فتاوى :يجيب عنها فضيلة الشيخ د. كهلان بن نبهان الخروصي مساعد المفتي العام لسلطنة عمان
تاريخ النشر: 11th, March 2025 GMT
في قوله تعالى: «وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ»، لماذا هذا النفي المتكرر في الموضعين؟
حسبما سمعت، أنه كان يظن أن «لا» هنا ناهية، مع أن الفعل بعدها في كل المواضع جاء مرفوعًا، والصحيح أن «لا» هنا نافية، و«لا» النافية هنا غير عاملة، أي نافية لنفي الفعل، ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم، وما لا ينفعهم، هذا في الموضع الأول، ثم قال: «قل أتنبئون الله بما لا يعلم»، أيضًا هذه «لا» النافية، وليست الناهية.
أما سبب التكرار، فهذا كثير في أسلوب النفي، وإن كان النحاة قد يختلفون، يعني إذا وسعنا فلعله يسأل أيضًا عن تكرار «لا» بعد العطف، فالنحاة اختلفوا: هل هذا على جهة اللزوم، أو أنه ليس بلازم، لكنه الأولى، وأولئك الذين قالوا باللزوم، فما هي المواضع والشروط التي يجب فيها تكرار النفي.
الذي نجده في كتاب الله عز وجل، وهذا من باب الاستطراد، يعني ليس هذا أمرًا نادرًا، بل يكاد يكون هو الأكثر في حالة الجمل المنفية، فيكرر حرف النفي بعد العطف، ومن الأمثلة: «لا يموت فيها ولا يحيى»، ويقول أيضًا: «لا تخاف دركًا ولا تخشى»، تكرر أيضًا، فمثل هذا يتكرر كثيرًا في كتاب الله عز وجل، وأما المسألة الأخيرة، فهي مسألة تكرار حرف النفي بعد العطف في الجمل المنفية، هل هو من باب اللزوم، أو هو دون اللزوم، محل خلاف عند النحاة.
يسألون أيضًا عن «الرجز» و«الرجس»، اللتين تردان في القرآن الكريم، هل هما بمعنى واحد؟
هذه المسألة أيضًا فيها خلاف ليس بيسير، لكن أحسن ما يقال مما هو عند المفسرين، أن «الرجز» يقصد به العذاب والسخط، وأن «الرجس» يقصد به القذارة والخبث، هذه المعاني، قلت بأنها أفضل ما يمكن أن يؤخذ من كلام المفسرين. وكلام المفسرين هذا يستند إلى أقوال نسبت إلى طائفة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقول: «إن الرجس بالزاي هو السخط». ومنهم من يقول بأنه العقاب والعذاب أيضًا. رويت أقوال عن غيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي تدور، كما هو ظاهر، حول معنى واحد، فمعنى السخط قريب من معنى العذاب والعقاب. وأما «الرجس» بالسين، فهو كما تقدم، يستعمل في النجاسة والقذارة والخبث، الحسية والمعنوية، ويمكن أن يستعمل للدلالة على الجانب الحسي والمعنوي، كما يستعمل للدلالة على أحدهما أيضًا في كتاب الله عز وجل.
إذن، هذا أحسن ما يمكن أن يُميز به، وهناك مواضع مشكلة في آيات الكتاب العزيز، حتى على هذا التوجيه، ولكن هذا الإشكال ينتفي بهذه المعاني، أو هذا القدر المشترك من هذه المعاني في «الرجز»، كما تقدم: العذاب والعقاب أو السخط، وأن «الرجس» يدور حول معنى القذارة وما يقابل الطهارة من الخبث والنجاسة، والله تعالى أعلم.
