دارفور معزوفة أوتار أبناء النهر والبحر
تاريخ النشر: 19th, March 2025 GMT
دارفور معزوفة أوتار أبناء النهر والبحر
مقاربة بين زمنين :
زماننا والسلطان علي دينار
الدكتور فضل الله أحمد عبدالله
” أنا أزعم أن سبب الفوضى
في السودان هو جهل الناس بالتاريخ ”
– من أقوال الشاعر الناقد محمد المهدي المجذوب –
دارفور تعيش اليوم ، درجة مرعبة من الفظاعات ، والأفظع منه ثمة خدر شامل يمسنا نحن أبناءه !!
أليس ثمة ضرورة أن تؤدي فئة معينة دور المحفز في المجتمع الذي يزداد تكلسا يوما بعد يوم ؟
فما الذي يمكن أن نفعله جميعا ، أطباء ، مهندسين ، مزارعين ، أساتذة جامعات ، معلمين ، حقوقين ، خبازين ، كتابا مثقفين مبدعين وفنانين ، الخ .
وقولنا – هذا الوطن الحبيب اللعين – هو إقتباس حميم من كلمة قالها ” الطيب صالح ” .. في مقاربة مبدعة ، يحفر ويغربل في أزمان السودان ، الغابرة ، ويسأل كيف اندفقت سنواته الجميلة ، وأصواته العذبة بين الناس بالأمس القريب !
وكيف صرنا اليوم من كل الأصوات في العالم لا نعرف غير خشخشة الأكفان وأزيز المجنزرات ، ومعافرة الجراحات ، فيقتل بعضنا بعضاً لتطغى أحلام على أحلام .
الطيب صالح في بحثه عن سلام الأنفس في البلاد ، يقول :
” آه ، أي وطن رائع يمكن أن يكون هذا الوطن ،
لو صدق العزم وطابت النفوس ، وقل الكلام وزاد العمل “.
وفي قراءته النقدية لقصيدة ” الغربة ” للشاعر صلاح أحمد إبراهيم التي قال فيها :
” النيل بعيد
الناس عليهم كل جديد
وأنا وحدي …
منكسر الخاطر يوم العيد
تستهزئ بي أنوار الزينة والضوضاء
تستهزئ بي أفكاري المضطربة
وأنا وحدي ”
قال الطيب صالح :
” ونحن نعلم أن النيل بعيد ليس بمعنى المسافات المادية فقط ، ولكن بمعنى ” الحلم ” الذي ما يفتأ يزداد ” نؤياً وبعداً ” وكأنما للخطوب التي ألمت بنا منذ عهدنا بالاستقلال والأعوام التي مرت ، كل يجيئنا ببلوى جديدة تهتف بنا : ” النيل بعيد ، النيل بعيد ” ..
ومن عظائم الأمور أن أسلافنا الأماجد ، رغم بعد ذاك النهر عن ديارهم – بمقياس المسافات المادية – لكنه كان نهرا يتدفق بتواشيحه الخالدات – حسب الأستاذ حسين خوجلي – بأنبل المشاعر ، وجميل الإحترام إلى السلطان ” علي دينار ” وسلطنته الدافقة الوفاء لكل من توضأ بماء محبة السودان وأهله .
تشير كثير من المرويات الشعبية المأثورة ، كيف كان السوداني يفخر بأي سوداني يصيبه النجاح والتوفيق ، والتميز الباهر في مختلف أنشطة الحياة وتعددها ، ولا ينظر إليه إلا بمنظار الإخاء في الدين والوطن والإنسانية ، متجاوزا منظورات العرق والدم واللون والمنطقة الجغرافية . فلا فضل لأحد على أحد ، إلا بمقدار ما يمنحه من نبل إنسانيته للآخر .
بذلك المعنى كان أسلافنا يمشون بين الناس ، في أي جهة من جهات السودان كان ، يفرحون للناجح بنجاحه ، ولسمح النفس بسماحته ، وللوسيم بوسامته ،وللكريم بكرمه ، وللحكيم بحكمته ورشده بين الناس . يحبونه ويقتدون به ، دون أي عصبية قبائلية ، أو مناطقية .
ومن تلك النماذج في مسألة الحكم والحوكمة ما ذكره الدكتور إبراهيم القرشي وهو ناقد كاتب في التراث الشعبي ، متمكن في مسألة البعد السياسي في الثقافة والتراث ، قال ما نقتبس منه :
” فقد حكم المدير ” أحمد بيك أبوسن ” السودان من أدناه إلى أقصاه وكان اول مدير للخرطوم ، وعرف بملك البحور – الأنهار – السبعة ، كان محبوبا مطاعا ، لأنه كان حليما عاقلا حكيما منصفا ” .
