتعلق بإثبات صحة النسخة الأصلية من النص بسبب كثرة التعديلات ما قد يؤثر سلبا على أصالة النص وصعوبة إثبات حقوق الملكية الفكرية للمؤلف.
وهكذا يتضح لنا أن البعد الإنساني ظل حاضرا بقوة عبر كافة مراحل تطور عملية التأليف منذ الكتابة اليدوية مرورا بالكتابة الآلية والمطبعية ثم الكتابة الرقمية، وكانت التحولات التكنولوجية السابقة تُشكل تحديا كبيرا لاحتكار الجسد لفعل كتابة النص (باليد)، بالإضافة إلى ما وفرته من فرص لتعزيز وتدعيم عمليات التأليف في بعدها الإنساني، بحيث طُرحت بدائل جديدة لإتمام كتابة النص بمساعدة الآلة وصولا إلى التخلي عن الكتابة باليد. وقد ساعد ذلك المؤلفين على التحكم أكثر في عملية التأليف براحة ويُسر مع الحفاظ على أصالة النص وانتسابه للمؤلف بموجب حقوق واضحة في الملكية الفكرية. وبظهور تطبيقات الذكاء الاصطناعي انقلبت هذه المعادلة رأسا على عقب وتغيرت معها تماما قواعد اللعبة في العلاقة التقليدية بين المؤلف والنص.
الذكاء الاصطناعي وإعادة رسم
حدود العلاقة بين المؤلف والنص
ثمة تطورات حديثة وغير ومسبوقة في تطبيقات الذكاء الاصطناعي تهتم بتوليد النصوص من خلال ما يُعرف بالنماذج اللغوية الهائلة Large Language Models، وهي مُصممة للتدخل في مراحل عملية الكتابة عبر معالجة اللغة وصياغة المقالات المطولة في مختلف أنواع النصوص، وبذلك أتاح ظهور الذكاء الاصطناعي في مجالات الكتابة فرصاً كثيرة مهمة أمام الكٌتاب في كافة أنواع الكتابة وبصورة غير مسبوقة أهمها: الاطلاع على البيانات الضخمة والإفادة بها في إثراء الكتابة والتحقق الفوري من المعلومات بشأن الأحداث الجارية بكفاءة بما يفيد الصحفيين من الكتابة بكفاءة وسرعة فائقة. وكذلك إلهام الأدباء بموضوعات جديرة بالسرد القصصي، وإتاحة فرص تجريب أساليب جديدة في الكتابة الأدبية، والإلمام بأبعاد ومعارف دقيقة وشاملة حول الشخصيات والأحداث والأماكن الأساسية في أثناء عمليات السرد الروائي، إضافة إلى سرعة الاطلاع على الأدبيات عند الكتابة الأكاديمية وتلخيص نتائجها بسرعة ودقة فائقة، وتوسيع نطاق المصادر والمراجع اللازمة للنص الأكاديمي، وكذلك مساعدة القائمين على الكتابة التوثيقية على توظيف إمكانيات الرقمنة والفهرسة لنصوصهم بدقة، وسهولة الكشف عن المواد الأرشيفية بشكل أسرع وإمكانية الحصول على الدعم في مجال تحليل النصوص الوثائقية بصورة جيدة.
غير أن التحديات الناتجة عن استخدام النماذج اللغوية الضخمة تكمن فيما تتمتع به من خصائص معرفية جديدة، حيث ساهمت بتعزيز وتطوير الكتابة من خلال الإمداد بالمعلومات والأفكار وتحسين الصياغة والأسلوب اللغوي والقيام بعمليات تنطوي على قدرات عقلية معقدة كالتلخيص والإسهاب والتصنيف والتحليل والمقارنات، إضافة إلى إمكانيات تنظيم بنية النص وتوثيق المراجع والمصادر، والتدقيق اللغوي والنحوي والترجمة وغير ذلك من العمليات المعرفية التي كانت حكرا على المؤلف (الإنسان). وإذا كانت التحولات التكنولوجية السابقة عَزَّزِت ودعّمت الجسد الإنساني بالبراعة اليدوية في فن الخط والكفاءة الميكانيكية في الكتابة والتحرير الآلي وتقنيات الطباعة وتداول النصوص، وقدرات التحرير المرنة في معالجة النصوص عبر الحواسب الآلية الشخصية، فإن تطبيقات الذكاء الاصطناعي تقوم بعمليات معرفية تفوق ما كان يحدث من قبل بكفاءة وشمول وسرعة فائقة، وتتوغل بقوة أكبر في محاكاة التفكير الإنساني لإنتاج نصوص شبيهة بالنصوص التي يُنتجها المؤلف الإنسان. وهذا يشكل تحديا كبيرا للقدرات العقلية في آخر وأهم معاقل نفوذ الدور الإنساني في إنتاج النص.
وقد ترتب على توليد النصوص بالذكاء الاصطناعي تحولات جوهرية في عملية التأليف ذاتها بحيث انتقلت من كونها عملية فردية قائمة على قدرات ومهارات المؤلف (الإنسان) إلى كونها أصبحت عملية تشاركية بين المؤلف (الإنسان)، والتكنولوجيا الحديثة (الآلة) ممثلة في التطبيقات الخوارزمية التوليدية للنصوص. كما أنها أصبحت عملية تفاعل مُركبة مع التكنولوجيا لاستيعاب أكبر قدر ممكن من المعلومات والبيانات والأفكار تم جمعها وتحليلها وصياغتها لغويا داخل النص بشكل مُنظم وبسرعة فائقة بما يوفر على المؤلفين البشر الجهد في التفكير والعمليات المعرفية. كما تتسم عملية التأليف الجديدة باعتمادها الأساسي على التوليد الموجه من خلال مدخلات منظمة يقوم بها المؤلف (الإنسان) في توجيه وإدارة للذكاء الاصطناعي في عمليات حفز مستمرة وتفاعلية يتوقف عليها المنتج النهائي للنص.
