سودانايل:
2025-04-13@13:40:13 GMT

على طريق الانعتاق من الهيمنة المصرية (10 – 20)

تاريخ النشر: 13th, March 2025 GMT

"لنْ يستطيعَ أحدٌ أنْ يركبَ على ظهرِكَ، ما لم تَكُنْ مُنحنياً"

مارتن لوثر كينج

النور حمد

من نماذجٌ الابتزاز المصري

في مقالاتي المتسلسة التي نشرتها قبل خمسة عشر عامًا عن قطب حزب الأمة، السيد، عبد الرحمن علي طه، كنت قد ذكرت الزيارة التي قام بها السيد عبد الرحمن المهدي إلى مصر في النصف الثاني من أربعينات القرن الماضي لمناقشة البروتوكول الذي عُرف ببروتوكول (صدقي بيفن).

وقد ذكر السيد، عبد الرحمن علي طه، في كتابه "السودان للسودانيين" إن السيد عبد الرحمن المهدي أرسل برقية إلى رئيس الوزراء المصري إسماعيل صدقي، على أثر بروتوكول صدقي بيفن، يعرب فيها عن نيته زيارة مصر لمقابلة الحكومة المصرية لكي يتباحث معها حول مسألة السودان. وأخبر السيد عبد الرحمن المهدي المصريين في تلك البرقية، أنه سوف يذهب إلى انجلترا لنفس الغرض. غير أن حكومة صدقي تجاهلت برقيته ولاذت بالصمت، ولم ترد عليه بالطرق الدبلوماسية المتبعة، التي يلجأ إليها الدبلوماسيون عادة في أحوال الرفض.

رغم ذلك، قرر السيد عبد الرحمن المهدي الذهاب إلى القاهرة من تلقاء نفسه، ونزل في أحد فنادقها. لكن، تجاهلت الحكومة المصرية حضوره، رغم أنه زعيم إحدى الطائفتين الدينيتين الكبيرتين في السودان، وهو راعي حزب الأمة أحد أكبر حزبين سياسيين في السودان. لم يأت أحدٌ من المسؤولين المصريين لاستقباله أو مقابلته؛ لا إسماعيل صدقي رئيس الوزراء شخصياً، ولا أي فردٍ آخر من أفراد حكومته. بل، شنت عليه الصحافة المصرية في فترة وجوده في القاهرة حملةً شعواء، ونعتته بشتى النعوت، وكالت له السباب والشتائم. وذهبت إحدى هذه الصحف إلى القول: إن الإمام عبد الرحمن يجب أن يُحكم عليه بالإعدام بوصفه ثائرًا متمرداً على التاج المصري!! (راجع: عبد الرحمن علي طه، السودان للسودانيين، مصدر سابق، ص 39). وقد أورد عبد الرحمن علي طه في نفس الكتاب، المقتطف التالي مما كتبته إحدى الصحف المصرية، حيث قالت: "أكد لنا مصدرٌ كبيرٌ جداً أن الثائر عبد الرحمن المهدي كان على وشك أن يصل إلى مصر في أوائل هذا الصيف الذي انتهى، لتقديم خضوعه للتاج المصري الذي جعله "باشا" وأضفى عليه نعمةً مما جعله يرفل في جاهٍ عريض .... ولكن الاستعمار الإنجليزي أشار إليه بإصبعه أن يلزم مكانه فلزمه". (راجع: عبد الرحمن علي طه، ص 40).