بذلك المعنى جاءتنا السير والأخبار والسرديات الأدبية الرصينة التي خلدت عظماء السودان السابقين ، وأول أولئك العظماء هو السلطان ” علي دينار ” سلطان سلطنة دارفور ، الذي وجد من الشهرة والتعظيم من أهل السودان ما لم يضاهيه عليه أحد من السلاطين والملوك في السودان على تواتر الأزمان .
السلطان علي دينار ” أبو زكريا ” – أدَّاب العصاة زول زول – كما قال الشريف زين العابدين الهندي في ملحمته الشعرية – إنسربت إليه قوافل كرام الناس ونبلاء القبائل قادمة من كل فجاج السودان ، منهم علماء الدين والفقهاء ، شيوخ الخلاوى والتلاميذ . كما حفز عددا مقدرا من الحرفيين – أولاد البحر – والمعماريين والفلاحين من ريف مصر للإسهام في تطوير وترقية مجتمع سلطنة دارفور ، كل في مجال تخصصه .
دعى السلطان على دينار التجار من شمال السودان وشجعهم ليجلبوا إلى الفاشر خيرات الشمال من الثمرات والبقول ومستلزمات الحياة الحديثة .
فاتجه صوب الفاشر جموع الأدباء والشعراء وكل حكاء مبدع الحكايات رصين القول متقاطرين إلى جناب سلطنة دارفور التي أصبحت موطنا جاذبا للناس ، ولا غرو في ذلك ، إنه المزاج السوداني ، والوجدان الجمعي المشترك ، جميعهم توحدهم قيم المروءة والشهامة والفروسية ، وتهزهم إيقاعات ” الدلوكة ” و” الفرنقبية ” وتعلو بهاماتهم ضربات ” النقارة ”
ومن الأعلام حضر ، الشاعر ” السرورابي الجعلي ” أحمد حسب الرسول ، قاصدا رؤية السلطان ويكتب في كتاب تاريخ مجد عظماء السودان شهادته شعرا ، ناثرا من كنانة بلاد ” نهر النيل ” أنبل قيمهم المركوزة في صدورهم وهو الوفاء لأهل الوفاء ، وتقدير جليل الأفعال من الرجال .. فقال الجعلي شهادته :
” خيلك روَّقن لابسات دروع ومغاتي
من قومة الجهل راكب محفَّل وعاتي
سيد آدم رجال سيد الملوك و شراتي
إيدك وابل التّلوي البِصُب يوماتي ” ..
بذلك خطف الشاعر أحمد حسب الرسول ” السرورابي الجعلي ” لحظة من لحظات زمن الشموخ باحترافية وحذق ، موقعا اسمه في صفحات المحبين لصفاء الإنسان الحكيم العالي الهمة المتوهج الفكرة ، بحضوره الكائن في العالم ، إنه السلطان علي دينار حالة إنسانية سلطانية نادرة ، في فلسفة الأدارة والفكر السياسي ، مجاهدا منتميا أصيلا إلى عقيدة التوحيد ، الدين عند الله الإسلام . وكان يؤكد للناس في كل السودان ” نحن قبلتنا واحدة ” .. أي أهل ” قبلة ” واحدة ، نتوجه صوبها عند الصلاة وتوحدنا صفوفها . ذلك الإيمان جمع عنده قلوب الناس محبة ومناصرة .
ولما كان أبناء النيل – ولا يزالون – ذاك النهر يلهمهم حسن الخلق ونبل الطبع ، ويفخرون ويفاخرون بالكرم وشجاعة الفرسان ..
أنشد شاعرهم ” حسن النافعابي ” من شاعريته الوسيمة في مدح السلطان قائلا :
” الملهوف بجيك بتأمِّنو وبتحلو
واليابس الكلاله يا الخريف بِتبِلٍُو
وكت الشوف يشوف تحتو اب جديري بسِلُّو
والكازاك تعب بي إهانتو بتعجِّلو ” ..
و ” اب جديري ” و ” اب راكوبه ” أسماء لسيوف من سيوف السلطان علي دينار العالية الإشتهار ..