مع الأخذ في الاعتبار أن عملية التأليف أصبحت قائمة على ما يُسمي بالتناص الرقمي (digital intertextuality) أو التناص الخوارزمي (algorithmic Intertextuality) بمعني أن النصوص المتولدة بالذكاء الاصطناعي تستمد مُقوماتها وأسلوبها وبِنيتها اللغوية من مصادر بيانات ونصوص كثيرة موجودة سابقا تم الاطلاع عليها رقميا وإدماجها في إنشاء نص جديد، سواء تم ذلك بصورة مباشرة أو غير مباشرة. ويتسق ذلك مع وجهة النظر السائدة في الدراسات الأدبية بأن جميع اللغات حوارية بطبيعتها، أي أن كل عبارة أو نص هو استجابة لنصوص سابقة وفقا لما أطلق عليه باختين «الطبيعة الحوارية للغة» والتي تعني أن النصوص دائمًا في حوار مع بعضها البعض، وبحسب تعبير رولان بارت بأن النص نسيج من الاقتباسات المستمدة من نصوص أُخرى. غير أن الفارق بين التناص التقليدي والتناص الرقمي في التأليف يكمن في اعتماد الأول على قيام المؤلف بإبراز الفروق الواضحة بين صوته وصوت المؤلفين السابقين عليه.
وعلى ضوء ذلك لم يعُد للمؤلف (الإنسان) السلطة المطلقة على صياغة النص، ولم يعُد المُؤلف ذلك الفرد العبقري المتوج على عرش عملية بناء المعرفة داخل نصوص مؤلفه، بل أصبح شريكا في عملية تأليف متعددة الأبعاد، والمهام، والأدوار، والأطراف. وأصبح انخراط الكاتب في التكنولوجيا بعُمق شرطا مهما لانفتاح المؤلف (الإنسان) على عوالم معرفية كثيرة كانت مغلقة أمامه وعصية على بلوغها وتتطلب وقتا أطول وجهدا مضنيا لا يقوى عليه بمفرده. وأصبح المؤلف (الإنسان) شريكا في عملية آلية لتوليد النص بمقتضي توجيهاته وتلك مهارة مهمة يتعين إتقانها من جانب كل من يستخدم تطبيقات الذكاء الاصطناعي في التأليف المشترك، وبحسب مدى ودقة وكثافة التوجيهات المقدمة من المؤلف يتحدد مدى جودة النص المتولد آليا. وللمؤلف (الإنسان) كشريك في عملية التأليف مسئوليات مهمة، وأحسب أنها أيضا مهارات جديدة تحدد مصير النص المُنّتَج في أصالته وملكيته الفكرية أهمها: المراجعة اللغوية الدقيقة بحسب مدى الملائمة مع أسلوب المؤلف ونوعية الكتابة (صحفية، أدبية، علمية.. الخ)، وإدخال تعديلات بهدف الترابط في الأفكار وتسلسلها المنطقي، ومراجعة صور التحيز القائمة بالنص، ومراجعة المعلومات والمصادر والمراجع للتحقق من مصداقيتها، وتزويد النص بالاقتباسات الضرورية، وربط النص بالسياق. وبطبيعة الحال فإن اتباع هذه المسئوليات أن دور المؤلف اتسع ليتجاوز كتابة جانب من النص بحيث يشمل أدوارا أخرى تتضمن التوجيه وإدارة النص المنتج آليا وإدخال تعديلات عليه ليكتسب أصالته، وهذا يعني ادخال تعديلات بفعل إنساني قصدي على النص المتولد آليا بما يتجاوز مجرد الكتابة التقليدية، بحيث يصبح النص الناتج مزيجا من تناص رقمي وجهد بشري من جانب المؤلف (الإنسان) لا يخلو أيضا من تناص تقليدي، وعلى قدر ما يَبذُل المؤلف من جهد في هذه العملية المُشتركة تتحدد درجة أصالة النص وملكيته، و يَتحدد أيضا دور الذكاء الاصطناعي فيما إذا كان مساعدا أو شريكا في التأليف وتتحدد أيضا هوية النص.
ولقد أثارت التحولات الجديدة في توليد النص بفعل الذكاء الاصطناعي خلافات حادة داخل المؤسسات العلمية والصحفية والأدبية وكذلك المحاكم في كثير من دول العالم حول معنى مفهوم التأليف، وما إذا كان النص المتولد بالذكاء الاصطناعي مؤلَفًا؟ وإذا كان تأليفا فمن يملُك حقوق التأليف والنشر للمحتوي الذي يُنتجه الذكاء الاصطناعي؟ هل المُؤلف (الإنسان) مستخدم التطبيقات هو صاحب حق التأليف؟ أم الذين يقومون بتطوير النماذج اللغوية؟ أم أن حقوق التأليف أصبحت على المشاع بمقتضى خاصية التناص الخوارزمي؟ ومتي وكيف يكون المحتوي المتولد بفعل الذكاء الاصطناعي أصليا لضمان حماية حقوق النشر الناتج عنه؟ وهناك محاولات جادة في تصميم برامج لكشف أصالة النص والتمييز بين النص البشري والنص المتولد بالذكاء الاصطناعي، غير أن الصراع الجاري الآن بين برامج كشف الأصالة والتطور المذهل في محاكاة النص المتولد آلياً مع النص البشري يشبه ما يعرف بسباق التسلح التكنولوجي technological «arms race – حسب تعبير جون ماي John May. وغالبا ما تنظر المؤسسات العلمية ودور النشر و الدوريات العلمية والمؤسسات الصحفية والأدبية والقضائية إلى ضرورة اشتراط التأليف البشري كأساس لحماية حقوق الملكية الفكرية، مع ضرورة إثبات الجهد البشري وإفصاح المؤلف بشفافية عن الفروق بين إسهامه وإسهام الذكاء الاصطناعي في صياغة النص النهائي، باعتبار ذلك التزاما أخلاقيا لا مفر منه. وكل ذلك يعني أن هوية النص في زمن الذكاء الاصطناعي أصبحت مستقلة عن المؤلف ولأول مرة منذ عصر الكتابة اليدوية، وأن عملية إعادة صياغة علاقة المؤلف بالنص على أسس جديدة الجارية الآن، والتي لم تُحسم بعد، أصبحت ضرورة لا مفر منها.