هل يجوز ذكر الفاسق أو الظالم على سبيل التحذير أو بيان خطره دون أن يُعتبر غيبة، أم أن ذلك يتطلب ضوابط معينة لتجنب الوقوع في المحرم؟
بالطبع، النهي شديد عن الغيبة بشكل عام، لكن هناك استثناءات، ومنها المجاهر بالفسق الذي يظهر فسقه للعامة، ويسمح للناس أن يتناولوا أفعاله وشنائعه، ولكن إذا كان ذكره من باب القصص أو ذكر أفعاله ليس من باب التحذير، إنما من باب ذكر الأفعال، فهل يعد هذا من الاستثناء.
أولًا، تعطيل المسألة هو أن المجاهر بالفسوق ليس له عرض، أسقط عن نفسه ثوب الستر وحق حفظ العرض بسبب جهره بما ارتكب من حرمات الله عز وجل، وإتيانه لحدود الله تبارك وتعالى، وهذه الحالة هي محل اتفاق عند أهل العلم، أن مثل هذا المجاهر بارتكاب حدود الله عز وجل، لا غيبة فيه، وقد ذكروا لذلك مقاصد، وأهم المقاصد هو التحذير.
لكن هل يقتصر جواز ذكره بسبب مجاهرته بالعصيان والفسوق على قصد التحذير، لا أظن، فإذا كان في ذكر ما وقع فيه، أو في شيء من سيرته ما فيه عبرة وعظة، فهذا أيضًا جائز، من ضمن المقاصد، لا يلزم أن يكون ذلك على سبيل التحذير فقط، وإن كان هو في صدارة الأسباب التي تبيح أن يُتكلم فيه، لأنه كما تقدم قد أسقط عن نفسه هذا الحق بسبب مجاهرته بعداوة الله تبارك وتعالى، لارتكابه ما حرم الله دون استتار.
ودون أن يراعي حقوق الله عز وجل، وحقوق العباد عليه، وحقوق شعائر هذا الدين، وهدي الإسلام وسنته، وسيرة المسلمين، لكن ذلك اقترن، كما تقدم، بالنص على أن الباعث لهذا هو التحذير، قد يكون الباعث من باب الاتعاظ والاعتبار، وقد يكون لأجل مقصد حسن.
لا بقصد التلذذ والتشهي، أما مجرد التلذذ والتشهي بذكر الآخرين، فهذا مما ينبغي للمسلم أن يربأ عنه، وأن يترفع عنه، لأن له شغلا في نفسه، وفي ذكره لله تبارك وتعالى، وفيما هو نافع مفيد من أمر الدين والدنيا، أما أن يخوض في سير الآخرين لا لقصد حسن معتبر شرعًا، وإنما لمجرد التفكه أو التلذذ بذكر الآخرين، فإن في هذا ما يمكن أن يوقعه في المحظور.
والأصل في المسلم أن يكون عفيف اللسان، طيب النفس، بعيدًا عن السفاهة في القول، وعن اللغو، وما لا طائل منه من الأحاديث. أن يشتغل بما ينفعه من أمر دينه ودنياه، وأن يعطي من نفسه المثال الحسن بالخلق القويم، والأدب الرفيع، وألا يكون ذكره للغير في هذه الحالات التي هي ليست من الغيبة إلا لمقصد حسن يعود عليه وعلى غيره بالنفع، لذلك فليشتغل بما هو نافع ومفيد، والله تعالى المستعان.
في ظل تطورات تقنيات الهندسة الوراثية وإمكانية التعديل الجيني على الأجنة، ما الحكم الشرعي في التدخل لتحديد صفات المولود مثل الذكاء أو الشكل؟ وهل يختلف الحكم إذا كان التعديل لعلاج مرض وراثي؟
أما إذا كان لعلاج مرض، وكان هذا التعديل الجيني قد ثبت أنه من الوسائل التي تعين على العلاج والخلاص من هذه الأمراض، فهذا من باب التداوي، والعلاج لا حرج فيه بشروط التداوي والعلاج المعروفة، أما فيما سوى ذلك، من المطالبة بخصائص وصفات جسمانية أو عقلية أو غير ذلك، فهذا يخشى أن يكون من المضاهاة لله تبارك وتعالى في خلقه أو من التسخط على ما يقسمه المولى الكريم على عباده من نعم، أو أن يكون من العبث، والإسفاف بالعلم في ما لا تضمن نتائجه.
