الترابي في ذكراه التاسعة- مفكر الإسلاميين وصانع التحولات؟
تاريخ النشر: 14th, March 2025 GMT
تحلّ الذكرى التاسعة لرحيل الدكتور حسن الترابي، أحد أبرز المفكرين الإسلاميين في السودان، وقائد الحركة الإسلامية التي طبعت المشهد السياسي لعقود. كان الترابي رجلًا استثنائيًا، جمع بين الفكر العميق والدهاء السياسي، مما جعله لاعبًا أساسيًا في تشكيل السودان الحديث، سواء من خلال تحالفاته أو صراعاته التي لم تهدأ حتى وفاته.
دهاء سياسي في الوصول إلى السلطة
منذ انضمامه إلى الحركة الإسلامية السودانية في ستينيات القرن الماضي، كان الترابي يتمتع بحنكة سياسية مكنته من الصعود بسرعة. أدرك أن الإسلاميين لا يمكنهم الوصول إلى الحكم عبر الوسائل التقليدية في ظل سيطرة القوى الطائفية والعسكرية، فبدأ في إعادة تشكيل الحركة الإسلامية على أسس تنظيمية متينة، مستلهمًا نموذج جماعة الإخوان المسلمين لكنه أعاد إنتاجه بما يناسب السودان.
بلغ ذكاء الترابي السياسي ذروته عام 1989 عندما خطط لانقلاب عسكري بقيادة عمر البشير، مستغلًا مجموعة من الضباط الإسلاميين والمتعاطفين معهم داخل الجيش. لم يكن الترابي في الواجهة، لكنه كان المهندس الفعلي لهذا التحرك، حيث أدرك أن قيام حكم إسلامي يتطلب السيطرة على أدوات الدولة العميقة وليس فقط العمل الدعوي أو السياسي التقليدي.
الخلاف مع العسكر: من الحليف إلى العدو
بعد نجاح الانقلاب، بدأ الترابي في توسيع نفوذ الإسلاميين داخل مؤسسات الدولة، لكنه لم يكن يعلم أن هذا النجاح سيحمل بذور نهايته. أراد البشير والمؤسسة العسكرية الاحتفاظ بالسلطة، بينما كان الترابي يسعى لحكم مدني إسلامي يضمن له التأثير الأكبر.
تصاعد الخلاف حتى وصل إلى ذروته في عام 1999، عندما قاد البشير انقلابًا داخليًا ضد الترابي، مستفيدًا من دعم المؤسسة الأمنية والعسكرية، ليجد الزعيم الإسلامي نفسه خارج الدائرة التي صنعها بنفسه.
إعادة التأسيس: حزب المؤتمر الشعبي
لم يستسلم الترابي بعد الإقصاء، بل سعى إلى إعادة تنظيم الإسلاميين الذين بقوا موالين له، فأسس حزب المؤتمر الشعبي عام 2000، ليكون واجهة جديدة لمشروعه الفكري والسياسي. حاول العودة إلى المشهد من بوابة المعارضة، لكنه وجد نفسه في مواجهة نظام صلب كان هو من صممه في الأساس. وعلى الرغم من سجنه عدة مرات، لم يتوقف عن ممارسة دوره كمنظّر سياسي، وواصل تقديم أطروحاته حول الدولة الإسلامية والديمقراطية.
الجانب الفكري: بين الشريعة والسياسة
لم يكن الترابي مجرد سياسي، بل كان أيضًا مفكرًا إسلاميًا حاول تقديم رؤى جديدة للإسلام السياسي. من بين أهم مؤلفاته:
"التفسير التوحيدي": وهو كتاب يطرح رؤية جديدة لتفسير القرآن من منظور شامل يتجاوز التفسيرات التقليدية.
"الحركة الإسلامية: التطور والنهج والكسب": تناول فيه تاريخ الإسلاميين في السودان وأسلوب عملهم السياسي.
"السياسة والحكم": قدّم فيه أفكاره عن نظام الحكم الإسلامي والديمقراطية.
