اتفاقية سلام جوبا: التمادي في بذل العهود المستحيلة (2)
تاريخ النشر: 12th, March 2025 GMT
عاد اتفاق سلام جوبا إلى واجهة خطاب السياسة والحرب في يومنا هذا. وأنشر نص ورقة كنت قدمتها لمؤتمر انعقد في مركز الدوحة في العام الماضي ما وسعني لكي يدور النقاش المتجدد عن الاتفاقية فوق علم باتفاق قل من اطلع على نصوصه.
الاتفاقية التي لم يقرأها أحد
آفة الاتفاقية الكبرى، طالما كانت صفقة للعاجلة، زهادة صفوة الحكم والرأي في الاطلاع عليها حتى.
فقال كثير من المدنيين بأن إجراءات السلام مما انعقد بالحكومة، بل وكالوا النقد الزعاف لما حسبوه تفريطاً منها بحق استأثر به العسكريون في مجلس السيادة دونها. وسنرى من نص الوثيقة الدستورية أن لا سند لانعقاد التكليف بالتفاوض على الحكومة. فجاء ذكر اختصاص السلام في الوثيقة الدستورية في موضعين مربكين. جاء التكليف ضمن اختصاصات مجلس الوزراء وسلطاته (١٦-٢) بقول الوثيقة إن من تبعات المجلس “العمل على إيقاف الحروب والنزاعات وبناء السلام” في حين كلفت الوثيقة مجلس السيادة ب”رعاية عملية السلام مع الحركات المسلحة” (١٢-س)، علاوة على تعيين رئيس وأعضاء مفوضية السلام “بالتشاور مع مجلس الوزراء” (١٢-٣). وقام المجلس برعاية عملية السلام مع المسلحين كما بدا له من الوثيقة الدستورية، وعين مفاوضي جوبا. ولا أعرف إن كان سماهم مفوضية السلام أم لا، أو إن كان شاور مجلس الوزراء. وليس مدعاة للتفاؤل باتفاقية يكتنفها هذا الارتباك في فقه تأسيسها نفسه.
ونرى من الإثارة السياسة عن الدين والدولة التي رشحت بعد الاتفاق أنه اتفاق لم يقرأه أحد. فأعترض الفريق شمس الدين كباشي، عضو مجلس السيادة وكبير المفاوضين عن الحكومة كما تقدم، على ميثاق تواصى عليه عبد الله حمدوك، رئيس الوزراء، وعبد العزيز الحلو، زعيم الحركة الشعبية، في نوفمبر 2020 لأنه دعا إلى دولة مدنية. وسمى الكباشي اتفاق الرجلين عطاء من لا يملك لمن لا يستحق. كما وقع الفريق عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة، “إعلان مبادئ” مع الحلو (ابريل 2022) وأعقبه الحزب الشيوعي (مايو 2022) شدد على وجوب مدنية الدولة. ولو طالع أي من هذه الأطراف اتفاق جوبا لاستغنى عن التنمر واحدها على الآخر، أو كف عن المطالبة بما فرغت الدولة من التصديق عليه في الاتفاق.
فلسنا نعرف، متى وقفنا على مواد اتفاق جوبا عن علاقة الدين والدولة، وثيقة مهجسة بشأن فصلهما تبدي وتعيد فيه مثله. فجاء في المادة ٧،١ من اتفاق القضايا القومية من وثيقة جوبا وجوب “الفصل التام بين المؤسسات الدينية ومؤسسات الدولة لضمان عدم استغلال الدين في السياسة. ووقوف الدولة على مسافة واحدة من جميع الأديان وكريم المعتقدات على أن يُضَمن ذلك في دستور البلاد وقوانينها”. وجاء عن مبادئ تقاسم السلطة في اتفاق دارفور وجوب “الفصل التام بين المؤسسات الدينية عن مؤسسات الدولة لضمان عدم استغلال الدين في السياسة”. وجاء في اتفاق المنطقتين أن المواطنة بلا تمييز هي أساس كل الحقوق والواجبات “وتقتضي أن تقف الدولة على مسافة متساوية من الأديان والثقافات دون أي انحياز إثني أو ديني أو ثقافي يؤدي للانتقاص من هذا الحق. ويجب أن يضمن ذلك في الوثيقة الدستورية التي تحكم الفترة الانتقالية”. وأعطى الاتفاق المنطقتين، جبال النوبة والنيل الأزرق، صلاحية التشريع مراعاة لوضعهما الخاص كحق أصيل لا يتعارض مع الدستور القومي. فإما أن من ذكرنا من المؤرقين بفصل الدين عن الدولة لم يطلع على نص اتفاق دارفور، أم أن مدنية الدولة تكون بعبد العزيز الحلو أو لا تكون.