صادف وجود السيد عبد الرحمن المهدي في زيارته تلك للقاهرة، وجود السير هيوبرت هدلستون حاكم عام السودان، الذي وصل إليها، هو الآخر، وهو في طريق عودته إلى الخرطوم، عائدًا من لندن. زار السير هدلستون السيد عبد الرحمن المهدي في الفندق في القاهرة، وأخبره أنه في حالة ذهابه إلى إنجلترا سوف يجد ترحيباً من الحكومة البريطانية. كما شكر هدلستون السيد عبد الرحمن على ما قام به من جهودٍ أدت إلى تهدئة ثورة الجماهير في السودان، عقب إعلان المصريين اتفاقية صدقي بيفن، وقول إسماعيل صدقي للمصريين حال عودته من المفاوضات مع إنجلترا: "لقد أتيتكم بالسيادة على السودان"، (تكبير الخط من وضعي). وقد أكد السيد عبد الرحمن للمستر هدلستون أن ما ذكره صدقي أثار ثائرة السودانيين، لكونه أوضح أن مصر لا تقر للسودانيين بحق تقرير المصير، وإنما تقر لهم فقط بالحكم الذاتي، تحت التاج المصري. وقال السيد عبد الرحمن لهدلستون: لولا تصريح المستر إتلي في مجلس العموم البريطاني، الذي قال فيه إن تصريحات إسماعيل صدقي التي أطلقها بعد عودته من مفاوضاته مع إنجلترا حول مصير السودان، غير حقيقية، وأنها مُضلِّلة، لما أمكن تهدئة خواطر السودانيين. وواضحٌ من ثورة السودانيين على تصريحات إسماعيل صدقي أن السودانيين لم يكونوا يريدون الوحدة مع مصر تحت التاج المصري. لكن، الحكومة المصرية كانت تود أن تبتز السياسيين وزعماء الطوائف ليسيروا في قضية مصير السودان عقب خروج البريطانيين وفقًا للرغبة المصرية، وضد رغبة شعبهم. والذي حدث بالفعل عند الاستقلال أن السودانيين أعلنوا استقلال بلادهم عن كلٍّ من بريطانيا ومصر، من داخل أول برلمان وطني جرى تكوينه، رافضين فكرة الوحدة مع مصر.

التحقيق مع خضر حمد

ما كنا لنعرف شيئًا عن أساليب المخابرات المصرية في ابتزاز السياسيين السودانيين لولا اطلاعنا على بعض الشهادات التي دونها أو حكاها بعض السياسيين السودانيين، بأنفسهم، عن تجاربهم في مصر. ومن الشهادات التي اطلعت عليها في هذا الخصوص ما حكاه السيد خضر حمد في مذكراته عن تعرضه للتحقيق من قبل النيابة المصرية، حين زار مصر عام 1955. وقد أصبح خضر حمد، في ذلك العام، وزيرًا للري في حكومة الرئيس إسماعيل الأزهري، عقب عزل الوزير ميرغني حمزة الذي سبقه. أورد هذه الحادثة، أيضًا، الدكتور سلمان محمد أحمد سلمان، وهو يناقش ملف مياه النيل وتاريخ المفاوضات بهذا الخصوص. والقصة، باختصار، أن السيد خضر حمد ذهب إلى القاهرة في الأسبوع الأخير من شهر مارس عام 1955 للتحضير للجولة الثالثة من المفاوضات المتعلقة بمياه النيل. قال السيد خضر حمد إنه حمل معه إلى القاهرة قصيدة كتبها الشاعر السوداني المعروف، أحمد محمد صالح، تحمل عنوان "إلى نجيب في عليائه". وكان غرض خضر حمد من حمل القصيدة معه إلى القاهرة أن يجري خطَّها بواسطة خطاطٍ محترفٍ. ثم تحويلها إلى لوح معدني طباعي ليجري عمل عدد من النسخ منها لعدد من أصدقائه المعجبين بالقصيدة الذين كلفوه بهذه المهمة. ويبدو أن هذه المجموعة من الأصدقاء كانت تريد وضع القصيدة في أُطرٍ (براويز)، لكي يعلقوها على جدران منازلهم. وقد كان اللواء محمد نجيب، الذي قاد ثورة يوليو المصرية، ثم ما لبث البكباشي جمال عبد الناصر أن غدر به، وأودعه الإقامة الجبرية حتى مات، قائدًا مصريًّا محبوبًا جدًا لدى السودانيين. فنجيب نشأ وترعرع في الخرطوم وكان قلبه على السودان. وكان محل ثقةٍ كبيرةٍ بين السودانيين.

