اليسار السوداني في حاضر الملتيميديا

صلاح شعيب

كان اليسار السوداني- وفي قيادته الحزب الشيوعي- حتى لحظة غياب تطبيقات الميديا الحديثة فاعلاً، وقادراً على التأثير في مناطق تحركه المقفولة تقريباً. فيسارنا ولد في زمان الموصلات الإعلاميّة التقليدية مدفوعاً بموقع عضوية طبقته ضمن الحوزات المجتمعية التي ازدهر فيها.

كانت وسيلته لنشر أفكاره الصحف، والمجلات، والكتاب، والمدرسة، والجامعة، والنقابات، والندوة، والمساحات الإبداعية. ونظراً لقدراته التنظيمية فقد كان تقريباً يجد مساحة ضخمة للتأثير من خلال هذه المنابر أكثر من بقية الأحزاب التقليدية مجتمعة. لكن الوضع الآن اختلف بسبب ثورة الاتصالات التي جعلت المتلقين القدامى هم أنفسهم منتجون للكلمة في زمان إعلام المواطن الذي صار موازياً لإعلام وسائل التواصل التقليدية.

وحتى قبل زمان الإنترنت ركزت الحركة الإسلامية- الخصيم الأشرس لليسار- على أن يستهدف انقلابها مواطن حركة اليسار بعد أن تحولت الدولة إلى ضيعة استبدادية. وكانت أكبر ضربة تلقاها اليسار تمثلت في إجبار كوادره للفرار إلى هجرة مستدامة للخليج، أو الدول الغربية حضارياً. وعلى الصعيد الداخلي جففت الإنقاذ النقابات بعد مذبحة الصالح العام التي استهدفت أول ما استهدفت كوادر الحزب الشيوعي، والبعثيين، والمستقلين، وهؤلاء جميعاً يشكلون حركة الاستنارة الفكرية مع اختلاف توجهاتهم الأممية، والعروبية، والسودانوية.

هناك عوامل أخرى لضمور تأثير اليسار تعلقت بتراجع الزخم الذي اكتسبه في فترة الخمسينات لأسباب جيوبوليتيكية، فضلاً عن الضربات المتوالية التي تلقاها من اليمين الذي سيطر على حركة المجتمع، وقام برد مكوناته إلى وحدات عشائرية. وذلك ما أدخل المطالب الجهوية في الصراع الوطني، وبالتالي أصبح صوت الدفاع عن الأفكار المناطقية أكثر علواً من صوت الدفاع عن كل المناطق. لقد صارت الجغرافيا أثقل تاثيراً من التاريخ. إذ تحولت القناعة بدور تمرد الحركات المسلحة أكبر من القناعة بدور فكر الأحزاب المركزية في حلحلة القضايا التاريخية التي تعمقت أكثر من لحظة وراثتها في زمان الاستقلال. ومع بروز صوت الهامش صارت مدرسة التحليل الثقافي أكثر قدرة على مزاحمة مدرسة التحليل المادي للتاريخ في القول إن هناك نظراً اعمق، وأفضل، لبحث جذور أزمة الوجود السودانية. وهكذا برزت نظرية السودان الجديد لقرنق كمعادل موضوعي للنظريات المتجذرة في مركز السلطة.

-٢-

أذكّر أنني كتبت مقالاً قبل ثلاثين عاماً عن ما سميته يسارية الفكر والإبداع السودانيين فزجرني الأستاذ حسين خوجلي في صحيفته بكلمة قادحة دون أن يفند فرضيتي التي بنيتها وفقاً لحجم التحديث الذي بذله المبدعون اليساريون في مجالات الفكر، وعموم البحث الأكاديمي، والسينما، والدراما، والشعر، والتلحين، والنقد، والمسرح، وفن التشكيل. ولكن الحقيقة أن ما بذله اليساريون من تجديد للفكر، والأدب، والفن، كان ثمرة اللحظة التاريخية التي فرضت مفاهيم التقدم، والواقعية الاشتراكية، على سائر المنطقة العربية، والعالم الثالث، والتي صبغت إبداعها بثيمات التحرر، والعقلانية، والحداثة.

