(نص) المحاضرة الرمضانية الثانية عشرة للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي
تاريخ النشر: 13th, March 2025 GMT
يمانيون/ صنعاء (نص) المحاضرة الرمضانية الثانية عشرة للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي 12 رمضان 1446هـ | 12 مارس 2025م
أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.
أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:
السَّـلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
نتحدث في البدايـــة، عن إعلان قواتنا المسلحة اليمنية، لقرار حظر ملاحة السفن الإسرائيلية، عبر البحر الأحمر، وباب المندب، وخليج عدن، والبحر العربي، حتى يتم إدخال المساعدات إلى قطاع غزَّة، وهذا القرار قد دخل حيِّز التنفيذ، حيث سيتم استهداف أي سفينة إسرائيلية تَعْبُر في منطقة العمليات المعلنة، وهذا هو خطوةٌ عمليةٌ، وموقفٌ ضروري، في مقابل الخطوة العدوانية التصعيدية، التي أقدم عليها العدو الإسرائيلي، ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزَّة.
ما قام به العدو الإسرائيلي، من منع دخول المساعدات إلى الشعب الفلسطيني في قطاع غزَّة، وأيضاً من إغلاق المعابر، ومنع دخول أي مواد غذائية في إطار حركة التُّجَّار، وبأي شكلٍ من الأشكالٍ، يعني: الإقفال الكامل، والحصار التام، هو يهدف إلى التجويع للشعب الفلسطيني في قطاع غزَّة، إلى التجويع لمليوني فلسطيني في قطاع غزَّة، وهذه جريمةٌ كبرى، توصَّف بكل أوصاف الجرائم الكبرى: هي جريمة حرب، هي جريمة ضد الإنسانية، هي خطوةٌ تصعيديةٌ كبيرة، ليست مجرد إجراء عادي يمكن التغاضي عنه، أو التجاهل له.
ولـذلك يعتبر الصمت والجمود في الحالة العربية، ومن قبل الأنظمة العربية، وفي العالم الإسلامي، تجاه هذه الخطوة التصعيدية، التي تهدف إلى تجويع الشعب الفلسطيني، وهذا سعيٌ لإبادته، أو فرض التهجير القسري عليه، يعتبر الجمود القائم تجاه هذه الخطوة التصعيدية ذنباً من قبل العرب والمسلمين بشكلٍ عام، وخطيئةً كبيرة، وتنصلاً عن مسؤوليةٍ كبرى على هذه الأمة، في أن تقف مع الشعب الفلسطيني، الذي هو شعبٌ مظلومٌ، جزءٌ من هذه الأمة.
ومن الواضح أن الأنظمة العربية، مهما أقدم عليه العدو الإسرائيلي من خطوات عدوانية، وتصعيدية، وظالمة، وإجرامية، فسقف موقفها واضحٌ للعدو الإسرائيلي ومعه الأمريكي؛ لأن الأمريكي هو شريكه في كل ما يقوم به من جرائم، السقف للموقف العربي، ومن خلفه الموقف الإسلامي في أغلبه، هو: إصدار بيانات- حتى في صياغتها- يراعون فيها ألَّا تكون شديدة اللهجة، وتتضمن تلك البيانات في العادة التعبير عن أُمْنِيَّات، وعن دعوات، وعن مطالبات من الآخرين.
وهذا ليس هو الموقف الصحيح لأمة– أمة الملياري مسلم- ليس هو الموقف الصحيح لأمة لديها كل هذه القدرات والإمكانات، بلدان بأكملها، هو موقف قد يستحسن لمدرسة ابتدائية، أو لجمعية خيرية، أو لمؤسسة ثقافية؛ أمَّا لدول، لبلدان، لأمة، فليس هو الموقف الصحيح أبداً، ولا يرقى إطلاقاً إلى مستوى المسؤولية الإنسانية، والدينية، والأخلاقية، على هذه الأمة، تجاه هذه القضية، وتجاه مظلومية شعبٍ هو جزءٌ منها، هي معنيةٌ به.
فالعدو الإسرائيلي يُقْدم على ما يُقْدم عليه، من خطوات عدوانية، إجرامية، ظالمة، بدعمٍ أمريكي، وتخاذلٍ عربيٍ إسلامي، هناك عاملان مشجعان أساسيان: دعم أمريكي وشراكة أمريكية، وطاقم العمل في الإدارة الجديدة لـ[ترامب]، هم أكثر صهيونيةً، ووقاحةً، وجرأةً، في وضوح عدائهم الشديد للشعب الفلسطيني، وللمسلمين عموماً، ولهذه الأمة، وفي حرصهم على أن يكونوا متميزين بخطوات أكثر عدوانية مما قدمته إدارة [بايدن] قبلهم، وهذا شيءٌ واضحٌ، وحتى في تصريحاتهم، وعباراتهم، وقراراتهم، ومواقفهم؛ فالعدو الإسرائيلي يعتبر أن الظروف مهيأة، في إطار التخاذل العربي، والدعم الأمريكي المفتوح بخطوات كبيرة؛ ولذلك هو يتشجع على الإقدام على هذه الخطوات العدوانية.
ولكن في الساحة العربية، هذه الحالة من التخاذل، وهي مؤثِّرة حتى على الموقف في بقية البلدان الإسلامية، أنا كثيراً ما كررت التأكيد على هذه الحقيقة: أن التخاذل العربي مؤثِّر على التخاذل من كثيرٍ من البلدان الإسلامية، وإلَّا لكانت في مواقفها أقوى مما هي عليه، لكنها تصطدم بالموقف العربي؛ لأن الأنظمة العربية الكبرى، التي وصل بها الحال إلى أن تكون متواطئةً مع الأمريكي والإسرائيلي، تلعب في الساحة العربية والإسلامية لُعبة احتواء الموقف، وتوجيهه؛ ليبقى دائماً تحت ذلك السقف الذي قلناه: سقف البيانات فقط لا غير، ومنع أي خطوات عملية جادّة، تخدم الموقف الفلسطيني وتسانده بالفعل.