أعطى الوزير خضر حمد القصيدة لأحد مرافقيه من المصريين للذهاب بها لعمل اللوح المعدني الطباعي الذي سيعود به إلى الخرطوم. وفي الموعد المحدد لاستلام اللوح المعدني داهم بعض رجال المخابرات السيد خضر حمد وهو في المكان الذي كان سيعد اللوح. ويبدو أن الشخص المصري الذي كان يرافق السيد خضر حمد من المخابرات المصرية، وقد قام بتسريب ما كان ينوي خضر حمد فعله فيما خص القصيدة إلى جهات الرسمية. وقد سأل السيد خضر حمد الرجال الذين داهموه في المحل، من أنتم؟ فرد عليه الرجل بأنهم من رجال النيابة المصرية ومعهم واحدٌ من ضباط الجيش. ويروي خضر حمد أن هذا الشخص أجلسه على كرسي في ذلك المحل، وبدأ يكتب فما يشبه محضر التحقيق، ويقرأ بصوت مرتفعٍ: لقد وصل إلى علم وزير الداخلية أن الوزير السوداني خضر حمد أحضر معه قصيدةً عنوانها "علياء نجيب". وأن القصيدة تحوي مدحًا لمحمد نجيب وتعريضًا برجال الثورة. وأن وزارة الداخلية المصرية أمرت أن يجري التحقيق في هذا الأمر، وأن يكون في المجموعة التي تجري التحقيق اثنان من أعضاء النيابة ورجل من الجيش.

الواضح من هذه المسرحية السمجة المرسومة أن الغرض منها هو إرباك الوزير السوداني، وحل عزيمته أمام المفاوضين المصريين، بوضعه موضع المتهم بارتكاب جريمة، عبر تلفيق تهمةٍ تافهةٍ كهذه له، وتعريضه للتحقيق، وهو وزيرٌ زائر. ويبدو أنهم إمعانًا منهم في امتهان ضيفهم الرسمي وتقليل قيمته، اختاروا أن تجري هذه المسرحية السمجة في ذلك المحل العام وسط سوق القاهرة. ثم، التحقيق معه بهذه الصورة، دون أي اعتبار لمكانته، ولا للطرق التي تتعامل بها الدول مع الزوار الرسميين. فخضر حمد أحد أبرز سياسيي الحركة الوطنية في السودان. وقد جاء إلى مصر في وفد رسمي بغرض التفاوض حول مياه النيل. ويبدو أن المصريين لم يكونوا مسرورين لموقف خضر حمد في جولة التفاوض التي جرت، فاختلقوا له تلك الحادثة قبل سفره. خاصةً، قد كان مقررًا أن يعود السيد خضر حمد إلى السودان في نفس ذلك اليوم، لكي يقوم بالتشاور مع حكومته في الخرطوم، ثم يعود مرة أخرى، بعد بضعة أيام لبدء جولةٍ جديدة من المفاوضات في القاهرة.

الغريب أن السيد خضر حمد أخبر، لدى عودته من القاهرة، السيد إسماعيل الأزهري، رئيس الوزراء، بما جرى له في القاهرة، وطلب منه إعفاءه من العودة إلى مصر في الوفد المفاوض. لكن السيد إسماعيل الأزهري رفض طلبه وأصر على أن يعود ضمن الوفد مرة ثانية! بل، ويعود رئيسًا للوفد. وهكذا، رجع السيد خضر حمد إلى القاهرة يوم 4 أبريل عام 1955، أي بعد أربعة أيامٍ فقط من مجيئه من القاهرة، ومن تاريخ تلك الحادثة. وقد دلَّ ذلك، فيما أرى، على قلة اكتراث السيد إسماعيل الأزهري وعفويته وعدم أخذه دلالة تلك الحادثة بالجدية الكافية. فالحادثة لم تزعجه ولم ير فيها إهانةً لبلده وحكومتها ومحاولةً لابتزار وزير ذهب للتفاوض في شأن خطيرٍ بغرض كسر عزيمته عن طريق اتهامه بارتكاب جريمة والتحقيق معه في محل تجاري عام وسط القاهرة. كما لم يفكر الأزهري حتى في رفع صوته احتجاجًا على تلك الفعلة. أكثر من ذلك، أصر على أن يعود الوزير الذي تعرض لمحاولة الابتزاز رئيسًا لوفد المفاوضات. وقد عرفت الأنظمة المصرية، عبر عديد التجارب، عفوية السياسيين السودانيين الذين يمارسون السياسة، بلا كفاءة ولا تدريب ويصلون إلى المناصب وفقًا لاعتباراتٍ تأتي الكفاءة، في كثيرٍ من الأحيان، في مؤخرتها، وقد لا تأتي إطلاقا. كما عرفت السلطات المصرية انكسار السياسيين السودانيين وتقزيمهم لأنفسهم أمام رصفائهم المصريين. بل، وسذاجتهم، وقابليتهم للابتزاز بشتى الطرق. فطفقت تمارس عليهم مختلف ألاعيب الابتزاز، منذ أربعينات القرن الماضي، وإلى يومنا هذا. فالمشكلة ليست حصرًا في طرق تعامل المسؤولين المصريين مع السودان ومع السودانيين، وإنما هي أيضًا، وبقدر أكثر أهمية، فينا نحن السودانيين، أنفسنا.

