(نص + فيديو) المحاضرة الرمضانية الرابعة والعشرون للسيد القائد 1446هـ
تاريخ النشر: 27th, March 2025 GMT
أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.
أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:
السَّـلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
كُنَّا في محاضرة الأمس، في الحديث على ضوء قول الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" في الآية المباركة: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ}[الشعراء:79]، وهو يذكر لنا ما عرضه نبي الله إبراهيم "عَلَيْهِ السَّلَامُ" من البراهين المهمة، والدلائل العظيمة، التي تَشُدُّ الإنسان إلى الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، في دعوته لقومه إلى عبادة الله وحده، والإيمان به وبرسالته، ونبذ الشرك، والأنداد التي يَتَّخِذُونَها من دون الله.
فالإنسان مرتبطٌ في أساسيات حياته بالله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، والله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" هو رَبَّهُ، الخالق له، المالك له، المنعم عليه، والذين يتَّخذهم شركاء، أو أنداداً من دون الله، ليس هناك ما يربطه بهم من شؤون حياته المهمة والأساسية، وليس لهم ملكٌ فيه، ليسوا هم أرباباً حقيقيين للإنسان؛ إنما هو يتَّخذهم أنداداً من دون الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى".
تحدثنا بالأمس- باختصار- عن نعمة الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى":
- في مسألة الطعام للإنسان.
- وكذلك في مسألة الماء، الذي يشربه الإنسان، ويحتاجه في حياته احتياجاً أساسياً.
ومن الملاحظ- كما أشرنا بالأمس- أن الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" منَّ بهذه النعمة على الإنسان في إطار التكريم للإنسان، الله رزق الإنسان من الطَّيِّبَات، وهذا من التكريم للإنسان؛ ولـذلك فقائمة الحلال- فيما أحلَّه الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"- هي متَّجهةٌ نحو الطَّيِّبَات، وقائمة الحرام- وهي أشياء محدودة- نحو الخبائث، والمضارّ، التي تَضُرُّ بالإنسان، ولا تليق بتكريمه، فالله قال في القرآن الكريم: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}[الإسراء:70]، الشاهد في قوله: {وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ}، فالله كَرَّم الإنسان حتى في طعامه وشرابه، فيما خلقه الله له من الطعام الطَّيِّب، وكذلك أيضاً في كيفية تناول الطعام، حتى هي فيها تكريمٌ للإنسان، طريقة تناول الطعام، والوسائل التي زوَّدك الله بها لتتناول بها طعامك، ويختلف حال الإنسان في ذلك عن حال بقية الحيوانات، بما هو مأخوذٌ فيه بعين الاعتبار التكريم للإنسان، هذه من نعم الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى".
والإنسان منذ ولادته، يأتيه رزقه، غذاؤه، فيما أعدَّه الله له من حليب أمه، وكذلك حتى كيفية الرضاعة، ومحل الثدي بالنسبة للإنسان، هو بالشكل الذي تحضنه أمه وهي ترضعه، فيحظى بالحنان، ويحظى بالمشاعر الحنونة من جهة أمه، وعندما جعل الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" الثدي في أعلى الصدر بالنسبة للإنسان، هذا فيه تكريم، وفيه أيضاً أجواء من الرعاية أثناء الرضاعة، والحنان والعاطفة من جهة الأم، هذه من نعمة الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"؛ ثم هكذا عندما يكبر الإنسان، ويجد كم أعدّ الله له، وكم يَمُنُّ عليه ويرزقه في طعامه وفي شرابه.
وصلنا إلى قول الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى": {وَإِذَا مَرِضْتُ}[الشعراء:80]، هو يعرض لنا ما قاله نبي الله إبراهيم "عَلَيْهِ السَّلَامُ"، ما ذكَّر به قومه من النعم، وما عرضه عليهم من البراهين، والدلائل الواضحة والعظيمة، والدلائل البيِّنة، التي ليس فيها غموض كما أشرنا بالأمس، ليست أدلة فلسفية غامضة، ويصعب استيعابها والتفهُّم لها، بل من الأشياء الواضحة، وهذا مهمٌ:
- سواءً فيما يتعلق بالتذكير بنعم الله، التذكير بالنعم العظيمة، الواضحة، المعروفة، البديهية.
- أو في مجال الاستدلال، والتوضيح، وعرض البراهين المهمة.
{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}[الشعراء:80].
نعمة الصحة والعافية هي من أهم النعم، التي يَمُنُّ الله بها على الإنسان، وعادةً ما يغفل الإنسان عن هذه النعمة حينما يكون في صحة وعافية، والأكثر إدراكاً لهذه النعمة هم المرضى، الإنسان عندما يكون في حالة المرض، ولاسيَّما إذا كان مرضاً مؤلماً، أو مرضاً شديداً وموجعاً؛ يتذكَّر حينها نعمة العافية، ولاسيَّما مع الأعراض التي تنتاب الإنسان أثناء المرض، حينما لا يستسيغ الطعام، ولا يستسيغ الشراب، وحينما يعجز عن القيام بمهامه في هذه الحياة وأعماله، والبعض أيضاً قد يعاني من الأرق، يصعب عليه حتى النوم من شدة الألم، فلا يهنأ بشيءٍ في حياته من شدة المرض والألم، ثم هو ذلك الذي يعاني من الألم معاناه كبيرة.
فحالة المرض هي حالة صعبة على الإنسان، والإنسان يَمُرُّ بهذه الحالة، هي من الحالات التي يَمُرُّ بها الإنسان كثيراً في مسيرة حياته، في عمره، كم يمرض الإنسان، وأثناء مرضه يدعو الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، ويتضرع إليه، {فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا}[الزمر:49]، في آيةٍ أخرى: {دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا}[يونس:12]، فيلتجئ إلى الله، ويدرك كم أن العافية، والصحة، والشفاء، نعمة عظيمة، يهنأ فيها بكل شيء: بطعامه، بشرابه، بنومه، بالحياة، يتمكن من القيام بأعماله براحة، في وضعٍ مختلفاً تماماً عمَّا هو عليه أثناء وضعه الصحي الصعب، حتى في المستوى النفسي، الإنسان يتعب نفسياً مع حالة المرض، تكون نفسيته مضغوطة، وقلقة، ومتعبة؛ فنعمة العافية والصحة هي من أهم النعم التي يَمُنُّ الله بها على الإنسان.
والله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" جعل في غذاء الإنسان، وما يتناوله الإنسان من الطَّيِّبات، ما يزيد في صحته، ما يدعمه صحياً، وهذا من المميزات لِلطَّيِّبَات: أنَّها في أصلها سليمةٌ من المضار، وفيها ما ينفع الإنسان، يزيده قوة، يزيده صحة، يُحسِّن من وضعه الصحي، يزوِّد جسمه بالعناصر اللازمة لصحته، ونموه، وطاقته، ويقيه الكثير من الأمراض، في الإنسان أيضاً جهاز المناعة زوَّده الله به، يساعده أيضاً على الصحة، على العافية، على التشافي.
والله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" مع ذلك أودع في كثيرٍ من النباتات- كثيرٍ من المواد التي أحلَّها للإنسان- أودع فيها أيضاً عناصر الشفاء، بعد حالة المرض حينما تنتاب الإنسان؛ فيجعل في نبتةٍ مُعَيَّنة شفاءً من داءٍ مُعَيَّن، أو في نَبْتَةٍ أخرى- كذلك- شفاءً من داءٍ آخر، أو في تركيب أدوية من مجموعة من النباتات المُعَيَّنة كذلك شفاءً من داءٍ مُعَيَّن، كما قال عن العسل نفسه: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ}[النحل:69]، (فِيهِ شِفَاءٌ): جعل الله فيه ما يساعد الإنسان على التشافي، والتعافي، والصحة، والسلامة من المرض، والخروج من المرض أيضاً.
والله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" يَمُنُّ بالشفاء بشكلٍ مباشر، حالة الشفاء هي من الله، حتى عندما نأخذ بالأسباب، سواءً فيما يتعلق بالأدوية والطب، أو حينما يبتدئك الله بنعمة الشفاء قبل ذلك، الأسباب بنفسها الاستفادة منها متوقفةٌ على أن يُنْزِل الله لك الشفاء، وإلَّا يمكن للإنسان أن يسير في مسار العلاج والطب، وقد يُمْضِي فترةً طويلة، وقد يستهلك إمكاناتٍ كثيرة، ولا يصل إلى نتيجة، حتى يأتي الشفاء من الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"؛ فيتشافى ويتعافى.
في مسألة الأخذ بالأسباب، مطلوبٌ منَّا أن نأخذ بالأسباب؛ يعني: هناك توجيهات من الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، هناك أيضاً من قِبَل رسول الله "صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ" حثٌّ على الأخذ بالأسباب، والأسباب متنوعة:
- منها مثلاً: تناول الأدوية المفيدة، بإرشاداتٍ طبية، من ذوي الاختصاص والمعرفة.
- ومنها أيضاً الدعاء، الدعاء ضروري، هو من الأسباب المهمة.
- مثلاً: الصَّدَقَات، هي من الأسباب المهمة... وهكذا ما ورد الحثُّ عليه.
- تلاوة القرآن كذلك، سماع تلاوة القرآن كذلك.
مجموع الأسباب المتنوعة هي مهمةٌ في مسألة الشفاء، والشفاء هو من الله، من الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، كما قلنا: حتى الانتفاع بالأسباب متوقفٌ على أن يُنْزِل الله الشفاء منه "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" من عنده، فالإنسان بحاجة إلى الشفاء من الأمراض بحاجة إلى الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، والله هو الذي هيأ لنا في مسيرة حياتنا كل الأسباب.
بل حتى الهداية إلى العلوم، العلوم الطِّبِّيَّة، التي يستفيد منها الناس في مسألة مواجهة الأمراض، والعلاج من الأمراض، هذه العلوم هي بهداية من الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى":
- منها: ما يتعلق- مثلاً- بجسم الإنسان، وأحواله، وأسباب عِلَلِه.
- ومنها: ما يتعلق بما أودع الله في الأشياء (سواءً النباتات، أو المواد الأخرى) من وسائل الشفاء، ما أودع الله فيها من عناصر الشفاء، من أسباب الشفاء، من مواد لها تأثير بقدرة الله، أودعه الله فيها للشفاء من داءٍ مُعَيَّن، ثم لا يأتي الشفاء إلَّا عندما يأتي من الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى".
فالأسباب مرتبطة بما يكتبه الله، ويبقى الشفاء متوقفاً على إرادة الله ونعمته، فهذه من النعم الكبيرة جدًّا.
والإنسان في حالة المرض، هي من الحالات التي ينبغي أن تُذَكِّره بافتقاره إلى الله، وحاجته إلى الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، وأن يكون فيها ملتجئاً إلى الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، وصبوراً في نفس الوقت؛ لأنها من حالة الضراء، التي وجَّه الله فيها بالصبر، وأثنى على الصابرين فيها: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ}[البقرة:177]، من الضراء، ومن حالة الضراء هي: الوضع الصحي، المرض والمعاناة من المرض، فهي من الحالة التي يكون الإنسان فيها صبوراً، وهناك نموذج عظيم في الصبر، في حالة البليَّة في الوضع الصحي، هو: نبي الله أيوب "عَلَيْهِ السَّلَامُ" من الأنبياء، قال الله عنه: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}[ص:44].
فالإنسان يحتسب معاناته أيضاً وهو يرجع إلى الله، يتوب إلى الله، يُكْثِر من الاستغفار، قد يكون السبب أحياناً ذنوباً مُعَيَّنة، أحياناً قد تكون من جانب الإنسان، يكون منه تقصير في أمور مُعَيَّنة، أو ابتلاء في أمرٍ مُعَيَّن، فالصبر، مع الرضا عن الله، مع الالتجاء إلى الله، مع الدعاء، مع الأخذ بالأسباب، كما أمر الله، وأذن الله، وهيأ الله؛ لأن هذا شيءٌ في إطار تدبير الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى".
ولهذا في قصة نبي الله أيوب "عَلَيْهِ السَّلَامُ"، حينما أراد الله له الشفاء من المرض، جعل في ذلك أيضاً سبباً: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ}[ص:42]، والله قادرٌ على أن يشفيه ابتداءً، من دون أن يأخذ بالأسباب، من دون ركضة الرِّجْل تلك؛ لكن كان لابدَّ من الأخذ بالأسباب في إطار سُنَّة الله في أمور عباده، وشؤون عباده، وأحوال عباده في الأرض، في الأرض استخلفنا الله لنعمر هذه الحياة، ففي إطار احتياجاتنا المتنوعة:
- من طعام: كم نشتغل، كم نعمل، مع أن الطعام من الله، نحن لا نخلق المعدوم؛ إنما نعمل فيما يخلقه الله، وفيما يهيئه الله، وفيما يرزقنا الله إِيَّاه، نعمل في ذلك.