د. سعيد المصري أستاذ علم الاجتماع بجامعة القاهرة والأمين العام السابق للمجلس الأعلى للثقافة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: تطبیقات الذکاء الاصطناعی الذکاء الاصطناعی فی بالذکاء الاصطناعی الملکیة الفکریة الکتابة الیدویة النماذج اللغویة البعد الإنسانی الإنسانی فی فی التألیف کتابة النص قائمة على من ناحیة جدیدة فی النص الم مع ظهور من خلال أن النص غیر أن
إقرأ أيضاً:
كتَّاب عرب: لن نترك الذكاء الاصطناعي يأخذ مكاننا!
لم يترك الذكاء الاصطناعي مجالا إلا ودخل فيه، بما فيه فنون الكتابة، وبعد أن كان الكلام عنه يتم بخجل عالميا، تصدَّر أحاديث الكتَّاب، وقد اعترف بعضهم بأنهم يستخدمونه في عملية البحث والمراجعة والتدقيق، واعترف البعض الآخر بأنه يساعدهم في عملية الكتابة ذاتها، لكن على المستوى العربي كيف ينظر كتَّابُنا إليه، وهل يخشون أن يحل بديلا لهم خلال فترة وجيزة؟! الإجابة في السطور القادمة.
في الآونة الأخيرة تابع الروائي والشاعر المصري شعبان يوسف محتوى كثير من تطبيقات الذكاء الاصطناعي، واكتشف كذبة كبيرة في فيديو مصنوع بـ«شات جي بي تي» عن فنان مصري راحل.
يقول: «سيرة ذلك الفنان تكاد تكون مجهولة، والمعلومات عنه شحيحة، ومن هنا كان خيال صانع المحتوى، أو منشئ التطبيق نشطا لدرجة الكذب والتضليل الفادح، أنا أعرف أنه لكي تصنع محتوى فأنت تُدخِل معلومات معينة، أي أنك توجِّه التطبيق، وفي حالة نقص المعلومات، أو إدخال بيانات خاطئة يخرج المنتج النهائي في أسوأ صورة. أنشأ التطبيق تاريخا آخر لذلك الفنان في كل تفاصيل حياته، وأدواره الفنية، وكذلك المستوى الفني لتلك الأدوار، وأيضا أصوله العائلية، وتنقلاته العديدة في كل مراحل حياته، ولأن الفنان كان مشتبكا مع كثير من الأحداث الفنية والسياسية والتاريخية، كما يُقال في بعض جمل الأرشيف القليلة المتناثرة، فلا بد من تزوير أحداث وتواريخ وأماكن، وخلق تاريخ مصطنع ومضلل».
شعبان يوسف يرى أن ما ينطبق على الفنانين، ينطبق على الساسة، والزعماء، والأدباء، والمفكرين، وكل مَن شغلوا الرأي العام في مراحل تاريخية مختلفة. يعلق: «لأننا في عصور أصبحت السرعة فيها سمة رئيسية، فمن الطبيعي أن يكثر الكذب والجهل، وبالتالي لا أحد يدقق ويراجع ويقارن، وهو ما سيُحدِث ارتباكاتٍ كثيرة بين متابعي كافة أشكال المحتوى، كما أن حروب المعلومات ستشتد بقوة بسبب ذلك التطبيق، لكن لا أنكر أن بعض الموضوعات تُصاغ بوعي ثاقب، وبمعلومات دقيقة».
يلفت شعبان الانتباه إلى كتَّاب وأدباء ينشئون محتوى يشمل سيرتهم الذاتية، دون أي أدلة عليها، أو وثائق، فالمتابع لن يطلب شهادة ميلاد صاحب المحتوى، ولا شهاداته العلمية، ولا أوراقا تدل على فوزه بجوائز ما، لذلك تظهر المعلومات كما يريد لها صاحبها، وذلك سيكون خطرا على أي دقة ننشدها.
أما الأدباء الذين يستخدمون تلك التطبيقات في نظم الشعر وكتابة السرد القصصي والروائي، فهم يعملون ضد روح الإبداع، ويلقون بما كان يُسمَّى «الموهبة والفطرة والسليقة والطبيعة الإنسانية الحرة» في عتمات ومجاهيل لا حصر لها، وسيعطون للآلة هيمنة لا حدود لها، وبالتالي فالذكاء الاصطناعي له أشكال من الخطورة لا تعد ولا تحصى، إلا لو تم التعامل مع تطبيقاته بنوعِ من الرقابة الصارمة والحاسمة.
أدوات الآلة
الكاتب العماني هلال البادي يؤكد أن الذكاء الاصطناعي لن يحل مكان الكتَّاب والمبدعين، إلا لو تكاسلوا وباتوا يعتمدون في تحرير أفكارهم الإبداعية على أدوات الآلة.
اليوم، بحسب هلال، يستطيع الباحث أن يستعين بالذكاء الاصطناعي في إعداد ملخصات أبحاثه، ويستعين به في صياغة المقدمات والخواتيم وحتى التسلسل المنهجي، ولكن هذا الذكاء الاصطناعي لا يمكنه أن يضع التحليلات الفكرية التي يريدها الباحث، ما لم يجد الباحث أن التحليلات تناسبه وتغنيه عناء التفكير والتنظير العميق، وفي كل الأحوال فإنَّ مجرد اتِّكاله على تلك الأدوات واعتماده التام عليها يفقده شرعية الباحث الرصين القادر على الحِجاج والنقاش الحرِّ مع مَن حوله في حال طرح الأسئلة.
