الثورة نت/..

نص المحاضرة الرمضانية العاشرة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 10 رمضان  1446هـ :

أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.

الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.

أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:

السَّـلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

قبل أن ندخل في موضوع المحاضرة، نؤكِّد على مسألتين:

الأولى: فيما يتعلق بالمهلة المحددة لإدخال المساعدات إلى قطاع غزَّة:
نحن على موقفنا، والقوات المسلحة على أُهْبَةِ الاستعداد لتنفيذ العمليات، وتبدأ الإجراءات لتكون حيِّز التنفيذ منذ لحظة انتهاء المهلة، إن لم تدخل المساعدات إلى قطاع غزَّة.

طبعـــاً، نحن نؤكِّد على أن من مسؤولية الجميع (كل العرب، كل الأنظمة العربية، كل العالم الإسلامي) أن يسعى لإدخال المساعدات إلى قطاع غزَّة، وأن يضغط لفعل ذلك، مع أننا نعرف أن الكثير منهم ليسوا ملتفتين إلى هذا الموضوع إطلاقاً، لكن من باب التذكير بالمسؤولية، وإقامة الحُجَّة؛ لأن هذه مسؤولية على الجميع.

المسألة الثانية: فيما يجري في سوريا، وارتكاب الجماعات التكفيرية لجرائم الإبادة الجماعية، ضد المدنيين، المسالمين، العُزَّل من السلاح، في الساحل السوري:
ما حدث ويحدث هو إجرامٌ فظيعٌ، تجب إدانته، ويجب استنكاره، ويجب السعي الحثيث لوقفه، وليس من المقبول تبريره، ولا التغطية عليه، ولا التقليل من حجمه، أو من فظاعته؛ لأنه شيء فظيع جدًّا، المعلومات تفيد عن أن الضحايا لتلك الجرائم الفظيعة من المدنيين، المسالمين، العُزَّل من السلاح، قد بلغوا الآلاف، وليس فقط المئات.

الإجرام التكفيري ضد المدنيين المسالمين، العُزَّل من السلاح في الساحل السوري، هو يكشف حقيقة تلك الجماعات، كما هي سابقاتها الإجرامية، وأنها تحذو حذو اليهود الصهاينة؛ لأن ذلك المسلك الإجرامي في قتل المسالمين، العُزَّل من السلاح، المدنيين، وفيهم الأطفال والنساء، ليس من الإسلام في شيء، الإسلام بريءٌ من ذلك، في مبادئه، في شرعه، في نهجه، في تعليمات الله ورسوله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ”، ذلك محرمٌ شرعاً، إجرام بكل ما تعنيه الكلمة؛ إنما هو نتاجٌ للتربية والهندسة اليهودية والصهيونية، هم من يمتلكون تلك الروحية الإجرامية، والمنهج الإجرامي، ويمتلكون الفلسفة التي تبيح مثل هذا الإجرام الفظيع جدًّا، وهو النمط والسلوك الصهيوني المعروف، المعروف، وهو- في نفس الوقت- خدمة فعلية لأمريكا وإسرائيل، كما قلنا بالأمس: من حيث أنه في إطار الخطة الإسرائيلية لتمزيق النسيج الاجتماعي السوري، ومن حيث أنه دفعٌ بأبناء الشعب السوري للاحتماء بالآخرين، مقابل القبول بالاحتلال؛ لأن الأكراد- كما قلنا بالأمس- محميون بالأمريكي، والدعم الأمريكي، وهم في موقف قوي، والدروز هناك محميون بالحماية الإسرائيلية؛ بينما يفترض أن يكون كل أبناء الشعب السوري، بمختلف اتجاهاتهم، أن يكونوا محميين بالدولة، أن تكون هناك دولة تحمي الجميع، وتحمي- بالدرجة الأولى- المواطنين، المسالمين، العُزَّل من السلاح؛ ولـذلك ما يحدث هناك هو خدمة- فعلاً- لأمريكا، وخدمة واضحة ومكشوفة للإسرائيلي.

الموقف العربي الرسمي كان مخزياً كالعادة، كما هي القصة تجاه فلسطين، وتجاه أي مظلومية لأي شعب عربي، ليس هناك أمل إطلاقاً لأي موقفٍ مُشرِّف للأنظمة العربية، مواقفهم دائماً تجاه قضايا شعوب أُمَّتنا مواقف مخزية، وهي عارٌ عليهم، لا يُمثِّلون أي أمل لهذه الشعوب.