- كذلك في مسألة الشفاء والعافية: مجال واسع، فيه علوم، فيه دراسات، فيه جامعات، فيه مسار كبير جدًّا، مستشفيات، صيدليات، مصانع لإنتاج الأدوية... مجال واسع في حياة الإنسان، ويحتاج الإنسان فيه إلى الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى".
فأتى من الله تعليمات لِنَبِيِّه أيوب، حينما أراد أن يشفيه، واستجاب له دعاءه عندما تَضَرَّع إلى الله: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}[الأنبياء:83]، فأمره الله بقوله: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ}، هذا من الأخذ بالأسباب، {هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ}[ص:42]، حتى ذلك المغتسل البارد، والشراب الذي يشربه ويتناوله كدواء، جعل الله فيه سِرَّ الشفاء، وأنزل الله له الشفاء، وشفاه وعافاه.
فالإنسان في حالة المرض، هو يدرك كم أنَّ نعمة الصحة والعافية نعمة عظيمة جدًّا، ويدرك حاجته للشفاء، ويدرك تأثير المرض على حياته، على أعماله، على واقعه النفسي، كذلك على تَهَنُّئِه بالمعيشة، كيف يهناه الطعام، الشراب، النوم... سائر أحواله في هذه الحياة؛ فهـو محتاج إلى الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى".
{وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ}[الشعراء:81].
حياة الإنسان ابتداءً بيد الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، هو الذي خلقك وأحياك، ما بعد ذلك أيضاً موتك، ثم حياتك في الآخرة بيد الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، ومن أهم ما يكون مؤثِّراً على الناس، وهاجساً كبيراً لديهم هو: مسألة الرزق والأجل، وهذا بيد الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، ليس إلى الناس، يعني: حياتك ورزقك بيد الله "جَلَّ شَأنُهُ"، أجلك بيد الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" ليس إلى الناس؛ ولهـذا ينبغي أن يكون الإنسان مُنْشَدّاً إلى الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، مُتَوَجِّهاً إليه بالعبادة، بالطاعة، راجياً لله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، فلا يتَّخذ نِدّاً لله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، يطيعه في معصية الله، يُؤْثِر طاعته على طاعة الله، لا ينصرف عن نهج الله الحق، الذي هو صلةٌ بينه وبين الله، صراط الله المستقيم، هديه العظيم، إلى اتِّجاهٍ آخر، إلى اتِّجاه الباطل، الذي يُضِيْعُه في هذه الحياة، ويخسر مستقبله عند الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى".
الموت والحياة كلاهما قادمٌ، آتٍ بالنسبة للإنسان، كل الناس يموتون، {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}[الزمر:30]، الكل سيموت، والإنسان سيموت، وموته بيد الله، أجله بيد الله، ولا يمكن للإنسان أن يمتنع من ذلك، أي إنسانٍ كان: كبيراً، صغيراً، زعيماً، رئيساً، ملكاً، تاجراً، أيّاً كان، قائداً عسكرياً... الكل، والموت هو بداية الرجوع إلى الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، مُقَدِّمة لمستقبل الإنسان في الآخرة، وهذه هي النقطة المهمة، هو في إطار مصير الإنسان إلى الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى".
الموت من جانب هو نعمة من نعم الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"؛ لأن الإنسان كلما طال عمره؛ يهرم، ويَضْعُف، ويعجز، ويتعب، ويتحول كل شيءٍ في الحياة إلى شاقٍّ عليه، حركته المحدودة، حتى على مستوى الحركة في منزله، بمشقَّة، بصعوبة، حتى على مستوى القيام من قعوده، يعاني من المشاقّ، يصل به الحال إذا طال عمره كثيراً كثيراً، إلى أن يفقد قدرته الذِّهْنِيَّة في التركيز، والحفظ، والمعرفة، فلا يستطيع أن يحافظ على المعلومات، {لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا}[النحل:70]، لا يستطيع حتى أن يحافظ على معلوماته البسيطة، يسألك: [من أنت؟]، تقول: [أنا فلان]، بعد قليل يكون قد نسي اسمك، فعلى مستوى قدراته الذهنية، قدراته البدنية، صحته، حالته النفسية؛ يتعب أكثر فأكثر؛ ولـذلك في الدعاء العامِّي في بلدنا، المعروف لدى عامة الناس، ولاسيَّما عند الطاعنين في السن، يقولون: [الله يزهد العمر]، لماذا؟ لأن الإنسان كلما طال عمره؛ كلما عانى أكثر.
كذلك ما يواجهه الإنسان من أعباء الحياة، من همومها، من مشاكلها، من ظروفها المتنوعة والمتقلِّبة، يشعر كلما طال عمره بالتعب أكثر وأكثر؛ فالموت هو من ناحية راحةٌ للإنسان، يعني: يَتَعَمَّر فترة مُعَيَّنة ما دامت الحياة خيراً له، ثم يأتي الموت فيستريح؛ عندما يكون مؤمناً، مُتَّجِهاً اتِّجاهاً صالحاً، هذا يفيده أيضاً.
من جانبٍ آخر، هو- كما قلنا- من مظاهر قهر الله فوق عباده، {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ}[الأنعام:18]، لا أحد يستطيع أن يمنع عن نفسه الموت، أيّاً كان، لا بشكلٍ شخصي، ولا بشكل جماعي، أن تقرر دولة مُعَيَّنة أنَّها ستمتنع من الموت، مثلاً: أمريكا، أو زعماؤها، أو قادتها، أو أثرياؤها وتجارها، لا يستطيعون، لا يستطيع أحدٌ أن يمتنع من ذلك، وهو في إطار الرجوع والمصير إلى الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى".
من جانبٍ آخر، المستوى العام، الموت- كذلك- ينتقل جيل؛ يُتِيح المجال للجيل الذي يليه، في الاستخلاف في الأرض، في الإبداع، في الحركة في الحياة، في تَحَمُّل المسؤوليات... في غير ذلك، ففيه حكمة من الله، هو في إطار تدبير الله الحكيم، في إطار تدبير الله الحكيم "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى".
والإنسان بحاجة إلى الله، بحاجة إلى الله، يعني: مما ينبغي أن يكون دافعاً لك إلى العبادة لله وحده، إلى السير على نهجه وفي صراطه المستقيم، إلى الاستجابة له، إلى ألَّا تتَّخذ نِدّاً من دونه؛ هو أنك مُتَّجهٌ إليه، هو الذي يميتك ويحييك، بعد الموت الحياة في عالم الآخرة، ليست المسألة أن الموت نهاية لحياة الإنسان، وانتهى الأمر وخلاص، بعد الموت حياة (الحياة في الآخرة)؛ ولـذلك فأنت مُتَّجهٌ إلى الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" للحساب والجزاء في عالم الآخرة، فأنت بحاجة إلى العمل الذي يُفيدك لمستقبلك القادم، مستقبلك الأبدي، مستقبلك الكبير، المهم جدًّا، وأهميته هي تدل على أهمية مسؤوليتك في هذه الحياة أيضاً؛ لـذلك كان ذلك المستقبل الكبير، بجزائه الأبدي الخالص (من خير، أو شر) على أرقى مستوى وأشد مستوى؛ فكان بذلك المستوى، الذي يَدُلُّنا على عِظم مسؤوليتنا في هذه الحياة، كيف نستقيم في هذه الحياة، فهناك ترابط:
- بين استقامة حياتنا في الدنيا؛ لتستقيم لنا في الآخرة.
- وبين أن تكون مستقيمةً لنا في الآخرة؛ فلنستقم في الدنيا، نستقم على أساس منهج الله الحق وهدايته، تعليماته وأوامره.
{وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}[الشعراء:82].
لأن بعد الحياة الحساب والجزاء، ويوم الدين هو: يوم الجزاء على الأعمال، (كما تَدِين تُدَان) تُجازى يعني، هو يوم القيامة، يوم الفصل، يوم الحساب، يوم البعث، وهو بداية الآخرة، بداية الحياة الأخرى، التي هي حياةٌ أبدية، فيها الجَنَّةُ، وفيها النَّار.
يوم الدين، له أهميةٌ كبرى لدى الأنبياء والرسل "صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِم":
· سواءً فيما يتعلق باهتمامهم الشخصي:
لعظيم إيمانهم؛ لأنهم هم القدوة في الإيمان، وهم أكمل الناس إيماناً، وأعظم الناس إيماناً بالله، وبوعده ووعيده، وباليوم الآخر؛ ولـذلك هم يدركون بعظيم إيمانهم، وما هم عليه من الهدى، والنور، والبصيرة، والمعرفة، والرشد، يعطون الأمور المهمة أهميتها، فيدركون أهمية اليوم الآخر؛ ولـذلك لديهم اهتمام كبير جدًّا؛ ولهـذا يقول الله عن نبيه إبراهيم "عَلَيْهِ السَّلَامُ"، وابنه نبي الله إسحاق، وحفيده نبي الله يعقوب "عَلَيْهِمُ السَّلَام": {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ}[ص:46]، ما هي؟ {ذِكْرَى الدَّارِ}[ص:46]، فهم كثيرو التذكُّر للآخرة، ولعالم الآخرة، وللجنة وما فيها، وللحساب والجزاء، وهذا له أهميته الكبيرة في استقامة الإنسان في هذه الحياة كما قلنا.
فيوم الدين له أهمية كبرى لديهم، من حيث اهتمامهم الشخصي، فهو بارزٌ جدًّا في تذكُّرهم، في اهتمامهم، في استقامتهم، في دعائهم أيضاً: في دعائهم بالمغفرة، دعائهم بالرحمة، دعائهم بالفوز بالجنة، دعائهم بالسلامة من عذاب الله...إلخ.
· وأيضاً بارزٌ في اهتمامهم الكبير بالتذكير للناس به، والإنذار للناس به:
لأن من مهمة الرسل والأنبياء هي: الإنذار والتبشير؛ ولـذلك يأخذ هذا مساحةً كبيرةً في ما يُقَدِّمونه للناس من هدى، في تذكيرهم للناس، في سعيهم لهداية الناس؛ لأنه أمرٌ عظيم، أمرٌ كبير، مهما كانت غفلة الإنسان عنه، واستهانة الإنسان به، هي لا تُقَلِّل من أهميته، والإنسان سيندم على أنه كان غافلاً، مستهتراً، متجاهلاً، لما هو قادمٌ عليه حتماً؛ فهم من حيث اهتمامهم أيضاً بالتذكير للناس، يعطون هذه المسألة أهميةً كبيرة؛ لأنها ذات أهمية في نفسها، {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ}[النساء:165].
في كتب الله مع أنبيائه ورسله، أيضاً فيها مساحة واسعة للإنذار بيوم الدين، بيوم الحساب، بيوم الجزاء، وما بعده؛ لأنَّه هو المُقَدِّمة في عالم الآخرة، ومُقَدِّمة رهيبة جدًّا وكبيرة!
يوم الدين هو يومٌ عظيم، قال الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" في القرآن الكريم، وهو يُبَيِّن لنا أهميته، وعظمته، وهوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ}[الانفطار:17-18]، فوق كُلِّ تصوُّر، فوق كُلِّ خيال، في هوله الكبير، في مشهده العظيم، فيما فيه أيضاً من أهوال كبيرة من مقامات الحساب، ثم الجزاء، والاتِّجاه إلى عالم الجنة وعالم النار.
قال عنه الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى": {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[المطففين:6]، كل الناس أجمعين، من الأولين والآخرين، يُحشرون إلى ساحة الحساب، فيقومون في مقام الخضوع، والذُّلّ، والاستسلام لله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، والتعظيم الكامل لله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، لكن في مقام حساب، في مقام سؤال، في مقام جزاء، مقام رهيب وعظيم!
قال عنه الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى": {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ}[هود:103]، {مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ}: كُلُّ الناس من الأولين والآخرين، من زعماء، وملوك، وأمراء، وجنود... الكل يُحشرون في ساحة الحساب عبيداً، أَذِلَّاء، خاضعين، خانعين، مستسلمين، لله الواحد القهار، لله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، كُلٌّ يقف عبداً بصفة عبد، ليس هناك صفات أخرى: صفة ملك، صفة رئيس، صفة قائد، صفة زعيم... الصفة للجميع (عبداً)، كُلٌّ يقف عبداً، خاضعاً لله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، منقاداً لأمر الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، في مقام الحساب والسؤال.
{وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ}[هود:103]: الكل يحشر فيه، البشر يجتمعون فيه في ساحة الحشر بكلهم، مليارات البشر في ساحةٍ واحدة، في مجمعٍ واحد، وتحضر الملائكة بأكثر منهم بكثير، ملائكة الله تنزل، الجِنُّ أيضاً، مشهودٌ وعظيم، وفيه مجريات الحساب، والفصل بين العباد، يومٌ عظيم، يومٌ كبير!