فنعم، في العلاج من الأمراض التي يمكن أن يكون علاجها من خلال التدخل الجيني بتصحيح طفرات أو غير ذلك، أو تنشيط جينات معينة تتغلب على بعض الجينات الحاملة للصفات المرضية السلبية، فهذا من باب التداوي والعلاج، أما ما سوى ذلك فلا يظهر جوازه، والله تعالى أعلم.
من حيث الإمكان، هل الآن توجد إمكانية في تغيير الأشكال والألوان في التقنيات الوراثية؟
نعم توجد في بعض الخصائص والصفات، حتى الذهنية والعقلية قد يكون هذا متاحا، إن لم يكن متاحا اليوم، فقد يكون متاحا في المستقبل، لكن بعض المواصفات قد تكون من النطف، هذا يحصل على سبيل المثال في حالات التلقيح الصناعي فتكون هناك عدة لقاحات مأخوذة، فينظر في صفاته، الأصل أن ينظر فيها لما هو خال من أمراض الدم الوراثية، ومن الأمراض الجينية السارية في المجتمع، وإذا بالناس فيما بلغنا -في بعض المجتمعات إلى الآن ولم يصل إلينا، لكن مع إقبال الناس وضعف الوازع الديني يمكن أن يصل إلينا-، بدأوا يتخيرون، يريدون عيونا بألوان كذا وشعر بلون كذا والطول والذكاء وغير ذلك.
وأيضا، قد يقعون ضحايا لتجار هذا النوع من التغييرات، لكن قد يحصل -أي بالتقنيات أو التطور العلمي- قد يسمح بهذا مستقبلا، فلن يخرج التأصيل الفقهي عما تقدم ذكره من أنه في باب العلاج الذي يحتاج إليه ويضطر إليه، نعم بالشروط المعروفة للتداوي والعلاج، أما فيما سوى ذلك فهناك محاذير دينية كثيرة.
منها ما أشرت إليه من أمر التسخط على قضاء الله تبارك وتعالى، والمضاهاة لخلقه، جل وعلا، والتسخط، أقصد به عدم الرضا بما يقسمه الله عز وجل، والمضاهاة، أي أنهم يشتركون وكأنهم يشتركون مع الخالق الحكيم سبحانه وتعالى في اختيار الصفات وتغييرها وتبديدها، وقد يكون ذلك من عموم السفه والعبث والعياذ بالله. فالمحاذير كثيرة جدا فيجب اجتنابها، والله تعالى أعلم.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: تبارک وتعالى والله تعالى الله عز وجل الله تعالى یمکن أن ی کما تقدم إذا کان أن یکون قد یکون من باب هذا من من أمر
إقرأ أيضاً:
هل يجوز الاعتماد على الإنترنت كمرجع ديني؟.. علي جمعة يجيب
أجاب الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء ومفتي مصر الأسبق، على سؤال حول هل التلقي الديني من خلال مواقع الإنترنت والمنصات التعليمية يعد صحيحًا؟ أم أن هناك منهجًا آخر يجب اتباعه للحصول على المعرفة الدينية؟.
أوضح عضو هيئة كبار العلماء ومفتي مصر الأسبق، خلال تصريح، اليوم الثلاثاء: "لا يصلح هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وفي أولها قالوا إن هذا الأمر دين، فقالوا: انظروا ممن تأخذون دينكم"، لافتا إلى أن هناك فرق ما بين الدين والتدين، فالدين مبني على علم، والعلم هناك فرق بينه وبين المعلومات، ما استفدناه من التراث هو العقلية الفارقة التي كانت تفرق بين الدين والتدين، وبين العلم والمعرفة، وبين العلم والمعلومات، وهكذا كانت تفرق الأمور، فالأمور واضحة بالنسبة لهم، اللبس يؤدي بنا إلى مزيد من الضلال أو المتاهة. العقلية العشوائية تسير وراء كثرة المعلومات، بينما العقلية العلمية تسير وراء نسق موجود.