الرعاة الإقليميون هم شركاء في الجرم، وهم يسعون- مع ذلك- لتبرير ما يحدث، والتغطية عليه في حجمه وفي فظاعته؛ ولـذلك نلحظ أن وسائلهم الإعلامية- بالرغم من هول ما حدث، إجرام كبير جدًّا، وفظيع للغاية- تحاول التغطية على ذلك، وتتجاهل المشاهد الكبيرة للإجرام الفظيع جدًّا، للضحايا بالمئات من أبناء الشعب السوري، جرائم واضحة مكشوفة، في مشاهد الفيديو تظهر تلك الجماعات التكفيرية وهي تباشر إعدام المدنيين، المسالمين، العُزَّل من السلاح، وتقتلهم بكل وحشية في الشوارع، في القرى، في البساتين… في مختلف المناطق، تقتل الناس في منازلهم، على أبواب منازلهم، تقتلهم في متاجرهم، تقتلهم في الشوارع والطرقات، فتحاول وسائل الإعلام التابعة للرعاة الإقليميين، لتلك الجماعات التكفيرية، أن تغطي على ما يحدث، وتتجاهل ما يحدث، وَتُقَزِّمَهُ إلى حدٍ كبير، وتصوِّر المسألة أن هناك عمليات لاستهداف ما يسمُّونهم بـ[فلول النظام السوري]، وهناك- في هذا السياق- حوادث فردية بسيطة، يقللون منها، وهذا هو جرمٌ بحد ذاته، تغطية على إجرام بذلك المستوى الفظيع جدًّا، التغطية على إبادة جماعية هو إجرام، وهو محاولة لجحود الحقائق الواضحة المعروفة.

ولـذلك أنا أنصح كل شعوب أمتنا، ألَّا تعتمد على الوسائل الإعلامية، التابعة للرعاة الإقليمين لتلك الجماعات التكفيرية، فيما يتعلق بما يحدث في سوريا؛ لأنها تشترك في الإجرام، بدورها الذي يسعى إلى التغطية على الإجرام، والتبرير للجريمة، المشاهد واضحة، مشاهد فظيعة للغاية، إجرام كبير، يعني: في غضون أيام كم قتلت تلك الجماعات التكفيرية! وليست تصرفات فردية إطلاقاً، التصرفات الفردية عادةً ما تكون حوادث محدودة، من أفراد محدودين، لكنَّ مشاهد الفيديو تُبيِّن أن تلك الجماعات، وبشكلٍ جماعي، تباشر عمليات الإعدام الجماعي للناس، واستمر ذلك لأيام، كان بإمكان الرعاة الإقليميين لتلك الجماعات التكفيرية أن يتصلوا بها، أو أن يُوجِّهوا مندوبيهم المشرفين على تلك الجماعات في سوريا، بإيقاف ما يجري، لكنهم- كما يظهر- لن يفعلوا، فاستمر الإجرام بوتيرة فظيعة متزايدة، وبشكلٍ جماعي، على مدى هذه الأيام.

فهذه هي الحقيقة، ويجب أن تكون الحقيقة واضحة؛ لأن هذا المسلك الإجرامي، والنمط السلوكي، الذي تقتدي فيه تلك الجماعات بالصهاينة، ويبيِّن مدى ارتباطها بها، وبنهجها الإجرامي، مُهمٌ أن يكون ذلك واضحاً لشعوب أُمَّتنا؛ لأنه مسلك واحد لتلك الجماعات أينما كانت، هي بهذا المستوى من الإجرام.

ولــذلك ينبغي للقنوات الفضائية، التي تنقل الحقائق للناس، أن تبذل الجهد في نقل الصورة الحقيقية لشعوب أُمَّتنا، أن تظهر تلك المشاهد الفظيعة للناس؛ ليعرفوا من هم أولئك، وليعرفوا سوء ما يفعله الذين يُغَطُّون على تلك الجرائم، أو يبررونها، أو يحاولون أن يقللوا من فظاعتها، فالمشاهد هي تكشف الحقائق للناس.

هو مسلك إجرامي متعمد، واتَّجهت فيه تلك الجماعات ليس كتصرفات فردية، بشكلٍ جماعي، وممنهج، وفي وضح النهار، وصوَّرت نفسها، وهي تتباهى بذلك، منهم من يتباهى وهو ذاهب في الدبابات، منهم من ينتسب إلى ما يسمونه بالأمن العام، منهم من ينتسب إلى من يسمونهم بالجيش هناك، تسميات جديدة، لا تغير من الحقيقة شيئاً عن واقع تلك الجماعات التكفيرية المجرمة.