أهواله رهيبة، هو يأتي- أصلاً- في إطار متغيرات كونية كبرى، تشمل الأرض بكلها، تشمل السماوات، تشمل الشمس والقمر، تشمل النجوم، دمار في النفخة الأولى لهذا العالم دمار هائل؛ لأنه في إطار عملية إعادة تكوين من جديد لمرحلة جديدة.
فالأرض بنفسها تُدَمَّر وتُدَكّ، وتنتهي حياة الكائنات عليها، في النفخة الأولى يموت كُلُّ إنسانٍ كان موجوداً على الأرض أثناء ذلك، وكُلُّ الحيوانات الأخرى، يموت الجميع، تُدَمَّر الأرض بِكُلِّها، وتتغير معالم الحياة عليها، تُسَوَّى وتُدَكّ، وتُنسف جبالها، وتتبخر محيطاتها وبحارها، وتزول كل معالم الحياة عليها، لا يبقى لا مدن، ولا قرى، ولا أماكن سكنية، ولا مزارع... ولا أي شيء أبداً.
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا}[طه:105-107]، لا ترى في الأرض نفسها أي مكان منخفض، أو مكان مرتفع، أو... تحوَّلت إلى ساحة مستوية، {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ}[التكوير:6]، لا تبقى بحار، تحترق، وتتبخَّر، وتنتهي، الشمس كذلك: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}[التكوير:1]، النجوم: {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ}[التكوير:2].
هكذا يتحوَّل واقع الأرض، كما قال الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى": {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا}[الكهف:8]، (صَعِيداً): ساحةً ليس فيها أي معالم للحياة: لا مزارع، ولا أشجار، ولا نباتات، ولا جبال... ولا أي شيء، قاعاً مستوياً، (جُرُزاً): لا نبات فيه، ولا مياه، ولا معالم للحياة، {وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ}[الانشقاق:3-4]، هذا كله في النفحة الأولى، دمار هائل، وإعادة تسوية للأرض، وتغيير لمعالمها: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ}[إبراهيم:48].
ولهـذا يقول الله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}[الزمر:68]، النفحة الثانية هي لبعث الناس، لحشرهم، لخلقهم، الكل يبعثهم الله جميعاً، بدون استثناء، لا ينسى أحداً أبداً، كما قال "جَلَّ شَأنُهُ": {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا}[المجادلة:6]، وَيُحْضَرُون جميعاً إلى ساحة الحشر؛ للحساب، وليس بإمكان أحد أن يمتنع من ذلك، يقول: [أنا لن أحضر، لن أجاوب، لن أستجيب ولن أحضر]، {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ}[طه:108]، انقياد تام، وخضوع من الجميع، وحضور للجميع لا نسيان لأحد، {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ}[يس:32].
ولـذلك تذكَّر أنت نفسك في كل هذه الحسابات، في كل هذه المواقف، أنت ستحشر وتُبعث، {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا}[مريم:93-94]، فأنت ستأتي، لا يمكن أن تُنسى أبداً، {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا}[مريم:95]، ليس هناك قوة بالانتماء الجماعي كما في الدنيا، لا شعبك، ولا بلدك، ولا قبيلتك، ولا أصحابك، ولا جماعتك، ولا أسرتك... ولا أحد يمكن أن يُشَكِّل حمايةً لك، أو سنداً لك، أو دعماً لك، تعتز به، أو تستند إليه؛ لِيُقَدِّم لك الحماية، أو حتى ليراجع لك، ويُغَيِّر النتائج، التي هي نتيجةٌ لعملك، محسوبةٌ على أساس عملك.
مع أنه يومٌ رهيبٌ تجتمع فيه كل الخلائق، يجتمع فيه الناس أجمعون، بكلهم من الأولين والآخرين، لكن لمهابته، لمهابته الكبيرة ليس هناك حتى الضَّجَّة، مع كثرة الناس، مليارات البشر في مجمعٍ واحد، في ساحةٍ واحدة، ولكن كما قال الله: {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا}[طه:108]، مهابة كبير جدًّا لذلك اليوم.
ذلك الاجتماع الكبير، الذي قال الله عنه: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ}[هود:103]، ليس اجتماعاً في مهرجان، أو احتفال، أو مناسبة عادية؛ هو: اجتماعٌ للحساب، اجتماعٌ يتحدَّد فيه المصير الأبدي والنهائي الكبير للإنسان:
- إمَّا على أساس ما قدَّمه من خير إلى الجنة، بنعيمها الخالص، الراقي، العظيم، الدائم.
- وإمَّا على ضوء عمله، نتيجةً لعمله كشر، باتِّجاه النار والعياذ بالله، في الشقاء الأبدي الدائم والرهيب جدًّا.
فهي حالة رهيبة جدًّا؛ ولـذلك سمَّاه الله بـ(يَوْمُ الدِّين).
وفي نفس الوقت ليس هناك مجال للالتفاف، ولا للمغالطة، ولا للتَّخَلُّص من تلك النتائج، التي هي مُتَرَتِّبة- كما قلنا- على عمل الإنسان؛ لأن هذا هو الدين: الجزاء على ما قدَّمت، وعلى ما عملت، فليس هناك أي مجال للمغالطة، للالتفاف، للوساطات، للصداقات، للتزوير، للتبريرات غير الصحيحة، ولا مجال فيه للهزل، الأمور تُحْسَم بِجِدّ، وقرارات حاسمة، قرارات نهائية، في إطار حكم الله الحق "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"؛ ولهـذا فالكل في حالة خضوع.
لا يستطيعون أيضاً أن يتعنَّتوا، أن يعملوا ثورة، مع كثرتهم (مليارات البشر)، مليارات البشر من الهالكين، الذين قال الله عنهم: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا}[يس:62]، لا يستطيعون أن يتخلَّصوا، أن يهربوا، أن يُشَكِّلوا ثورةً عارمة بمليارات البشر، مظاهرات في ساحة المحشر، لا يمكنهم فعل ذلك، الله يقول: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ}[المرسلات:38-39]، إذا كان لديكم كيد ومكر، تريدون أن تقوموا بعملٍ ما، بحيث لا نتمكن من حسابكم ولا جزائكم، ففعلوا، لا يفعلون شيئاً، {مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ}[الصافات:25-26]، في حالة من الاستسلام التام، والخضوع المطلق.
لـذلك في مقام الحساب يتجلَّى للإنسان عِظْم تفريطه، وعواقب غفلته، وفداحة خسارته، إن كان أضاع فرصة حياته هنا في الدنيا، الإنسان يدرك كم كانت خسارةً رهيبة، هذه هي فرصتك الوحيدة: حياتك في الدنيا، فلا تماطل، لا تُسَوِّف، ماذا تنتظر؟! أنت هنا في مقام المسؤولية، في المقام الذي معك فيه الفرصة الكافية والتَّامَّة، لتحديد مصيرك ومستقبلك الدائم والأبدي، {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}[الفجر:23-24]، قدِّم هنا، تَنَبَّه هنا، تذكَّر هنا، اخرج من غفلتك، اخرج من إعراضك، لا تستمر في حالة الإعراض، أنت هنا في الفرصة الوحيدة والنهائية، ليس هناك فرصة في الآخرة.
الإنسان سيرى أهمية الأعمال، أعماله التي كان يتهاون بها في الدنيا، وكيف أن الله أحصاها، مَحْصِيَّة بدقة، أنت كنت تتهاون بها، لا تبالي بها، تعملها وكأنها ليس وراءها لا حساب ولا جزاء، {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ}[المجادلة:6]، لماذا ينسى الإنسان؟ في أعماله السيئة، لتصرفاته؛ لأنه لا يهتم لا بمراقبة النفس، ولا بمحاسبة النفس، وهذه أمور مهمة للإنسان: أن يراقب نفسه، وأن يحاسب نفسه؛ ليتلافى ما صدر منه من تقصير، أو تجاوز، في فرصة التلافي؛ لأن فرصة التلافي هي هنا في هذه الدنيا.
{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}[الزلزلة:7-8]، يرى الإنسان أعماله مُوَثَّقة، {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}[الإسراء:13-14]، ترى أعمالك مُوَثَّقة، وأُحْصِيَّت بدقة، بدون نسيانٍ ولا غفلة.
ويرى الإنسان في تلك الأهوال، في أهوال الحساب، أن مصيره مرتبطٌ بعمله، وما قدَّمه في الحياة الدنيا، فالمأزق الخطير جدًّا هي الذنوب والمعاصي، هي التي تُشَكِّل خطراً كبيراً جدًّا على الإنسان وعلى مصيره:
- ما كان منها تجاوزاً لحدود الله، وانتهاكاً للمحرَّمات.
- وما كان منها عصياناً لأوامر الله تعالى، في الالتزامات الإيمانية التي فرضها الله على عباده.
الخطر في تلك الذنوب، وفي تلك المعاصي، هي التي تسبِّب للإنسان الخسارة الكبرى، حتى دوافعها بالنسبة للإنسان، سيندم يوم القيامة:
- إن كنت عصيت الله ابتغاء شهوة، أو لَذَّة، أو متعة من متع الحياة في الحرام؛ أو تلبية رغبة من رغبات النفس (أهوائها)؛ فالندم كبيرٌ جدًّا جدًّا يوم القيامة، ستمقت نفسك، وتكره نفسك، كيف تنكبها النكبة الكبرى للأبد، وتخسر أيضاً النعيم العظيم في الآخرة، الذي هو أرقى نعيم وللأبد، من أجل شيءٍ زائلٍ، فانٍ، منتهٍ، تسبب لنفسك به سخط الله، وغضب الله، ومقت الله، وعذاب الله.
- أو كانت حالة مخاوف؛ تُدرك كم كانت خسارتك رهيبة، عندما حسبت حساب مخاوف زائلة محدودة في الدنيا؛ ففرطت في شيءٍ من أوامر الله، مقابل أن توقع نفسك في أكبر الخطر، في الشَّرِّ الرهيب، في العذاب العظيم الفظيع، في الشقاء الأبدي والعذاب الدائم...
- وهكذا هي الأحوال الأخرى: حالة الغضب والانفعال... وغير ذلك.
ولـذلك ستكون حسرة الإنسان أنه أوقع نفسه بنفسه، بنفسه هو، يدرك أنه هو الذي ورّط نفسه إلى ما وصل إليه من العذاب، ويدرك خطورة المعاصي والذنوب؛ فيتحسَّر ويندم، يمقت نفسه، يمقت نفسه، ويتحسَّر كثيراً، {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ}[مريم:39]، ويشعر كم غبن نفسه في يوم التغابن.
لـذلك فرصة الإنسان في الخلاص من الذنوب والمعاصي، في الاستقامة، في التلافي لمستقبله الأبدي هنا في الدنيا.
نكتفي بهذا المقدار.
هذه الليلة والتي تليها من أهم الليالي في العشر الأواخر، في التماس ليلة القدر، لا تنسونا من صالح دعائكم.
نَسْألُ اللَّهَ "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهْدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.
وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
المصدر: ٢٦ سبتمبر نت
كلمات دلالية: الأخذ بالأسباب ملیارات البشر فی هذه الحیاة عالم الآخرة على الإنسان حالة المرض الإنسان من الإنسان فی فی الدنیا الإنسان م الشفاء من یوم الدین فی الآخرة لا یستطیع بحاجة إلى ع ل ى آل س ب ح ان ه ت ع ال ى إلى الله نبی الله ما یتعلق الله فیه من المرض لیس هناک فی مسألة قال الله فی الأرض بید الله من جانب من الله ما یکون الله فی الله عن هو الذی الله له إ ذ ا ال ال أ ر ض فی ساحة فی إطار کما قال فی مقام فی حالة من أهم ة الله الذی ی ل الله ى الله ا یمکن هنا فی التی ی ن الله الله إ الله ل الله ع لنا فی ه الله من دون على أن من داء التی ت
إقرأ أيضاً:
نص كلمة قائد الثورة بمناسبة يوم القدس العالمي 1446هـ
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَـاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:
السَّـلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
قال الله تعالى في القرآن الكريم:
{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا}[الإسراء:4-8]. صَدَقَ اللَّهُ العَلِيُّ العَظِيم.
في العشرين من شهر رمضان المبارك، لعام 1399 للهجرة، أعلن الإمام الخميني آخر جمعةٍ من شهر رمضان المبارك، من كل عام، يوماً عالمياً للقدس، ودعا كافَّة المسلمين، في كل أرجاء العالم الإسلامي، لإحياء هذا اليوم بالمظاهرات، والتَّجمُّعات، وإقامة المحافل، وأن يكون يوماً ليقظة جميع الشعوب الإسلامية، ويوماً للتعبئة العامة للمسلمين؛ من أجل أن تبقى قضية فلسطين حيَّةً في نفوس المسلمين، ومشاعر الجهاد والرفض لإسرائيل حَيَّة في نفوس المسلمين.