ولو أن الأستاذ حسين نافح بالقول إنه ليس كل مفكرينا، ومبدعينا من ذوي الوجهة اليسارية لكان قد أفادنا في جدل الحوار، خصوصاً أننا نعرف أن كثيراً منهم مستقلون يميلون ليسار الوسط، أو ليبراليون بقيم تحررية، أو يساهمون بمنطلقات سودانوية. ولكن معظم هؤلاء المبدعين الذين ظهروا في مرحلة الخمسينات كانوا أميل لتبني قيم التقدم التي فرضتها المرحلة بسبب سطوة اليسار العالمي، والعربي، آنذاك. بل وجدنا بعض قادة ينتمون لأحزاب دينية المنشأ ينادي بالاشتراكية الإسلامية، وتحرير المرأة، وتجديد الفقه الأصولي السني ليتوافق مع تطلعات الدولة القطرية.

اعتقد أن كل تلك الظروف التي هيأت توطن قيم اليسار في ذهن الانتلجنسيا خصوصاً بعد الاستقلال هي التي أتاحت التحديث في إنتاجنا الفكري، والأدبي، لدى المشتغلين فيه. ومن ناحية أخرى قادت تلك الظروف اليمين ليتحسس أدواته للاستفادة من مناخ السعي لتحقيق النهضة التقدمية. ولكل هذا اعتقد أن اليسار نفسه أثر على أهم منظرين يمينيين وهما الصادق المهدي، وعبدالله الترابي، في الاقتراب من منطقة التحديث لتنظيميهما ما جعل هناك إمكانية للإسلام السياسي السوداني للخروج من الإسار السلفي للتنظيم العالمي، وتبني الترابي مفاهيم تجديدية تعارض مفاهيم المؤسسين لفكر الإخوان المسلمين الاوائل لدرجة تكفيره. وبالنسبة للصادق المهدي فقد حاول مجاراة الإسلام السياسي المستحدث بتطوير حزب الأمة باتجاه طرح مفاهيم حديثة تختلف عن مفاهيم جده، وعمه الذي ثار عليه. على أن الجدير بالذكر هنا أن محاولات الترابي، والمهدي، ركزت على التحشيد أكثر من أصالة التجديد الذي ينطلق من تبني خط سياسي يضع في صلب اهتمامه قضايا الطبقة الفقيرة.

-٣-

ولما كان محور فكرة المقال تقصي أبعاد تأثير اليسار السوداني فكرياً، وسياسياً، وإبداعياً، في الميديا الجديدة فإن الصورة التي بدا عليها هذا التأثير تظل محل مراجعة نقدية لمساجلة طرق المشرعين اليساريين في سدة القيادة السياسية لتمديد فرص ذلك التأثير. وصحيح أن محاولات الحوار حول تفعيل العمل داخل بنية أحزابنا اليسارية لم تتوقف سوى أنها ما تزال بحاجة إلى استنباط تكتيك جديد يحول اليسار من تيارات متناثرة إلى تيار واحد. ذلك الذي يستوعب عموم المؤمنين بتحقيق دولة المواطنة، والذين لا يختلفون كثيراً في أنواع تكتيكاتهم الفكرية، والسياسية، والثقافية. والأهم من كل هذا أن هذا التعدد السياسي الوطني في أغلبه يضع السودانوية في اعتباره كمدخل أساسي للمراجعة النظرية على النحو الذي بذله الراحلان عبد العزيز حسين الصاوي، ومحمد علي جادين، في مراجعاتهما للفكرة البعثية في وطن التعدد الإثني، والأيديولوجي، والثقافي.

ويسارنا السوداني أصلاً مهما تسربلت قراءاته لدراسة أزمة الوجود السوداني فقد كان يتشارك مع مساهمات الحركة الوطنية في إيلاء خصوصية لواقعنا المجتمعي المتعدد عرقياً. ذلك بما يجعله مقربا لليبراليين، والوسط، ويسار الوسط، أو المستقلين. فمصطلح أصدقاء اليسار من غير المنتمين إليه يستبطن وجود مناطق لقيا لمواجهة اليمين الذي يستفيد من التناقضات الطبقية لتحشيد طاقته انطلاقا من توظيف ماكنيزمات التدين، وحضورها في الجيش، والقطاع الاقتصادي، ودعمها بالمال الطفيلي.

عوداً إلى بدء، عصر الملتيميديا الذي دخلنا فيه، ووجدنا أن مواطننا قد تحرر من التدجين الفكري، والسياسي للقوى التقليدية، يتطلب اتحاد اليساريين الإصلاحيين في منظومة إعلامية تتناوب في دفع مساهمات التنوير السودانية لإقامة الدولة الوطنية.