كان الترابي منفتحًا على بعض المفاهيم التي كانت مثيرة للجدل داخل الأوساط الإسلامية، مثل رؤيته لدور المرأة في السياسة، وإعادة تفسير بعض الأحكام الفقهية التقليدية بطريقة حداثية، وهو ما جعله يتعرض لنقد واسع من الإسلاميين التقليديين.
إرث الترابي وتأثيره اليوم
بعد وفاته في 2016، لا يزال تأثير الترابي حاضرًا في السياسة السودانية. فقد تفرق الإسلاميون بين تيارات متعددة، ولم يعد لهم قائد بحجم الترابي قادر على جمعهم، كما أن سقوط نظام البشير في 2019 كشف عن مدى هشاشة المشروع الإسلامي الذي أقامه الترابي، حيث وجد الإسلاميون أنفسهم في موقف دفاعي أمام التحولات السياسية الجديدة.
لكن لا يمكن إنكار أن الترابي كان أحد أذكى السياسيين السودانيين وأكثرهم تأثيرًا، فقد غيّر ملامح المشهد السياسي والفكري، سواء من خلال تحالفاته أو صراعاته. ورغم الجدل حول دوره، فإنه يبقى أحد أكثر الشخصيات التي أثرت في تاريخ السودان الحديث، سواء كان ذلك بإيجابياته أو سلبياته.
أهم كتابات حسن الترابي الفكرية حول الإسلام والطرح السياسي
كان حسن الترابي مفكرًا مجددًا في الفكر الإسلامي، وحاول تقديم أطروحات جديدة تتجاوز التقليد الفقهي، وتعالج قضايا الدولة والسياسة والدين بمنظور حديث. إليك أبرز كتاباته في هذا المجال:
التفسير التوحيدي
يعد من أهم مؤلفاته، حيث طرح رؤية مختلفة لتفسير القرآن تعتمد على التأويل التوحيدي، متجاوزًا التفسيرات التقليدية التي تعتمد على التفسير النقلي فقط.
الإيمان وأثره في الحياة
تناول فيه مفهوم الإيمان ليس فقط كعقيدة، بل كمنهج شامل يؤثر على حياة الأفراد والمجتمعات.
السياسة والحكم: النظم السلطانية بين الأصول وسنن الواقع
يتناول فيه نظرته إلى الدولة الإسلامية والحكم، حيث أكد أن الشورى يمكن أن تتقاطع مع الديمقراطية، لكنه انتقد النماذج التقليدية للحكم في التاريخ الإسلامي.
تجديد أصول الفقه
يعتبر من أكثر كتبه إثارة للجدل، حيث دعا إلى إعادة النظر في علم أصول الفقه، وأكد أن الاجتهاد يجب أن يكون متجددًا وليس محصورًا في مناهج القدماء.
الحركة الإسلامية: التطور والنهج والكسب
كتاب يوثق فيه تطور الحركة الإسلامية في السودان، ويشرح كيف تفاعلت مع الواقع السياسي والاجتماعي عبر العقود المختلفة.
المرأة بين تعاليم الدين وتقاليد المجتمع
في هذا الكتاب، قدم رؤية مغايرة لدور المرأة في الإسلام، حيث أيد حقها في المشاركة السياسية والمجتمعية، ورفض النظرة التقليدية التي تحصرها في أدوار محدودة.
الدين والتجديد: رؤية إسلامية معاصرة
يعرض فيه رؤيته حول كيفية تجديد الفكر الديني بما يتناسب مع تحديات العصر، ويؤكد أن الاجتهاد يجب أن يكون مستمرًا حتى يواكب التغيرات الاجتماعية والسياسية.
أطروحاته الفكرية والسياسية
ركز على فكرة التجديد الفقهي وضرورة التحرر من التقليد الأعمى للنصوص.
أكد أن الإسلام دين ودولة، لكنه أيد فكرة تداول السلطة بدلًا من الحكم السلطوي باسم الدين.
دعا إلى تطوير مفاهيم الشورى بحيث تكون قريبة من الديمقراطية الحديثة.
كان يرى أن المرأة لها دور كامل في المجتمع والسياسة، ورفض إقصاءها بناءً على تفسيرات فقهية قديمة.