العنوان (يوم القدس)، العنوان والزمان كذلك (في آخر جمعة من شهر رمضان المبارك)، يُذَكِّران المسلمين بمسؤوليتهم الدينية، تجاه فلسطين والأقصى والقدس، وتجاه الشعب الفلسطيني المظلوم، وتجاه أرض فلسطين، التي هي بقعةٌ مباركةٌ من بقاع وبلدان المسلمين، تجاه المظلومية الكبرى للشعب الفلسطيني، التي لها أكثر من قرنٍ من الزمان، منذ الاحتلال البريطاني، ثم خَلَفَهُ العدو الإسرائيلي المجرم، وله أكثر من سبعة عقود من الزمن، في عدوانٍ متواصل وإجرامٍ يوميٍ ضد الشعب الفلسطيني، إضافةً إلى العدوان والاحتلال الذي طال بلداناً عربيةً أخرى، وهو مستمرٌ كذلك على عِدَّة بلدان، وتهديدٌ حقيقيٌ لبلدانٍ أخرى.
وقـد تزامنت المناسبــة في هـذا العــام، مـع تطــوُّراتٍ غــير مسبوقــة في عِــــدَّة اتجاهـــات:
أولاً: حجم الإجرام الإسرائيلي، وبشراكةٍ أمريكيةٍ كاملةٍ على كل المستويات: عسكرياً، وسياسياً... وغير ذلك، ضد الشعب الفلسطيني:
على مدى خمسة عشر شهراً، ثم استئنافه للعدوان، والإبادة الجماعية، والتجويع المعلن المكشوف، والمنع من دخول الغذاء والدواء إلى غَزَّة بأي شكلٍ من الأشكال، لا مساعدات، ولا بضائع... ولا غير ذلك، واستباحة الدم الفلسطيني، والقتل الشامل بكل وسائل القتل، وبكل وحشية؛ بهدف كسر الإرادة، والدفع بالشعب الفلسطيني للاستسلام، ومحاولة الوصول به إلى الانهيار التام، وفي هذا الاتِّجاه المجاهرة بالإجرام بمرأى ومسمعٍ من العالم.
ثانياً: انكشاف توجُّهات العدو الإسرائيلي والأمريكي معاً؛ لأنَّها توجُّهات مشتركة، والحديث عنها صراحةً، والتحرك السياسي والإعلامي المكشوف لأجلها، وهي: السعي للتصفية الكاملة للقضية الفلسطينية، وتهجير الشعب الفلسطيني، وتوسيع الاحتلال في البلدان المحيطة بفلسطين؛ تمهيداً لمراحل لاحقة، يُسْتَكْمَل فيها المشروع الصهيوني الإسرائيلي [من النيل، إلى الفرات].
في السابق كان الأمريكي والإسرائيلي يعتمدان على الخطوات العملية، مع استخدام أسلوب الخداع، لاسيَّما للأنظمة الرسمية العربية؛ فكان الأمريكي يتحدث عن السلام، والتسوية... وغير ذلك؛ ثم في هذه المرَّة أصبح يتحدث الأمريكي- بنفسه- عن التهجير، لم يعد هناك أي طرح لمسألة التسوية السياسية، ودولة الفلسطينية... وغير ذلك.
وتزامــن مــع ذلـك:
الإبادة الجماعية، والتجويع للشعب الفلسطيني في غَزَّة.
والتدمير والتهجير أيضاً في الضِّفَّة الغربية على نحوٍ متصاعد.
والسعي المكشوف لتهويد مدينة القدس.
وتكثيف الاقتحامات والاستباحة للمسجد الأقصى، ووضع المزيد من القيود والمضايقات على الوصول إليه.
الحديث الأمريكي المُعْلَن عن التهجير يُعتبر فضيحةً كبرى للأمريكي، يكشفه لمن يريد أن يتغابى، وأن يتجاهل الصورة الحقيقية له، وهو انتقال- كما قلنا- من مراحل الخداع في الماضي تحت عنوان التسوية، إلى هذه المرحلة الجديدة من الانكشاف، والتحرَّك المحموم، للانتقال إلى المراحل الأخرى التي هي واضحة:
السعي لتصفية القضية الفلسطينية.
والتهجير للشعب الفلسطيني.
والتَّوَسُّع في البلدان المحيطة بفلسطين.
هذا الانكشاف هو أيضاً من التطوُّرات المهمة، التي تزامنت مع هذه المناسبة في هذه المرحلة.
ثالثاً: في المقابل، حجم الصمود الفلسطيني، والثبات، والاستبسال:
هذا المستوى العظيم من صمود الشعب الفلسطيني وثباته في غَزَّة، وثبات مجاهديه، هو تطوّرٌ غير مسبوقٌ أيضاً، وكانت (عملية طوفان الأقصى) نقلةً جديدةً في ارتقاء الأداء الفلسطيني، وكذلك حجم الصمود العظيم في (معركة طوفان الأقصى)، وقد تجلَّى ضعف العدو الإسرائيلي مع هذا الصمود، وهذه النقلة المهمة؛ وإنما التجأ بشكلٍ كامل إلى الأمريكي، واعتمد عليه كليّاً، وكان التَّدَخُّل الأمريكي تجاه ذلك بشكلٍ غير مسبوق، ومع دعمٍ غربي، برز فيه: البريطاني، والألماني، والفرنسي... وهناك آخرون غيرهم أيضاً قدَّموا الكثير للعدو الإسرائيلي، وإلَّا فبدون ذلك كان العدو الإسرائيلي، بعد ضربة (عملية طوفان الأقصى)، في وضعٍ مهزوزٍ ومربكٍ بشكلٍ غير مسبوق، وكذلك ما قبل العملية كانت هناك- فعلاً- تساؤلات، عن مدى إمكانية استمرار ذلك الكيان المجرم الغاصب.
الإسرائيلي مع الأمريكي، اتَّجها معاً للعدوان على التصدِّي الفلسطيني بصمود وثبات، والتعامل مع التصدِّي الفلسطيني العظيم والبطولي للعدوان الإسرائيلي، باستخدام الإبادة الجماعية، والتدمير الشامل، يعني: لم تكن المسألة أن يقابلا الموقف الفلسطيني الصامد عسكرياً، من خلال أداء المجاهدين الفعَّال والقوي والثابت، أن يواجهاه بعمل عسكري نحو المجاهدين، يتَّجه نحو المجاهدين واستهدافهم، تعاملا بطريقة مختلفة: طريقة إجرامية، وحشية، شاملة، للإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني في قطاع غَزَّة بشكلٍ عام، والتدمير الشامل لكل مقومات الحياة في قطاع غَزَّة، التدمير والنسف للمباني، بالأحزمة النارية، وبكل وسائل التدمير، تدمير المدن، تدمير القرى، تدمير الأحياء والمساكن، تدمير المستشفيات، تدمير آبار المياه، تدمير المدارس والمساجد... وكل مقومات الحياة؛ بدلاً من معركة عسكرية، يواجهون فيها عسكرياً، اتَّجهوا هذا الاتِّجاه الإجرام الوحشي، يحاولون بذلك الضغط على الجانب العسكري الجهادي في فلسطين للمجاهدين؛ ليستسلم وينهار من خلال هذا الأسلوب.
رابعاً: من التطوُّرات المهمة: ثبات الحاضنة الشعبية، ومجتمع غَزَّة، في ضل وضعيةٍ صعبةٍ جدًّا، ومظلومية كبرى، ومعاناةٍ رهيبةٍ لا مثيل لها:
هذا المستوى العظيم من صمود الشعب الفلسطيني في غَزَّة، في مقابل ذلك الإجرام الرهيب، والإبادة الجماعية، والتدمير الشامل، والتجويع، والإبادة بكل أساليب الإبادة، هو تطوُّرٌ غير مسبوق حتى في تاريخ الشعب الفلسطيني، وفي تاريخ شعوب المنطقة بشكلٍ عام.
خامساً: من التطوُّرات المهمة: جبهات الإسناد، وما قدَّمته من تضحيات:
بدءاً بلبنان، التي قدَّم فيها حزب الله أكبر التضحيات، في إسناده للشعب الفلسطيني، وللمجاهدين في قطاع غَزَّة، وقدَّم إسهاماً عظيماً، كبيراً، مهماً، متميِّزاً، مؤثِّراً في المعركة والمواجهة للعدو الإسرائيلي.
وكذلك اليمن، اليمن بإسناده الشامل، وتحرُّكه على كل المستويات: في العمليات العسكرية، ومنع الملاحة البحرية على العدو الإسرائيلي، والقصف إلى عمق فلسطين المحتلة، بالصواريخ والمسيَّرات؛ لاستهداف العدو الإسرائيلي، والتَّحَرُّك سياسياً، وإعلامياً، وشعبياً على نحوٍ عظيم، والخروج المليوني الشعبي، والأنشطة الشعبية، التي لا مثيل لها في العالم.
وكذلك في العراق، والدور المهم والكبير لفصائل المقاومة الإسلامية في العراق.
وكذلك الدور الأساسي والمحوري للجمهورية الإسلامية في إيران، بدعمها الدائم للشعب الفلسطيني ومجاهديه الأعزِّاء، ولاشتراكها أيضاً بعمليات الوعد الصادق، والعدو يدرك حجم هذا الدور وأهميته، ويسعى للضغط المستمر على الجمهورية الإسلامية في إيران، باستخدام أسلوب الضغوط القصوى، في العقوبات الاقتصادية، والعزل السياسي... وغير ذلك؛ بهدف التأثير على موقفها، الذي بقي ثابتاً منذ انتصار الثورة الإسلامية، وهو مستمرٌ في ثباته.
سادساً: الانكشاف، والفرز، والغربلة، لواقع الأمة، والحالة الرسمية في العالم العربي- بالدرجة الأولى- قبل بقية العالم الإسلامي:
هذا الفرز الكبير، الذي كشف واقع الأنظمة العربية الرسمية:
ما بين متخاذلٍ بشكلٍ غير مسبوق: مع أن الحالة حالة تخاذل، {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا}[الأعراف:129]، يعني: منذ بداية القضية الفلسطينية، لكن في هذه المرَّة، في هذه الجولة، تخاذل غير مسبوق، من المواقف- حتى في الحد الأدنى- المواقف العملية.
وما بين متواطئ مع العدو: ما بين أيضاً من تواطؤا مع العدو بشكلٍ أو بآخر.
هذا الفرز، وهذه الغربلة، تأتي ضمن سُنَّةِ الله تعالى لواقع المسلمين، الذين ينتمون إلى الإسلام العظيم، بمبادئه العظيمة، وقيمه العظيمة، والالتزامات الإيمانية فيه، ضد الظلم والطغيان، ونصرة المظلوم، قال الله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً}[التوبة:16]، اختبار في الموقف: في الجهاد، واختبار في الولاء (وَلِيجَةً)، {وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً}، من يتَّخذون دخلاء في ولائهم من أعداء هذه الأمة، بدلاً عن الولاء للمؤمنين، {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[التوبة:16].
سابعاً: انكشاف المؤسسات الدولية، وفي مُقدِّمتها: الأمم المُتَّحِدة، ومجلس الأمن، والمنظَّمات ذات الطابع الحقوقي والإنساني، وفضيحة الغرب:
وهذا أيضاً هو تطوُّر غير مسبوق؛ لأنهم- أصلاً- كانوا فيما سبق في وضعية مُخْزِيَّة، ومكشوفة، ومفضوحة، لكن مع حجم الإجرام الصهيوني الإسرائيلي اليهودي، ضد الشعب الفلسطيني، وارتكاب الإبادة الجماعية بشكلٍ يومي، على مدى خمسة عشر شهراً، ثم استئناف ذلك في هذه الأيام، هذا كشفهم أكثر، حجم المأساة للشعب الفلسطيني بَيَّنت حقيقة أولئك، أنهم ليسوا جادِّين تجاه العناوين التي يزعمون أنهم يتحرَّكون من أجلها، وأنهم مؤسسات اُنشئت من أجلها: من أجل حقوق الإنسان، والأمن، والاستقرار العالمي... وغير ذلك، اتَّضح بشكلٍ واضحٍ جدًّا أمام هول المأساة، حتى لمن هو بليد لا يفهم، يستطيع أن يفهم؛ كذلك في التعامل في الغرب مع الصوت الإنساني في بلدانهم، في النشاط الجامعي وغيره، وسنتحدث عن هذه النقطة.
الأمم المُتَّحِدَة لم تتخذ أي خطوة عملية- عملية أكثر من مسألة تصريحات وبيانات- تجاه ما يقوم به العدو الإسرائيلي، من إبادة جماعية للشعب الفلسطيني في قطاع غزَّة، وأيضاً من إجرام وعدوان كبير في الضِّفَّة الغربية، على الشعب الفلسطيني هناك.