فهذا للتاريخ، وهذا ما ينبغي أن يكون من الجميع، أن يكون للجميع موقفٌ واضحٌ، يستنكر تلك الجرائم، يتبرأ منها، يسعى أيضاً للضغط لإيقافها؛ لأنها جرائم فظيعة للغاية، وحشية جدًّا، بشعة، بشعة بكل ما تعنيه الكلمة.

نعود إلى موضوع الدرس.

وكنا تحدثنا بالأمس على ضوء قول الله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ}[الأنعام:83]، وتحدثنا عن الحُجَّة من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.

الحق يمتلك الحُجَّة، يمتلك البرهان، يستند إلى الحقيقة، إلى الواقع، إلى الثبوت في ما هو عليه؛ أمَّا الباطل فلا يستند إلى الحُجَّة، ولا إلى البرهان، ولا يمتلك الحقيقة؛ وإنما يعتمد أهل الباطل على الشُّبه، التي تشبه الأدلة، يحاولون أن يُزَوِّروا الحقائق، وأن يستفيدوا من زخارف القول، في التشبيه على من لا يمتلكون المعرفة الكافية، فيقدِّمون ما يشبه الدليل وهو ليس بدليل؛ أمَّا الحق فيمتلك الحُجَّة النيِّرة، والدليل الواضح، والبرهان القوي، الذي يُجَلِّي للناس الحقائق بوضوح.

تحدثنا أن نبي الله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ” استفاد مما أراه الله من الآيات، في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}[الأنعام:75] ، استفاد منها في امتلاك الحُجَّة، وامتلاك الوسيلة والأسلوب المناسب، في عرض البراهين على قومه، في الوصول بهم إلى الحقيقة، في التفهيم لهم بالحقِّ والحقيقة، وأن ثمرة الوعي الراسخ، والمعرفة الصحيحة، واليقين القوي، هو: امتلاك الحُجَّة النيِّرة، والمفحمة لأهل الباطل، والمزهقة للباطل، وأن من هدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ومما يستفيده الإنسان من هدى الله، ومن خلال اهتدائه بهدى الله: يمتلك الحُجَّة، يمتلك القدرة على تقديم الحُجَّة، القدرة على تقديم هدى الله بشكلٍ صريح، بشكلٍ مفيد، بشكلٍ مقنع، وكذلك في الدعوة للآخرين إلى هدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، هذا من هدى الله، أن تملك القدرة في الاحتجاج على الآخرين، في الدعوة للآخرين، في الحديث مع الآخرين، والتبيين للآخرين.

نبَّهنا على الأهمية الكبرى لامتلاك الحُجَّة والبرهان، في تقديم الحقِّ وإيضاحه للناس، وفي ربط الناس بهدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وفي السعي لإزهاق الباطل، وأن هذا سلاحٌ مهم، في مواجهة حملات الإضلال الرهيبة جدًّا في عصرنا هذا، والتي تمتلك في زماننا هذا ما لم يسبق أن امتلكته على مدى التاريخ، من وسائل، من أساليب، أصبحت متطورة إلى درجة كبيرة جدًّا.

قوى الباطل والضلال، وعلى رأسها اليهود المُضِلُّون، يمتلكون في هذا العصر من الإمكانات، والتقنيات، والوسائل، والأساليب، التي يُشَغِّلونها ويفعِّلونها للإضلال، وفي حملات الإضلال، ما لم يسبق أن امتلكته قوى الضلال على مدى التاريخ؛ ولـذلك يشتغلون بكل الوسائل، عبر الوسائل التعليمية، عبر الوسائل الإعلامية، عبر الوسائل التثقيفية، بكل ما فيها من تقنيات وإمكانات، مثلما هو الحال بالنسبة للشبكة العنكبوتية، مثلما هو الحال بالنسبة للقنوات الفضائية، للصحف، للمجلات، للنشاط المباشر بين أوساط الناس بأشكال متعددة، كما أن لديهم تشكيلات، تشكيلات كثيرة وواسعة، امتدادها واسع، يخترقون بها كل الساحة الإسلامية، لديهم من هم كُتَّاب، لديهم من ينشطون على مستوى التلقين، لديهم من ينشطون تحت عناوين مذهبية معينة، أو من ينشطون تحت عنوان اتجاهات معينة، يخترقون كل ساحة بما يتمكنون به، وبما يرونه مناسباً لاختراقها.