وهذا شيءٌ واضح، هذا شيءٌ واضح، تُعقد القمم، وتخرج دائماً ببيانات فيها- كما قلنا- صياغة ليست شديدة اللهجة، مخففة حتى في اللهجة والتعبير، ثم لا تكون مرفقةً ولا مرتبطة بأي خطوات عملية مهما كانت بسيطة، لا على المستوى السياسي، ولا على المستوى المقاطعة الدبلوماسية، ولا على المستوى الاقتصادي… ولا بأي شكلٍ من الأشكال، ولا في أن تكون إيجابية أكثر تجاه الشعب الفلسطيني، تجاه مجاهدي فلسطين، لم تتغير المواقف السلبية تجاه إخوتنا المجاهدين في فلسطين من الأنظمة العربية، لم تُغَيِّر لوائحها في تصنيفهم بالإرهاب.
بل أسوأ من كل ذلك، أن ما أعلنه البنك الدولي، عن قيام بعض الأنظمة العربية بفتح مسارٍ بريٍ، للالتفاف على الحصار اليمني ضد العدو الإسرائيلي، وفتح مسار يتم عبره نقل البضائع الإسرائيلية إلى الإسرائيليين من البر، هذا أعلن عنه البنك الدولي، وتحدث بشكلٍ صريح، وتحديد واضح لأنظمة عربية، وتحدث عن هذا المسار: كيف يتم، ومن أين إلى أين، وعن حجم نشاطه. هل ستجيب تلك الأنظمة على ما أعلنه البنك الدولي؟ هل ستنكر؟ هل ستنفي؟ هل سَتُقدِّم الشواهد على بطلان دعواه؟ أم أنها- فعلاً- هي متورطةٌ في ذلك؟ وهذا هو الأقرب إلى الحقيقة.
في المراحل الماضية، وفي مرحلة العدوان الشامل على قطاع غزَّة من قبل العدو الإسرائيلي، كانت تنشر حتى فيديوهات، للشاحنات والقاطرات المحملة بالبضائع، التي ينقلها العرب إلى العدو الإسرائيلي، ويتفرجون على الشعب الفلسطيني يتضوّر جوعاً.
فنحن أمام واقعٍ واضح، في هذه الساحة العربية والإسلامية، أن العدو الإسرائيلي مهما أقدم عليه من خطوات عدوانية تصعيدية، لو اتَّخذ قراراً بإبادة كل الشعب الفلسطيني، لما تجاوز الموقف العربي ذلك السقف: إصدار بيانات، وتتضمن بعض الأُمْنِيَّات، وبعض الدعوات للآخرين، أن يحاولوا أن يقنعوا الإسرائيلي ليكف عن ذلك؛ لو قَرَّر العدو الإسرائيلي هدم المسجد الأقصى، لكان الموقف الرسمي العربي بذلك السقف؛ لو اتَّخذ العدو الإسرائيلي قراراً بتهجير الشعب الفلسطيني بالكامل، وطرده من فلسطين، لكان السقف نفسه (السقف العربي) هو ذلك السقف: بيانات تُنَدِّد، تشجب، تطالب، تتمنى، تأسف!
هذه مسألة خطيرة جدًّا، تُشَجِّع العدو الإسرائيلي في مساره التصعيدي، الذي هو مسار متدرِّج، ولكنه ضمن برنامج واضح، واضح ما هي خواتيمه، ما هي غاياته، ما هي أهدافه، ماذا يريد أن يصل إليه.
ولـذلك ينبغي أولاً لشعوب أُمَّتنا، وللأحرار من أُمَّتنا، أن يدركوا أنه لا يجوز إطلاقاً ربط مواقفهم بمستوى ذلك السقف، الذي لدى الأنظمة العربية، لا يجوز إطلاقاً؛ لأنه سقف يعبِّر عن حالة التخاذل، والتنصل عن المسؤولية، ولأنه تماهٍ مع من؟ مع المتواطئين مع الأمريكي والإسرائيلي، الذين يعملون دائماً وفق الموجهات الأمريكية، والأولويات الأمريكية.
كان الموقف في مسألة ألَّا يعطوا هم أراضي لتهجير الشعب الفلسطيني إليها، وامتناعهم عن ذلك، هذا موقفٌ جيد، لكنه-فعلاً- في مستوى متدنٍ جدًّا، مقارنةً بما يجب عليهم أن يعملوا، يعني: هم يدركون أن هذه الخطوة لو أقدموا عليها ستكون خطوة عدوانية، ليست فقط أن يدعموا الإسرائيلي بشكلٍ مباشر بالدعم الاقتصادي، والسياسي، والتشجيع، والتحريض، وليست فقط في مستوى احتواء مواقف الأُمَّة، حتى لا يكون هناك تحرُّك جادّ لنصرة الشعب الفلسطيني وإسناده، لكن كانت سَتُمَثِّل- بنفسها- اعتداءً حقيقياً على الشعب الفلسطيني؛ لأنها ستكون هي الخطوة الأساسية في التهجير للشعب الفلسطيني، ومعنى ذلك: أن يكونوا هم- بأنفسهم- من ارتكبوا تلك الجريمة ضد الشعب الفلسطيني، لتهجيره من فلسطين إلى أراضٍ يحدِّدونها هم، ويقدِّمونها هم، يعني: لتحولوا إلى معتدين بشكلٍ مباشر على الشعب الفلسطيني، وليس فقط متخاذلين، متآمرين، متواطئين مع العدو، فهم امتنعوا عن هذا المقدار؛ لكن الخطوات التي يقوم بها العدو الإسرائيلي يجب أن يكون في مقابلها خطوات عملية.
ولـذلك عندما اتَّجهنا في بلدنا، في يمن الإيمان والحكمة، يمن الجهاد، لإعلان خطوة عملية وموقف عملي، هي: قرار حظر ملاحة السفن الإسرائيلية، عبر البحر الأحمر، وباب المندب، وخليج عدن، والبحر العربي، من واقع إدراكنا- ومن واقع واضح للناس جميعاً- أنه لابدّ من خطوات عملية، التَّعنُّت الإسرائيلي، والصلف الإسرائيلي، والوحشية التي يُبديها العدو الإسرائيلي، والدعم الأمريكي، والتشجيع الأمريكي، يجعل العدو الإسرائيلي يُقْدِم على خطوات عدوانية كبيرة، لا يمكن أن يتوقف عنها إلَّا بالردع، إلَّا بخطوات قوية، إلَّا بمواقف عملية.