الأمم المُتَّحِدَة، التي سبق لها أن اعترفت بالعدو الإسرائيلي على أرض فلسطين كدولة، واعترفت به عضواً فيها، وهذه جريمة كبيرة، ووزر فظيع لم تتخلص من هذا الوزر، في الحد الأدنى كان على الأمم المُتَّحِدَة أن تسحب اعترافها بالكيان الإسرائيلي؛ لأنه اعتراف باطل- أصلاً- من الأساس، أن تسحب ذلك الاعتراف، وأن تطرد العدو الإسرائيلي لا يبقى عضواً فيها، أقل ما كان يمكن أن تعمله، أن تعمل هذه الخطوة؛ لِتُخَفِّف عن نفسها هذا الوزر، وتطرح عن نفسها هذا العار.
مجلس الأمن كذلك، بيَّن أنه ليس من حساباته أمن الشعب الفلسطيني المظلوم، أمن شعوب المنطقة: الشعوب العربية، والشعوب الإسلامية، والشعوب المستضعفة في العالم، وأنه لا يحسب إلا حساب أمن الطغاة المستكبرين في هذا العالم، والظالمين المجرمين فقط، أمنهم في مقابل أن يضطهدوا بقية الشعوب، أن يظلموها، أن يجعلوها شعوباً لا تحظى لا بأمنٍ، ولا باستقرارٍ، ولا باستقلالٍ، ولا بِحُرِّيَّةٍ، وأن تكون شعوباً مظلومةً مضطهدة، مجلس الأمن كذلك ليس له أي موقف جادّ تجاه ذلك.
المُنَظَّمات الأخرى كذلك، ليست لديها مواقف جادَّة من العدو الإسرائيلي. وهكذا الحالة مكشوفة بالنسبة لهم.
ثامناً: الموقف الحُرُّ للأحرار في العالم:
هناك بعض الدول كان لها موقف حُرّ، مثل ما هو الحال بالنسبة لـ: فِنْزويلَّا، لجنوب أفريقيا، لكولومبيا... لدول وبلدان أخرى اتَّخذت خطوات عملية، تميَّز موقفها بأنه موقف جادّ، ليس مجرَّد بيانات، أو تصريحات، اتَّخذت خطوات عملية:
قطعت علاقاتها مع العدو الإسرائيلي: على المستوى السياسي، وعلى المستوى الاقتصادي.
وكذلك بيّنت عن موقفها هذا: أنه نُصرةً للشعب الفلسطيني، وضد الإجرام الصهيوني الإسرائيلي والأمريكي.
فكانت خطواتها خطوات عملية، هناك عدَّة بلدان في العالم- من غير البلدان الإسلامية والعربية- كان موقفها بهذا المستوى: قطع للعلاقات السياسية، والعلاقات الاقتصادية، بل وتحريك القضاء للمحاكمة، محاكمة حتى أي (مجرم إسرائيلي) يتَّجه إلى بلدانهم.
فتلك البلدان، اتَّخذت حكوماتها، ورؤساؤها، والأنظمة الرسمية فيها، مواقف عملية أكثر من البلدان العربية، من الأنظمة الرسمية العربية، وأكثر من أكثر الأنظمة الإسلامية في العالم الإسلامي.
كذلك الصوت الإنساني للأحرار، وللذين بقي لديهم ضمير إنساني حتى في الشعوب الغربية، المظاهرات والأنشطة التي تحرَّكت في أمريكا، في الجامعات الأمريكية، وفي الأوساط الشعبية في أمريكا، من خلال الجاليات، ومن غير الجاليات أيضاً، وبالرغم مما واجهته من اضطهاد، وقمع، وإذلال؛ كشف حقيقة الأنظمة الغربية- بنفسها- حتى في نفس البلدان الغربية، كيف تعاملت مع هذا الصوت الإنساني، بالرغم من أنه كان في إطار النشاط الذي هو مكفولٌ في دساتيرهم وقوانينهم، يعني: مظاهرات، احتجاجات، خروج للجامعات بشكل اعتصامات، يُعَبِّرون فيه عن موقفهم، المتضامن مع الشعب الفلسطيني، يطالبون فيه بوقف الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني؛ فاتَّجهت تلك الأنظمة لتتعامل مع ذلك بكل عدوانية.
الأجهزة البوليسية تعاملت بشكلٍ قمعيٍ ومُذِّل، تعاملت مع الطلاب، مع أساتذة الجامعات الذين شاركوا في تلك الأنشطة، بطريقة عنيفة، مُذِلَّة، وظالمة، تعاملت أيضاً مع المظاهرات بشكلٍ وحشي، والمشاهد واضحة في أمريكا، المشاهد التلفزيونية التي وثَّقت تلك الممارسات القمعية والعدوانية: في أمريكا، في بريطانيا، في ألمانيا، في فرنسا... في عِدَّة بلدان أوروبية، في أستراليا أيضاً في غير أوروبا.
وهكذا كانوا مفضوحين، أنَّهم ليسوا لا حول حُرِّيَّة تعبير، ولا حقوق إنسان، ولا حقوق مكفولة للشعوب، عندما تتعلق المسألة بمعارضة الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني، والاحتجاج ضد العدوان الهمجي، الإجرامي، الوحشي، الإسرائيلي؛ بيّنت مدى سيطرة ونفوذ الصهيونية في العالم الغربي، السيطرة الرسمية لها على التَّوجُّهات والسياسات.
وحرّكوا عنوان (معادات السامية)؛ ليجعلوا منه مبرراً لقمع أي احتجاج ضد إبادة الشعب الفلسطيني، ضد الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني، فأصبحوا يسوغون كل أنواع الجرائم التي يرتكبها العدو الإسرائيلي، ويمنعون أي انتقاد لها حتى بالكلمة، ومسارهم في ذلك يزداد تشدداً، مع الإجراءات الأخيرة التي أعلنها المجرم الكافر [ترامب] ضد الجامعات، التي كان فيها أنشطة متضامنة مع مظلومية الشعب الفلسطيني، ومحتجَّة ضد الإبادة الجماعية التي يمارسها العدو الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني، إجراءات متشدِّدة، وإجراءات تهدف إلى: منع أي صوتٍ إنساني يتضامن مع هذه المظلومية للشعب الفلسطيني.
هذا فيما يتعلق بالتطوَّرات، التي هي بارزة ومتزامنة مع ما يحدث.
فيمــا يتعلـق بالوضــع الراهـــن:
العدو الإسرائيلي اتَّجه بشكلٍ مكشوف لنكث الاتِّفاق، الاتِّفاق الذي كان عليه ضمناء، والأمريكي منهم (من الضمناء) ضمين على العدو الإسرائيلي، الأمريكي شارك مع الإسرائيلي- كلاهما عدوان مجرمان ظالمان- في النكث بالاتِّفاق، والتَّنَكُّر له، والالتفاف عليه، وتجاه ضمانته، الأمريكي يُخِلّ بشكلٍ مكشوفٍ ووقح بضمانه والتزامه، ويتنكَّر لتلك الالتزامات وكأنها لا شيء؛ وهناك عِدَّة تطوُّرات فيما يتعلق بالوضع الراهن.
من المعلوم أن الاتِّفاق لوقف العدوان على غَزَّة، أتى نتيجةً للفشل الواضح للعدو الإسرائيلي، في تحقيق الأهداف المعلنة لعدوانه، فقد:
فشل في استعادة الأسرى من دون صفقة تبادل.
وفشل في إنهاء المقاومة في غَزَّة والقضاء على المجاهدين.
وفشل في إرغام الشعب الفلسطيني في غَزَّة على الاستسلام.
بالرغم من فظاعة الإجرام الهمجي، الذي لا مثيل له، والشراكة الأمريكية معه في ذلك، وبالرغم من الدور الغربي المساند، لكنه فشل.
وبناءً على ذلك، تم الاتِّفاق على وقف العدوان بصيغة واضحة، والتزامات محدَّدة وواضحة، وعلى مرحلتين، الاتِّفاق كان واضحاً، ما يتعلق منه بالشعب الفلسطيني، هي- أصلاً- استحقاقات، استحقاقات إنسانية، ومشروعة، ومكفولة في الحقوق المعترف بها عالمياً، يعني: ليست شروطاً مجحفة، أو شروطاً سياسيةً بعيدةً عن الجانب الإنساني، أو عن الحقوق المشروعة، وليست شروطاً تعجيزية، هي كما أنها التزامات ضمن اتِّفاق، هي في الأساس- ما قبل أن تكون ضمن هذا الاتِّفاق- استحقاقات إنسانية، مشروعة، مُعْتَرفٌ بها عالمياً، بأنها من الحقوق المكفولة لكل الشعوب، وهي:
إدخال المساعدات إلى قطاع غَزَّة، إدخال الغذاء، والدواء، والاحتياجات الإنسانية، والمتطلبات الضرورية لحياة الناس، وهذا شيءٌ مكفول، واستحقاق إنساني وقانوني في كل العالم، ومعترفٌ به عند كل الدول.
وقف الإبادة الجماعية، وقف العدوان والقتل ضد الشعب الفلسطيني، ومن حق الشعب الفلسطيني ذلك، العدوان عليه عدوان ظالم، وإجرامي، ووحشي، وحالة عدوان بكل ما تعنيه الكلمة.
أيضاً فيما يتعلق بانسحاب الجيش الإسرائيلي من قطاع غَزَّة، ومن المناطق التي توغّل فيها، وهذا حقٌّ مشروع للشعب الفلسطيني، ومن الحقوق المعترف بها عالمياً.
ومسألة تبادل الأسرى.
وصولاً إلى إعادة الإعمار، ضمن استحقاقات المرحلة الثانية.
فكل البنود المتعلقة بالشعب الفلسطيني في صيغة الاتِّفاق:
هي التزامات ضمن الاتِّفاق من جهة.
وهي استحقاقات إنسانية مشروعة، مكفولة للشعب الفلسطيني، معترفٌ بها عالمياً من جهة ثانية، هي حق ثابت للشعب الفلسطيني.
وحركة المقاومة الإسلامية، في سبيل إنجاح هذا الاتِّفاق، قدَّمت الكثير من التنازلات، تحت السقف الممكن والمتاح، بما لا يُفَرِّط بالقضية الفلسطينية من أساسها، أو بهذه الحقوق التي هي حقوق إنسانية، وحقوق معترفٌ بها عالمياً، من ضمن تلك التنازلات أنَّها:
قبلت أن يكون هناك إدارة فلسطينية عبر لجنة فلسطينية، إدارة مُؤَقَّتة للقطاع، حتى يتم تشكيل حكومة وحدة وطنية.
قدَّمت تنازلات أيضاً في جوانب أخرى.
كانت حريصةً جدًّا على نجاح الاتِّفاق، وأوفت بكل ما عليها في الاتِّفاق في مرحلته الأولى، يعني: التزمت بما عليها، ونفَّذته كاملاً، ضمن بنود المرحلة الأولى؛ فلم يكن هناك من جانب (حركة المقاومة الإسلامية حماس) لم يكن من جانبها أي تَنَصُّل عن بند من البنود، أو امتناع عن تنفيذه، أو تنفيذه ناقصاً دون الوفاء به؛ أوفت بشكلٍ كامل بما عليها من بنود المرحلة الأولى.
في المقابل، العدو الإسرائيلي لم يفِ بما عليه ضمن التزامات المرحلة الأولى:
لا في نوعية وكمية المساعدات الإنسانية، المُتَّفَق على دخولها في صيغة واضحة، وأرقام محددة، ضمن المرحلة الأولى إلى قطاع غَزَّة:
نَقَّص الكثير جدًّا من المواد الغذائية.
منع الكثير أيضاً من الخيام، والشعب الفلسطيني في أمسِّ الحاجة إليها في قطاع غَزَّة؛ لأنه بدون مأوى.
منع دخول الكرفانات والبيوت المتنقلة.
منع خروج العدد المُتَّفَق عليه كاملاً من الجرحى والمرضى للعلاج.
كذلك في جوانب أخرى كثيرة، التفاصيل كثيرة، وهم يتحدثون عنها عادةً في البيانات، بالنسبة للإخوة الفلسطينيين:
لم يُكْمِل انسحاباته المُتَّفَق عليها ضمن المرحلة الأولى؛ فهو مُخِلّ من جوانب متعددة.
لم يلتزم بالوقف التام لإطلاق النار، لا يزال يَقْتُل، يعتدي؛ بالطائرات المسيَّرة، بالقصف أحياناً، بالمدفعية، بإطلاق النار من جنوده المجرمين... وهكذا، اعتداءات متكررة ومستمرة، وهناك عدد كبير من الشهداء.
هذا في مقابل أن الطرف الفلسطيني أوفى بما عليه كاملاً.