هذا المستوى البحثي، كما يكمل هلال، ليس فيه قدر إبداعي يتسم بصفات التمثيل والتخليق، سواء في الكتابة أو الفنون البصرية كالرسم والتصوير وحتى الدراما منها. وهنا يمكن لأدوات الذكاء الاصطناعي المساهمة والدعم بوضع مقترحات ومخارج وأشكال وحتى مواد متحركة، إلا أنها تظل خالية من المعنى ما لم يضع المبدع فيها ما يود من روحٍ تمثله. الأهم أن الذكاء الاصطناعي لا يتوافر على تلك الشحنات من المشاعر الإنسانية التي يمتلكها المبدع، ولا يمتلك أساليبه، مهما حاول تقليدها، إذ سيظل عاجزا عن تمثلها وتمثيلها بشكل كامل. ويتساءل: «هل يمكن مثلا أن ينتج ما أنتجه ميلان كونديرا في الرواية؟ ربما يقلد مسار كونديرا لكنه لن يستطيع الوصول إلى قلب إبداعه، والأمر يقاس على محمود درويش ونزار قباني وأمل دنقل والمتنبي وغيرهم من الشعراء، مهما كان قادرا على محاكاة الأوزان الشعرية، ومهما كان قادرا على اقتفاء الأشكال والأساليب التي اتبعها أولئك الشعراء فإنه لن يصل إلى أن يكون مماثلا لهم وكفئا لإبداعهم. وأعود فأقول إن لم يكن وراء ما ينتجه من نتاج، مبدع حقيقي فإنه لن يولِّد إلا موادَّ مضحكة وهزيلة».
ويضيف: «أما التصوير الفوتوغرافي تحديدا فقد كان الفوتوشوب وأمثاله من أدوات التحرير الفني، حاضرا منذ زمن، لكن هل استطاعت تلك الأدوات أن تحل محل المصور الفوتوغرافي؟ الإجابة بالطبع لا، والأمر ذاته لدى الرسامين الذين يقول البعض إنَّ زمنهم اندثر، وهو ما لم يحدث عندما قيلت الجملة ذاتها بعد اختراع أول آلة تصوير وظهور التصوير الفوتوغرافي، بل تجاورت الفرشاة مع العدسة، وظلت اللوحات الإبداعية تتكاثر وتثري المخيلة والنقاش إلى وقتنا هذا عندما ابتدع أحدهم لوحة الموزة، وجعل العالم كله يتحدث عنها! باختصار يمكن أن نستعين بالذكاء الاصطناعي، فنعهد إليه بالاقتراح والتشذيب والإضافة، لكنه كما يقول هو ذاته عن نفسه: «ليس بديلا عن القلب والعقل البشريين». ولا غنى عن المبدع الحقيقي الذي يكتب من أعماق تجربته وأحاسيسه».
موت المؤلف
أما الروائي الكويتي طالب الرفاعي فيؤكد أنه إذا سلمنا بموت المؤلف فلن يعود للسؤال أي معنى. وبالتالي فإن النظر إلى السؤال يعني بالضرورة أن المؤلف حي، ومؤكد سيبقى كذلك. يعلق: «من خلال خبرتي في التعامل مع تطبيقات الذكاء الاصطناعي، يبقى ما تقدمه رد فعل على ما يطلبه السائل منها. بمعنى أن منْ يتعامل مع تطبيق الذكاء الاصطناعي هو من سيُحدد المطلوب من الذكاء الرد به. لذا على الإنسان/المؤلف أن يكون أكثر وعيا من تطبيق الذكاء الاصطناعي لكي يأخذ منه ردا يفوق قدرته. ما يقدمه الذكاء الاصطناعي هو مساعدة ممتازة في البحث مع المؤلف حول المادة التي يريد الكتابة عنها. وبالتالي يختصر على المؤلف جهودا كبيرة ومضنية وطويلة، وذلك عبر تقديم مادة بحثية تشكل مساعدة له فيما سيكتب. وهذا يفيد تماما إذا كان المؤلف يشتغل على بحث ما، إنما في حالة الكتابة الإبداعية، ولأي جنس من الأجناس الأدبية، فأنا أرى أن ما يميز المؤلف هو كلمته وجملته وفقرته وأسلوبه، وهذا ما يصعُب على الذكاء الاصطناعي القيام به. بمعنى أن المتأمِّل لأسلوب كاتب ما يرى أن لكل كاتب بصمة على مستوى الشكل والمضمون، وكلما كان الكاتب مبدعا متفردا، كلما اتضحت هذه البصمة أكثر ولازمته في أعماله ومقابلاته. وهذا ما لا يمكن تحققه على يد الذكاء الاصطناعي».
وينهي كلامه قائلا: «الخلاصة أن الذكاء الاصطناعي لا يمكن أن يهدد المؤلف أو يحل محله، متى كان هذا المؤلف موهوبا ومتمكنا من أدواته الفنية في الجنس الأدبي الذي يعمل عليه».
ذاكرة
وبدوره يقول الشاعر والناشر العماني ناصر البدري: «لا أعتقد أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يأخذ مكان الكاتب، لكن أعتقد أنه سيخلق جيلا جديدا من الشعراء الوهميين، وكتَّاب القصة والرواية الأقل مستوى من أقرانهم، بالتالي قد نجد مثل هؤلاء يتوالدون في المستقبل القريب، إنما مع الزمن ستعيد الأشياء نفسها، وقد تكون هناك ذاكرة مخزَّنة بحيث يمكن كشف هؤلاء تماما كما يحدث مع الدراسات العلمية والأكاديمية المزورة. الإنسان سيجد وسيلة للتغلب على كل أشكال التحايل في هذا الجانب.
البدري هو ناشر ومؤخرا اتجه للاعتماد على الذكاء الاصطناعي في تصميم أغلفة دار «عرب». يقول: «أعتقد أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون مفيدا لأي دار نشر، ليس فقط في التصميم ولكن أيضا في الترويج، وأدواته بشكل عام لديها مستقبل كبير في تحقيق الكثير من الإفادة لأي عمل، ويمكن استغلالها بشكل إيجابي، وأيضا بشكل سلبي إذا قام المبدع بشيء منافٍ للأخلاق الذاتية أو لعموم المجتمع».
تأثير التقنية
الكاتب العراقي صفاء سالم إسكندر يتذكر هايدغر وخوفه المشروع من التقنية، في محاضرة قدمها عن هذا الموضوع. وكيف لهذه التقنية أن تؤثر سلبا على حياتنا لدرجة يمكن لها أن تتحكم بنا!