حاول المزج بين الإسلام والديمقراطية، لكن تجربته السياسية أثبتت تناقضًا بين رؤاه الفكرية وممارساته العملية.
تظل تجربة الترابي درسًا في تقاطع الفكر مع السياسة، وكيف يمكن للذكاء الاستراتيجي أن يصنع دولة، لكنه في النهاية قد يصبح ضحية لنفس النظام الذي بناه. أفكار الترابي لا تزال محل جدل، لكنها بلا شك أثرت في مسيرة الإسلاميين، سواء في السودان أو خارجه، وجعلته أحد أكثر المفكرين السياسيين تأثيرًا في العالم الإسلامي الحديث
وتظل تجربة حسن الترابي درسًا في تقاطع الفكر مع السياسة، وكيف يمكن للذكاء الاستراتيجي أن يصنع دولة، لكنه في النهاية قد يصبح ضحية لنفس النظام الذي بناه. وبقدر ما كان الترابي شخصية مثيرة للإعجاب عند أنصاره باعتباره مجددًا للفكر الإسلامي، فإنه كان أيضًا موضع سخط ولعنات الكثيرين من السودانيين الذين لم ينسوا دوره في الانقلاب على الديمقراطية عام 1989، وما تبعه من حكم استبدادي قاد البلاد إلى أزمات لا تزال تداعياتها مستمرة حتى اليوم. لا يزال قطاع واسع من السودانيين يرى أن الترابي هو السبب الأقوى في المآلات السياسية الكارثية التي يعيشها السودان، وأن تحالفه مع العسكر، ثم انقلابه عليهم لاحقًا، كان بدايةً لمسار طويل من الانقسامات والتدهور السياسي والاقتصادي الذي لم ينجُ منه السودان حتى بعد رحيله.
zuhair.osman@aol.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الحرکة الإسلامیة کان الترابی حسن الترابی فی السودان
إقرأ أيضاً:
«رقمنة الإبداع» تناقش التحولات الرقمية في صناعة النشر
أبوظبي (وام)
أكدت الجلسة الافتتاحية لمؤتمر «رقمنة الإبداع بداية عصر جديد»، الذي عقد ضمن فعاليات معرض أبوظبي الدولي للكتاب في دورته الـ 34، على ضرورة الانتقال من الاستهلاك الرقمي إلى الإنتاج المعرفي، مع تبنّي الذكاء الاصطناعي أداة لدعم النشر وحماية حقوق المؤلفين. وناقش المتحدثون أهمية بناء منصات رقمية متطورة، ودعوا إلى تجاوز المخاوف التقليدية من الرقمنة، معتبرين أن الصناعات الإبداعية أصبحت ركيزة أساسية لاقتصاد المستقبل. واتفقت المداخلات على أن تجربة دولة الإمارات تمثل نموذجاً إقليمياً رائداً في حماية الملكية الفكرية، وتعزيز البيئة الرقمية الداعمة للإبداع.ورحب الدكتور علي بن تميم، رئيس مركز أبوظبي للغة العربية، بالمشاركين والحضور، وأعرب عن أمله في أن يكون المؤتمر جامعاً للجهود، مطلقاً للمبادرات لأجل خدمة الإبداع العربي.
وشارك في الجلسة كلٌ من الدكتور عبدالرحمن المعيني، الوكيل المساعد لقطاع الملكية الفكرية في وزارة الاقتصاد، وجفانتسا جوبافا، رئيسة الاتحاد الدولي للناشرين، ومحمد رشاد، رئيس اتحاد الناشرين العرب، وديميتر غانتشيف، نائب المدير ومدير أول قطاع حقوق المؤلف والصناعات الإبداعية في المنظمة العالمية للملكية الفكرية، وأدارت الجلسة أميرة علي بوكدرة، رئيس مجلس إدارة جمعية الناشرين الإماراتيين.
