اليسار السوداني- بين الجمود الفكري والتحولات العصرية
تاريخ النشر: 20th, March 2025 GMT
اليسار السوداني: بين الجمود الفكري والتحولات العصرية - استشراف المستقبل مقارنة بالأحزاب الشيوعية في إفريقيا والعالم العربي
اليسار السوداني- تحليل أعمق واستشراف للمستقبل مع مقارنة بالأحزاب الشيوعية في إفريقيا والعالم العربي
في مقاله، تناول الاستاذ صلاح شعيب قضية تراجع تأثير اليسار السوداني في ظل التحولات السياسية والاجتماعية والتكنولوجية التي شهدها السودان.
التغيرات الإعلامية: فرصة لم تُستغل أم تحدٍّ؟
يشير شعيب إلى أن اليسار فقد تأثيره مع صعود الإعلام الرقمي، حيث أصبح الأفراد قادرين على إنتاج المحتوى بأنفسهم، ما أضعف دور المثقف التقليدي والمنابر اليسارية. هذا الطرح صحيح جزئيًا، لكنه يتجاهل أن الإعلام الرقمي يمكن أن يكون أداة قوية لليسار إذا ما تم استغلاله بفاعلية.
اليسار السوداني لم يستطع حتى الآن تطوير استراتيجية إعلامية حديثة تتناسب مع عصر الملتيميديا. إذ لا يزال يعتمد على الخطابات الأيديولوجية المطولة، التي غالبًا ما تفتقد التفاعل المباشر مع قضايا الناس. المطلوب هو تبني خطاب إعلامي جديد يعتمد على لغة بسيطة ومباشرة، ويتفاعل مع اهتمامات الشباب وقضاياهم اليومية. كذلك، يجب أن يستثمر في إنتاج محتوى مرئي ومسموع يجذب الجماهير، بدلًا من الاقتصار على المقالات التنظيرية.
مقارنة مع الأحزاب الشيوعية في إفريقيا والعالم العربي
في جنوب إفريقيا، على سبيل المثال، استطاع الحزب الشيوعي الجنوب إفريقي (SACP) أن يبقي على تأثيره من خلال التحالف مع حزب المؤتمر الوطني الإفريقي (ANC)، واستخدام وسائل الإعلام الحديثة لنشر أفكاره. أما في العالم العربي، فإن الأحزاب الشيوعية في لبنان والعراق ما زالت تحتفظ ببعض التأثير بسبب قدرتها على التكيف مع التغيرات الإعلامية والتحالفات السياسية الواسعة. في المقابل، يبدو الحزب الشيوعي السوداني أكثر عزلة بسبب عدم قدرته على استغلال هذه الأدوات بشكل فعال.
ضربات النظام الإسلاموي و القمع ليس العامل الوحيد
لا شك أن النظام الإسلاموي الذي حكم السودان بعد انقلاب 1989 شن حملة شرسة ضد اليسار، مستهدفًا معاقله عبر القمع المباشر وتجفيف منابع نفوذه في النقابات والجامعات. لكن اختزال تراجع اليسار في هذه الضربات يُغفل دور العوامل الداخلية التي أضعفته.
ظل اليسار السوداني، وخاصة الحزب الشيوعي، عالقًا في خطابات أيديولوجية جامدة، ولم يتمكن من تجديد أفكاره لمواكبة المتغيرات الاجتماعية والسياسية. فبينما توجهت مطالب السودانيين نحو قضايا أكثر إلحاحًا مثل الحريات الفردية، وحقوق الإنسان، والتنمية الاقتصادية، استمر اليسار في التركيز على شعارات عامة دون تقديم حلول عملية لهذه القضايا. هذه الفجوة بين الخطاب اليساري وواقع الناس ساهمت في تراجع شعبيته، وجعلته أقل قدرة على التفاعل مع التغيرات المجتمعية.
مقارنة مع الأحزاب الشيوعية في إفريقيا والعالم العربي ومثلا في مصر، على سبيل المثال، تراجع الحزب الشيوعي المصري بشكل كبير بعد ثورة 1952، لكن بعض التيارات اليسارية استمرت في التأثير من خلال التحالفات مع قوى سياسية أخرى. في تونس، استطاع اليسار أن يلعب دورًا في المرحلة الانتقالية بعد ثورة 2011، لكنه ظل محدود التأثير بسبب انقساماته الداخلية. أما في السودان، فإن الحزب الشيوعي لم يستطع أن يطور خطابًا يتجاوز الماركسية التقليدية نحو رحاب الحداثة الأرحب، ما جعله يفقد الكثير من جاذبيته.