غازي سليمان وقصة الخمر والنساء

إن أميز ما يميز المحامي والسياسي الراحل، غازي سليمان، أنه كان رجلاً صادقًا، شديد الوضوح والصراحة. وأنه ممن يقولون الحق ولو على أنفسهم. لكن، قول الحق على النفس ليس محمودًا في كل الأحوال، فبعضه يدخل في باب المجاهرة المنهي عنها. ذكر غازي سليمان، وهذا موثقٌ بالصوت والصورة في تطبيق يوتيوب، أنهم عقب الإطاحة بالرئيس جعفر نميري في ثورة أبريل 1985، كان ضمن وفدٍ من الحكومة الانتقالية جرى إرساله إلى مصر ليطالب الحكومة المصرية بتسليم الرئيس جعفر نميري الذي أطاحت به الثورة، لكي تتم محاكمته على ما اقترف من جرائم. وكان نميري عائدًا من الولايات المتحدة الأمريكية إلى السودان عبر القاهرة حين اندلعت الثورة وجرت الإطاحة به. فاحتجزته السلطات المصرية في القاهرة، ونصحته بعدم العودة إلى السودان، وأصبح لاجئًا هناك.

قال الأستاذ، غازي سليمان إن السلطات المصرية استقبلت وفدهم استقبالاً طيبًا، وأنزلتهم في أفخم الفنادق. وفي الليلة السابقة للجلسة الرسمية تقديم طلبهم إلى الحكومة المصرية بتسليم الرئيس جعفر نميري، جِيء إلى إليهم بالخمر والنساء. وحين ذهبوا في اليوم التالي إلى قاعة المحادثات، وجدوا شاشة كبيرةً معلقةً على الحائط. وما أن بدأت الجلسة، جرى عرض فيلم حوى ما فعله أعضاء الوفد في الليلة السابقة من أفعالٍ فاضحة. وما أن انتهى عرض الفيديو، وقف أحد المسؤولين المصريين وخاطبهم قائلاً: "طلباتكم يا باشوات؟". قال غازي: صمتنا لفترة وتلفتنا نحو بعضنا، ثم ما لبثنا أن قلنا لهم: ليست لدينا طلبات. وواصل غازي قائلاً: انفض الاجتماع ومنحونا إقامة لبضع أيام في أفخم فنادق القاهرة قمنا أثناءها بجولاتٍ سياحيةٍ في ضيافة الحكومة المصرية. وهكذا عادوا إلى السودان بخُفَّيْ حُنين. وأعلنت مصر عقب ذلك أنها ترفض تسليم الرئيس المخلوع جعفر نميري لحكومة الفترة الانتقالية لأسباب قانونية وسياسية.

ما جرى لهذا الوفد السوداني الذي ذهب لمطالبة الحكومة المصرية بتسليم الرئيس المخلوع جعفر نميري لمحاكمته، ليس غريبًا. فمن المعروف جدًا أن المال والخمر والنساء من أهم وسائل أجهزة المخابرات في استخلاص الأسرار ممن تريد استخلاصها منهم. ويجري ذلك عن طريق توريط المطلوب استخلاص الأسرار منهم في علاقة غرامية مع جاسوسة من دون أن يعرف أنها جاسوسة. أو عن طريق جر المراد ابتزازه إلى فضيحة أخلاقية، يجري توثيقها بالصورة والصوت. فيصبح المستهدَذف أسيرًا لجهاز المخابرات فلا يعصي له أمرًا. وهذه الحادثة التي ذكرها الأستاذ غازي سليمان تقدم أقوى دليلٍ على سذاجة ورخاوة وغفلة القيادات السياسية السودانية التي تتصدى للعمل العام وعدم جديتها واستهانتها بضوابط تمثيل بلادها. ولنا أن نتصور كم من السياسيين السودانيين قد أضحوا أسرى لجهاز المخابرات العامة المصرية عبر استخدام مثل هذه الأساليب القذرة. لكن، أيضَا، كم هم وُضعاءُ أولئك المسؤولون الذين تُوقعهم دناءتُهم في حبائل هذا النمط من الابتزاز الرخيص؟

