ترامب ومسمار جديد في نعش حرية الإعلام
تاريخ النشر: 25th, March 2025 GMT
لا يكف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن مفاجأة العالم بسلسلة من السياسات والأوامر التنفيذية التي تستهدف، بشكل مباشر وغير مباشر، تقليص الحريات بشكل عام وحرية الإعلام على وجه الخصوص الذي ظلت الولايات المتحدة تتباهى به لسنوات طويلة. في أحدث حلقات مسلسل انقلابه الناعم على الإعلام، وجّه ترامب منذ أيام قليلة ضربة جديدة إلى حرية الإنترنت العالمي من خلال قراره بوقف تمويل صندوق التكنولوجيا المفتوحة، وهو القرار الذي وصفه مراقبون ومشرّعون أمريكيون ومنظمات حقوقية وإعلامية بأنه مقلق، وخطير، وسوف يكون له تداعيات سلبية واسعة على حرية التعبير في العالم كله، خاصة في دول مثل الصين، وروسيا، ويمثل مسمارا جديدا يدقه ترامب بعنف في نعش حرية الإعلام.
صندوق التكنولوجيا المفتوحة الذي ضربه ترامب في مقتل، كان قد أنشئ في عام 2012 لكي يكون حائط صد أمام محاولات الأنظمة القمعية في حجب الإنترنت داخل دولها والسيطرة على تدفق المعلومات، وقد لعب الصندوق دورًا محوريًا في دعم أدوات تتيح للشعوب في هذه الدول اختراق «جدران الحماية الرقمية» وتجاوز الحظر الذي تفرضه الحكومات على مواقع ومنصات التواصل الاجتماعي، وكان بمثابة «شريان حياة للنشطاء والصحفيين والمواطنين في أماكن مثل الصين وروسيا وكوبا وفنزويلا وميانمار، وغيرها، وجاء قرار ترامب ليقطع هذا الشريان الذي كان يربط الولايات المتحدة بتقاليدها الراسخة وخطابها التاريخي التقليدي حول حرية التعبير وحرية الصحافة.
إذا أضفنا قرار ترامب سحب تمويل هذا الصندوق، إلى سياساته الرامية إلى تقييد صلاحيات الوكالة الأمريكية للإعلام العالمي، المسؤولة عن وسائل ومنصات الإعلام الأمريكية الموجهة للخارج، يمكن القول إن الولايات المتحدة قد تخلت عن أبرز أدواتها في دعم الحريات عالميا، وهو ما يضعف دورها الأخلاقي والدبلوماسي، ويمنح الأنظمة الاستبدادية فرصة سانحة لتضييق الخناق على شعوبها.
لم يكتفِ ترامب بمحاربة حرية الإنترنت، بل واصل هجماته المتكررة على الإعلام، المحلي والدولي، انطلاقا من قناعته الراسخة بأن الإعلام المعارض عدو للشعب. منذ توليه الرئاسة في الفترة الأولى وحتى اليوم، تبدو معارك ترامب مع الصحافة شرسة، مليئة بالتشكيك والتخوين والإقصاء. ومؤخرًا، تصاعدت حدة هذه المعركة مع محاولاته تحجيم المؤسسات الإعلامية الأمريكية المستقلة والتضييق على وكالات إعلامية دولية، مما يشير إلى استراتيجية واضحة تسعى إلى إسكات كل صوت لا يتماشى مع رؤيته الخاصة للعالم.
ضمن حربه المستمرة على الإعلام، لم يكتفِ ترامب بمعاداة الصحافة الأمريكية المحلية ووصفها بـ«عدو الشعب»، وامتدت عداوته إلى المؤسسات الإعلامية الأمريكية الموجهة للعالم الخارجي، وعلى رأسها الوكالة الأمريكية للإعلام العالمي، التي تمثل الذراع الإعلامية للدبلوماسية الأمريكية.