وعرف السلطان علي دينار بحبه للخيل وحسن عنايته بها ، اشتهرت خيوله بالأصالة ، وتلك الميزة والخصلة ضربت مسامع حواضر السودان وبواديه
حتى وصلت بادية البطانة وشاعرهم ” الحاردلو ” الذي قال :
” جاتني مدرِّجة البهم الصُّباه كبار
تتضَّلع تقول مكلوف علي دينار ”
أولئك أهل السودان في زمن الشموخ ، من بلاد البحر شرقا ، وأرض الجزيرة الخضراء والبطانة وسطا ، وموطن مجري نهر النيل الخالد بأجمل التواشيح شمالا ، إلى دارفور يدلقون مودة وحكمة ، تقريبا لمسافات الجغرافية مهما تباعدت الشقة .. ” فالمحبة تقرب الأبعدين ، و” القلوب لبعضها ” كما يقولون دائما ” وخير الناس الذي يعطي من نبل نفسه للآخرين .
نقرأ اليوم تاريخهم ، حتى أحيانا نخال ، جراء تلك الوقائع المذهلة في منطق تسلسلها ، أننا نقرأ تخييلا ، في حين أننا نقرأ تاريخا ، نقاربه بين واقعنا فنجد ” الفرق شاسع ” بين الزمنين .
المحبة طريقتهم وأسلوبهم في الحياة – كما قال الطيب صالح على لسان الطاهر ود الرواسي – أحد أشخاصه في قصة ” مريود ” – للراوي محيميد :
الحياة يا محيميد ما فيها غير حاجتين إتنتين ، الصداقة والمحبة .. ما تقول لي حسب ولا نسب ولا مال .. ابن آدم إذا كان ترك الدنيا وعنده ثقة إنسان واحد يكون كسبان . وأنا المولى عزّ وجلّ أكرمني بالحيل . أنعم عليّ بدل النعمة نعمتين : صداقة محجوب ، وحب فاطمة بت جبر الدار “.
ويؤكد الطيب صالح ذات المعنى في مقال آخر :
” كانوا قانعين بما قسم الله لهم فيها ، وهو كثير . يزرعون النخل في ديار ” المحَسْ ” و” السكُّوتْ ” ويزرعون الحنطة والشعير في ديار البديريَّة والشايْقية والرّكابيين .
يزرعون الموز في كسلا ، والبرتقال والجوافة في شندي ، والذرة في أرض البُطانة . والقطن في أرض الجزيرة ، ويجنون الصمغ العربي من شجر الهشاب في كردفان .
يصيدون البقر الوحشي في جبل مرّة والظباء عند تخوم بحر الغزال . يأكلون سمك النيل الأبيض وسمك البحر الأحمر . يُخرجون الذهب من مكامنه في ” حلايِبْ ” وفي ” جبال شنْقُول “.
كانوا يتناشدون شعر ” الدوبيتْ ” على الآبار ، ويرقصون ” الدّليب ” في ضوء الأقمار ، ويرتلون القرآن في جوف الأسحار . ويستخفهم الطرب في حلقات مديح المصطفى المختار .
كانت البلاد تضج في العشيات بثغاء الشياه ، ورُغاء الإبل ، وصهيل الخيل ، وكان الرجل يمشي من ” أبو حمد ” إلى ” أبو دليق ” فلا يخشى إلا الله والذئب على غنمه ” .
حقا ، فجميع أولئك القوم ، من النهر والبحر والغرابة ، تسكن محبتهم هذه البلاد ، في كل صورة من صور حيواتهم . حاكم ومحكوم ، أحبوا بعضهم بعضا ، عن معرفة أكيدة بحالهم وأحوالهم الخاصة ، فكانت المحبة في القلوب متقدة ، ولأن لعشق الأوطان مذاهب شتى ، إتخذوا من مسالك محبته طرائق عددا .
رأت كل ذات من تلك الذوات السودانية ، ذاتها في السلطان علي دينار ، يشبههم ويشبهونه ، فجعلوا منه ” أيقونة ” للذات السودانية المتعددة المشارب ، لم ينظروا إلى عنصر دمه وعرقه ولونه ، ولكن نظروا إلى روح الإنسانية المتشربة بطابعهم ومزاجهم السوداني الأصيل ، ناصرا لهم بلا تمييز .
ونذهب أيضا مذهب الدكتور إبراهيم القرشي بالقول عنه :
وكان الرجل مجاهدا صلبا وقف في وجه الإستعمار البريطاني وناصر دولة الخلافة العثمانية إلى أن استشهد في واقعة برنجية – 1916م – وكان حاكما قوميا يختار رجاله و وزراءه وأعوانه من جميع أنحاء السودان .. وكانت له مناقب ومفاخر لاتحصى منها كسوة الكعبة والمحمل السنوي من المؤن والطعام لأهل الحرمين .. ومنها ” الصُّرّة ” التي تجمع من أموال السلطان والوزراء والأعيان والرعية لأهل الحجاز ، وقد كانت له هيبة أمَّنت وفود الحجيج القادمة من غرب إفريقيا عابرة بلاد السودان إلى أرض الحجاز ، هذا سوى مآثره وكرمه الذائع .