(يتواصل)

elnourh@gmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: السیاسیین السودانیین إسماعیل الأزهری الحکومة المصریة إسماعیل صدقی إلى القاهرة إلى السودان فی السودان جعفر نمیری فی القاهرة إلى مصر فی رئیس ا وزیر ا

إقرأ أيضاً:

صراع الحضارات وسيناريوهات الهيمنة في مفاوضات واشنطن وطهران

كانت سلطنة عُمان اليوم محط أنظار العالم؛ لا لأنها منطقة نزاع أو تدور حول سياستها الخارجية علامات استفهام وتعجب، ولكن لأنها المساحة الوحيدة التي تجد فـيها القوى المتصارعة فـي الشرق الأوسط متسعا للحوار واحتفاء به والقوة السياسية القادرة على إدارة اللحظات التاريخية الخطرة حينما يحتاج العالم إلى بوصلة أخلاقية وجيوسياسية فـي منطقة تتقاذفها أهواء القوة والتصعيد. ورغم أن لقاء واشنطن بطهران الذي انطلق اليوم فـي مسقط ليس الأول من نوعه، ولا يبدو أنه سيكون الأخير، إلا أنه يأتي هذه المرة فـي ظروف شديدة التعقيد سواء فـي توقيته أو فـي رمزية الشخصيات التي تمثل طرفـي التفاوض، وفـي طبيعة الرهانات التي تتجاوز مجرد ملف نووي تقني لتطال بنية التوازن الإقليمي والعالمي.

ولذلك لا يبدو لي، شخصيا، أن السؤال الأهم يتعلق، فقط، بإمكانية نجاح هذه المفاوضات أو فشلها، رغم البدايات المبشرة جدا، بل يتعلق بالسياق الذي دفع الطرفـين للجلوس ـ ولو بشكل غير مباشر ـ مرة أخرى على طاولة الوساطة/المفاوضات. ما الذي تغير؟ ومن يُراهن على الوقت؟ ومن يسعى لتثبيت معادلة جديدة قبل أن تنفلت الأمور نحو صدام قد لا يُمكن احتواؤه؟

إذا ما عدنا إلى جذور الأزمة، فإن «الملف النووي الإيراني» ما هو إلا واجهة مقبولة ويمكن التبرير بها، لحرب طويلة على الاستقلال السياسي، وربما، الكرامة الحضارية، ومحاولة الدول الخارجة عن نادي الهيمنة الغربية أن تضع موطأ قدم فـي نظام دولي بُني ليقصيها. ولذلك لا ينبع الخوف الأمريكي/ الغربي من إيران من برنامج نووي قد يعرف مجتمع المخابرات الأمريكي حدوده وإمكانياته، ولكن ينبع قبل كل شيء من أن إيران، ومنذ ثورتها عام 1979، قررت أن تتحرر من عباءة التبعية الغربية، وأن تقول لا، وهو أمر لا يُغتفر فـي العقل الإمبريالي. لكن هذا لا يعني، بالمطلق، أن علينا، جميعا، ألا نخشى من أي برنامج نووي إيراني أو إسرائيلي أو أي برنامج آخر فـي المنطقة، بل على العكس من ذلك فإن أي برنامج نووي كان موجودا أو فـي طريقه للوجود هو خطر جديد يضاف إلى الأخطار التي تهدد منطقتنا الملتهبة، وما أكثر تلك الأخطار التي تتراوح بين خطر القوميات والمذهبيات إلى خطر الشرارة النووية. ويسعدنا جميعا أن تكون المنطقة خالية من جميع أنواع الأسلحة النووية.