هذه الوكالة التي يعود تاريخها إلى عام 1942 عندما تأسست إذاعة صوت أمريكا خلال الحرب العالمية الثانية، وكانت أول وسيلة إعلام أمريكية موجهة للجمهور الدولي، هي الهيئة الفيدرالية التي تشرف على جميع وسائل الإعلام الدولية الممولة من الحكومة الأمريكية، وتُعتبر الذراع الإعلامية للدبلوماسية الأمريكية، وتلعب دورًا محوريًا في تصدير «الرواية الأمريكية» الرسمية في الأحداث العالمية إلى الجماهير في معظم مناطق العالم، ويُنظر لها على أنها أداة للقوة الناعمة للولايات المتحدة، تُستخدم لتعزيز الديمقراطية وحرية التعبير حول العالم.
ويتذكر الجمهور العربي جيدًا أبرز وسائل الإعلام التي تديرها الوكالة، وأهمها إذاعة صوت أمريكا التي تنقل الأخبار والمعلومات بـ40 لغة مختلفة، وتعد واحدة من أقدم وأكثر وسائل الإعلام تأثيرًا في الوكالة، وإذاعة سوا التي تأسست في عام 2002، كبديل لـ«صوت أمريكا» باللغة العربية، وقناة الحرة بهدف مخاطبة الجمهور العربي، وإذاعة أوروبا الحرة الذي يركّز على دول أوروبا الشرقية، وآسيا الوسطى، والشرق الأوسط، بالإضافة إلى إذاعة آسيا الحرة الذي يستهدف الصين، وكوريا الشمالية، وفيتنام، وغيرها من الدول الآسيوية، و«إذاعة وتلفزيون مارتي»، الموجّه إلى الجمهور الكوبي. وبسبب أوامر ترامب التنفيذية الأخيرة تقليص البيروقراطية الحكومية، و«إعادة هيكلة» المؤسسات الفيدرالية، أصبحت الوكالة في مهب الريح، خاصة مع توقعات تقليص التمويل، وتسريح الموظفين.
الخطير في الأمر أن إدارة ترامب قوّضت حرية الإعلام الخارجي الأمريكي، الذي كان يتمتع تقليديًا بهامش من الاستقلال عن السلطة التنفيذية، لضمان مصداقيته. هذا الاستقلال كان سببًا في نجاح هذه المؤسسات على مدى عقود، حيث كانت مصدرًا مهما من مصادر المعلومات للملايين خاصة في الدول القمعية، لكن ترامب عمل على تحويل هذه المنصات إلى أدوات دعاية للبيت الأبيض، وهو ما أثار استياء الصحفيين العاملين فيها، لضياع دور أمريكا كمدافع عن حرية التعبير والصحافة.
ما فعله ترامب بالإعلام الخارجي الأمريكي لا يمكن وصفه إلا بأنه انقلاب ناعم على الدور التاريخي لهذه المؤسسات، التي لطالما اعتُبرت واحدة من أدوات «القوة الناعمة» الأمريكية. ففي الوقت الذي تتوسع فيه الصين وروسيا في بثّ دعاياتها الموجهة عبر شبكات إعلامية ضخمة، كان يُنتظر من واشنطن تعزيز صوتها الحر، لا أن تسكته. ولكن إدارة ترامب، بدلًا من ذلك تقوم بخنقه من الداخل، عبر قرارات بيروقراطية لها هدف سياسي واضح، وهي إسكات كل صوت لا يخضع للرقابة.
في اعتقادي أن هذا النهج الأمريكي الجديد، الذي يقوّض حرية الإعلام من الداخل باسم «إعادة التنظيم» لا يختلف كثيرًا -في الجوهر- عن الممارسات التي طالما انتقدتها الولايات المتحدة في الدول الاستبدادية. وهنا يكمن التناقض المتمثل في إصدار قرارات تشبه في منطقها تلك التي استخدمتها الأنظمة الديكتاتورية وما زالت في الشرق والغرب لقمع الصحافة.