ويسأل نفسه: «هل وصلنا إلى هذا الحد؟» ويجيب: «ليس تماما، لكننا اقتربنا من ذلك». ثم يسأل مرة أخرى: «وهل يمكن لبرودة الآلة أن تضاهي دفء العاطفة الإنسانية؟»، ويقول: إن التقنية، رغم إضافاتها التي لا تُنكَر، لم تجردنا من أصالتنا بالكامل، ولكنها فرضت علينا ثمنا باهظا، إدمانا شرسا على هواتفنا، وهو شر لا مفر منه. هنا يُطرَح سؤال وجودي: إذا ما استوطن الذكاء الاصطناعي عقولنا، فهل سيحتفظ الشعر بمكانته؟ وإذا ما تضاعف عدد القراء، فهل يصبح الإبداع ضربا من المستحيل، حيث يعتمد الإنسان على معطيات الآلة، في تهجين مشين للمشاعر؟».
يتابع: «شخصيا، بت أخشى من التقنية، هذا الوجود الضروري الذي عبث بحياتنا، وأغرقنا في إسراف غير مسبوق. إننا على وشك الاستسلام لهذا الكائن الغريب، وقد بات من الصعب مواجهته. نحن نتحدث عن خسارة فادحة، وإذا ما تمكَّنت الآلة من السيطرة على قلوبنا، فسنفقد مشاعرنا الصادقة وأحاسيسنا الحقيقية، التي تغذِّي الأدب؟»
أرفف رقمية
أسأل الكاتبة الكويتية باسمة العنزي: هل تشعرين أن أدوات الذكاء الاصطناعي تهدد دورك ككاتبة؟ أم ترينها مجرد أدوات إضافية؟ فتجيب: «بالتأكيد لا! الأفكار الجيدة التي تؤسس لكتابة مختلفة لا يمكن اقتناصها من تقنيات الذكاء الاصطناعي المعلبة على أرفف رقمية. كما لا يمكن بث روح الكاتب وبصمته وثراء تجربته فيها. تخيل أن أقرأ روايتين واحدة جرى تجميع أجزائها من محركات البحث وجاءت بخليط مجهول المصادر، وأخرى لكاتب حقيقي بهُوية معروفة وخبرات حياتية متراكمة، وموهبة مدعمة بالذكاء اللغوي والمنطقي اللازمين للكتابة، بالتأكيد سيكون الفرق واضحا. الأمر أشبه بأن تغطي مساحة شاسعة بعشب صناعي وأشجار من البلاستيك وتتخيل أنها حديقة تتماهى مع الطبيعة ومواسمها، حتى الطيور لن تصدق هذه الخدعة»!
ثم تذكُر جملة من رواية ماريو بنديتي «الهدنة»: «إحدى أعظم سعادات الحياة: رؤية الشمس تتسرب من بين أوراق الشجر» وتعلق: «لا يمكن للذكاء الاصطناعي أن يأتي بمثل تلك الجملة دون أن يستنسخها من جمل كُتِبت سابقا ويقذف بها في فضاء بارد لقارئ يهمه مصدرها وفي أي نسق سردي جاءت».
تكمل: «في كل كتابة هنالك رأي يريد الكاتب إيصاله للقارئ، في الكتابات الخارجة من مصانع البحث والتجميع وهياكل إعادة التدوير ليس هناك آراء مستقلة مرتبطة بأشخاص يحملون همَّها. لذا ككاتبة في مجال الأدب تحديدا لست مهددة بالوسائل الجديدة لأن القارئ بحاجة لسماع صوت المؤلف الواقعي ومعرفة وجهة نظره وتلمس موهبته في صياغة سرده الخاص، ما أخشاه على الكتابة هو انزواؤها بعيدا عن الجموع وعدم قدرتها على التأثير على مجتمعاتنا التي تُصنَّف أنها لا تقرأ».
اللغة والآلة
الناقد المصري محمد سليم شوشة يرى أن احتلال الذكاء الاصطناعي مكانة الكتَّاب مسألة في غاية الأهمية والخطورة ويجب أن نطرحها على أنفسنا بصورة تتسم بالشمول والطابع العلمي. ويقول: «الحقيقة أنا لا أستطيع أن أفكر في الأمر بشكل فردي، أي لا أتخيل المشكلة في حدود الصراع الفردي بيني وبين الذكاء الاصطناعي، وأجدني بدلا من ذلك أتناول الأمر في إطار التصورات المستقبلية له وفي ضوء التناول العلمي، والمسارات المحتملة، أولا هناك علاقة عميقة بين الذكاء الاصطناعي واللغة، والذكاء الاصطناعي يتطوَّر في اللغة بشكل كبير يوما بعد آخر، وهذا يغيِّر أمورا كثيرة في العملية الإبداعية ويغيِّر في البنية الثقافية، حيث ستكون هناك كائنات أو كيانات أخرى غير البشر تنتج نماذجها الإبداعية، كيف ستكون هذه النماذج أو كيف ستكون صورتها من الدقة والحساسية والابتكار والتجديد وتفاعلها مع المنتج البشري العادي؟ هذه أسئلة مهمة يجب علينا أن نطرحها ونفكر فيها بقدر من القلق والانشغال الجاد».
يعتقد شوشة أن المبدعين الذين بلغوا حدودا بعيدة من الخصوصية والتفرد ولا يمكن توقع أنماطهم الإبداعية سيستمرون ولن يؤثر الذكاء الاصطناعي عليهم ولن يستولي على مهنتهم. ويقول: «بشكل شخصي قد أفكر في الذكاء الاصطناعي بوصفه تحديا عاما للثقافة العربية ولمستوى ما يُتاح فيها من التفكير النقدي والعمل الخلاق أو الذي يعجز عنه عقل الآلة، فهذا هو جوهر المنافسة بين البشر والذكاء الاصطناعي في السنوات القادمة، وحقيقة هذا الأمر بيد الأكاديميين الذين يدرِّسون اللغة العربية من علماء اللسانيات والنقاد والمفكرين، فهم يمكن أن يحددوا الاحتمالات والمخاطر والمسارات التي يمكن أن تمضي فيها الثقافة العربية مع الذكاء الاصطناعي. كما أن عليهم أن يطرحوا القضايا الجادة بعيدا عن الاستهلاك والنظر إلى المخاطر التي ينظر لها العالم كله، فالذكاء الاصطناعي ليس لعبة أو وسيلة للتسلية، لكنه مواجهة وتحدٍ مهول، والاحتمالات كثيرة، فهو يمكن أن يقود الإبداع السردي مثلا إلى مستوى من السطحية والنمطية إن لم تتوافر للذكاء الاصطناعي المعالجة العميقة للغة العربية، أو إذا غابت عن تركيبته الداخلية أنماط الابتكار في السرد العربي ولم تتم تغذيته بعناصر الخصوصية في الثقافة العربية من محددات تراثية أو محددات تخص الثقافة الشعبية أو تمثيلات لروح الثقافة العربية مثل الأمثال أو الشعر العربي وأنماط المجاز والاستعارات التي تختلف من لغة إلى أخرى».