يا قارئي يرعاك الله ، هل ترى من الضروري أن ننتظر منقذ ما ، يأتي ليفك عقدتنا اليوم ، وأن يحول بيننا وبين هذا الوضع الكارثي الذي نعيشه ؟؟ حلما للرجوع والأوبة .
وعلى أية حال كتبنا لنوقظ ، وتلك مهمتنا أن نجتاح الواقع وننخره من الداخل ، نجعله يحس بأن كيانه مهدد من ذاته أولا ، وذلك سيفقده إنسانيته ، والكينونة أثمن كنز يقتنيه المرء في وجوده ، حتى تعطي الآخرين من سماحة نفسك !!
علينا في دارفور أولا ، أن ندرك نقطة صراعنا مع ذاتنا حتى نعرف كيف نتقاسم أنفسنا مع الآخرين . بذلك فقط إلتمعت عظمة أسلافنا ، بمشاركة الآخر إيجابيا ، لا بكراهيته ومحاولة نفيه وإقصاءه ولا محاولة الإنفصال عنه .
هذا السودان لنا جميعا ، جميع أسلافنا ، سكبوا العرق والدم ، واسترخصوا أرواحهم في سبيل تكوينه وتشكيل هويته الظاهرة للناس ، جغرافية وتضاريسا وثقافة وحضارة . هو السودان ، السودان بكل ما فيه نحن وأولئك لنا جميعا ونحن له . إنضم لقناة النيلين على واتساب
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: السلطان علی دینار الطیب صالح النیل بعید
إقرأ أيضاً:
السودان لمحكمة العدل الدولية: الإمارات تؤجج الإبادة الجماعية في دارفور
لاهاي (رويترز) – قال السودان لمحكمة العدل الدولية يوم الخميس إن الإمارات تنتهك اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها بدعمها قوات الدعم السريع شبه العسكرية في إقليم دارفور، لكن الإمارات دفعت بضرورة رفض القضية لافتقار المحكمة إلى السلطة القضائية، وطلب السودان من القضاة إصدار أوامر وقائية طارئة في الشكوى التي تتعلق بهجمات مكثفة لأسباب عرقية شنتها قوات الدعم السريع شبه العسكرية وميليشيات عربية متحالفة معها على قبيلة المساليت غير العربية عام 2023 في غرب دارفور ووثقتها رويترز بالتفصيل.
وقال القائم بأعمال وزير العدل السوداني معاوية عثمان لمحكمة العدل الدولية إن قوات الدعم السريع ارتكبت إبادة جماعية بحق المساليت بدعم وتواطؤ من الإمارات على حد وصفه.
ورفضت الإمارات مرارا القضية المرفوعة بحقها ووصفتها بأنها لعبة سياسية، وتقول إن محكمة العدل الدولية لا تملك السلطة القضائية لنظر قضية السودان وطلبت من القضاة رفضها.
وقالت ريم كتيت نائبة مساعد الوزير للشؤون السياسية في وزارة الخارجية بالإمارات للمحكمة إن من الواضح بما لا يدع مجالا للشك أنه لا توجد سلطة قضائية، وإنها لذلك تدعو المحكمة إلى شطب القضية من اللائحة العامة.
ويتهم السودان الإمارات بتسليح قوات الدعم السريع التي تقاتل الجيش السوداني في حرب أهلية مستمرة منذ نحو عامين، وهو اتهام تنفيه الإمارات. لكن خبراء الأمم المتحدة ومشرعين أمريكيين وجدوا أنها تتسم بالمصداقية.
وقالت كتيت للقضاة يوم الخميس إن الإمارات لم تقدم منذ بداية الحرب أي أسلحة أو عتاد ذي صلة لأي من الطرفين المتحاربين.
وفي يناير كانون الثاني، صنفت الولايات المتحدة الهجمات على المساليت على أنها إبادة جماعية.
ونظرا لأن القضايا المرفوعة أمام محكمة العدل الدولية قد تستغرق سنوات للوصول إلى حكم نهائي، يمكن للدول طلب إجراءات عاجلة تهدف إلى ضمان عدم تصعيد النزاع بين الدول لحين البت في القضية الأصلية.
وطلب وزير العدل السوداني من المحكمة أن تصدر أمرا للإمارات بمنع أعمال الإبادة الجماعية بحق المساليت.
ومن المقرر أن تقدم الإمارات دفوعها في القضية إلى قضاة محكمة العدل الدولية في وقت لاحق من يوم الخميس. ومن المتوقع أن تدفع الإمارات بعدم اختصاص المحكمة.