فلـذلك نحن في مرحلة يجب أن يمتلك الإنسان المؤمن الوعي، البصيرة، الفهم الصحيح، الحُجَّة، وكذلك من ينشط أو يتحرك في أداء المهام، التي هي مهام مُقَدَّسة، جزءٌ من الالتزام الإيماني والديني والجهادي في التصدي للباطل، التصدي أيضاً في هذا الميدان: في الميدان الفكري والثقافي، في الميدان التعليمي، في الميدان الإعلامي، هذه كلها ميادين مهمة للغاية، الميادين التي يعتمد عليها الأعداء، وهم يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، هم يسعون لذلك بشكلٍ أساسي، دور المدفع، دور الدبابة، دور الطائرة، هو ما بعد ذلك، لكنَّ الشيء الأساس الذي يعتمدونه هو هذا: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ}[الصف: 8]، بالكلمة، الكلمة التي تحمل الباطل، تحمل الشبهة، تُزَيِّف الحقيقة، التي يحاولون أن يؤثِّروا بها على الناس، ويوصلونها بوسائلهم وأساليبهم المختلفة، وعبر مختلف تشكيلاتهم، وأعوانهم، وعملائهم، الذين يرتبطون بهم ويعملون لصالحهم، فمن يتحركون في أداء المهام المقدَّسة للتصدي للباطل يجب أن يمتلكوا الحُجَّة والبرهان، أن ينطلقوا من خلفية قوية في استيعابهم لهدى الله، وفي امتلاكهم للحُجَّة والبرهان، وفي القدرة على التقديم الصحيح للحُجَّة والبرهان، والعمل على إزهاق الباطل.

كذلك أشرنا بالأمس إلى خطورة التَّطفُّل، ممن لا يمتلك الخلفية اللازمة من هدى الله، ليس لديه الاستيعاب الكافي، هو مؤمنٌ من حيث المبدأ، هذا شيءٌ جيد، لكن ليس من الصحيح أن يذهب إلى ميدان ليس مُؤَهَّلاً له، ليتطفل في نقاشات، أو حوارات على الإنترنت، في مواقع التواصل، في قنوات فضائية، وهو لا يمتلك الحُجَّة؛ لأن تقديمه الضعيف يخدم الباطل، ظهوره عاجزاً أو ضعيفاً يخدم الباطل، فالمسألة هامة.

الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” قال في القرآن الكريم: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}[الأنعام:83]، وقد رفع الله نبيه إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، بما أعطاه من النور، والبصيرة، والمعرفة، والعلم الصحيح، والحكمة، والحُجَّة، والبرهان القوي، رفعه درجات، رفعه درجات في مستوى منزلته ومكانته عند الله، في قيمته الإنسانية، هناك فارق كبير بين واقع الإنسان: في وقتٍ لا يعرف فيه الحق المعرفة الكافية، لا يمتلك الحُجَّة النيِّرة، لا يمتلك الوعي الكافي؛ وفي وقتٍ يكون قد امتلك من هدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ومن المعرفة الصحيحة، ومن الحُجَّة والبرهان؛ لدعم الحق، والإيقان بالحق، والتَّمسُّك بالحق، امتلك المعرفة العالية، العالية جدًّا:

في مستوى القيمة للإنسان، الأهمية للإنسان.
وفي مستوى المنزلة عند الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والمكانة عند الله “جَلَّ شَأنُهُ”.
وفي مستوى الدور الذي يمكن للإنسان أن يقوم به في واقع الحياة، عندما يتحرك في واقع الحياة في أداء مهامه، ومسؤولياته المقدَّسة، وهو ينطلق من هذه الأرضية: أرضية المعرفة، من واقع امتلاكه للنور، للهدى، للبصيرة، للحُجَّة، للبرهان، يكون دوره كبيراً في واقع الحال، اتِّجاهه هو الاتِّجاه الذي يرتقي به، ويرتقي بمن يتَّجهون معه في ذلك الاتِّجاه، يرتقي بهم في واقع الحياة، يكون رفعةً لهم، ومجدًّا لهم، وعزاً لهم، وشرفًا لهم، أن يتحركون بالنور.
والله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” يريد لعباده المؤمنين أن يكونوا مستنيرين، رسالته ورسله وهداه هو لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ألَّا يكون الإنسان في هذه الدنيا كالأعمى والأصم، وكالإنسان الذي هو يتيه في الظلمات، لا يدرك الحقائق؛ لأنها حالة خطيرة على الإنسان، يكون فريسةً سهلة لإغواء الشيطان له، ولإغواء أولياء الشيطان من المُضِلِّين؛ بينما الإنسان إذا امتلك النور، والبصيرة، والهداية، والمعرفة، والحُجَّة؛ يصبح مُحصَّناً، مُحصَّناً من الاصطياد من جانبهم، هم يصطادونك عندما تكون في الظلمات، يسهُل عليهم اصطيادك، وإغواؤك، وإضلالك؛ لكن عندما تكون في النور، تكون الحقائق واضحةً لك، اتِّجاهك اتِّجاه قائم على أساس الوعي والبصيرة، فيصعب عليهم أن يصطادوك، يستحيل عليهم أن يُضِلُّوك مع اعتصامك بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وأخذك بأسباب الهداية.