لمسة الفن
ويبدأ الكاتب المصري محمد أبوزيد حديثه بإبداء قلقه من الذكاء الاصطناعي على أشياء كثيرة في العالم، مثل دخوله في صناعة الأسلحة، أو استخدامه في الحروب والقتل والدمار، مستدركا: «لكنني لست قلقاً منه على الإبداع إطلاقاً، المسألة بسيطة ومحسومة في رأيي: لماذا نفضل اللوحة التشكيلية المرسومة لمنظر طبيعي على صورة فوتوغرافية لنفس المشهد، لأن في الأولى فناً وفي الثانية مجرد نقل. ولهذا السبب أحببنا فان جوخ وبيكاسو ودالي وكلود مونيه وبول غوغان وما زلنا نقف مندهشين أمام لوحاتهم، لأن هذه هي لمسة الفن والإبداع والموهبة التي لن يستطيع الذكاء الاصطناعي الوصول إليها».
تطبيقات الذكاء الاصطناعي في أفضل أحوالها، بالنسبة لأبوزيد، مجرد منفذ للأوامر، مقلد للموجود، لكنها لن تبتكر إبداعاً جديداً من العدم يجعلك تقف أمامه منبهراً. ويضرب مثالاً، بظاهرة انتشرت خلال الأيام الماضية على مواقع التواصل الاجتماعي، وهي ظاهرة صنع صور كارتونية على غرار ستوديو غيبلي (ستوديو الرسوم اليابانية المتحركة الشهير). وقف الناس مبهورين أمام هذه الدقة والسرعة التي يقوم بها الذكاء الاصطناعي في صناعة الصور، وردد البعض عبارات عن نهاية الإبداع، لكن الدرس المستفاد من هذا كله، هو أن الذكاء الاصطناعي كان يقلِّد فقط ما فعله الرسامون الأصليون لستوديو غيبلي، لكنه لم يصبح غيبلي. تستطيع أن تطلب من الذكاء الاصطناعي أن يرسم لك لوحة على غرار لوحات رمبرانت، وسيصنعها بدقة وسرعة لكنه لن يصبح أبداً رمبرانت.
ويعلق: «أتذكر مقولة كنا نكررها في بداياتنا للتأكيد على أهمية الاختلاف والتميز للاستمرارية، وهي: هناك متنبي واحد، وهناك طه حسين واحد، وهناك نجيب محفوظ واحد، وهناك مئات المقلدين لم يبقَ منهم شيء ولم يتذكرهم أحد، والذكاء الاصطناعي في أفضل حالاته أحد هؤلاء المقلدين. ولعل أفضل رد فعل على استخدام الذكاء الاصطناعي في النشر، هو عدد الكتب التي رأينا أغلفتها خلال العام الماضي، وردود الفعل السيئة عليها، فهي تؤكد أن اللمسة الفنية البشرية ستبقى. في النهاية، الذكاء الاصطناعي ليس عدواً علينا أن نحاربه، بل هو أداة مهمة يمكننا استخدامها لمساعدتنا في عملنا، لجمع معلومات، أو ترتيبها، لإنهاء أمور روتينية، لكنها لن تقوم بالجانب الفني، لأن الفن هو جزء من سر وجود الإنسان على الأرض، وجزء من صيرورته واستمراريته».
يقف على الشاطئ
الشاعر السعودي عبد الوهاب أبوزيد يقول: «شخصيًّا، ما زلت غريبًا على الذكاء الاصطناعي وأدواته، أو أنها ما زالت غريبة عليَّ؛ فأنا لم أدخل هذه العوالم بعد، أو لنقل إنني ما زلت أقف على شاطئها متهيبًا دخول بحرها الذي أخشى ما ينتظرني فيه أو وراءه. ولكنني لا أحسب أنها تشكل تهديدًا من أي نوع أو درجة لي على أقل تقدير بوصفي شاعرًا، فالذكاء الاصطناعي لن يكون شاعرًا أبدًا لأنه بلا شعور أو مشاعر. ربما ينجح في النظم أو محاكاة بعض النماذج البسيطة التي قد يخدع بها غير الخبير أو المتمرس، ولكنها لن تخدع العارف بمداخل الشعر ومخارجه، أو هكذا أظن».
لم يجرب عبد الوهاب الاستعانة بالذكاء الاصطناعي في كتابة مقالة، لأن في ذلك خداعًا للذات قبل خداع القارئ. أما في الترجمة، فلا يرى بأسًا في ذلك على وجه التحديد، لأن أدوات الذكاء الاصطناعي حينها ستكون محض أداة مساعدة تخفف العبء وتختصر الوقت والجهد على المترجم، الذي يقع على عاتقه إخراج الترجمة بصورتها وشكلها النهائي بعد التحرير والمراجعة والتدقيق.
نيابة عن الكاتب!
الروائي السوري سومر شحادة ليست لديه إجابات واضحة: «لا أعرف بعد، بصراحة، لأني لم أجرب الاستعانة به. حتى ليس لديَّ تصور عن الطريقة التي أستخدم بها الذكاء الاصطناعي. أقرأ عن هذا، لكني لم أجربه. لا أرفض المبدأ. لكني ما زلت لا أعرف الآلية التي قد يتدخل بها إلى جانب الكاتب، أو نيابة عنه، هل يأخذ مكانه، أم فقط يمد له يده. لست أعرف».