ولهذا نؤكِّد أن هذا ليس هو سقف موقفنا؛ إنما هو الخطوة الأولى في موقفنا؛ ولـذلك إذا استمر العدو الإسرائيلي في تجويع الشعب الفلسطيني في قطاع غزَّة، ولم يَكُفّ عمَّا يقوم به الآن من منع دخول المساعدات، ومن منع دخول البضائع إلى قطاع غزَّة، نحن سنتَّجه أيضاً إلى خطوات تصعيدية أخرى، وسقفنا عالٍ، والخيارات كلها مطروحةٌ على الطاولة كما يقولون، مطروحة في الخيارات العملية، وهذا ما نريد أن نؤكِّد عليه.
ونؤكِّد أيضاً على أهمية هذه المواقف، وضرورة المواقف العملية؛ لأن الواقع بالنسبة للأنظمة العربية أنهم:
إمَّا– مع تخاذلهم- إمَّا أنهم يعادون من يتَّخذ مواقف عملية جادَّة، في مقابل الخطوات التصعيدية، العدوانية، الإجرامية، من قِبَل العدو الإسرائيلي، وهذا يحصل، هناك من الأنظمة العربية من يعادينا أشد العداء، لماذا؟ لأننا نقف مثل هذه المواقف المساندة للشعب الفلسطيني، والمواقف التحررية، التي لا نقبل فيها بالخنوع لأمريكا مع الخانعين والخاضعين. وإمَّا أنهم يلومونه، يوجهون إليه اللوم، والبعض من الأنظمة العربية، حتى المتعاطفة معنا، ترى في موقفنا هذا حماقة، وترى فيه تهوراً، وترى فيه تصرفاً غير مناسب، والكثير يوجّه إلينا اللوم.لكننا ندرك أننا في هذه المرحلة التاريخية المهمة، في العصر الذي يكثر فيه اللوم لمن يقف موقف الحق، يكثر فيه اللائمون، يلومونه، ينتقدونه بكل أشكال اللوم: من يُصَنِّف موقفه بأنه موقف لا ينسجم مع المصالح العامة، والمكاسب السياسية، والمصالح الاقتصادية، ومنهم من يُصنِّف باعتبارات أخرى، ومنهم من يشكك… كما قلنا: العدو الإسرائيلي له نفير واسع، وأصوات كُثر تقف معه.
بينما يجب أن يتوجَّه كل اللوم، كل الاحتجاج، كل الانتقاد، كل الضغط، على العدو الإسرائيلي؛ لأنه يريد أن يُجَوِّع الشعب الفلسطيني في قطاع غزَّة، يريد أن يمارس أسلوب الإبادة بالتجويع، فهو الذي كان ينبغي للجميع أن يتوجَّهوا إليه باللوم، والانتقاد، والاحتجاج، والحملات الإعلامية، والهجوم بكل أشكاله، والضغط السياسي، وكان من واجب الجميع أن يساندوا أي موقفٍ داعمٍ للشعب الفلسطيني، حينما يكون موقفاً فعلياً، عملياً، يُمثِّل خطوةً عمليةً ضاغطةً على العدو الإسرائيلي، ولكن الاعوجاج الكبير في واقع الأمة، هو بالشكل الذي دائماً يوجّه اللوم ضد الموقف الحق، ويسكت، ويتجاهل، ويتغاضى عن الموقف الباطل، عن الموقف الظالم.
أمريكا تقف مع العدو الإسرائيلي بشراكة تامة في كل خطواته التصعيدية والعدوانية، وتشارك حتى في التهديد والوعيد للشعب الفلسطيني، والغرب كذلك علاقته، دعمه، مساندته للعدو الإسرائيلي واضح، في المقابل ما هو الموقف العربي العملي؟ ما هي الخطوات الفعلية؟
تأتي الحقائق لتفضح تواطؤ كبار الأنظمة العربية، بتعاونها الفعلي مع العدو الإسرائيلي، تُعطي للفلسطينيين بيان في ورقة مكتوب، ليس وراءه أي خطوات عملية، وتفتح مساراتٍ برية للدعم الاقتصادي للعدو الإسرائيلي، وتُحَرِّض في السر العدو الإسرائيلي على خطواته العدوانية ضد الشعب الفلسطيني، هذا هو الشيء المؤسف!
عندما نتأمل– مثلاً- هذه الأيام ما تفعله أوروبا، الدول الأوروبية والأنظمة الأوروبية، مع أوكرانيا، تفعل معها كل شيء، تُقدِّم لها الدعم المالي بالمليارات، تُعلن عن ذلك، مليارات الدولارات دعماً لها ليس فقط في الشق الإنساني، أو في الشق الاقتصادي، بل حتى عسكرياً، وتُقَدِّم لها مع المال السلاح بكل أنواعه، وتُقدِّم لها الدعم السياسي، وتقاطع روسيا اقتصادياً، سياسياً، تتَّخذ قرارات بالعقوبات ضدها، تشتغل شغل واضح، يعني: ما تشتغله أي أُمَّة لديها توجُّه جادّ وصادق لدعم قضية مهمة، مع أن الفارق الكبير جدًّا ما بين قضية أوكرانيا وقضية فلسطين:
أوكرانيا، ورَّطها الغرب لتدخل في مشكلة مع روسيا؛ خدمةً للغرب. أمَّا القضية الفلسطينية، فهي قضية حق واضح، ومظلومية بيِّنة.ومع ذلك لتتضح الحالة بالنسبة للعرب، ومن خلفهم البلدان الإسلامية التي تأثَّرت بموقفهم في أغلبها، فليقارن أي متابع عربي بين ما يفعله الأوروبيون مع أوكرانيا، وما يفعله العرب مع فلسطين؛ نجد الفارق الكبير جدًّا، نجد- فعلاً- أن الحالة العربية هي حالة تخاذل في معظمها، وتواطؤ في بعضها، وتعاون مع العدو الإسرائيلي في بعضها، واحتواء للمواقف.
ومع ذلك اتَّجه بعض العرب الآن– مشغولون جدًّا- اتَّجهوا للاهتمام بأوكرانيا، كذلك يعني مشغولين مع الغرب، ليسوا فاضيين للانشغال بالقضية الفلسطينية، والهموم العربية، وهموم أُمَّتنا الإسلامية، هم لديهم انشغال هناك بعيد؛ لأنهم أصبحوا عباقرة، اهتماماتهم هناك بعيدة، هذه من الحالة الغريبة جدًّا في الساحة العربية والواقع العربي!