لم يُخفِ ترامب العائد بقوة إلى البيت الأبيض رغبته فـي عرض مهاراته التفاوضية، ولكن خلف هذه الرغبة يقف منطق أكثر عمقا، وأكثر بعدا فـي التشكل من السنوات التي عرف فـيها العالم هذا السياسي والمطور العقاري.. إنه منطق السيطرة على التوازنات الإقليمية ومنع إيران من امتلاك ورقة ردع، ولو كانت رمزية، فـي وجه تحالف واشنطن ـ تل أبيب. والأمر، كما كان واضحا طوال الوقت، لا يتصل فقط ببرنامج نووي، بل بمحور إقليمي يمتد من طهران إلى بيروت، ويهدد بإعادة تشكيل الجغرافـيا السياسية للشرق الأوسط خارج النسق الأمريكي المعتاد.

لكن تفاصيل التاريخ تخبرنا أن هناك لحظات تقارب بين الفرقاء والخصوم غير متوقعة، ويمكن أن تحدث فـي لحظات الالتباس الكبرى وكذلك لحظات التحولات العميقة التي تغير كل شيء، دون أن نعتقد أن ذلك يحدث صدفة؛ فالرئيس الأمريكي الأسبق فرانكلين روزفلت له مقولة مهمة وتستحق التأمل دائما: «فـي السياسة، لا يحدث شيء بالصدفة. وإذا حدث، فبالتأكيد انه قد تم التخطيط له بهذه الطريقة». والكتابات التي تناولت العلاقات الأمريكية الإيرانية منذ خمسينيات القرن الماضي منذ الانقلاب على مصدق بدعم من الاستخبارات الأمريكية ووصولا إلى الاتفاق النووي فـي 2015 تشير إلى أن لحظات التقاطع كانت ممكنة حين تراجعت نزعة الهيمنة ولو مرحليا لصالح العقلانية الجيوسياسية.

ويمكن أن نقرأ فـي هذه الجولة من المفاوضات التي بدأت هذه المرة فـي العلن، خلافا لما كان عليه الحال فـي الجولات الأولى من المفاوضات التي أدارتها سلطنة عُمان بحكمة واقتدار وأفضت إلى اتفاق 2015، إرادتين متناقضتين: فواشنطن تبدو أنها تريد إنقاذ المظهر دون التخلي عن جوهر السيطرة، فـيما تريد طهران الحفاظ على الكرامة دون أن تخسر كل شيء؛ ولذلك جاء الجميع إلى مسقط بنوايا مشروطة وكذلك برؤية واضحة حول التحولات التي حدثت فـي المنطقة خلال العامين الماضيين. تطالب الإدارة الأمريكية بتوسيع إطار التفاوض ليشمل الصواريخ الباليستية والنفوذ الإقليمي الإيراني، وهو ما تعتبره طهران مسا بثوابت سيادتها. أما إيران، فتقدم إشارات ولو كانت محدودة، بشأن خفض تخصيب اليورانيوم مع وجود مراقبة دولية، ولكن يبدو أنها ترفض بشكل قاطع النقاش حول «تفكيك» المشروع النووي كما حدث في تجارب عالمية سابقة، كما لا يبدو أنها مستعدة، رغم كل التحولات، أن تنسحب من ساحات نفوذها فـي المنطقة.

هذا يقودنا لأن نطرح سؤالا يبدو مهما فـي هذه المرحلة: ما الذي يجعل أي تقارب ممكنا إذا؟

من المفـيد استحضار السياق الحضاري لمحاولة الإجابة على مثل هذا السؤال. فالعلاقة بين إيران وأمريكا ليست مجرد صراع جيوسياسي، بل هي احتكاك حضاري بين نموذجين: الأول يرى نفسه حاملا للقيم العالمية الليبرالية، والثاني يستند إلى تاريخ طويل من الهوية الحضارية والتمسك بالخصوصية ويعتبر الحضارة الفارسية أحد أعرق الحضارات فـي العالم دون منازع. ومعروف كيف توظف الدول موضوع الهوية فـي بناء سردية العداء. واستطاع الغرب أن يصور إيران منذ اندلاع الثورة الإيرانية باعتبارها تهديدا وجوديا للغرب ليس لأنها ترفض شروط التبعية، ولكن لأنها تمتلك سردية مضادة للهيمنة.