قد يتساءل البعض: ما علاقتنا -كعرب- بكل ذلك؟ الإجابة: إن السياسات الأمريكية، خاصة تلك المتعلقة بالإعلام والإنترنت، لا تقف عند حدود واشنطن، لكونها يمكن أن تُشكّل مناخًا دوليًا عامًا يمنح الحصانة للأنظمة القمعية لتوسيع سلطاتها وتقنين قمعها. فإذا كانت واشنطن تُغلق برامج تدعم حرية الإنترنت، فماذا ننتظر من دول لا تؤمن أنظمتها من الأصل بحرية التعبير كقيمة وحق إنساني؟
المشكلة التي نواجهها أن الدول العربية تعتمد بشكل مباشر على البنية التحتية الرقمية والتمويلات والبرامج الأمريكية في مجالات التكنولوجيا والإعلام، وبالتالي فإن وقف البرامج الأمريكية التي تمكن المواطنين من تجاوز حظر الحكومات للإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، من شأنه أن يترك فراغًا يمكن أن يُستغل بسهولة من قبل السلطات لفرض مزيد من القيود على المواطنين، بدعوى «مكافحة الإرهاب» أو «حماية الأمن القومي»، وهي المصطلحات التي تحولت في كثير من الحالات إلى ذرائع للقمع السياسي.
في مواجهة انقلاب ترامب على الحريات، يجب على العرب -حكومات ومجتمعًا مدنيًا- أن يبادروا بوضع سياسات جديدة كفيلة بخفض مستوى التبعية للولايات المتحدة التي لم تعد مأمونة الجانب، خاصة فيما يتعلق بالتكنولوجيا الرقمية والتحكم فيها وتوجيهها لما يخدم مصالحها فقط، من الضروري أن يبدأ العرب في الاستثمار في بدائل محلية حرة وآمنة، ودعم مشروعات مستقلة تؤمن بحرية الإنترنت وتحمي المستخدمين من الرقابة.
إن قرارات ترامب، من وجهة نظري، ليست مجرد نزوات شخصية، بل تعكس تحولًا خطيرًا في أولويات السياسات الأمريكية، تتحول من خلالها الولايات المتحدة من دولة تتغنى بالحريات إلى دولة تسعى إلى إغلاق كل منافذ التعبير أمام الكلمة الحرة والفكر المستقل، وهو ما يضعنا ويضع العالم أمام مفترق طرق. وعلى هذا فإن العرب مطالبون بأن يقرروا: هل ننتظر حتى يُغلق علينا الصديق الأمريكي أبواب الفضاء الرقمي الواحد تلو الآخر؟ أم نبدأ الآن ببناء شبكات بديلة تحمي حرية التعبير؟
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الولایات المتحدة حریة الإنترنت حریة التعبیر حریة الإعلام
إقرأ أيضاً:
جوتيريش يطرح عدة طرق للتغلب على التهديدات التي تواجه التعددية في العالم
طرح الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش، عدة طرق في أربع مجالات للتغلب على التهديدات التي تواجه التعددية في العالم، باعتبار التغلب عليها محركا وقوة دافعة لميثاق المستقبل، في ظل صراعات مميتة تضاعف وتعمق خسائر بشرية فادحة، وتنتشر عدوى الإفلات من العقاب، ويتزايد الفقر والجوع وعدم المساواة، فيما تتفوق ثروة حفنة من الرجال على ثروة نصف البشرية.
وبحسب مركز إعلام الأمم المتحدة، عدَّد جوتيريش أربعة مجالات يمكن من خلالها التغلب على تهديدات اليوم من خلال الوقوف صفا واحدا وصياغة حلول مشتركة، أولها:يجب أن نجد حلولا مشتركة للسلام في عالمنا المجزأ، مضيفا أن السلام شحيح في جميع أنحاء العالم.