عموماً، نحن نؤكِّد على أن هذه الخطوة، التي أعلنتها قواتنا المسلحة، هي الخطوة الأولى، وأن سقفنا عالٍ جدًّا، وأن كل الخيارات مطروحة في الاستعداد العملي للتنفيذ، إن لم يتوقف العدو الإسرائيلي عن الحصار للشعب الفلسطيني في قطاع غزَّة، والتجويع له، ومنع المساعدات من الدخول إلى القطاع، ومنع حركة البضائع.
نعـــود إلى درسنـــا.
وكُنَّا بالأمس تحدثنـا أولاً: عن ما كان قد تحقق لنبي الله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ” في مقامه الأول بين قومه، وأنه عرض لهم من البراهين ما تصل بهم إلى الحقيقة، في مبدأ التوحيد لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والإيمان به، وإبطال الشرك ونسفه، وترسيخ مبدأ الكمال المطلق، الذي ليس إلِّا لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وأنهم بُهِتُوا تجاه ما عرض عليهم من البراهين؛ لأنه ليس لهم أي حُجَّة لإبطالها، في مقابل أنه أتى هو بالحُجَّة النَّيِّرة، المفحمة، المقنعة، والتي لم يكن لهم في مقابلها أي مستند للتشبُّث بما هم عليه من الباطل.
لكن لشدة ما قد أدمنوا عليه من العبادة للأصنام، وارتباطهم بها، وتَرَسُّخ هذا الباطل في نفوسهم، وتجذره في واقعهم الاجتماعي؛ لممارستهم له على مدى أجيال، كان لابدَّ من مقامات أخرى، فاتَّجه أيضاً لمقامٍ آخر، وبدأنا في الحديث عن المقام الآخر، وكيف دعاهم بشكلٍ جماعي في تجمعٍ لهم في هذا المقام- كذلك- إلى عبادة الله، ولكن بدأ أسلوبه معهم مستخدماً طريقة الأسئلة، والاستنطاق للحقيقة، والإلجاء لهم إلى الاعتراف بالحقيقة.
ثم في إطار هذه الأسئلة التي وجهها لهم، كذلك كان يصل بهم إلى الاعتراف الضمني بعجز تلك الأصنام بشكلٍ تام: أنَّها لا تملك لا ضراً، ولا نفعاً، ولا قُدرةً، ولا حياةً، أنَّها حتى لا تسمعهم حينما يدعونها، وهم يتوجَّهون إليها بالعبادة، وأنَّهم استندوا فقط- في ما استندوا إليه هم- إلى أنَّهم ورثوا هذا المعتقد الباطل من آبائهم: {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}[الشعراء:74].
تحدثنا أيضاً بالأمس، على أن الاستناد إلى ما عليه الآباء والأجداد ليس بمفرده حُجَّة، لا يمكن أن يكون هو لوحده حُجَّة، ولا برهاناً، ولا دليلاً؛ إنما المعتبر الحق- يعني- إن كان الآباء والأجداد على الحق، ويتَّبعون رموز الهدى، فحينئذٍ يمكن الانتماء، والاعتزاز بالانتماء إلى ما هم عليه، وما كانوا عليه؛ أمَّا إن كانوا على غير طريق الهدى، ولم يكونوا مرتبطين برموز الهداية، فلا يمكن الاستناد إلى ما كانوا عليه، وذكرنا في سياق الفارق أمثلة:
مثلاً: في قصة نبي الله يوسف “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، حينما ذكر الله عنه أنه قال: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ}[يوسف:38]. وكذلك في قول الله تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ}[الحج:78].هؤلاء الآباء، الذين هم أنبياء ورسل، وعلى خط التوحيد، وخط الإيمان بالله، خط الحق، وطريق الحق، والصراط المستقيم، كان الانتماء إليهم، والاعتزاز بالانتماء إليهم، شيئاً جيداً، ليس معيباً، ولا خطأً، بل هو صحيح.
أمَّا حال المشركين، الذين ورثوا الشرك من أسلافهم، وحال من ورثوا الباطل من أسلافهم، ويتعصَّبون له، ويتشبَّثون به، فليس لهم في ذلك مستندٌ ولا حُجَّة، ذكرنا قول الله: “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}[البقرة:170]، لأنهم ليسوا مهتدين؛ فلا ينبغي التشبُّث بما كانوا عليه.ولـذلك- كما ذكرنا بالأمس– أن مطاوعة التكفيريين عادةً ما كانوا يحاولون، في مساعيهم لإضلال شعبنا العزيز (يمن الإيمان والحكمة)، الذي له امتداده الإيماني الأصيل عبر الأجيال، إلى عهد رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ”، ولكنهم يأتون ليقولوا لشعبنا: [كُنتم على ضلال وباطل في كل ما أنتم عليه، ويجب أن تُسْلِموا من جديد، وأن تعتقدوا أن كل الأجيال من قبلكم كانوا كفاراً وكافرين، وعلى غير الإسلام؛ لأنهم ليسوا على الاتِّجاه التكفيري]، فإذا قال أحدٌ ما: [لا، نحن على ما كان عليه الآباء والأجداد]، قالوا: [هااااه، أنتم تقولون مثل مقولة الكافرين: {بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}[البقرة:170]]، فيحاولون أن يُشَبِّهوا بهذا الأسلوب على البعض من الناس، أن يثيروا مثل هذه الشُّبَه.
لكننا– تحدثنا بالأمس- أن مسار شعبنا العزيز هو كما قال عنه رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ”: ((الْإِيْمَانُ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَّةٌ))، كان يأتي البعض من حركة أهل الدعوة من الهند، في السنوات الماضية، إلى اليمن، ليدعوا اليمنيين إلى أن يسلموا، من الهند، يطلب من اليمنيين أن يسلموا، وهو آتٍ من الهند، وَالْإِيْمَانُ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَّةٌ! الامتداد الأصيل، والرموز الهداة العظماء ليمن الإيمان والحكمة من رموز الإسلام والإيمان، من نجوم الهداية، المضيئة في سماء الهداية؛ ولـذلك ينبغي أن يكون لدى الناس وعي وبصيرة، وأن يكون لديهم انتباه تجاه أي شُبه.