بروز الهويات الجهوية- فشل الدولة أم فشل اليسار؟
يرى شعيب أن بروز الهويات الجهوية والإثنية أدى إلى تراجع الفكر اليساري، لكن هذا التحليل يحتاج إلى مراجعة. فالهويات الجهوية لم تكن بديلًا عن الفكر اليساري، بل كانت في كثير من الأحيان رد فعل طبيعي لفشل الدولة المركزية في تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المتوازنة.
اليسار كان يمكن أن يلعب دورًا أكبر في تبني قضايا الأطراف والمهمشين، لكنه فشل في ذلك بسبب تركيزه على الخطاب المركزي والطبقي دون أن يعطي أولوية كافية لقضايا الهوية والثقافة. لو كان أكثر مرونة في تبني هذه القضايا، لكان بإمكانه أن يكون جسرًا بين المركز والأطراف، بدلًا من أن يصبح طرفًا في الصراع.
مقارنة مع الأحزاب الشيوعية في إفريقيا والعالم العربي- وفي جنوب إفريقيا، استطاع الحزب الشيوعي أن يتبنى قضايا الفقراء والمهمشين، بما في ذلك قضايا العمال والمزارعين، مما ساعده في الحفاظ على تأثيره. أما في العالم العربي، فإن الأحزاب الشيوعية في المغرب والجزائر حاولت أن تتبنى قضايا الهوية الجهوية، لكنها ظلت محدودة التأثير بسبب هيمنة الخطابات الدينية والقومية.
اليسار والإبداع الفكري- إرث يحتاج إلى تجديد
يشير شعيب إلى أن اليسار ساهم في تحديث الفنون والأدب والفكر السوداني في الخمسينيات والستينيات، لكنه يعتبر أن هذا التحديث كان نتيجة للمناخ العالمي وليس لفاعلية اليسار الذاتية. هذا الطرح يقلل من دور اليسار في تشكيل الوعي الثقافي السوداني.
اليسار لم يكن مجرد مستورد للأفكار، بل ساهم في تطويرها وإعادة صياغتها وفق السياق السوداني. أعمال مفكرين مثل عبد الخالق محجوب ومحمد إبراهيم نقد، وأدباء كثر، تشهد على هذا التأثير. لكن المشكلة تكمن في أن اليسار لم يستطع أن يستمر في هذا الدور الإبداعي بسبب جموده الفكري وعدم قدرته على استقطاب أجيال جديدة من المبدعين والمفكرين. كذلك، فإن تغييب كثير من المثقفين اليساريين بسبب القمع أو الهجرة أسهم في هذا الفراغ.
مقارنة مع الأحزاب الشيوعية في إفريقيا والعالم العربي- , في جنوب إفريقيا، استمر الحزب الشيوعي في التأثير على المشهد الثقافي من خلال دعمه للمبدعين والفنانين. أما في العالم العربي، فإن الأحزاب الشيوعية في لبنان وسوريا كانت لها بصمة واضحة في الأدب والفن، لكنها تراجعت مع صعود التيارات الإسلامية والقومية.
مستقبل اليسار السوداني- نحو خطاب جديد
يدعو شعيب إلى توحيد اليسار تحت قيادة الحزب الشيوعي، لكن هذا الاقتراح يبدو غير واقعي في ظل الأزمات الداخلية التي يعاني منها الحزب، بما في ذلك الجمود الفكري وعدم القدرة على استقطاب الشباب. مستقبل اليسار لا يكمن في توحيد القوى خلف حزب واحد، بل في إيجاد صيغة جديدة للعمل السياسي تعتمد على التحالفات الواسعة مع التيارات الديمقراطية والمستقلة.
اليسار بحاجة إلى خطاب جديد يتفاعل مع قضايا الواقع السوداني بمرونة، ويتبنى قضايا الشباب والنساء والمهمشين بشكل أكثر فعالية. كما أن عليه أن يعيد النظر في أدواته التنظيمية، بحيث تكون أكثر انفتاحًا على المجتمع وقادرة على استيعاب التعددية الفكرية والسياسية. كذلك، فإن اليسار يحتاج إلى إعادة بناء علاقاته بالنقابات ومنظمات المجتمع المدني، بحيث يكون مؤثرًا في الحراك الاجتماعي والسياسي.