غير خاف أن فصل الدين عن الدولة من تلك الأمور التي يقال أن وقتها قد أزف. ولا يعرف التاريخ حصولاً لأمر مثل ذلك الذي أرهص وصار إلى التحقق. فحتى دولة الإنقاذ التي أعلنت الجهاد يوماً لأوبة الدين للدولة أعيتها الحيلة مع دعواها في أوبة الدين للدولة فتنازلت عن أكثر دعواها عن حاكمية الدين مع التجمل بعدم ذكر عبارة فصل الدين عن الدولة نصاً. فجاء في نص بروتكولات مشاكوس في ٢٠٠٢ بين الإنقاذ والحركة الشعبية ما يلي عن الدين والدولة بعد اعتراف بالتعدد الديني والإثني:
1-6 الاديان والاعراف والمعتقدات مصدر للقوة الروحية والالهام للشعب السوداني.
2-6 تضمن حرية المعتقد والعبادة والضمير لإتباع كل الاديان والمعتقدات والاعراف ولا يجوز التمييز ضد أي شخص على هذه الأسس.
3-6: تولي جميع المناصب، بما فيها رئاسة الدولة والخدمة العامة والتمتع بجميع الحقوق والواجبات، يتم على أساس المواطنة وليس على أساس الدين أو المعتقدات او الأعراف
واسفرت هذه الزهادة في الالمام بنص اتفاق جوبا في الورشة التي انعقدت لمناقشته بعد سقوط الحكومة الانتقالية في أكتوبر 2022. فلم تزد الورشة عن إعادة إنتاج خطاب المظلومية القومية (هامش بوجه مركز) في حضرة اتفاق لا أعرف مثله من رد هذه المظلومية بشكل محيط، إن لم نقل مبالغاً فيه. فوجدت الدكتور الباقر العفيف، من مفكري الهوية السودانية والناشط في خدمتها، عرض هذه المظلومية بحذافيرها في الورشة. ولم يكترث مع ذلك ليرى إن كان اتفاق جوبا قد رفعها عن أعراق السودانيين المختلفة وألسنتهم. فسأل العفيف في الورشة عما وراء هذه الحروب الطويلة التي ابتلينا بها. ورد ذلك إلى رفض المركز، الذي تقلَّدْته طواقم من الشمال العربي المسلم منذ استقلال السودان في 1956، التصالح مع الأعراق والثقافات غير العربية والإسلامية. وهذا فشل، في قوله، في إدارة التنوع ذي عواقب وخيمة. ورغم أن عروبة هذا الطاقم في رأيه مجرد زعم إلا أنه فشل في توطين نفسه في السودان، وبين أقوام غيرهم في الأعراق والثقافة.
فمن جوانب ترفع هذه الصفوة الشمالية العربية المسلمة عن غيرها، في قول العفيف، جعلهم تاريخ السودان في المناهج يبدأ بدخول العرب والإسلام إلى السودان في القرنين الثامن والتاسع الميلاديين مسقطين تاريخاً جللاً سبق ذلك الدخول وهو تاريخ دولة كوش (2500 إلى 542 قبل الميلاد) العامر المذهل. وهو التاريخ، في قول آخر كشوف الآثار، الأصل للحضارة المصرية. ومع ذلك، في قول العفيف، يُطبق الجهل بتلك المأثرة بنا. فمتى سأل الصبيان أهلهم عن صُناع الآثار الكوشية التي يغشونها بظهر قراهم قالوا لهم هي لقوم أقدمين سبقونا إلى المكان ثم غادروا ولم يسمع منهم أحد بعد. ودعا العفيف، ناظراً للتجربة الإنجليزية، أن يكون تدريس الماضي السوداني على بينة “تواريخ”، أي أكثر من تاريخ للسودان، لا “تاريخاً” عربياً إسلامياً وحيد الجانب.