ما بعد ذلك، اتَّجه العدو الإسرائيلي لِلتَّهَرُّب بشكلٍ كامل من الدخول في المرحلة الثانية من الاتِّفاق، وهي ضمن الاتِّفاق، مرحلة ثانية عليها ضمناء أيضاً، الأمريكي ضمين عليها، وشَجَّعَهُ الأمريكي على هذا التَّهَرُّب، والتَّنَصُّل، والالتفاف، والتَّنَكُّر للاتِّفاق، والنكث للاتِّفاق والالتزامات، وشارك في دعمه، وأيَّدَهُ لأن يستأنف عدوانه من جديد؛ فقام من جديد باستئناف عدوانه، بارتكاب جرائم إبادة جماعية من اليوم الأول، يعني: في يومٍ واحد (مائة وثمانين طفلاً) قتلهم العدو الإسرائيلي في قطاع غَزَّة، هذه جريمة وحشية يندى لها جبين الإنسانية، ووصمة عار على المجتمع الدولي، وعلى أمريكا نفسها، التي شَجَّعَت العدو الإسرائيلي!
الأمريكي كان واضحاً، في أنه يَتَبَنَّى بشكلٍ كامل ما يقوم به العدو الإسرائيلي:
من نكثٍ للاتِّفاق.
ومن استئناف للعدوان والإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني.
من منع لدخول المساعدات، قد مضت أسابيع كثيرة، وهو يمنع دخول الغذاء والدواء إلى الشعب الفلسطيني في قطاع غَزَّة.
الأمريكي يقول: [ما تَمَّ، هو بمشورةٍ معه، هو يدعمه كاملاً، هو يتبنَّاه، هو يُشَجِّع عليه]، المسؤولون الأمريكيون، يقولون للإسرائيليين: [أبيدوهم جميعاً]، بهذا المنطق: [أبيدوهم جميعاً]، يعني: لا مشكلة عند الأمريكي أن يباد الشعب الفلسطيني.
الأمريكي بنفسه، المجرم [ترامب] من يومه الأول يتحدث بشكلٍ واضح ومكشوف، عن مسألة تهجير الشعب الفلسطيني من قطاع غَزَّة، وهو ضامن على تنفيذ اتِّفاق، اتِّفاق واضح، بانسحاب العدو الإسرائيلي من قطاع غَزَّة، بوقف عدوانه على قطاع غَزَّة، بدخول المساعدات إلى قطاع غَزَّة؛ ثم يتنكَّر لالتزاماته بكل وضوح.
هكذا هي الهمجية والطغيان، لا وفاء لشيء، يتنكَّرون لما هو من الحقوق الإنسانية، لما يعتبر الالتزام به التزاماً إنسانياً وأخلاقياً، ويتنكَّرون لكل ذلك، يتنكرون للالتزامات التي هي بشكل اتِّفاقات مُوَقَّعة، والتزامات مُوَقَّعة مُتَّفَقٌ عليها، لا يكترثون لذلك؛ يعني: يتعاملون بهمجية، وطغيان، وإجرام، ووحشية، وليس فيهم أي مُسْتَمْسَك: لا قيم، لا أخلاق، لا إنسانية، لا قوانين، لا مواثيق... ولا أي شيء، يتنكَّرون لكل شيء.
الإسرائيلي، استناداً واعتماداً على الأمريكي، عاد للحصار، للتجويع، للإبادة الجماعية، بالقنابل الأمريكية- نفسها- يستهدف أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غَزَّة، إلى خيامهم، وفي أطلال ما قد دَمَّرَه سابقاً من منازلهم، ويُبِيدهُم بشكلٍ يومي، يقتل الأطفال والنساء، والكبار والصغار، جرائم الإبادة الجماعية من جديد، وبدون أي مُبَرِّر، ليس له أي مُبَرِّر في تَنَصُّلِه عن الاتِّفاق، يعني: لا يمكن أن نقول: أن (حركة حماس) لم تفِ بما عليها من التزامات، هي أوفت؛ لكنَّه يستمر بكل هذه العدوانية، إضافةً- كما قلنا- أنه يمنع ما هو استحقاق إنساني، إضافة إلى التزامات الاتِّفاق؛ هــذا فيمـا يتعلـق بِغَــزَّة.
في لبنـــــان أيضــــاً:
هناك اتِّفاق، والأمريكي فيه من الضمناء، والضمين الأول على الإسرائيلي، ولجنة خماسية... وغير ذلك، العدو الإسرائيلي يستمر هناك أيضاً بارتكاب خروقات جسيمة للاتِّفاق:
اعتداءات بالقصف الجوي، بالطائرات المسيّرة وغيرها، والقتل لأبناء الشعب اللبناني، ويتكرر ذلك بشكلٍ كثير، إضافةً إلى تصعيد في بعض الأيام، تصعيد بغارات كثيرة.
يحتل مراكز في الأراضي اللبنانية، لم ينسحب منها، ويخالف بذلك الاتِّفاق.
يستمر بأشكال متعددة من الاعتداءات على لبنان: يقصف بالمدفعية، يعتدي جنوده، يختطفون أحياناً... أنواع كثيرة.
فيمـــا يتعلـــق بسوريـــا:
يواصل العدو الإسرائيلي أيضاً تثبيت سيطرته على الجنوب السوري في ثلاث محافظات.
يُوَسِّع من نطاق احتلاله؛ بهدف الوصول إلى مناطق من ريف دمشق.
يستمر في غاراته- وتكون مكثفة في بعض الأيام- لتدمير قُدرات سوريا.
سيطر على (حوض اليرموك)، أهم مورد مائي في سوريا.
وكأن المسألة عادية تماماً، يعني: الموقف الدولي، الموقف العربي، الموقف من المنظمات والمؤسسات، موقف بارد جدًّا، كأن المسألة عادية، استباحة كاملة، استباحة بكل ما تعنيه الكلمة.
مع هذه الممارسات العدوانية غير المسبوقة، هناك انكشاف واضح، ومجاهرة بالأهداف المشتركة للأمريكي والإسرائيلي، يعني: هناك وضوحٌ تام في أن الأمريكي والإسرائيلي يسعيان معاً:
إلى تصفية القضية الفلسطينية، إلى إنهائها.
إلى تهجير الشعب الفلسطيني من أرضه.
إلى التَّوَسُّع في البلدان المحيطة.
وفي نفس الوقت السعي للوصول إلى أن يكون العدو الإسرائيلي مسيطراً على المنطقة بشكلٍ كامل، ما هو باحتلال مباشر، وما هو بسيطرة كاملة، والاستباحة، العدو الإسرائيلي يسعي إلى أن يُثَبِّت معادلة الاستباحة ضد هذه الشعوب، أن يكون لهم المجال مفتوحاً ليقتل من أراد، ليقصف متى أراد، في أي مكانٍ يشاء، لينهب ما يريد... ليعمل ما يشاء.
التخاذل العربي هو من العوامل المُشَجِّعَة للأعداء، فعلاً، العرب لم يتحرَّكوا رسمياً في الحد الأدنى من المواقف العملية، يعني: حتى على مستوى موقف فنزويلَّا، أو جنوب أفريقيا... أو غيرها من البلدان، لم يتحرَّكوا لا في المقاطعة السياسية، ولا الاقتصادية... ولا غير ذلك، مواقف عملية.
بل وصل بهم الحال- وللأسف الشديد- إلى أنَّهم ينتظرون الإذن من الأمريكي والإسرائيلي، في أن يُقَدِّموا الخبز، والغذاء، والدواء، للشعب الفلسطيني في غَزَّة، حتى على هذا المستوى الإنساني جدًّا، والذي هو- في نفس الوقت- مسؤولية كبيرة عليهم، يتركون الشعب الفلسطيني يَتَضَوَّر جوعاً، بمرأىً منهم، ومسمعٍ منهم، وعلمٍ منهم، لماذا؟ لأنَّه لم يأذن لهم الإسرائيلي أن يعطوه الخبز، أن يعطوه القمح، أن يعطوه المواد الغذائية، لم يأذن لهم بذلك، هم ينتظرون حتى يأذن الأمريكي والإسرائيلي في ذلك، هذا المستوى من التَّدَنِّي في موقفهم مؤسفٌ للغاية، ومُشَجِّعٌ للعدو الإسرائيلي، وللأمريكي.
العرب رسمياً، لم يراجعوا خياراتهم، وسياساتهم، التي قد ثبت قطعاً أنها غير مُجْدِيَة أصلاً؛ وإنما يُكَرِّرُونَها، يجتمعون في قِمة، يعلنون عن تَمَسُّكِهم بخيار السلام والمبادرة العربية، يعني: المبادرة السعودية القديمة، التي رفضها الإسرائيلي- أصلاً- ولم يقبل بها من وقته، مع ما فيها من التنازلات الكبيرة جدًّا، لكنَّه آنذاك رفضها، وأعلن [شارون] آنذاك رفضها بشكلٍ واضح.
العرب يعتمدون سياسة الاسترضاء للأمريكي، هذا على المستوى الرسمي، وهذه السياسة لم تُجْدِ شيئاً، البيانات لم تُجْدِ شيئاً، يُكَرِّرون المُكَرَّر، والذي قد ثبت أنه لا أثر له، ولا أهمية له، ولا نتيجة له، أصبح أشبه ما يكون بفعلٍ عبثي، تكرير ما ليس له قيمة، ما ليس له أهمية، ما ليس له أي فائدة، ولا يعطيه العدو أي اعتبار إطلاقاً، وليس له أي نتيجة إطلاقاً، أشبه ما يكون بأفعال عبثية.
هذه الخيارات لو كانت مجدية؛ لكانت قد أفادت حتى الآن فيما يتعلق بوضع سوريا، معلوم ما عليه التَّوَجُّه في سوريا، بالنسبة لتلك الجماعات المسيطرة في سوريا، هي: لا تتبنى العداء لإسرائيل، وتُصَرِّح بذلك، وتتبنى العداء لأعداء إسرائيل؛ لم ينفع ذلك، لم ينفع ذلك، هي لا ترد على ما يفعله العدو الإسرائيلي، بالرغم من جسيم ما يفعل: احتلال واسع للمناطق، قصف مُدَمِّر، قتل، جرح، وهي تسكت له عن كل ذلك؛ لم ينفع ذلك، لو كان خياراً مجدياً، لو كان التَّوَجُّه- بنفسه- الذي هو عليه توجُّهاً مفيداً؛ لكان الإسرائيلي قابله بطريقة مختلفة، وقال: [إذاً أنا سأتعامل معكم باحترام، سأنسحب مما كنت فيه من الجولان السوري]، وليس أن يُقْدِم على احتلال أراضٍ جديدة، [وسأتعامل معكم بِوُدّ، كما تتعاملون معي بِوُدٍّ واحترام]، لكنَّه قابل احترامهم بالهمجية والطغيان، قابل سكوتهم بالمزيد من الاعتداءات؛ ولـذلك خيارات غير مجدية.
السلطة الفلسطينية في الضِّفَّة كذلك، حالها معروف، الإسرائيلي يتنكَّر لكل اتِّفاقاته والتزاماته معها، معنى ذلك: أنَّها في اتِّجاه ليس مجدياً ولا مفيداً.
لـذلك ينبغي أن تشعر الأمة بمسؤوليتها، مسؤوليتها تجاه ذلك، نحن في شهر رمضان، شهر الصيام، وشهر الجهاد، وشهر التَّزَوُّدِ بالتقوى، وشهر نزول القرآن الكريم، وربيع القرآن، والأثر الذي هو معيارٌ للاستفادة من هذا الشهر المبارك هو:
زيادة الوعي والبصيرة من نور القرآن وهديه، مع الإقبال المُكَثَّف على تلاوته.
وكذلك منسوب الزيادة في التقوى، أن يزداد، أن يكون هناك زيادة في منسوب التقوى.
وكذلك في الشعور بالمسؤولية.
هذا مما ينبغي أن يكون من ثمار ونتائج وآثار شهر رمضان المبارك.
المسؤولية تجاه القضية الفلسطينية، وفي الموقف من الخطر الإسرائيلي، الذي يستهدف الأمة جميعاً، هي مسؤوليةٌ دينيةٌ على الأمة جميعاً، على الجميع، ليست على شعبٍ دون شعب، أو بلدٍ دون بلد، أو فئة دون فئة، أو مذهبٍ دون مذهب، هي مسؤولية على الجميع، وهي مسؤولية دينية، إلى جانب أنَّها مسؤولية إنسانية، ينبغي أن يقف العالم بكله معها، لكن بالنسبة للمسلمين هناك مسؤولية دينية، والتزام إيماني وأخلاقي، ومعنى ذلك: أن الالتزام تجاه هذه القضية هو جزءٌ من التزاماتنا الدينية، إلى جانب صلاتنا، وصيامنا، وأعمالنا التي هي من أعمالنا الدينية، والتي نعتبر أن الإخلال بها يترتب عليه جزاءٌ وحساب، نُسأل عنها يوم القيامة، ويجازينا الله يوم القيامة؛ لـذلك علينا أن ندرك هذه الحقيقة: أنها مسؤولية دينية، ليس التجاهل لها أمراً عادياً، أو التغاضي عنها أمراً عادياً.