لا يمكن الآن، إذا، أن نفصل هذه المفاوضات التي يمكن أن يعتبرها البعض فنية حول تفاصيل ملف نووي يرفضه الغرب ويرفضه جيران إيران عن منطق «الصفقة» ومنطق «السيادة».

وتفهم سلطنة عُمان، المعنية جدا بإطفاء أي شرارة يمكن أن تشعل الحرب فـي هذه المنطقة المشتعلة بالكثير من الصراعات عبر التاريخ، كل هذه الأفكار وهذه التوازنات وهذه النزاعات وتحاول جاهدة دفع الطرفـين نحو مساحة وسط، حيث يمكن الحفاظ على ماء الوجه دون تفجير المنطقة ودون ترك اللحظة التاريخية تفلت من سياقها دون مكاسب.

لكن خطر عدم التوصل إلى هذه المساحة يبقى حاضرا وإنْ بدرجات متفاوتة. وتصريحات نتنياهو الأسبوع الماضي بأن «العمل العسكري هو الخيار الوحيد إن لم يتم تدمير المواقع النووية» لا يمكن تجاهلها. كما أن ترامب، الذي يظهر أنه لا يفضل خيار الحرب، يحشد قوة عسكرية هائلة على مقربة من إيران. ولذلك تضعف هذه التناقضات احتمالات نجاح طويل الأمد، ما لم يكن هناك عمل جماعي لكبح جماح منطق التصعيد والوصول إلى فهم مشترك مفاده أن السلام ليس تنازلا ولكنه يمكن أن يكون استراتيجية تبني عليها الدول لمستقبل أكثر استقرارا.

ولذلك أرى، شخصيا، أن هذه المفاوضات التي بدأت اليوم السبت هي أقرب إلى أن تكون اختبارا أخلاقيا أكثر من كونها اختبارا دبلوماسيا لترامب من جهة ولإيران من جهة أخرى. ولكنها فرصة استثنائية لتجنب حرب جديدة، ومناسبة لإعادة التفكير فـي أسس العلاقات الدولية، هل هي علاقات قائمة على الإكراه؟، أو يمكن أن تُبنى على الندية والاعتراف المتبادل؟ هل بإمكان دولة مثل أمريكا أن ترى فـي إيران شريكا لا مجرد خصم؟ وهل تستطيع إيران أن تُطمئن العالم وجيرانها دون أن تتخلى عن هويتها وسيادتها على قرارها؟

أما المفاوضات فقد لا تسفر جولتها الأولى عن نتيجة كبيرة كما قد يحلم البعض، ولكن مجرد انعقادها فـي هذا التوقيت وفـي عُمان بالذات يعني أن هناك أملا فـي أن العالم لم يفقد قدرته الكاملة على التفاهم قبل أن يذهب نحو الانفجار العظيم، ولم يفقد قدرته على فهم المساحة الأكثر قدرة فـي المنطقة على تبني الحوار ورعايته.

عاصم الشيدي رئيس تحرير جريدة «عمان»

مقالات مشابهة

  • السودان بين أنياب القاهرة وطهران (2)
  • أخبار مصر اليوم.. تفاصيل المباحثات المصرية الإندونيسية في القاهرة
  • صراع الحضارات وسيناريوهات الهيمنة في مفاوضات واشنطن وطهران
  • تفاصيل المباحثات المصرية الإندونيسية في القاهرة
  • «بدر الرفاعي» وسيرة الانعتاق من الأيديولوجيا
  • السودان بين أنياب القاهرة وطهران: لماذا يخشاه السلطويون رغم جراحه؟
  • تاريخ العلاقات المصرية الإندونيسية… شراكة متجذرة وتعاون متنامٍ
  • انقلاب سيارة على طريق غارب - الغردقة يسفر عن وفاة سيدة وإصابة شاب
  • ذهاب السودان الي محكمة العدل الدولية طريق لإنصاف الضحايا وحماية للأحياء
  • السودان والإمارات أمام محكمة العدل الدوليةمعركة القانون كمرآة لصراع الهيمنة الإقليمية