وأشار جوتيريش، إلى عدد من الصراعات بما فيها غزة، حيث قال إنه منذ الهجمات في 7 أكتوبر، أطلقت العمليات العسكرية الإسرائيلية التي تلت ذلك، العنان لمستوٍ غير مسبوق من الموت والدمار، وعبر عن شعوره بالغضب إزاء الهجمات الإسرائيلية على غزة هذا الأسبوع، والتي أودت بحياة المئات.
وجدد جوتيريش، التعبير عن الحزن العميق والصدمة البالغة إزاء مقتل أحد موظفي الأمم المتحدة وإصابة خمسة آخرين عندما تعرضت دارا ضيافة تابعتان للأمم المتحدة في دير البلح للقصف، مضيفا أنه من المروع أن يُقتل خمسة آخرون من موظفي وكالة الأونروا هذا الأسبوع، ليصل عدد القتلى من موظفي الأمم المتحدة إلى 284 شخصا.
وقال جوتيريش: «أتاح وقف إطلاق النار أخيرا قدرا من الارتياح لتخفيف المعاناة المروعة للفلسطينيين في غزة، والارتياح للعائلات الإسرائيلية التي رحبت أخيرا بالرهائن العائدين إلى ديارهم بعد أكثر من عام من المعاناة واليأس، ودعا بشدة إلى استعادة وقف إطلاق النار، وإعادة إدخال المساعدات الإنسانية دون عوائق، وإطلاق سراح الرهائن المتبقين فورا ودون قيد أو شرط».
وتابع: «بالإضافة إلى إنهاء هذه الحرب الرهيبة، يتعين علينا إرساء أسس السلام الدائم من خلال خطوات فورية لا رجعة فيها نحو حل الدولتين حيث تعيش إسرائيل وفلسطين جنبا إلى جنب في سلام وأمن، بما يتماشى مع القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة».
وشدد جوتيريش، على أنه يتعين على الأطراف المتحاربة اتخاذ إجراءات فورية لحماية المدنيين، ودعم حقوق الإنسان، وإحلال السلام، والسماح لآليات رصد حقوق الإنسان والتحقيق المحلية والدولية بتوثيق ما يحدث على أرض الواقع، وأشار إلى أن "المُثل الأوروبية تعد تذكيرا قويا بمسؤوليتنا المشتركة تجاه أكثر شعوب العالم ضعفا، ودليلا على أن الانعزالية وهم، وليست حلا أبدا.
أوضح جوتيريش، أن ثاني المجالات أنه يمكن التغلب على التهديدات التي تواجه التعددية من خلال إيجاد حلول مشتركة للحد من أوجه عدم المساواة وضمان العدالة المالية للجميع، وأشار إلى ما تضمنه مـيثاق المستقبل من دعوة لتحفيز اقتصادي شامل لمساعدة الدول على الاستثمار في أهداف التنمية المستدامة.
أما ثالث المجالات التي دعا جوتيريش للتركيز عليها، فهى تعزيز التعددية في المستقبل من خلال إيجاد حلول مشتركة للعمل المناخي قبل فوات الأوان، مشددا على أن التضامن المناخي التزام أخلاقي، ومسألة بقاء لنا جميعا.
وقال جوتيريش: «رابعا، يمكننا التغلب على التهديدات التي تواجه التعددية من خلال ضمان دعم التكنولوجيا لحقوق الإنسان».
وأكد أنه يتعين على البشر دائما الاحتفاظ بالسيطرة، مسترشدين بالقانون الدولي وحقوق الإنسان والمبادئ الأخلاقية، ويجب أن تخدم التكنولوجيا البشرية، وليس العكس.
اقرأ أيضاً«جوتيريش»: العمليات الإسرائيلية وصلت إلى مستوى غير مسبوق من الدمار في غزة
جوتيريش يدعو إلى استئناف تدفق المساعدات إلى قطاع غزة فورًا
جوتيريش يؤكد أهمية عمليات العدالة الانتقالية والمصالحة الشاملة في سوريا