يستدرك: «لكن يمكن أن أفترض جواباً من عالم الكتابة نفسه. إذ أرى الرواية بصورة خاصة بناءُ الحياة نفسها. إنها مصنوعة من مادة العيش بما فيه من عاطفة ومن اضطرام شعور ومن امتلاء بالحزن أو الفرح أو التخلي. لا أعرف إن كان للذكاء الاصطناعي أن يحاكي عالم علاقات البشر. لأنه عالم صعب، معقَّد، وينطوي دائماً على افتتان بالارتياب، وتصوير التباس ما هو قائم. يمكن أن يكون الذكاء الاصطناعي إضافة في حقول دراسة الأدب، وإلى حد، لكن في الأدب نفسه أنا أشك. لأن مادة الأدب هي الإنسان، وهي العلاقات بين الناس بالقدر نفسه. يعني لا يكفي أن تفهم إنساناً حتى تقدر على كتابته، يجب أن تفهم علاقاته، ما شكله، وما رَسَم وعيه، وما حدَّد خياراته، وكيف نشأت مخاوفه».
ويضيف: «عدا ذلك، تبقى المخيلة متقدمة على الآلة، ببساطة، لأن الذكاء الاصطناعي بدأ فكرة في المخيلة، في مخيلة العالِم. ولا أراه تهديداً، لأن مجاله مختلف، قد يستمر كإضافة، ربما، لكن لا أرى أنه قد يقتل المؤلف. في الحقيقة، ما يقتل المؤلف أشياء ثانوية ربما تدور في فضاء الذكاء الاصطناعي. ربما ما يقتل المؤلف، هو ضعف الحس، هو جفاف العيش، الافتقار إلى المخيلة، برود العلاقات. كلها أشياء أحدثها نمط العيش الراهن، وهي تفتك بالروح، وتتحول إلى أمر قد يضرب الأدب، ويجعله استهلاكياً. التغيير الذي يصيب نمط الحياة ينعكس على الأدب. لكن ليس بالضرورة أن يكون سلباً أو إيجاباً».
طقس انبعاث
الكاتب العماني أحمد بن ناصر يستهل رأيه بهذا التساؤل: كم عمر الكتابة في مقابل عمر الذكاء الاصطناعي؟ ويقول: «أزعم أن القارئ من خلال تساؤلي هذا وجد لمحة من إجابتي على سؤالك الرئيسي. وإذا كان سؤالك يخص الكاتب فإني دعوت القارئ إليه مباشرة ذلك أن جوهر الكتابة لا يتحقق إلا بوجوده. فالكاتب يكتب على أمل أن يجد قارئًا يعطي لكتابه شيئاً من الخلود بتعريف ألبرتو مانغويل عندما قال: «كل قارئ يوجد كي يضمن لكتابٍ معين قدرًا متواضعًا من الخلود، القراءة، بهذا المفهوم، هي طقس انبعاث». وبما أننا نتحدث عما هو صناعي، فدعني أعيد صياغة عبارتي السابقة، ذلك أن أقول: الكاتب «الحقيقي» يكتب على أمل أن يجد قارئًا «حقيقيًا»، وهذا هو رهاني على نفسي ككاتب وعلى القارئ».
ويضيف: «لا أُنكر أن ما يقوم به ما سُمِّي بالذكاء الاصطناعي يجعلني أحيانًا مندهشاً بشيء من الريبة، لكني دائمًا أعود وأقول إن الإنسان هو مُدبره، أي أن ذكاءه من المنبع الأصل للذكاء: الإنسان، لأن كل ما دون الإنسان لا يمتلك ذكاءً ولادًا وإنما تقوم مقامه الغريزة أو الفطرة في الكائنات الحية أو البرمجة في صدد ما نحن نناقشه. بل إني أعتقد أن مَن يقوم وراء هذا الذكاء الاصطناعي بأيديولوجياته السياسية والعسكرية وحتى الدينية لم يختاروا مفردة «الذكاء» اعتباطًا بل هي مقصودة تمامًا في مسلسل مستمر لزحزحة وتهميش الإنسان الفرد عن أدواره في هذا الكون».
أحمد بن ناصر لا يشعر أن أدوات الذكاء الاصطناعي تهدد دوره ككاتب. ذلك أن هذا الدور الذي بدأه الإنسان الأول عندما خطَّ أول خطٍّ على جدار كهفه ليخبرنا قصةً لا يزال قائمًا من خلال الكُتَّاب الحقيقيين. يعلق أخيراً: «ربما يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يزيد من وتيرة تأليف الكتب بسهولة مجانية خالقًا مجتمعًا جديدًا من الكُتَّاب والقراء لا يمكنني أن أطلق عليه حكمًا الآن وستكشف لنا الأيام ذلك لاحقًا. لكني أتذكر أنه قبل أكثر من ربع قرن كتب الشاعر أوكتافيو باث إهداءً على أحد دواوينه «إلى الأقلية الهائلة» في إشارة إلى قلة من يقرأون الشعر. إذا نجح الذكاء الاصطناعي في مزاحمة الكاتب الحقيقي -وأشك في ذلك- فإني سأتذكر هذا الإهداء الذي سيرمز يومها إلى الكاتب الحقيقي والقارئ الحقيقي».
ثورة الآلات
الكاتبة السعودية نجوى العتيبي منذ أن قرأتْ عن تجربة الكاتبة اليابانية ري كودان في استعمال الذكاء الاصطناعي لكتابة روايتها «برج التعاطف طوكيو»؛ وقد نالت بها الجائزة الأهم في اليابان، وهي تفكر في هذا السؤال تحديداً، وعما سيفوتها لو تخلفتْ عن إتقان الكتابة من خلال الاستعانة بالذكاء الاصطناعي. وتقول: «لم تُثر اهتمامي ثورة هذا الذكاء حين أُطلِق، ولا تسابُق الكُتاب في صفوف (أول من استعمل) و(أول من كتب) عبره حين أُتيح للجميع؛ ذلك أن لغز المخيلة ما زال مجهولاً، ومُحالٌ أن تدركه الآلة إلا إذا أدركه البشر؛ الأمر الذي أثار اهتمامي أيضاً حين توقفَ استقبالُ أحد مجلات الخيال العلمي في أمريكا للنصوص، نظراً للمشاركات الهائلة التي استُعمِل فيها الذكاء الاصطناعي، مما يجعل استبدال الكاتب (الحقيقي) صعباً، وإلا لما اتضح الفرق بين المستوى العام للنصوص إلى حد حجب المشاركات. أما الأدوات فيمكن استعمالها دون تهديد لدور الكاتب، على أن جودة العمل الأدبي يكمن في عيش مراحله كاملة كالنبتة، فمحال أيضاً أن تتطابق النبتة الحية والاصطناعية!، وعليه؛ فإن الكاتب يعيش مع عمله مرحلة مرحلة حتى يصطبغ بروحه؛ الأمر الذي سيتخلل القارئ حتما ليتعرفَ على جملة كاتِبِهِ وكيف يقول وبمَ يعبر، ولا أظن الآلة قادرة على إمتاع القارئ بالبصمة الفريدة للأسلوب.
