في خضم الصراع السوداني المستمر منذ 15 أبريل 2023، بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني المستلب من الجبهة الإسلامية، يجد المثقف السوداني نفسه في مأزق تاريخي يكشف عن عمق أزمته، لا بوصفها أزمة موقف فحسب، بل بوصفها جزءًا من البنية الكلية التي أنتجت هذا الصراع.

لقد أصبح المثقف، الذي كان يُنتظر منه أن يكون مرشدًا للوعي، جزءًا من معارك فكرية جانبية لا تزيد المشهد إلا تشرذمًا، مما يكشف عن هشاشة التصورات التي تحكم وعيه السياسي والاجتماعي.



إذا كان أنطونيو غرامشي قد رأى في المثقف العضوي ذاك الذي يتصل بالجماهير ويعيد تشكيل وعيها، فإن المثقف السوداني، في هذه اللحظة، يبدو وكأنه قد استقال من دوره التاريخي، أو بالأحرى، قد أُجبر على أن يكون امتدادًا لصراعات السلطة بدلًا من أن يكون ناقدًا لها.

لكن هذه الاستقالة ليست مجرد خلل فردي أو ضعف في الإرادة، بل هي نتاج تاريخ طويل من التشظي الأيديولوجي، ومن انخراط المثقف في شبكات السلطة، سواء عبر سياسات الاحتواء أو عبر إقصائه من المجال العام.

وهنا تبرز أسئلة أعمق: هل كان المثقف السوداني يومًا ما خارج هذه الدوامة أصلًا؟ أم أن مفهوم “المثقف المستقل” ذاته هو مجرد بناء مثالي لا وجود له في واقع تتحكم فيه بنى الدولة العميقة؟

إن التحدي الحقيقي لا يكمن فقط في انحياز المثقفين إلى أحد طرفي الصراع، بل في كيفية تحولهم إلى أدوات خطابية داخل هذا الصراع نفسه.

فالعديد من المثقفين الذين كانوا يحلمون بوطن ديمقراطي، وجدوا أنفسهم في لحظة ما أمام خيانة العسكر للشراكة الهشة مع القوى المدنية، مما أصابهم بإحباط عميق جعلهم يتنقلون بين مواقعهم الفكرية دون وعي نقدي.

ومن جهة أخرى، هناك من تحركه دوافع تاريخية للثأر من المركز، متجاهلًا أن العدو الحقيقي هو التحالف بين الجبهة الإسلامية والانتهازيين الذين التفوا حولها، وحركات الكفاح المسلح التي تحولت إلى مشاريع ارتزاق، لا مشاريع تحرر.

إن هذا التوزع الفكري لا يمكن فهمه دون العودة إلى تاريخ طويل من إعادة إنتاج الهيمنة في السودان.

فمنذ الاستعمار البريطاني، مرورًا بالحكومات العسكرية المتعاقبة، ظل المثقف في موقع المتلقي أكثر منه في موقع الفاعل.

إن أحد أبرز الإشكالات التي واجهها المثقف السوداني هو كونه لم يمتلك يومًا سلطة معرفية مستقلة؛ فقد كانت الدولة، سواء في عهد الإسلاميين أو ما قبلهم، قادرة على دمجه داخل آلياتها، سواء عبر استقطابه إلى أجهزتها الثقافية أو عبر تهميشه إلى حد يجعله خارج أي تأثير حقيقي.

ومن هنا، يمكن قراءة أزمة المثقف السوداني في ضوء ما طرحه بيير بورديو حول “إنتاج المعرفة”، حيث يظل المثقف محكومًا بعلاقته مع الحقل السياسي، لا بوصفه فاعلًا حرًا، بل بوصفه جزءًا من شبكة المصالح التي تحدد موقعه وإمكانية تأثيره.

لكن هذا لا يعني أن المثقف السوداني مجرد ضحية، بل هو، في كثير من الأحيان، جزء من آليات إنتاج الهيمنة التي يدّعي معارضتها.

فخطاب الهوية الذي يرفعه بعض المثقفين اليوم ليس سوى امتداد لخطاب السلطة نفسه، حيث يتحول النقد إلى إعادة إنتاج لثنائية “المركز والهامش” دون تفكيك البنية العميقة التي تجعل هذه الثنائية ممكنة.

وهنا يمكن استدعاء مفهوم ميشيل فوكو عن السلطة، بوصفها ليست مجرد قمع من الأعلى، بل علاقات قوة معقدة تتغلغل حتى في الخطابات التي تبدو معارضة لها.

فحين يتبنى المثقف خطابًا يرى في المركز عدوًا مطلقًا، دون وعي نقدي لمسألة أن السلطة ليست حكرًا على المركز، بل تمتد إلى الهامش نفسه عبر أدوات أخرى، فإنه يقع في إعادة إنتاج نفس البنية التي يسعى إلى هدمها.