تحدثنا عن مسألة الموروث الفكري والثقافي للأُمَّة، وعن المعيار لما هو صحيح، المعيار هو: الحق، والامتداد لنهج الحق وطريق الحق؛ أمَّا ما هو باطل فلا ينبغي التعصُّب له أبداً، بالاستناد إلى من كانوا في طريق الباطل، أو زاغوا عن طريق الحق في تاريخ الأمة، وهذه المسألة مهمة جدًّا.
ننتهي من هذه النقطة، وننتقل إلى كلام نبي الله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ” فيما رد به عليهم: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:75-77]، وهنا يعلن موقفه الحاسم (البراءة) بصيغة صريحة وواضحة جدًّا، بالعداء، الذي هو قمة البراءة يعني، {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:77]، فهو يتَّخذ موقفاً حاسماً من شركهم، ومن معبوداتهم الزائفة.
في الحديث عن هذه المسألة، وما فيها من تفاصيل، نتركه لمحاضرة الغد إن شاء الله؛ لأننا اليوم تركنا مساحة للحديث عن الموقف، وحتى لا نطيل، نكتفي بهذا المقدار.
نَسْألُ اللَّهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهْدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.
وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
المصدر: يمانيون
كلمات دلالية: ع العدو الإسرائیلی ع الشعب الفلسطینی الأنظمة العربیة للشعب الفلسطینی الساحة العربیة خطوات عملیة هذه الخطوة هذه الأمة س ب ح ان ه ع ل ى آل ت ع ال ى من خطوات مع العدو ما کانوا أن یکون على هذه حتى فی ما کان لیس هو
إقرأ أيضاً:
نص المحاضرة الرمضانية الـ 11 للسيد عبدالملك بدر الدين الحوثي 1446هـ
الثورة نت/..
نص المحاضرة الرمضانية الـ 11 لقائد الثورة السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 11 رمضان 1446هـ:
أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.
أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:
السَّـلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
استكملنا العرض القرآني لمقامٍ من أهم المقامات، التي وردت في القرآن الكريم، لنبي الله وخليله ورسوله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، في الدعوة لقومه إلى عبادة الله، والتوحيد لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وفي السعي إلى نسف الشرك، وكان هناك الكثير من الدروس والعبر، التي راعينا فيها- أيضاً- الاختصار؛ لنصل إلى الاستفادة- أيضاً- من المقامات الأخرى.
في ذلك المقام المهم والمفيد، نلحظ أن نبي الله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ” حقق نتائج مهمة:
– في مقدمتها: كسر الحاجز الكبير، الذي كان ما بينه وبين أن يبدأ معهم مشوار الدعوة إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والإبلاغ لرسالة الله، والدعوة إلى التوحيد لله.
– ولفت أنظارهم إلى مبدأ التوحيد.
– وكذلك سعى لنسف الشرك من أذهانهم كمعتقد، من خلال ترسيخ مبدأ الكمال المطلق لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وأنه المبدأ الأساس في الاستحقاق للألوهية.
– وقام بعملية استعراض تَأَمُّلي، في قصة التَّأمُّل للكوكب، وللقمر، وللشمس، ووصل بهم إلى أن بهتوا؛ لأنهم لا يمتلكون الحُجَّة لرد ما عرضه عليهم من البراهين النَيِّرة، والحجج الواضحة، التي آتاه الله إياها.
لكنَّ تَشَبُّثَهم الشديد، واعتيادهم على حالة الشرك، يحتاج إلى المزيد من المقامات، والتَّرقِّي في الاستدلال، وفي قوة الموقف.
يعرض لنا القرآن الكريم في (سورة الشعراء) مقاماً آخر، يتميز بالصراحة أكثر من المقام السابق، وهذا في سياق التَّرقِّي، وفي توسيع نطاق الاستدلال ومضامينه، وفي قوة الموقف أكثر؛ لِمَا لذلك من أهمية في زجرهم عمَّا هم عليه من الشرك، وكذلك باستخدام أسلوب المساءلة، التي تستنطق الحقيقة، وتلجئهم إلى الاعتراف بها، يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في (سورة الشعراء):
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}[الشعراء:69-104].
هذا هو التعقيب للقصة، كما فيما قبلها وبعدها من القصص في (سورة الشعراء): {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}.
في هذا المقام نجد أشياء كثيرة، عظيمة، ومهمة، ومفيدة، في الاستدلال والسعي لهدايتهم. في جوهر هذا الاستدلال في هذه القصة يُركِّز على افتقار الإنسان إلى الله تعالى، وارتباطه به في كل أساسيات وجوده وحياته.
الإنسان في خلقه، ووجوده، وحياته، وهدايته، وغذائه، ورزقه، وأجله، مفتقرٌ في ذلك كله إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ومحتاجٌ إليه، ولا مصدر له في ذلك إلَّا الله، وفي جلب النفع، وفي دفع الضر، وفي النعم كلها، إضافةً إلى مستقبل الإنسان الأبدي والكبير والمهم في الآخرة، فلماذا يتَّجه بالعبادة إلى غير الله تعالى، ويتولاه بديلاً عن التولي لله تعالى، والله هو الذي يملك من الإنسان، ويملك للإنسان، ما لا يملكه إلَّا هو، وأنعم على الإنسان بما لم ينعم به عليه غيره؟!
وهذه مسألة مهمة؛ لأن الدافع الكبير في مسألة العبادة، والتَّوجُّه بالعبادة، هي: هذه الحالة من الافتقار، والشعور بالعجز والحاجة، والارتباط من خلال احتياجات الإنسان ومتطلبات حياته بناءً على ذلك؛ فهو يتَّجه بالعبادة بناءً على ذلك.
نبدأ بالحديث على ضوء هذه القصة المهمة والمفيدة.
تبدأ القصة في هذا المقام بقوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ}[الشعراء:69]، نبي الله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، الذي يلتقي الجميع على تعظيمه، وعلى رمزيته، بما في ذلك المشركون من العرب، وفي مقدمتهم: قريش، الذين هم من نسل نبي الله إسماعيل بن إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، فتلاوة نبأه عليهم (هذا الخبر المهم والمفيد) له أهميته، يعني:
– من حيث رمزية وتعظيم إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ” لديهم، إلى درجة أنهم يدَّعون الانتماء إلى نهجه.