تراجع اليسار السوداني ليس نتيجة لعوامل خارجية فقط، مثل قمع النظام الإسلاموي أو التغيرات الإعلامية، بل هو أيضًا نتاج لأزمات داخلية تتعلق بجموده الفكري وعدم قدرته على تجديد خطابه ليتلاءم مع متطلبات العصر. مستقبل اليسار مرهون بقدرته على إعادة بناء نفسه، من خلال تبني خطاب أكثر مرونة، والتفاعل مع قضايا المجتمع بفاعلية، واستغلال الأدوات الحديثة لنشر أفكاره. كما أن عليه أن يخرج من دائرة الخطابات النظرية إلى تقديم مشاريع واقعية قابلة للتنفيذ، تعكس انخراطه في قضايا المواطن السوداني اليومية.
إذا تمكن اليسار من تحقيق هذه التحولات، فسيكون بإمكانه أن يستعيد دوره كقوة تقدمية مؤثرة في المشهد السياسي السوداني، على غرار بعض الأحزاب الشيوعية في إفريقيا والعالم العربي التي استطاعت أن تحافظ على تأثيرها من خلال التكيف مع المتغيرات الجديدة.
zuhair.osman@aol.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: التغیرات الإعلامیة الیسار السودانی الحزب الشیوعی الشیوعی ا من خلال أما فی
إقرأ أيضاً:
وزير الأوقاف لـ«البوابة نيوز»: مواجهة الفكر المتطرف والإرهاب الفكري على رأس أولوياتي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
أكد الدكتور أسامة الأزهري، وزير الأوقاف، أنه وضع على رأس أولوياته، مواجهة الفكر المتطرف والإرهاب الفكري عبر استراتيجية شاملة ومتكاملة، تستند إلى تفكيك الأفكار المغلوطة، وترسيخ الفهم الصحيح للدين، وتعزيز قيم الوسطية والاعتدال، من خلال جهد فكري وتوعوي واسع النطاق، يستهدف مختلف فئات المجتمع.
وأضاف وزير الأوقاف –خلال حواره مع «البوابة نيوز»- أن التصدي للفكر المتطرف لا يكون بالمواجهة الأمنية وحدها، رغم أهميتها، وإنما يحتاج إلى معالجة فكرية جذرية تعتمد على تصحيح المفاهيم الخاطئة، وبيان حقيقة الإسلام القائم على الرحمة والتسامح، وكشف زيف التأويلات المغلوطة التي تستغل الدين لأغراض مشبوهة. ولهذا، نتبنى في وزارة الأوقاف استراتيجية تقوم على عدة محاور رئيسية:
أولًا: تطوير الخطاب الديني وتجديده بما يناسب العصر، بحيث يكون الخطاب الدعوي قادرًا على تفنيد الشبهات الفكرية التي تروجها الجماعات المتطرفة، من خلال تقديم خطاب عقلاني، يعرض الحقائق الشرعية بمنهجية علمية، ويعتمد على الحجة والبرهان، وليس على العواطف المجردة.
ثانيًا: نشر الوعي الديني الوسطي في أوسع نطاق، من خلال توسيع دوائر التأثير في المساجد، والجامعات، والمدارس، والمنتديات الثقافية، والإعلام، حيث أطلقت العديد من المبادرات التوعوية التي تستهدف الطلاب والشباب، باعتبارهم الفئة الأكثر عرضة للاستقطاب من الجماعات المتطرفة.
ثالثًا: التوظيف الأمثل للإعلام والمنصات الرقمية، فقد أصبحنا نعيش في عصر أضحت فيه وسائل الإعلام والتكنولوجيا الرقمية من أهم أدوات تشكيل الوعي، ولذلك، حرصت على تعزيز وجود الوزارة في الفضاء الإلكتروني، من خلال إطلاق منصات إلكترونية، وبرامج تلفزيونية وإذاعية.
وأكد «الأزهري»، أنه إيمانًا بأهمية العمل المشترك في مواجهة التطرف، عزّزُ التعاون مع الأزهر الشريف، ودار الإفتاء، والمفكرين والمثقفين، بهدف تقديم رؤية متكاملة تتصدى للإرهاب الفكري، وتعالج جذوره العميقة، واشار إلى حرصه على المشاركة في المنتديات والمؤتمرات الدولية التي تناقش قضايا التطرف.