وتضيف: «ولعلي إن جربتُ الأمر فسأكتب عن الأمرين معاً؛ الاستعانة بروح الكاتبة التي تسكنني محاولة فهم ما تودهُ، وعن الاستعانة بالآلة، وما الفرق بين التجربتين، لكن الكتابة الذكية عموماً ينقصها الكثير حتى تُهدد حرفة الكتابة بالمطلق، ولا أظن بحتمية الركون إلى الآلة -كما يُشاع ونُخوَّفُ به!- في الأدب والبحث والتسويق والتصحيح والمراجعة والتدقيق والترجمة وغيرها من خصائص المهنة مهما تطورت الأدوات. لكن طرح السؤال بشكل متكرر وبإلحاح هو ما يستدعي القلق.
مواضيع معقَّدة
ويقول الشاعر العماني سامي المعمري: «بدايةً علينا أن نعلم بأنَّ الذكاء الاصطناعي يفتقر إلى الإبداع الحقيقي والتجربة الشخصية المتأصلة في عُمق الكاتب البشري، لذلك فأدوات الذكاء الاصطناعي قد ينتج عنها محتوى غير دقيق خاصة في المواضيع المُعقدة والتي تتطلب فهماً ثقافياً أو عاطفياً عميقاً».
وبرغم ذلك فإن سامي يرى أن أدوات الذكاء الاصطناعي قد تُسهم في تعزيز الكاتب لإنتاجه، بحيث تكون لديه إمكانية توليد أفكار جديدة وبناء أساليب فنية أكثر إتقاناً وتحسين النصوص، وهذه بكل تأكيد أمور يسعى لها الكاتب دائماً.
ويختم قائلاً: «خلاصة القول: أدوات الذكاء الاصطناعي لا تُشكل تهديداً مُباشراً للكاتب، إنما هي وُجدت لتعزيز إنتاجيته وتجديد أساليبهِ الفنية وتحسين نصوصهِ لتبدو للمُتلقي أكثر كفاءة عن ذي قبل».
سؤال محيِّر
الكاتب العماني خالد المعمري يسرد قصة جرت له مع الذكاء الاصطناعي. يقول: «أرسل لي أحد الأصدقاء قصيدة شعرية موزونة ومقفاة، وقال لي هذه القصيدة كُتِبت بواسطة «الشات جي بي تي» للوهلة الأولى كانت الصدمة كبيرة في اختراق عالم الأوزان والقوافي عن طريق الكتابة الإلكترونية التي قدّمت لنا نصاً شعرياً إبداعياً. بالطبع لم تكن القصيدة -في نظري- قوية في معانيها، كذلك لم تكن مترابطة في الأسلوب على الرغم من التزامها بالوزن والقافية».
قفزت الأسئلة إلى ذهن خالد: «هل سيأخذ الذكاء الاصطناعي القارئ إلى عالمه، وهل سنتخلى عن الشعراء كأسماء معروفة؟ ولمَنْ سنقيم أمسياتنا الشعرية في المستقبل؟ وبطريقة أخرى لمن ستنسب القصائد المكتوبة بواسطة هذه البرامج؟».
يعلق: «مثل هذه الأسئلة في فلسفة طرحها تجعلنا نعيد التأمل والتفكير في العوالم المتضادة، فمثلما قيل سابقاً عن زمنية الأجناس الأدبية في هذا العصر أو ما قيل عن الصراع بين الكتاب الورقي والكتاب الإلكتروني مثلاً، وما يقال حالياً عن الكتابة بهذه الكيفية يجعلنا نتأمل موضوع الكتابة الإبداعية عن طريق المشاعر والأحاسيس وهي ما يقرؤها القارئ متأملاً الدفقة الشعورية لدى الكاتب. قد يكون النص شعرياً في أساسه وهو نتاج التكنولوجيا الحديثة ولكنني أؤمن أن هذا النص مرتبط بعالم تقني لا يمكن أن يكون بذات الثورة الانفعالية للشاعر الإنسان. عن نفسي أعيش هذا الدور لحظة القراءة، وأتأمل انفعالات الكاتب في كل مفردة في النص. وأحسُّ به داخل النص. ومع كل ذلك، فالذكاء الاصطناعي يقوم بأدواره التقنية في عالم كتابي ثائر، فيمكن أن نجد نصوصاً ناتجة عنه أكثر تطوراً، لكننا لا يمكن أن نجزم أنه يمكن الاستغناء عن الكاتب في عملية الكتابة؛ إذ إن للمؤلف البشري خصوصية في التناول والتعبير لا يمكن أن نجدها عند غيره».
يؤمن خالد بالتطور الحاصل في عملية الكتابة، كما يؤمن أننا نعيش طفرة تكنولوجية في عالمنا الواسع لكنه لا يؤمن بالحس الكتابي المنفتح على هذه البرامج، ويقول: «إنها نصوص تقليدية استقاها النظام الإلكتروني من نصوص سابقة، وتلقَّى المعلومات التي يُراد الكتابة عنها فبنى نصه تركيبياً بناء على نص سابق، هذا ما أفسِّره، أما الشاعر/ الكاتب فيتطور النص لديه بالرؤية المتجددة للعالم، إنه يقود البرامج وهي تسير وراءه، ويبقى له الميدان الشعري واسعاً يسير فيه بلا شريك».
حسن عبدالموجود صحفي وقاص مصري