وتابع: "العلم يتكون من الأستاذ، والشيخ، والكتاب، والمنهج، والجو العلمي، هذه الخمسة تؤدي إلى تلقي العلم، والعلم له مراحل: في مرحلة ابتدائية، ومتوسطة، ونهائية، بعد النهائية، يكون معك أداة للفهم، فيجب عليك أن تستمر في العلم وتداوم عليه، مذاكرته في حياة العلم من المحبرة إلى المقبرة، والعلم من المهد إلى اللحد، ولا يزال الإنسان يتعلم حتى يموت. حتى في كلام الحكماء في الأمثلة يقولون: يموت المتعلم وهو يتعلم، وكم من عالم مات على كتابه وهو يقرأ ويبحث وهكذا، العلم لا يعرف الكلمة الأخيرة".
واستكمل: "فالعلم يحتاج منا إلى بذل المجهود، حتى قالوا: اعطِ طيّك كلك يعطيك بعضه، لأن الإنسان محدود في زمانه، في مكانه، في قدره، عقله، في اطلاعه، في ساعات أيامه، وتلقيه يجب أن يكون صحيحًا".
أضاف: "أما الجماعة الذين يتبعون العقلية العشوائية، فهم أولًا يفتقدون التوثيق، والتوثيق من أهم الأشياء التي ألهم الله بها علماء المسلمين منذ البداية، منذ العصر النبوي، ومنذ عصر الصحابة، وفي نقل الصحابة للعلم للتابعين، ونقل التابعين للعلم لمن بعدهم من تابع التابعين، فتابع تابع التابعين، ألهمهم الله سبحانه وتعالى قضية التوثيق".
وأردف: "يعني إيه التوثيق يا مولانا؟ الأمر كان على أن نقول عنها نحوًا، فنحو، يعني كان أولًا هو الحجية، ما هي الحجية؟ نحن الآن افتقدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتحاقه بالرفيق الأعلى، ولم يعد فينا، كنا نسأله فيجيب، وهو الذي ارتضاه الله سبحانه وتعالى أن يكون مصدرًا للأحكام: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)، خذوا عني مناسككم عليه الصلاة والسلام افتقدناه فلما افتقدناه بانتقاله، بقي الاجتهاد".
وتابع: "ماذا نفعل؟ فسألوا أنفسهم أسئلة: ما هي الحجية؟ قالوا: الحجية هي كتاب الله، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فيه نبأ من قبلكم، ومن نبأ من بعدكم، وحكم ما بينكم، إلى آخره فاقروا جميعًا على أن كتاب الله هو الحجية، وأنه نبي مقيم، وأنه إذا كان النبي قد انتقل، فإن القرآن هو كلمة الله الأخيرة لهذا الكون".
وأضاف: "هناك أولًا العهد القديم، العهد الجديد، هناك العهد الأخير، خلاص، آخر شيء رسول الله وخاتم النبيين، من هذا المفهوم أقروا أن الكتاب هو المصدر وهو الحجية، قال له: طيب، إذا كان الكتاب هو الحجية، فهل أرشدنا إلى شيء آخر؟ قال: أرشدنا. قالوا: أرشدنا إلى السنة، فقال: (فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ)".
وأكمل: "قال الله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، فبدأوا بعد الحجية يسعون إلى التوثيق، طيب، أين هو الكتاب؟ ولما حدث خلل في قراءته، ولما حدث بعض الشذوذ في قراءته عند بعض الناس من غير علم، بالرغم من أن هذا الشذوذ قد يوافق اللغة العربية، لكنه يخالف المرسوم أو يخالف ما سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءت قضية جمع القرآن، وهي قضية التوثيق، وظل هذا التوثيق في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، شوف الفرق بين العلم، وشوف الفرق بين العشوائيات".