اعتقد أن نخبة الحزب الشيوعي هي أكثر نخبة تستطيع قيادة توحيد أسس المساهمة في العرض الملتميدي لما لديها من قدرات تنظيمية، وخبرات عملية، وعلميّة، في مجال نشر التنوير السياسي. ويمكن لهذه النخبة بعلاقاتها المتميزة مع النخب التي تشاركها حلم الدولة الوطنية بناءً على التحالفات السابقة، والراهنة، أن تبدأ حوارات كهذه لتمديد فرص التلاقي الوطني. وبغير ذلك أرى أن مجهوداتنا في الميديا الحديثة ستظل مشتتة أمام محاولات سيطرة اليمين الإسلاموي، وسعيه الدائم إلى القبض على روح الرأي العام بواسطة ملايين الدولارات التي يمتلكها لوحده من أجل عودته للحكم مرة ثانية.

الوسومالحركة الإسلامية الحزب الشيوعي السودان السودانوية القوى التقليدية الملتميديا اليسار السوداني حسين خوجلي صلاح شعيب

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: الحركة الإسلامية الحزب الشيوعي السودان السودانوية القوى التقليدية اليسار السوداني حسين خوجلي صلاح شعيب الیسار السودانی الحزب الشیوعی

إقرأ أيضاً:

علي جمعة يكشف عن اسم الله الأعظم الذي إذا دعى به أجاب

قال الدكتور علي جمعة مفتي الجمهورية السابق وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، إن  الله سبحانه وتعالى أرشدنا في كتابه الكريم أن ندعوه بأسمائه الحسنى فقال: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) [الأعراف: 180]، وقال: (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) [الإسراء: 110]، وقال: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) [طه: 8]، وقال: (هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) [الحشر: 24].

وبين "عبر صفحته الرسمية على فيس بوك" ان  الحسنى مؤنث الأحسن؛ أي لله تعالى أحسن الأسماء وأجلها وأعظمها وأشرفها لاشتمالها على معاني التقديس والتعظيم والتمجيد، وهي أحسن المعاني وأشرفها، وعلى صفات الجلال والكمال لله رب العالمين.

اسم الله الأعظم

وكشف عن اسم الله الأعظم الذى إذا دعى به أجاب واذا سئل به أعطى وقال إن أسماء الله الحسنى كثيرة، ولفظ الجلالة "الله" هو الاسم الأعظم، وهو أعلى مرتبةً من سائر الأسماء؛ قال تعالى: (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت: 45]. 

أسماء الله الحسنى

وتابع: ومن هذه الأسماء تسعة وتسعون اسمًا من حفظها دخل الجنة، لقوله ﷺ: «إن لله تسعة وتسعين اسمًا، مائة إلا واحدًا، من أحصاها دخل الجنة» [البخاري]. وقيل: من أحسن مراعاتها والمحافظة على ما تقتضيه، وصدق بمعانيها وعمل بمقتضاها. وقيل: من أخطر بباله عند ذكرها بلسانه معانيها وتفكر في مدلولاتها متدبرًا ذاكرًا راغبًا راهبًا معظِّمًا لها ولمسمياتها، مقدِّسًا للذات العلية، مستحضرًا بباله عند ذكر كل اسم المعنى الدال عليه.

علي جمعة: تخلصنا من عشوائيات السكن وباقي عشوائيات الفكر والتدينعلي جمعة: هؤلاء خذوا منهم العلم الشرعي وابتعدوا عن أصحاب الانتماء السياسيكيف يعلمنا الابتلاء الصبر ويقودنا إلى الله؟.. علي جمعة يردماذا قال الرسول عن البلاء؟ علي جمعة يكشف عن طريقة التعامل معه

وأوضح انه لا يُفهم من قوله ﷺ في الحديث المتفق عليه: «تسعة وتسعين اسمًا، مائة إلا واحدًا» أن الأسماء محصورة في العدد المذكور فقط؛ لأن أسماء الله تعالى لا يمكن أن يحصيها العد، إذ لا يمكن لأحد من الخلق أن يحيط بكنهه تعالى. فقد قال سبحانه في وصف كلماته: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ) [لقمان: 27].

وقد نقل اتفاق العلماء على ذلك الإمام النووي فقال: "واتفق العلماء على أن هذا الحديث ليس فيه حصر لأسمائه سبحانه وتعالى؛ فليس معناه أنه ليس له أسماء غير هذه التسعة والتسعين، وإنما مقصود الحديث أن هذه التسعة والتسعين من أحصاها دخل الجنة؛ فالمراد: الإخبار عن دخول الجنة بإحصائها لا الإخبار بحصر الأسماء" [شرح صحيح مسلم].