ضرورة حضارية
قال الدكتور علي بن تميم، رئيس مركز أبوظبي للغة العربية، في كلمته خلال افتتاح الجلسة، إن الرقمنة لم تعد خياراً، بل أصبحت ضرورة حضارية، وإن مهمة المركز تكريس الجهود لدعم التحول الرقمي، ليس عبر الاستهلاك فقط، بل من خلال الإنتاج وإطلاق المبادرات المبتكرة. وأضاف أن المركز أطلق منصة خاصة خلال معرض أبوظبي الدولي للكتاب لدعم الإبداع بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي، وأنه يعمل بشكل مستمر على تطوير مشروعات تدعم اللغة العربية والإبداع في البيئة الرقمية الجديدة، لافتاً إلى أن المشهد الرقمي في حاجة إلى جهود جماعية، ليس فقط على مستوى المؤسسات، بل على مستوى الأفراد أيضاً، مؤكداً دور المبدعين والناشرين في العالم العربي بأن يكونوا جزءاً من هذا التحول، لا أن يقفوا مترددين أمامه.
وأكد أن التكنولوجيا تقدم فرصاً عظيمة، وأن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يصبح شريكاً في حماية الإبداع ونشره وتوسيعه إلى آفاق جديدة، معتبراً أن التحدي الأكبر ليس فقط في الأدوات، بل في إعادة تشكيل ذهنيتنا تجاه الثقافة، والإنتاج الثقافي، مؤكداً الحاجة إلى وعي جديد يؤمن بأن المستقبل لمن يملك أدوات العصر الرقمي، مع الحفاظ على جوهر الإبداع العربي الأصيل.
الثورة الرقمية
من جهته، تحدّث عبدالرحمن المعيني، الوكيل المساعد لقطاع الملكية الفكرية في وزارة الاقتصاد، عن أهمية الملكية الفكرية في تعزيز الاقتصاد الرقمي، وقال: إن حماية الإبداع كانت ولا تزال في صلب اهتمامات دولة الإمارات، إذ كان التوثيق يعتمد على الإجراءات التقليدية الورقية، حيث يتم إيداع نسخ الأعمال الإبداعية في مستودعات رسمية، تُستخدم لاحقاً لحسم أي نزاعات.وأشار إلى أنه أصبح لزاماً والعالم يعيش في قلب الثورة الرقمية، توفير حلول رقمية تليق بسرعتها ودقتها، مشيراً إلى أن معرض أبوظبي الدولي للكتاب شهد إطلاق منصة إلكترونية ذكية تتيح لصاحب أي مصنف إبداعي توثيقه والحصول على شهادة موثقة خلال أقل من ثلاث ساعات. وأكد أن الصناعات الإبداعية أصبحت ركيزة أساسية في اقتصاد المعرفة، وأنه يجب تمكين المبدعين وتحفيز الاقتصاد الإبداعي.
تحولات هائلة
قالت جفانتسا جوبافا، رئيسة الاتحاد الدولي للناشرين، إن عالم النشر يشهد تحولات هائلة في ظل التقدم الرقمي، وإن الذكاء الاصطناعي يقدّم فرصة لا تقدر بثمن للناشرين، إذ يمكن توظيفه في التسويق الذكي، وتحسين استراتيجيات التوزيع، ودراسة أنماط القراء. وأشارت إلى أن الذكاء الاصطناعي بات شريكاً استراتيجياً يمكنه أن يمنح الناشرين أدوات قوية للوصول إلى أسواق جديدة وتنويع مصادر الدخل.وعن مستقبل النشر الرقمي في الدول العربية، قال محمد رشاد، رئيس اتحاد الناشرين العرب: إن الوضع في عالم النشر العربي يتطلب شجاعة وجرأة، إذ لا يمكن الحديث عن تطور في صناعة النشر من دون الحديث عن الابتكار الرقمي.
وأكد ديميتر غانتشيف، نائب المدير ومدير أول قطاع حقوق المؤلف والصناعات الإبداعية في المنظمة العالمية للملكية الفكرية، أن الاقتصادات الخلاقة أصبحت جزءاً من نسيج حياتنا اليومية، وأن الإبداع لم يعد خياراً إضافياً، بل ضرورة اقتصادية وثقافية.