ولو كان الباقر نظر في اتفاق جوبا لوجده مهجساً بالتنوع الثقافي وإدارته كما لم يهجس عهد سوداني سبقه. فقال الاتفاق إن المواطنة المنقاة من العرق، والدين، والثقافة، والجنس، واللون، والنوع، والوضع الاجتماعي والاقتصادي، والرأي السياسي، والإعاقة، والانتماء الجهوي أو غيرها من الأسباب، هي الفيصل في التشريع.
وكررت وثيقة الاتفاق هذه الصيغة بصور مختلفة في أبوابها الثلاثة جميعاً: اتفاق القضايا المصيرية، ومسار دارفور، ومسار مناطق جبال النوبة والنيل الأزرق وغرب كردفان. فجاء في المادة ٧،١ من اتفاق القضايا القومية من وثيقة جوبا وجوب “الفصل التام بين المؤسسات الدينية ومؤسسات الدولة لضمان عدم استغلال الدين في السياسة، ووقوف الدولة على مسافة واحدة من جميع الأديان وكريم المعتقدات على أن يُضَمن ذلك في دستور البلاد وقوانينها” كما تقدم.
ولاقى اتفاق جوبا تظلم العفيف من تاريخنا وحيد الصورة مشمراً كما لا تنتظره من اتفاق سياسي. فجاء في الفصل الثالث منه بحق لسكان المنطقتين، جبال النوبة والنيل الأزرق، المشاركة في إعادة كتابة تاريخ السودان لبيان مساهمات سائر شعوب السودان في ترسيخ الوحدة الوطنية. وكفل للمنطقتين إنشاء آليات لغرض تنزيل هذا الحق بتكامل مع المؤسسات القومية. وخص في فقرة تالية دراسة الرق، كتاريخ للتغابن في الأمة، بموضوعية. وهذا استحقاق للتاريخ في موضع غريب.
فهذه الفقرة التي عالجت سردية التاريخ، أو سردياته، عوراء في ما نعرف عن كتابة التاريخ. فحق “سكان” منطقة ما في كتابة التاريخ، أو إعادة كتابته، بآليات تتواضع عليها” بدعة. فقال المؤرخ والسياسي حسن عابدين إن التاريخ يكتبه المؤرخون من المنطقتين أو من باقي السودان وحتى للأجنبي. ولم نعرف بعد “آلية” لكتابته أو إعادة كتابته غير شُعب التاريخ في الجامعة التي ترعرع التاريخ المهني في كنفها الأوربي منذ القرن التاسع عشر.
وهذا الحق بدعة لأنه لم نسمع بنظام منع كتابة التاريخ كما يمنع الإضراب مثلاً. قد يهمل نظام في تمويل الجامعة كما فعلت الإنقاذ فيتبخر صرفها على البحث والباحثين في التاريخ وغير التاريخ. وقد تروج حكومة لتاريخ مزور أو استعلائي، أو قد تصادر كتاباً بعينه في التاريخ. ولكن لم نسمع بأن كتابة التاريخ مما يندرج ضمن حقوق السكان إلا في حدود حرية التعبير. وهي حرية تكفل لمهنيين في التاريخ، وفي شعب التاريخ بالجامعات خاصة، وضع أسبقيات بحثهم، وإحسان الصرف عليه، وموالاته بالإشراف، والحرص على نشره.