– ومن حيث الإيضاح لحقيقة ما كان عليه نبي الله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ”.
– ومن حيث ما تضمنه هذا الخبر في تفاصيله، من براهين عظيمة، مقنعة، وحجج دامغة، ودلائل واضحة على بطلان الشرك.
ولـذلك يأتي الأمر للنبي “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ” وهو في أداء مهمته، في إبلاغ الرسالة الإلهية، وإنقاذ الناس من الشرك، ودعوتهم إلى الإيمان بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وبوحدانيته، وبالعبادة له، يأتي الأمر له: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ}؛ لِمَا لهذا من أهمية وتأثير، وإقامةٍ للحُجَّة عليهم.
نجد في هذه الآيات المباركة، أن نبي الله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ” استخدم أسلوب الاستنطاق للحقيقة، والمساءلة، التي تلجئهم إلى الاعتراف بها، فاتَّجه إليهم، ويتَّضح أنه اتَّجه إليهم في حال اجتماعٍ لهم، إمَّا أن يكون ذلك في المعبد الذي فيه أصنامهم ويجتمعون فيه، أو في مقام هم مجتمعون فيه؛ فلـذلك كان يخاطبهم، ويتحاور معهم، ويبيِّن لهم، ويسائلهم في جوٍ جماعي.
{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ}[الشعراء:70]، ابتدأ معهم بهذا السؤال: (مَا تَعْبُدُونَ؟).
العبـــادة: هي المفهوم الذي يحكم حياة الإنسان ومصيره، وهو المفهوم الذي يحدد طبيعة ونوع علاقتنا مع الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والعبادة هي في الأساس: الخضوع المعبِّر عن العبودية، وهذا الخضوع المُعَبِّر عن العبودية يأتي له أشكال، يعني: هو ينطلق من حالة نفسية لدى الإنسان، في حالة الخوف، والرجاء، والخضوع، والتذلل، والشعور بالحاجة والافتقار، من واقع الاعتراف بالعبودية، من واقع الشعور بأنه عبد، وهذا الشعور لدى الإنسان بأنه عبد هو شعورٌ فطريٌ راسخ، لا يمكن أن يزول من الإنسان.
الإنسان في تكوينه- كما شرحنا في الدروس الماضية- وفي فطرته، وفي واقعه وواقع حياته، يشعر بحاجته إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وبأنه عبدٌ، استمدَّ وجوده في هذه الحياة، ويستمدُّ كل النعم عليه في هذه الحياة، ومتطلبات حياته الأساسية، من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، فالعبادة هي هذا الشعور، هذا الخضوع المُعبِّر عن العبودية، والذي يترجمه الإنسان في أشكال عملية، يُعبِّر بها عن هذا الخضوع، ويتَّوجه بما هو عبادة، بما يُعبِّر به عن كونه عبداً.
فالإنسان هو- في الأساس وفي واقع الحال- هو عبدٌ لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، مهما فعل، لا يخرجه ذلك عن كونه عبداً لله، يعني: ليس باستطاعتك أن تنتزع ملكية الله لك وتتخلص منها، لا يمكنك ذلك، مهما يكن فأنت- في واقع الحال- عبدٌ لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، هو المالك لك، هو الذي خلقك، هو الذي ربَّاك، هو المنعم عليك، وهو المالك لك، والمالك لكل ما في السماوات والأرض، وهو ربُّ العالمين، فهو ربُّك “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
لكن الإنسان عندما يتَّجه بالعبادة لغير الله هو في حالة ضلال، ضلال رهيب، وفي حالة تَنَكُرٍ تامٍ لأكبر الحقائق، وللحقِّ العظيم، وتعدٍ تجاه حدٍ مهم في الحقِّ الذي هو حقٌّ لله تعالى؛ لأن العبادة هي حقٌّ لله تعالى، فعندما ينحرف الإنسان بالعبادة لغير الله هو يتعدى على هذا الحق؛ فلـذلك هو يظلم نفسه، وهو يتنكر للحق، وهو يسيء إلى نفسه، لكنه لا يشطب بذلك الحقيقة، التي هي حقيقة راسخة لا يمكن شطبها.
العبادة ترتبط بحالة الخوف، بحالة الرجاء، بحالة المحبة، بحالة التعظيم، في أرقى وأعلى مستوياتها، يعني: الإنسان في أخوف ما ينبغي أن يكون عليه من الخوف، أرجى ما ينبغي أن يكون عليه من الرجاء، حالة الطاعة المطلقة التي هي فوق كل طاعة، المحبة في أعلى مستوى من المحبة، في هذا كله يجب أن يكون متوجهاً بذلك في إطار العبادة- في من يعبده- إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” الإله الحق، فإذا اتَّجه بهذه الحالات: في أعلى مستوى من الخوف، أعلى مستوى من الرجاء، أعلى مستوى من المحبة، الطاعة المطلقة التي هي فوق كل طاعة، إلى غير الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ فهو يتَّجه لتعبيد نفسه لغير الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ثم تأتي الحالة العملية بالنسبة للإنسان في مواقفه، في اتِّجاهه في مسيرة حياته، بناءً على ذلك.
{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ}[الشعراء:70]، كما قلنا: لأن العنوان الأهم هو هذا العنوان: العبادة، هو الذي يحكم حياة الإنسان، مصيره، يحدد نوع علاقته بالله، طبيعة علاقته بالله، ينبغي أن تكون هكذا: أن نتوجَّه بالعبادة إليه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” وحده؛ لأننا عبيده.
لماذا يسألهم؟ هو يعرف أنهم يعبدون الأصنام، لا إشكال عنده في ذلك، لكنه يتوجَّه إليهم بهذا السؤال؛ لأن الجواب- بنفسه- إذا أجابوا بالجواب المطابق للسؤال، فجوابهم- بنفسه- يتضمن الاعتراف بالحقيقة المهمة، وهي: أنهم يتوجَّهون بالعبادة إلى من ليس جديراً بها، ولا يستحقها، وليست له، فحالة الشرك حالة باطلة.