وإذا كان المثقف السوداني قد عانى تاريخيًا من القمع والتهميش، فإنه في اللحظة الحالية يعاني من شيء أكثر تعقيدًا: أزمة المعنى.

فمع التحولات المتسارعة، ومع سقوط المشاريع الكبرى، لم يعد هناك خطاب متماسك يمكنه أن يقدم أفقًا للخروج من هذه الدوامة.

هنا، يمكن الاستشهاد بإدوارد سعيد، الذي يرى أن المثقف يجب أن يظل في موقع “المنفي”، لا بمعنى النفي الجغرافي فقط، بل النفي المعرفي الذي يبقيه في موقع المساءلة المستمرة لكل الخطابات السائدة.

لكن أين يقف المثقف السوداني اليوم؟ هل هو في موقع النقد، أم أنه قد تحول إلى مجرد صدى للأحداث، يتحرك وفق ديناميات الصراع لا وفق رؤية نقدية مستقلة؟

إن هذا المشهد يجعل من الضروري إعادة التفكير في دور المثقف، لا بوصفه مجرد معلق على الأحداث، بل بوصفه فاعلًا في إعادة تشكيل الوعي الجمعي.

لكن هذا الدور لا يمكن أن يتحقق دون تفكيك العلاقة المعقدة بين المثقف والسلطة، ودون إدراك أن الانحيازات العاطفية والسياسية ليست بديلًا عن التحليل النقدي العميق.

إن أزمة المثقف السوداني ليست فقط في مواقفه، بل في بنيته الفكرية ذاتها، التي تجعل من الصعب عليه أن يكون خارج دائرة الاستقطاب.

وهنا تكمن المعضلة الكبرى: كيف يمكن للمثقف أن يكون جزءًا من الواقع، دون أن يكون أسيرًا له؟ كيف يمكنه أن ينخرط في الصراع، دون أن يصبح مجرد امتداد لأحد أطرافه؟ وكيف يمكنه أن يعيد تعريف دوره، دون أن يقع في فخ المثالية التي تجعله معلقًا بين السماء والأرض؟

ربما يكون الحل في تجاوز النموذج التقليدي للمثقف، ذلك الذي يرى نفسه فوق الصراع، إلى نموذج أكثر ديناميكية، يعي أن المعرفة ليست محايدة، لكنها أيضًا ليست مجرد سلاح في معركة سياسية آنية.

إن إعادة بناء دور المثقف السوداني تتطلب تفكيك الأوهام التي تحيط به، والاعتراف بأنه ليس مجرد ضحية، لكنه أيضًا جزء من البنية التي أنتجت هذا الواقع.

عندها فقط، يمكن للمثقف أن يستعيد دوره، لا بوصفه مجرد ناقد، بل بوصفه فاعلًا في إنتاج واقع جديد، يتجاوز ثنائية السلطة والمعارضة، نحو أفق أكثر رحابة، حيث يكون النقد ليس مجرد رد فعل، بل ممارسة مستمرة لإعادة تعريف العالم.

بالنظر إلى التحولات التي يشهدها السودان اليوم، فإن المثقف السوداني أمام فرصة جديدة لإعادة تشكيل دور أكثر تفاعلًا مع التغيرات الاجتماعية والسياسية.

عليه أن يطور أدوات معرفية وأيديولوجية تتجاوز الانقسام بين المركز والهامش، وتتحرك نحو بناء أرضية مشتركة تسهم في تقديم رؤية أوسع للمستقبل.

من خلال مشاركة أعمق في قضايا المجتمع، وليس فقط في القضايا السياسية، يمكن للمثقف أن يسهم في تجديد الأمل وإعادة بناء الوعي الجماعي، الذي قد يساهم في الخروج من الأزمة الحالية.

ربما يكون الطريق إلى هذا التغيير عبر التفكك من النموذج التقليدي للمثقف، الذي يتخيل نفسه فوق الصراع السياسي، ليأخذ موقعًا أكثر انسجامًا مع الحركات الاجتماعية القائمة على أرض الواقع.

فهذا التحول يتطلب تحولًا في الوعي المعرفي، بأن المعرفة ليست محايدة، ولا مجرد أداة في معركة، بل هي وسيلة لبناء أفق جديد وواقعي.

zoolsaay@yahoo.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: المثقف السودانی جزء ا من أن یکون فی موقع یکون ا موقع ا

إقرأ أيضاً:

قرار صادم من واتساب .. تعيين حدود الرسائل التي يمكن إرسالها

قالت منصة الدردشة الأشهر واتساب WhatsApp، إنها ستحد من عدد رسائل البث التي يمكن للمستخدمين والشركات إرسالها للحد من البريد المزعج على التطبيق.

وبحسب ما ذكره موقع “techcrunch” التقني، ستبدأ شركة واتساب خلال الأسابيع المقبلة، باختبار حدود رسائل البث الفردية، وبموجب هذه الحدود، سيضع واتساب حدًا شهريًا لعدد رسائل البث. 