ولفت إلى أن أسماء الله سبحانه وتعالى منها ما هو أسماء جمال، ومنها أسماء جلال، ومنها أسماء كمال. فأسماء الكمال كالأول والآخر والمحيي والمميت والضار والنافع، وأسماء الجمال مثل: الرحمن والرحيم والعفو والغفور، وأسماء الجلال كالمنتقم والجبار والمتكبر.

اسماء لا يجوز إطلاقها على غير الله

وذكر ان من أسمائه ما لا يجوز إطلاقه على غيره سبحانه كـ"الله والرحمن"، ومنها ما يجوز كـ"الرحيم والكريم". ومنها ما يُباح ذكره وحده كأكثرها، ومنها ما لا يُباح ذكره وحده كـ"المميت والضار"؛ فلا يقال: يا مميت ويا ضار، بل يقال: يا محيي يا مميت، ويا نافع يا ضار؛ وذلك تأدبًا في حقه تعالى وتفاديًا من إيهام ما لا يليق بجلاله تعالى.

ومثل صفاته تعالى وأفعاله يجب تنزيه أسمائه سبحانه عما لا يليق بعظمته وجلاله، ويجب تنزيه سائر أسمائه عن تفسيرها بما يوهم نقصًا في حقه تعالى وينافي كماله، كتفسير الرحيم برقيق القلب لاستحالة ذلك عليه تعالى. قال تعالى: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) [الأعلى: 1-2]، أي: نزِّه اسمه تعالى عن كل ما لا يليق به.

ومذهب جمهور أهل السنة والجماعة من الأشاعرة والماتريدية أن أسماءه تعالى توقيفية كصفاته؛ فلا يُثبت له اسم ولا صفة إلا إذا ورد ذلك في النصوص الشرعية أو ثبت بالإجماع.

الحكمة من ذكر اسماء الله الحسنى 

ومن حكمة الله في ذكر أسمائه وصفاته أن نتخلَّق بها كما ورد في الأثر: (تخلَّقوا بأخلاق الله)، فنتخلَّق من الرحيم بالرحمة، ومن الكريم بالكرم، ومن الحليم بالحلم... وهكذا؛ فإن جميع الأسماء للتخلُّق إلا اسمه تعالى "الله" فإنه للتعلُّق.

ولأهمية أسمائه تعالى في الإيمان به وأمره عباده بالتخلُّق بها، ختم سبحانه وتعالى كثيرًا من الآيات في كتابه الكريم بالأسماء الحسنى؛ فلا تكاد تجد صفحة من المصحف إلا وقد ختمت كثير من الآيات فيها باسم أو اسمين من أسمائه تعالى، وما ذلك إلا لأمرين اثنين:

الأمر الأول: دلالة هذه الأسماء على معانٍ عظيمة.

الأمر الثاني: الدلالة على أن الطريق إليه تعالى لا يتأتى إلا عبر المرور من باب معرفة أسمائه سبحانه وتعالى والتعبد بها.

واختتم كلامه قائلا: إن أسماء الله سبحانه وتعالى مليئة بالحِكَم والأسرار التي يعرفها أهل الله الذاكرون السائرون في طريقه، فعلى كل مسلم أن يذكر الله سبحانه في كل حال بما يحب من أسمائه، ويجتهد في التخلق بهذه الأسماء ومراعاتها في حياته كلها، ليفتح له أبواب أسرارها.

مقالات مشابهة

  • علي جمعة يكشف عن اسم الله الأعظم الذي إذا دعى به أجاب
  • الرياض وواشنطن تبحثان التعاون في الطاقة التقليدية والنووية
  • حرب الرسوم.. ما أكثر السلع الصينية التي يعتمد عليها الأميركيون؟
  • بنكيران: اليسار انتهى وهيمنة رأس المال تُهدد الحياة السياسية.. و”ترامب ديالنا” هو أخنوش
  • خبايا المشروع الإسرائيلي الذي سحق خمس غزة
  • صنع في العراق.. ما الذي يعيق عودتها للسوق المحلية؟
  • ما هو (MoCA) الذي تفوق فيه ترامب ...كل ما تود معرفته
  • من هو شيخ الإسلام البريطاني الذي بنى أول مسجد فيها؟
  • «مجلس محمد بن حمد» يناقش مفاهيم الذكاء الاصطناعي
  • ما الذي يحدث في العالم؟