{مَا تَعْبُدُونَ}[الشعراء:70]، السؤال- بنفسه- يتضمن معنى الاستنكار والتحقير، لما يعبدونه من دون الله.
إجابتهم، سيتضح لنا من خلالها أنهم حاولوا التَّهّرُّب من الجواب المطابق للسؤال، وهي: أن يفصحوا عن مَاهِيَّة تلك الأصنام، أن يقولوا مثلاً: يعبدون أصناماً، إن كانت من الحجر، يقولون: [من الحجارة، منحوتة، نحتناها، أو اشتريناها]؛ أو من النحاس، أن يتحدثوا عن مَاهِيَّتِها، ومما هي مصنوعةٌ منه؛ لكنهم تَهَرَّبوا من الإجابة عن السؤال بمقتضاه، واتَّجهوا إلى الحديث عن عبادتهم لتلك الأصنام: {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ}[الشعراء:71]، يؤكِّدون ما هم عليه من التعظيم لها.
وفي جوابهم يواجهون ما تضمنه معنى سؤاله من معنى التحقير، وكذلك ما تضمنه من الاستنكار، فهم يعبِّرون عن اعتزازهم وتعظيمهم لها، واعتزازهم بعبادتها: {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ}[الشعراء:71]، (الظُلُول): البقاء في النهار لديها، في أوقات مُعَيَّنة من النهار، (عَاكِفِينَ): العكوف عليها هو الملازمة، والإقبال عليها بالتعظيم، والطقوس العبادية التي كانت معتادةً لديهم، يعني: كان لديهم مثل ما لدينا- مثلاً- في الإسلام في عبادتنا لله: (صلاة، دعاء…)، لديهم طقوس أخرى يُعبِّرون بها عن ذلك، ويتضرَّعون إليها، يُقدِّمون لها القرابين… إلى غير ذلك.
مسألة العبادة بطقوس مُعَيَّنة، يعني: إقبال على أذكار مُعَيَّنة، إقبال على دعاء، على تَضَرُّع، هي جانبٌ مهم من مجالات العبادة، وهي جزءٌ أساسيٌ مما هو معتادٌ وما هو قائمٌ أصلاً في مسألة العبادة.
الإنسان لديه الاحتياج الروحي كحاجة فطرية فيه، يعني: يحتاج إلى أن يتوجَّه بخضوعه، بخشوعه، بدعائه، بِتَضرُّعِه، بطلبه، إلى من يعتقد أنه جديرٌ بذلك، في الأساس هي فطرة توجِّهنا إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، لكنَّ الإنسان هو ينحرف عن فطرته، ينحرف عن فطرته.
هذه الحاجة الروحية، في شرع الله، وفي نهج الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ما يُوجِّهها في الاتِّجاه الصحيح إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وهي مصدر مهم جدًّا للشعور بالسكينة، والشعور بالاطمئنان؛ لأنها- كما قلنا- حاجة فطرية. الإنسان في مقام العبادة هو يتضرع إلى الله، ويقبل على الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ويتوجَّه إليه بالذكر، بالمناجاة… بأشكال العبادة، كحالة الصلاة لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وبذلك هو يُحِسّ بالطمأنينة، يُحِسّ أنه قريبٌ من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وأنه يحظى أيضاً من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” برعايته، أن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” عليمٌ بحاله ذلك، وأن ذلك يُقَرِّبه إلى رعاية الله أكثر، ويحظى من خلاله بالقرب من الله أكثر.
هذه الحالة الفطرية ذات أهمية كبيرة في حياة الإنسان؛ ولـذلك من نعمة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أن فتح لعباده فيها آفاقاً واسعة، يأتي دور الصلاة بشكلٍ أساسيٍ في هذا الجانب، دور الدعاء بشكلٍ أساسيٍ في ذلك، والإنسان إذا ابتعد عن هذا الجانب؛ يشعر بقسوة القلب، يشعر بحالة الجفاف الروحي، الجفاف الروحي له سلبيات كبيرة تنعكس على نفسية الإنسان، في سلوكه، في قلقه، في اضطرابه، في توتره الشديد الدائم… في أشكال كثيرة، تُبعد الإنسان حتى عن مشاعره الإنسانية.
ولـذلك فهذا يلفت نظرنا إلى أهمية هذه المسألة، وإنما هم كانوا ينحرفون في اتِّجاه خاطئ، واتِّجاه باطل، عندما يتوجَّهون بتلك الطقوس الباطلة إلى أصنامهم.
الأصنــام، من الواضح أنَّها لا تملك لهم ما يطلبونه منها ويعبدونها لأجله، في عبادتهم لها، في تضرعهم، في دعائهم، يعني: لا تملك لهم لا نفعاً، ولا دفع ضر… ولا أي شيء مما يطلبونه، هي لا تملك حتى الحياة في نفسها، أو القدرة على سماعهم؛ لأنها تماثيل حجرية، أو نحاسية… أو بحسب المادة التي صنعوها منها، هي جمادات لا أكثر.
تَوَجَّه ليسألهم سؤالاً آخر، وهو سؤال مُحرجٌ لهم بشكلٍ كبير: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّون}[الشعراء:72-73]، وهذا سؤال كبير ومحرج بالنسبة لهم، وهم لم يستطيعوا أن يدَّعوا لها أياً من ذلك، يعني: لم يستطيعوا أن يدَّعوا لها أنها تسمعهم، أثناء دعائهم وهم يدعونها، ويتضرَّعون إليها، ويتقرَّبون إليها، ولا أنها تنفعهم، ولا أنها تدفع عنهم الضُرّ، أو تُلحِقهم بالضرر إن لم يتَّجهوا إليها بتلك العبادة الباطلة.
فلـذلك هم لم يجدوا لهم أي حُجَّة ولا برهان، ولجأوا في جوابهم إلى الاستناد إلى مسألة أخرى، إلى اعتبار آخر، ودافع آخر لعبادتهم لها، وهو: العادات والتقاليد الموروثة، والاستناد إلى ما كان عليه آباؤهم في ذلك: {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}[الشعراء:74]، فهم حاولوا أن يستندوا إلى ذلك، وأن يُقَدِّسوا ما كان عليه آباؤهم في ذلك.