العدو الإسرائيلي هو خطرٌ كبيرٌ جدًّا، على المسلمين جميعاً، خطورته عليهم شاملة، هو عدوٌ مجرم، بذلك المستوى من الإجرام والوحشية والدموية الذي تجلَّى في غَزَّة، لماذا لا يأخذ المسلمون العبرة؟ لماذا لا تترسَّخ لديهم هذه النظرة: أنه عدو بذلك المستوى من الخطورة؛ لأنه في غاية الوحشية، والإجرام، والدموية، عدوٌ يبيد الأطفال بدون أي رحمة، بدون أي ذرةٍ من الشعور الإنساني، يقتل النساء والأطفال، والكبار والصغار، بالقنابل، يُبِيدهم بكل وسائل الإبادة؛ بالتجويع، حتى بمنع وسائل التدفئة لهم؛ فيموت الأطفال، وهو يَتَلَذَّذ بذلك؟
عدو هو بذلك المستوى من الدموية والإجرام، كان يرسل الكلاب البوليسية على كبار السن والمرضى؛ لتنهشهم حتى الموت، كان يُقْدِم على الإبادة للمرضى وهم في المستشفيات، ويقوم بإعدامهم، بإطلاق الرصاص عليهم، بكل وسائل القتل والإبادة، يسفك الدماء بكل وحشية، دون أي اعتبار إنساني.
وعدوٌ طامع، لا أطمع منه، لديهم طمع رهيب جدًّا، وجشع رهيب، يسعى لاحتلال الأرض، هو يطمع في أرضكم يا أَيُّها العرب، في ثرواتكم، في بلدانكم، يسعى لاحتلال الأرض، يسعى لنهب الثروات، حتى الموارد المائية يسعى للسيطرة عليها، معروف ما يفعله الآن في سوريا، ومعروفٌ ما فعله حتى تجاه الأردن، وهو الآن يتحكَّم في مياه الشرب على الشعب الأردني، ومعلوم ما يتآمر به على العراق، وعلى مصر، في المسألة المائية بنفسها، يحاول أن يحاربكم حتى على شربة الماء، ينهب الممتلكات، ويسعى للسيطرة الكاملة على المنطقة؛ لكي يكون هو المتحكِّم بها، النافذ فيها، الذي يستبيحها ويفعل ما يشاء فيها.
يتحدث باستمرار عن التغيير لوجه الشرق الأوسط، حتى بالأمس المجرم [نتنياهو] يتحدث بهذا العنوان: التغيير لوجه الشرق الأوسط، يعني: بلدانكم أنتم، ماذا يقصد؟ هل تريدون أن ترونه يتحدث عن بلاد (واق الواق)، أو عن جزيرة وهمية في الأساطير؟! يتحدث عن بلدانكم أنتم أَيُّها العرب، وهذه الجملة واضحة في إيضاح نواياه، حينما يقول: [تغيير وجه الشرق الأوسط]، هو يواصل عمله وفق المشروع المشترك بينه وبين الأمريكي، وهو [المشروع الصهيوني]، ومشروع [إسرائيل الكبرى].
المشروع الصهيوني- للتذكير- يهــدف إلى:
أن تكون إسرائيل أكبر دولةٍ في المنطقة جغرافياً، بحيث تسيطر على الشام بكله، وأجزاء من مصر، وأجزاء من العراق، وأجزاء من السعودية، من السعودية (من الجزيرة العربية)، هذا أولاً: تكون دولة كبيرة جدًّا، أكبر دولة في المنطقة.
أن تكون بقية البلدان العربية مُقَسَّمَةً، ومجزأةً، ومبعثرةً، إلى دويلاتٍ صغيرة، على أساسٍ عرقي، وطائفي، ومناطقي، وتكون متناحرة فيما بينها، وأمة متعادية لم يبقَ لديها أَيٌّ من الروابط التي تجمعها، ولا تمتلك أي عناصر قوة تحميها من الإسرائيلي، وتكون مستباحةً له، يفعل فيها ما يشاء ويريد: يضع له قواعد عسكرية في أي منطقة يختارها، ويرى فيها أنها تناسبه استراتيجياً لقاعدة عسكرية، ينهب أي ثروة: سواءً نفطية، أو غيرها من المعادن، أو الثروات الوطنية في أي بلد، ويكون له ذلك، ولا يعترض عليه أحد، ولا يمنعه أحد، ويكون له أيضاً أن يستفيد من الثروة البشرية؛ لِيُجَنِّد من أراد لضرب من أراد.
أن تتحول واقع أمتنا إلى هكذا: منطقة مبعثرة في دويلات صغيرة، لا تمتلك أي عناصر قوة تحميها منه، وأن تكون مستباحةً له وللأمريكي:
مستباحةً في الدم: أن تكون هذه الأمة مستباحة في دمها للإسرائيلي، يقتل من يشاء منها دون رد فعل، دون رد فعل، ويقتل كم ما أراد، يعني: من أراد، وبالمقدار الذي يريد، حتى لو ارتكب إبادة جماعية هنا أو هناك، لا أحد يعترض، ولا أحد يتكلم.
ومستباحةً في العرض: لاغتصاب النساء، وهذه من الجرائم التي يمارسها العدو الإسرائيلي؛ ولاغتصاب الرجال، وهذه أيضاً من الجرائم التي يفعلها، ويرتكبها، ويتباهى بها، وينشر الفيديوهات لها حتى من سجونه.
ومستباحة المال والأرض: مستباحة الثروة، النهب، يريدها أن تكون على هذا النحو.
وأن تكون خاضعةً لأمره: يقرِّر ما يشاء فيها ويريد، في أي مجال من المجالات: يتدخل في شؤونها السياسية، يُعَيِّن هو مسؤولين أو حكاماً، يتدخل في مختلف شؤونها: في مناهجها الدراسية، في شؤونها الثقافية... وغير ذلك.
في المشروع الصهيوني السيطرة على المقدسات: هذا جزءٌ من المشروع الصهيوني اليهودي العدواني، المُقَدَّسات فيها: القدس، المسجد الأقصى، فيها مكة والمدينة... وغيرها من المقدسات.
وتغيير هوية الأمة، وإعادة صياغة الإسلام، بطريقة محرَّفة يُدَجِّن الناس، يُدَجِّن شعوب هذه المنطقة للإسرائيلي والأمريكي، ولا يبقى للإسلام أي أثر في النفوس والحياة؛ لأن الإسرائيلي في مشروعه الصهيوني والأمريكي، يعملان على أن يُفَرِّغان أبناء هذه الأمة من المحتوى الإنساني، لا يريدان لك أن تبقى إنساناً بإنسانيتك، بضميرك الإنساني، بشرفك الإنساني، بِعِزَّتك، بكرامتك؛ يريدان أن يحوِّلان هذا الإنسان العربي، إلى شبه إنسان، شبه إنسان، صورته صورة إنسان؛ لكنَّه فُرِّغ من محتواه الإنسان؛ فلم يبقى حُرّاً، ولا شريفاً، ولا عزيزاً، ولا كريماً، ولا غيوراً؛ يتحوَّل إلى إنسان مائع، فاسد، ضال، يعبئانه- فرمتة بعد الفرمتة- يعبئانه فكرياً وثقافياً بما يُدَجِّنه للأمريكي والإسرائيلي، يتحوَّل إلى مطيع لهم، ومتولٍ لهم، وخانعٍ لهم، وذليلٍ لهم، ومستسلمٍ لهم، وعبدٍ لهم، هذا كارثة بكل المقاييس!
يحاولان الإضلال، والإفساد، والتمييع للشعوب، حتى للشباب، يريدان للشباب هذه الأمة أن يتحوَّلوا إلى: صائعين، مائعين، تافهين، فاسدين، مجرمين، مدمني مخدرات... ضائعين بكل ما تعنيه الكلمة؛ وأن يُضَيِّعا من هذه الأمة كل القيم والمبادئ التي تصون هذه الأمة، تحفظ للإنسان كرامته، وعِزَّتَه، وشرفه الإنساني.
المشروع الصهيوني هو كارثي على الأمة، هو هكذا بهذه العدوانية، بهذا السوء الذي تخسر معه الأمة دينها ودنياها، إنسانيتها، وعروبتها... وكل شيء، هو كارثي على الأمة، هو مشروع حقيقي، يعني: ليس كلاماً بادَّعاءات على الإسرائيلي، دعايات عليه، لا، هذا هو مشروع موجودٌ لديه: في فكره، في ثقافته، في مناهجه التعليمية، في خططه؛ موجودٌ في أنشطته، ويبني عليه مؤامراته.
لـذلك يجب أن تتحرَّك الأمة لمواجهة هذا المشروع الوحشي، الإجرامي، التدميري، الكارثي، العدواني، بمشروعٍ صحيح، مشروعٍ عملي صحيح وجادّ؛ لأن نجاح المشروع الصهيوني متوقف على خنوع هذه الأمة، على تَقَبُّل هذه الأمة لهذا المشروع، الذي هو كارثيٌ عليها، ويجلب عليها حتى سخط الله.
لو رضيت هذه الأمة بكل ذلك: أن تكون أمةً مستباحة للإسرائيلي، بإجرامه، بوحشيته، بعدوانه، قبلت بالاغتصاب، قبلت بنهب الثروات، قبلت بالإذلال، قبلت بالإبادة، قبلت بكل هذا السوء، الذي لا ينبغي أن يقبله أي إنسان بقي فيه ذرة من إنسانيته، وشرفه الإنساني، وجوهره الإنساني؛ لو قبلت بذلك، ليس ذلك مفيداً لها؛ تجلب على نفسها سخط الله، وغضب الله، وعذاب الله، ولعنة الله، وجهنم في الآخرة، وجهنم في الآخرة، المسألة خطيرة جدًّا على هذه الأمة.
الأمة يجب عليها أن تتحرَّك، ولديها كل مقومات التحرُّك، ليس هناك أي مُبَرِّر إطلاقاً للأمة لتقبل بالمشروع الصهيوني الإسرائيلي الأمريكي، ليس لديها أي مُبَرِّر، لماذا تقبل بذلك؟ هل تحاشيا من ماذا؟ تحاشياً من خطر؟ هذا هو الخطر بكله، قبولها بالمشروع الصهيوني الإسرائيلي الأمريكي هو أكبر خطر عليها، في حياتها، ودينها، ودنياها... في كل شيء، فما هو المُبَرِّر؟ لا يوجد أي مُبَرِّر.
هذه أمة لديها كل المقومات، التي تساعدها على أن تتصدَّى لهذا المشروع، وأن تفشله، وأن تبطله، ولديها السند العظيم هو: الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، إذا نهضت بمسؤوليتها، وفق توجيهات الله وتعليماته؛ فهي ستنتصر، وتؤدي حتى دورها العالمي، في إنقاذ بقية الشعوب والمجتمعات، من الخطر اليهودي الصهيوني، الذي هو خطرٌ على الإنسانية بكلها، هذه الأمة لديها الثروة، لديها الجغرافي، لديها المجتمع البشري، لديها الثروة البشرية، هي مجتمع كبير، أمة كبيرة عظيمة، على المستوى العربي: (مئات الملايين)، على المستوى الإسلامي العالمي: (أكثر من ملياري مسلم)؛ فلماذا يقبلون بهذا المشروع العدواني؟
لدى هذه الأمة كل المقومات كأمة كبيرة، تساعدها على إفشال ذلك المشروع، وأن تكون في الموقف القوي؛ لإفشاله وإبطاله: الجغرافيا، الثروة البشرية، لديها الهدى والنور (القرآن الكريم)، الهدى والنور والبصائر، الذي يساعدها على أن تكون في رؤيتها، وفي خطتها العملية، وفي تُحَرِّكُها، قائمةً ومتحركةً على أساس بصيرة ووعي، وفهم صحيح، وقرارات صحيحة، وخيارات صحيحة مجدية، نافعة لهذه الأمة، تصلها بالله، بتأييده، بمعونته، وتفيدها على أرض الواقع.
لـذلك الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" قال عن القرآن الكريم: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}[الإسراء:9]، وفعلاً الخيارات الأقوم، المواقف الأقوم، التَّوجُّهات الأقوم، التي يستقيم بها حال الأمة، وفي كل شيء.
لـذلك فتحرُّكنا في مسيرتنا القرآنية المباركة هو في إطار مسؤوليتنا الدينية، وشعبنا (يمن الإيمان والحكمة)، الذي قال عنه رسول الله "صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ": ((الْإِيْمَانُ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَّة))، انطلق أيضاً من منطلق انتمائه الإيماني، وهويته الإيمانية، بوعيٍ وبصيرةٍ، وإدراكٍ لضرورة هذا الموقف، ضد ذلك الخطر، ضد ذلك العدو المجرم، المتوحِّش، المستهتر بالدماء.