تعاني صفوة الحكم والمعارضة من انفصال الشبكي بين السياسة والثقافة. وهذه المعاناة في أصل الهرج في حياتنا الاجتماعية. فلا أدري مثلاً لماذا تأخرت الحركات المسلحة عن كتابة تاريخ أقاليمها يداً بيد مع تحريرها. هل استردفت أي منها أي معهد للدراسات العلمية عن بلدها سواء بإنشائه أو بعون من أنشأه مستقلاً؟ ولا عذر لها بفقر الجيب بالذات لأن الحركات، متى أرادت رباط الخيل، تدججت به من أي مصدر كان. فلم تلق أي منها السلاح لعدمه. فعطلت الحركة الشعبية لتحرير السودان مجلتها الثقافية الرشيقة متعللة بضيق ذات اليد مع أنها لو “فكت لها كم برين في السوق” لمولت المجلة إلى جنى الجنى. فمما يستغرب له المرء كيف يعني الثوري ببندقيته قبل كراسه. فما الذي سيلجم السلاح من الانفلات سوى الثقافة؟ فلماذا، والحال على ما عليه، تأتي الثقافة استدراكاً للمسلحين على موائد مفاوضات السلام لا استصحاباً؟
ونواصل
عبد الله علي إبراهيم
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: الوثیقة الدستوریة الدین عن الدولة کتابة التاریخ مجلس السیادة اتفاق جوبا السودان فی
إقرأ أيضاً:
أوكرانيا توافق على المقترح الأمريكي بوقف إطلاق النار لمدة 30 يومًا
أعلنت الولايات المتحدة وأوكرانيا، اتخاذ خطوات مهمة نحو تحقيق سلام دائم في أوكرانيا، وذلك خلال اجتماع مشترك استضافته السعودية برعاية ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.
وذكرت وزارة الخارجية الأمريكية- في بيان، اليوم الأربعاء أن الجانبين أعربا عن تقديرهما لشجاعة الشعب الأوكراني في الدفاع عن بلاده، مؤكدين أن الوقت قد حان لبدء عملية نحو سلام مستدام.
وأبدت أوكرانيا استعدادها لقبول المقترح الأمريكي بوقف إطلاق نار مؤقت لمدة 30 يومًا، مع إمكانية تمديده باتفاق الأطراف، مشددة على أن تنفيذه مرهون بموافقة روسيا والتزامها المتزامن بالهدنة.
وأكدت واشنطن أنها ستنقل إلى موسكو أن الالتزام المتبادل بالهدنة هو المفتاح لتحقيق السلام، كما أعلنت عن رفع تعليق تبادل المعلومات الاستخباراتية مع أوكرانيا واستئناف المساعدات الأمنية لها.
وبحسب البيان، تطرقت المباحثات أيضًا إلى أهمية الجهود الإنسانية في إطار عملية السلام، بما يشمل تبادل أسرى الحرب وإطلاق سراح المحتجزين المدنيين وإعادة الأطفال الأوكرانيين الذين تم نقلهم قسرًا.
واتفق الطرفان على تشكيل فرق تفاوضية لبدء محادثات تهدف إلى تحقيق سلام دائم يضمن أمن أوكرانيا على المدى الطويل، فيما أكدت الولايات المتحدة عزمها مناقشة هذه المقترحات مع روسيا. كما شددت أوكرانيا على ضرورة إشراك الشركاء الأوروبيين في عملية السلام.
ووفقا لبيان الخارجية الأمريكية، اتفق رئيسا البلدين على إبرام اتفاق شامل في أقرب وقت ممكن لتطوير الموارد المعدنية الحيوية في أوكرانيا، بهدف تعزيز اقتصادها وضمان ازدهارها وأمنها المستقبلي.
اقرأ أيضاًالخارجية الأمريكية تؤكد حرص ترامب على إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية في أقرب وقت
الخارجية الأمريكية: اتفاق مع روسيا على أربعة مبادئ لإنهاء الحرب في أوكرانيا
الخارجية الأمريكية: الجيش اللبناني الضامن الوحيد لأمن البلاد وسنواصل دعمه