الاستناد إلى ما كان عليه الآباء والأجداد بمفرده ليس بِحُجَّة، ولا ببرهان، يعني: لا يمكن أن يَدُلّ بنفسه فقط على أن ذلك حق، بمجرد أن كان عليه الآباء والأجداد، إذاً فهو حق، لا يمكن لأحد أن يثبت ذلك؛ لأنه هكذا المسألة: إذا كان الاعتبار هذا لوحده، فهو لا يدل على الحق أبداً، المسألة: أن ما كان عليه الآباء والأجداد، إن كان هو في الأساس حق، فلا بأس أن يُتَّبع؛ وإن لم يكن هو بنفسه حق، فمجرد أنهم كانوا عليه لا يحوِّله إلى حق، ولا يجعل منه حقاً وهو في أساسه باطل؛ ولـذلك نجد الفارق:
– بين الاعتزاز بما كان عليه الآباء والأجداد، والاعتزاز بالانتماء إليه إن كان حقاً فعلاً.
– وبين الحالة المختلفة: الاعتزاز والتَّشبُّث به إن كان باطلاً.
فالمسألة ليست مطلقة، يعني: لا ينبغي الاعتزاز مطلقاً، والاستناد إلى ذلك حتى لو لم يكن حقاً، ولا يعني ذلك أنه حينما يكون حقاً ألَّا يكون هناك اعتزاز بالانتماء إليه، واستمرارية، وتأكيد على الثبات في ذلك النهج، فالمسألة تعود في أصلها- كما قلنا- إلى ما عليه ذلك: إن كان حقاً، فهو الأساس؛ إن كان باطلاً، فلا ينبغي، وهذه مسألة مهمة؛ لأننا نجد الفارق مثلاً:
– فيما ذكره الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في القرآن الكريم عن نبيه يوسف “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، حينما قال: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ}[يوسف:38]، له أن يعتزّ بهذا الانتماء، وبهذا الاتِّباع، وأن يؤكِّد استمراره على ذلك النهج؛ لأنه نهج حق، عليه أنبياء الله وأولياؤه.
– ونجد- مثلاً- في القرآن الكريم حينما يخاطب الله قريشاً، يقول لهم: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ}[الحج:78]، هذا هو النهج الذي كان عليه أبوكم، لماذا لا تَتَّبِعونه؟ لأن أبوهم هو نبي الله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ” الذي كان على الحق، رسول من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، رمزٌ للهداية، رمزٌ للهداية، وليس رمزاً للضلال.
ولذلك نجد أهمية الوعي بهذه المسألة، بمعنى: حينما يكون الآباء والأجداد على نهج الحق، ورموزهم التي اتَّجهوا معها في طريق الحق من الهداة، الذين يهدون بهدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، فمن حقنا أن نعتزَّ بانتمائنا إلى نهجهم، وأن نؤكِّد ثباتنا على ذلك النهج، واستمرارنا عليه.
مثلاً: في واقعنا، عندما نقول في اليمن: رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم” قال: ((الْإِيْمَانُ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَّةٌ))، الآباء والأجداد لهم تاريخٌ عظيم في انتمائهم الإيماني، في اتِّجاههم في طريق الإيمان، لهم أصالة في انتمائهم الإيماني، على مدى الأجيال، وصولاً إلى عصر رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم”، وإلى الأنصار، وهناك في هذا الامتداد التاريخي رموزٌ عظماء، اتَّجهوا بشعبنا العزيز في طريق الهداية ونهج الهداية، فهذا الاعتزاز، هذا الانتماء، في مَحَلِّه؛ لأن أصل المسيرة والطريق التي ساروا فيها هي طريق الإيمان؛ إنما نسعى إلى تنقية ما يكون قد أُدْخِل على هذا المسار التاريخي والامتداد، مما يُخالف أصالته، مما يخالف نقاءه، أي شوائب تكون أُدْخِلت من هنا أو هناك لأي فرق الضلال نسعى إلى تنقيتها، هذا الانتماء انتماء أصيل وعظيم، لا إشكال فيه.
لأن البعض- مثلاً- في الهجمة والغزو التكفيري الذي استهدف بلدنا، ويحاول أن يسيء إلى كل هذا الامتداد الأصيل على النهج الإيماني لشعبنا العزيز، إلى عهد رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم”، والإيمان به، ويحاول أن يصوِّر للشعب اليمني أن ما كان عليه الآباء والأجداد هو ضلال، يأتي بعض مطاوعة التكفيريين ليستدلوا بمثل هذه الآيات، عمَّا كان عليه الآباء والأجداد، لكنه استدلال في غير مَحَلِّه، كما وضَّحنا بهذا التفصيل.
الواقع الصحيح لمن يتَّجهون على أساس هدى الله، ومنهج الله الحق، وامتدادهم عبر الأجيال هو امتداد إيماني أصيل، هو: أن يعتزُّوا بهذا الامتداد الإيماني الأصيل، كما قال نبي الله يوسف “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، وهو في مقام محمود، يعني: لم يكن القرآن منتقداً عليه لماذا قال هكذا: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ}[يوسف:38].
بينما الحالة التي هي حالة خاطئة هي: الاعتزاز إلى نهج من ليسوا على الحق، من ماضيهم مظلمٌ وباطلٌ وضلال، هذا هو الذي- فعلاً- لا ينبغي الاعتزاز به، ولا التَّشبُّث به، ولا التَّمسُّك به، ولا السير عليه.
ولهذا نجد أيضاً في القرآن الكريم- مثلاً- في هذه المسألة: حينما كان البعض من المشركين يحاولون أن يتشبَّثوا بما هم عليه من شرك برموزهم من المضلين، ومن آبائهم، يقول القرآن: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}[البقرة:170]، يعني: هذه هي المشكلة: أن آباؤهم لم يكونوا (يَعْقِلُونَ شَيْئًا)، (وَلَا يَهْتَدُونَ): ولم يكونوا على هدىً، لو كانوا على هدىً كان لا بأس باتِّباعهم.
هذا يعطينا درساً أيضاً في الموروث الفكري والثقافي للأُمَّة، والمعيار لما هو صحيحٌ في ذلك، لكن- حتى لا نطيل- نكتفي بهذا المقدار.
وَنَسْألُ اللَّهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهْدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.
وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