واتساب يكشف عن ميزة جديدة لترتيب فوضى الجروباتالهند تحظر أكثر من 87 ألف حساب على واتساب وسكايبواتساب يحدد عدد رسائل البث التي يمكن للمستخدمين والشركات إرسالها
 

وعلى الرغم من أنه سيكون هناك حدود متغيرة خلال الاختبار، إلا أن أحد الأمثلة التي قدمتها “ميتا” كانت السماح بـ30 رسالة شهريا.

قالت “ميتا” إنه إذا أراد المستخدمون الأفراد في إرسال المزيد من الرسائل إلى عدد كبير من الأشخاص، فيمكنهم استخدام تحديثات الحالة أو القنوات.

وتفكر الشركة أيضًا في وضع حواجز حماية مماثلة حول رسائل البث من حسابات الأعمال، حتى الآن، كانت حسابات واتساب بيزنس قادرة على إرسال رسائل بث مجانية وغير محدودة، لكن الشركة ستطرح قريبًا نسخة مدفوعة من هذه الميزة مع بعض الأدوات الإضافية.

في الأشهر المقبلة، ستختبر “ميتا” رسائل بث مخصصة جديدة لتحديثات المنتجات أو تخفيضات العطلات، بالإضافة إلى ذلك، سيتمكن مستخدمو حسابات الأعمال من جدولة الرسائل أيضًا.

خلال الفترة التجريبية، سيحصل التجار على 250 رسالة مخصصة مجانا، ثم سيتعين عليهم الدفع مقابل الرسائل الإضافية، حاليا، لم تُحدد الشركة سعرا لهذه الرسائل.

وتهدف الشركة من وراء ذلك إلى تمكين المستخدمين من تلقي رسائل جماعية بين الحين والآخر دون الشعور بالإرهاق.

وقد اتخذت واتساب بعض الخطوات للحد من البريد العشوائي في صناديق الوارد، مثل الحد من عدد الرسائل التسويقية التي يتلقاها المستخدمون يوميا.

في العام الماضي، بدأت الشركة بتجربة ميزة "إلغاء الاشتراك" التي تتيح للمستخدمين تحديد رغبتهم في عدم تلقي أنواع معينة من الرسائل من جهة تجارية دون حظر الحساب.

أصبح واتساب بيزنس موردا مهما لشركة “ميتا”، حيث تشهد إيراداتها نموا مستمرا، كما ذكر مسؤولو الشركة في تقارير الأرباح الفصلية.

وتتمثل فلسفة الشركة في منح التجار تطبيق واتساب للأعمال مجانا، مع بعض الميزات، مثل صفحة هبوط، وملف تعريف تجاري يتضمن التفاصيل، وإمكانية إنشاء كتالوج.

ثم تفرض الشركة رسومًا على أنواع مختلفة من الرسائل، بما في ذلك الرسائل التسويقية، والخدمات، والمصادقة، عند استخدام التجار للحل المدعوم من واجهة برمجة التطبيقات الخاصة بها.

باستثناء رسوم واجهة برمجة التطبيقات API لمختلف أنواع المحادثات، فرضت “ميتا” رسوما فقط على اشتراك Meta Verified الاختياري. 

ستكون ميزة البث الجديدة للرسائل من أوائل الميزات المدفوعة للتجار الذين لا يستخدمون واجهات برمجة التطبيقات، كما ستصبح مصدر دخل إضافي لـ “ميتا”.

بالإضافة إلى هذه التغييرات في كيفية عمل رسائل البث، تعمل الشركة أيضا على تعديل شعار تطبيق واتساب بيزنس الخاص بها.

مقالات مشابهة

  • كابينة السوداني.. أبواق القوى السياسية في السلطة التنفيذية
  • كابينة السوداني.. أبواق القوى السياسية في السلطة التنفيذية - عاجل
  • قرار صادم من واتساب .. تعيين حدود الرسائل التي يمكن إرسالها
  • وزير الكهرباء السوري: لا يمكن توفير الكهرباء على مدار الساعة
  • تفكيك الحداثة وإعادة إنتاج «الجاهلية».. قراءة نقدية في خطاب «داعش»
  • كيف يمكن للمصور أن يلتقط صورا تبقى في الذاكرة وتؤثر في الوعي الجماعي واتخاذ القرار؟!
  • على رأسها إقالة الفياض.. توصيات لواشنطن حتى لا يكون إصلاح الحشد مجرد خديعة
  • محمد بشاري يكتب: بناء الوعي الوطني.. الركائز والتحديات وآفاق المستقبل
  • العميد طارق : ما حدث في سوريا لن يكون بعيدًا عن اليمن وادعاء الحوثيين التصنيع الحربي مجرد وهم وكل أسلحتهم تأتي من إيران