تحرُّكنا في مسيرتنا، وتحرُّك شعبنا العزيز، في إطار الاهتداء بالقرآن الكريم، في إطار الوعي والبصيرة تجاه الخيارات الصحيحة:
الله كشف لنا في القرآن الكريم خطر أعدائنا، وماذا يريدون، وكيف هم، وكيف سوؤهم: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ}[المائدة:82]، {وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ}[النساء:44]، {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ}[آل عمران:118]، {وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ}[آل عمران:119]، كم في القرآن الكريم من آيات! التي تكشف حقدهم، عداوتهم، سوأهم، إجرامهم، نفسياتهم، يُقَدِّم تشخيصاً كاملاً عنهم، ويرسم لنا الطريق الصحيح للتصدِّي لهم، والواقع كله مصاديق تشهد لما ورد عنهم في القرآن الكريم، كله حقائق جَلِيَّة بما ذكره الله عنهم في القرآن الكريم.
كشف لنا عن تحالف فريق الشَّرّ من أهل الكتاب (من اليهود والنصارى)، وقال عنهم: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}[المائدة:51]، وها نحن نرى أمريكا وإسرائيل وجهان لعملة واحدة، وكلهما يتحرَّك في أطار المشروع الصهيوني، ويؤمن به.
حرَّم الله تولِّيهم (الموالاة لهم) أشدَّ التحريم، إلى درجة أن يقول: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}[المائدة:51].
بَيَّن أن ذلك يُفْضِي إلى الارتداد عن مبادئ الدين وقيمه، وعن تعاليم الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، وفعلاً الموالاة لهم ثمنها التراجع عن مبادئ من أهم مبادئ هذا الدين، التخلِّي عن قيم من أهم قيم هذا الدين، التَّنكُّر لتعليمات الله تعالى.
رسم لنا برنامجاً كاملاً في (سورة آل عمران)، وفي (سورة المائدة)، للانتصار عليهم: وفي هذا المسار المهم، والبرنامج العظيم، بيَّن لنا أهم الخطوات والتفاصيل المتعلقة بها، وهي:
التولِّي لله تعالى، وامتداد ولايته إلى واقعنا.
والاعتصام به "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى": {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[آل عمران:101]، وبحبله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}[آل عمران:103].
والسير على هديه وتعليماته.
والتقوى لله في الالتزام الإيماني، والالتزام في النهوض بمسؤولياتنا المقدَّسة: في الجهاد في سبيل الله تعالى بكل وسيلةٍ من وسائل الجهاد، في كل مجالات الجهاد، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كأمة تتحرَّك جماعياً، وتحذر التفرُّق والاختلاف في داخلها.
فالله تعالى سيتولَّى النصر لها، وستكون غالبةً بنصره وتأييده.
الأمة في هذه المرحلة بحاجة إلى الله تعالى، وإلى معونته، ونصره، وهدايته، وبحاجة إلى القيم والأخلاق، في مواجهة عدوٍ مفسدٍ مُضِلٍّ، يسعى للإضلال، للإفساد، تحتاج الأمة أن تكون مُحَصَّنةً عنه من ذلك، مُجْرِم، يعمل امتداداً للشيطان، يسعى بكل الوسائل إلى تجريد الأمة من كل عناصر قوتها، وفي مقدِّمتها: عناصر القوة المعنوية، والجانب المعنوي؛ لأنه يريد أن يسلب إرادتها، ويريد أن يُفَرِّغها من محتواها الإنساني والإيمان؛ ليسهل له السيطرة التامة عليها، ثم بعد ذلك إبادتها.
الأمريكي جرَّب، والغرب جرَّب، الإبادة لشعوب بأكملها في القارة الأمريكية، لم تكن تلك الشعوب تمتلك ما لدى المسلمين، من قيم، من مبادئ، تُرَسِّخ هذا التَّوَجُّه التَّحَرُّري والإيماني، وتصلها بالله؛ ولـذلك أبادوا، يعني: في بعض الإحصائيات أن تلك الشعوب تُقَدَّر بـ(مائة مليون إنسان أُبيدت)، أبادها الأوروبيون في القارة الأمريكية، وهم يريدون تكرار هذه التجربة في بلداننا، لكن العائق أمامهم هو الإسلام.
الإسلام هو الذي جعل الشعب الفلسطيني في ذلك المستوى من التماسك والثبات، جعل أهل غَزَّة في ذلك المستوى من الصمود، والصبر، والثبات؛ فيريدون أن يُفَرِّغُونا من المحتوى الإنساني والإيماني؛ ليبيدونا فيما بعد ذلك، بعد أن نكون أمة مائعة، تائهة، ضائعة، بكل سهولة.
نجاح العدو في فصل التَّوَجُّه في الموقف عن المبادئ، والقيم، والأخلاق الدينية، هو الذي يصنع له الكثير من العملاء؛ فتتحول الخيانة، والعمالة، والتعاون مع العدو الإسرائيلي والأمريكي، إلى وجهة نظر وخيار سياسي؛ لأن المسألة فُصِلت عن الالتزامات الإيمانية والدينية، عن القيم والأخلاق والجانب الإنساني، وهذا ما يرغب به المنافقون من أبناء هذه الأمة؛ لِيُسَهِّلوا لأنفسهم المسألة.
إن من نعمة الله تعالى هو التوفيق لأن نكون في الموقف الصحيح ضد ذلك العدو:
هذا مهم لإنسانيتنا؛ لنبقى فعلاً بشراً، ويبقى الإنسان إنساناً؛ ولشرفنا، ولقيمنا، ولأخلاقنا، من نعمة الله أن نكون ضد العدو الإسرائيلي، ضد إجرامه، ضد وحشيته، ضد سوئه، ضد طغيانه؛ وكذلك الأمريكي معه.
مهمٌ أيضاً لعِزَّتنا الإيمانية، لرشدنا، لبصيرتنا، لحكمتنا.
ومهمٌ أيضاً لأنه الخيار الصحيح في الواقع، الذي له نتيجة تبني الأمة، وتحمي الأمة، وتحمي شرفها.
أمَّا التضحية في هذا السبيل، فهي أقل بكثير من كلفة الخيارات الأخرى، في الخيانة والاستسلام، الاستسلام والخيانة كلاهما يمكنان العدو، ثم يفعل ما هو أكثر من الإبادة العامة للأمة.
لـذلك الخيار الإيماني هو خيارٌ صحيح، يُعَبِّر عن الثقة بالله تعالى، خيارٌ فعَّال له أفُقٌ حقيقي، وعليه ضمانة من الله تعالى، عليه ضمانة، الضمين لنا في هذا الخيار الذي نحن فيه هو من؟ هو الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، ونحن نثق به، ونثق بوعده، فالعدو الإسرائيلي مهما بلغ إجرامه وطغيانه، مهما كان حجم الدعم الأمريكي له والغربي؛ هو إلى الزوال، هذا وعد الله المحتوم، وأتى مقروناً حتى بخبر تمكُّنه، حينما قال الله: {لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا}[الإسراء:4]، أتى أيضاً بخبر نهايتهم وزوالهم، على يد عبادٍ لله أولي بأسٍ شديد، عُلُو العدو الإسرائيلي هو إفساد، إفساد في الأرض غير قابل للبقاء، تكبر وظلم وإجرام غير قابل للبقاء، الله يقول: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا}[الإسراء:7]، هو القائل: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا}[الإسراء:8]، فالله يعود، يعود لقلع فسادهم.
العدو الإسرائيلي هو كيانٌ مجرمٌ فاسد، موبوء، مُصَدِّرٌ لِلشَّرّ ومفسد، وواقعه عند هزَّة (طوفان الأقصى) وما قبلها يكشف ما هو عليه من الاهتزاز، ليس له جذور ثابتة، لديه هاجس النهاية بشكلٍ دائم، وبشكلٍ مستمر؛ ولـذلك هو يعتمد على العدوان، والإجرام، والإبادة، والشَّرّ كأساس لبقائه مُؤَقَّتاً، وهو يدرك أن بقاءه ليس سوى بقاء مُؤَقَّت، يعتمد على تخاذل الأمة، وعلى الدعم الغربي، لا يمتلك مقومات ذاتية للبقاء، هو في حالة احتلال ونهب، يعرف أنه على أرض غيره، وفي غير بلده؛ ولـذلك فالموقف الصحيح هو نعمة وشرف، ويجب الثبات عليه.
فيمــا يتعلــق بالعــدوان الأمريــكي على بلدنـــا:
هو عدوانٌ واضح، ليس له أي مبرر؛ لأن المنطق الأمريكي أحياناً يُسَمِّي عدوانه على بلدنا بـ[الدفاع]، أيُّ دفاع؟ متى اعتدينا على الأمريكي؟ الأمريكي هو الذي ابتدأ عدوانه علينا:
أولاً: خلال (معركة طوفان الأقصى)، قام هو بالابتداء بالعدوان علينا؛ إسناداً منه للعدو الإسرائيلي، كان موقفنا واضحاً وحصرياً ضد العدو الإسرائيلي، فقام هو بالعدوان علينا؛ ثم نحن نَتَصَدَّى لعدوانه ونرد عليه.
وفي هذه المَرَّة، أعلن عن جولة تصعيدية في العدوان علينا من جديد، وابتدأنا بعدوانه؛ ونحن نرد عليه ونتصدَّى لعدوانه.
فهو في موقف عدواني، ليس له أي مستند، لا قانوني، حتى في القوانين الأمريكية والدستور الأمريكي هو مخالفٌ له، مخالفٌ أيضاً للإنسانية، للضمير، هو في حالة عدوان؛ إسناداً منه للعدو الإسرائيلي.
عدوانه علينا؛ بهدف التأثير على موقفنا، وموقف شعبنا، وهذا هو المستحيل، عدوانه علينا مهما كان، مهما بلغ؛ لن يؤثِّر أبداً على موقفنا، ولن يُغَيِّر من موقفنا، ولا من موقف شعبنا العزيز، ولن يكسر إرادة شعبنا، ولن يؤثِّر على قدراتنا؛ بل سيسهم- كما أَكَّدْتُ ذلك- في تطويرها أكثر وأكثر، وهناك بشارات قادمة في هذا الأمر.
بحمد الله، بقوة الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، بعونه ونصره، هناك تصدٍ قوي للعدوان الأمريكي، واستهداف مستمر لقطعه البحرية في البحر، وهي تهرب باستمرار إلى أقصى شمال البحر الأحمر، وإعلانه عن استقدام حاملة طائرات أخرى هو يُثْبِت فشله، وعدم نجاحه؛ لأنه يقول: أن عدوانه ناجح؛ هو غير ناجح أصلاً.
فيمــا يتعلـق بيـوم الصمـــود الوطنــي:
أتى هذا العام على مقربة من مناسبة (يوم القدس العالمي)؛ ولأن الموضوع مترابط- العدوان على بلدنا؛ لموقفه مع القدس، مع فلسطين- بقي الخروج الشعبي لـ(يوم القدس)؛ حتى لا يكون هناك خروج قريب في يوم، ولفارق يوم آخر، ثم خروج في يومٍ ثالث.
وفيما يتعلق بهذا الموضوع، أنا أكتفي بكلمة الأخ الرئيس "حَفِظَهُ اللَّه"، قد ضَمَّنها ما يكفي ويفي بشأن هذا الموضوع.
العدوان على بلدنا من بدايته هو أمريكي، أُعْلِن آنذاك من واشنطن، وكان بأدوات إقليمية، والهدف منه: خدمة إسرائيل؛ ولـذلك نصيحتنا لتلك القوى الإقليمية: أن تحذر من التوريط الأمريكي لها، وأن تدرك أن هَمَّ الأمريكي هو الاستغلال لها، ولا يريد إلا السعي لتمكين الإسرائيلي.
في الختــــام، نُؤَكِّد على الثبات على موقفنا المناصر للشعب الفلسطيني، وإسناد غَزَّة، والسعي لتحرير فلسطين كُلِّ فلسطين، واستعادة المُقَدَّسات، وعلى رأسها (المسجد الأقصى الشريف).
أدعو شعبنا العزيز إلى الخروج المليوني العظيم، في (يوم القدس العالمي)، عصر غد الجمعة إن شاء الله، في العاصمة صنعاء، وفي بقية المحافظات.
هذا الخروج في هذه المرحلة، في هذا التوقيت، في طار الموقف العظيم لشعبنا العزيز، هو جزءٌ من الجهاد في سبيل الله تعالى.
شعبنا العزيز، هذا الخروج هو من أعظم ما تتقرَّبون به إلى الله في شهر الصيام، في هذا الشهر الكريم، هذا الخروج يُعَبِّر عن وفائكم، عن ثباتكم، عن شجاعتكم، وهو غيظٌ وقهرٌ للأعداء الأمريكان والصهاينة.
آمل- إن شاء الله- أن يكون الخروج واسعاً، وكبيراً، وعظيماً، كما هو المعتاد منكم، يا من تكثرون تحت الرايات، أنتم الأنصار، كما كان آباءكم وأجدادكم الذين حملوا راية الإسلام في مواجهة التحديات.
أَسْألُ اللَّهَ "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهْدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.
وَالسَّـلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