ولـذلك يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا}[النساء:174]، الله قدَّم لعباده البرهان؛ لأنه كما قلنا: الحقّ يمتلك الحُجَّة، يمتلك الدليل، يمتلك البرهان؛ لأن الحق هو الشيء الثابت، هو الشيء الصحيح، هو الشيء الحقيقي والواقعي؛ والباطل زيف، خداع، تضليل، تلبيس، تزييف للحقائق، فمهمة الرسل والأنبياء هي لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، والقيمة المعنوية للإنسان، ما بين أن يكون مستبصراً ومستنيراً بنور الله، وما بين أن يكون على خلاف ذلك، وفق المقارنة التي قدَّمها الله في القرآن الكريم: كالأعمى والأصمّ، والسميع والبصير، هذه هي حال الإنسان، عندما نجد في واقع الحياة، في شواهد الحياة، من هو أعمى لا يستضيء شيئاً، فاقد لحاسة البصر، وأصمّ، فاقد لحاسة السمع، كيف سيكون حاله تجاه المشاهدات والمسموعات، تجاه الحقائق الواضحة للآخرين، حاله المختلف تماماً عمَّن يمتلك هذه الحاسة ويرى، وعمَّن يمتلك حاسة السمع ويسمع؟ ذلك بحاسة البصر والسمع، يُدرك الحقائق، يسمع، يرى، وهذا هو الفارق الكبير:

بين من اتَّجه اتِّجاه النور والهدى، والبصيرة والمعرفة، ارتبط بهدى الله، فاستفاد من هدى الله: البصيرة، والوعي العالي، والفهم الراسخ، والحُجَّة والبرهان.
وبين الإنسان التائه في الظلمات، الذي لا يرى الحقائق، حتى لو كانت الحقائق واضحة.
فلهـذا هذه المسألة مهمة جدًّا.

الحالة في رفع الدرجات، {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ}[الأنعام:83]، هي ارتبطت- كما بيَّن الله في هذه الآية المباركة- بالاتِّجاه الذي يكتسب فيه الإنسان، بل يحصل أيضاً من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وبتوفيقه، على العلم الذي هو بهداية من الله، العلم الصحيح، ليس فقط مُسمَّى العلم كافياً؛ لأنه أيضاً من المسميات التي ضُرِبت، ضُرِبت كثيراً، وقُدِّم عنها مفاهيم خاطئة، العلم الذي هو بهدايةٍ من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وفيه الحُجَّة التي هي من الله “جَلَّ شَأنُهُ”، هو الذي يرتقي بالإنسان، يسمو به، أثره التربوي في نفسية الإنسان، أثره في مستوى المعرفة الحقيقية للإنسان، في دور الإنسان في الحياة، وفاعليته في الحياة، وكذلك في أثره الإيجابي في الواقع، أثره عظيمٌ جدًّا، وفي المنزلة عند الله يرتقي بالإنسان.

ولـذلك حينما يتَّجه الناس مع هذه النماذج الهادية، المهتدية بهدى الله، وتهدي بهدى الله، وتمتلك العلم الذي هو من هدى الله، ترتقي أيضاً في واقعها، تعتز، تكون في واقعها، في مواقفها، في اتِّجاهاتها، في الاتِّجاه الرفيع والعزيز والمنيع، ولا تنحط إلى الأسفل؛ بينما الحالة المعاكسة، لمن ليس له اتِّجاه العلم الصحيح، الذي هو من هدى الله، من المعارف الصحيحة التي هي من هدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، لا هو يرتفع، ولا هو يرتقي، ولا الناس إذا اتِّجهوا اتِّجاهه يرتقون معه؛ بل هو يهبط بنفسه إلى الأسفل، ويهبط بالآخرين من حوله إلى الأسفل، فيكون الواقع الذي هو نتيجة لذلك الاتِّجاه: هبوط تحت مستوى سقف أهل الباطل، وواقع أهل الباطل، بل خضوع لأهل الباطل، وخنوع أمام أهل الباطل، وضِعْة وصغار أمام أهل الباطل.

نجد- على سبيل المثال- في قصة نبي الله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، عندما خوَّفه قومه، كيف كان رده على تخويفهم؟ هل سكت؟ هل خنع؟ هل جمد؟ هل استسلم؟ هل تراجع؟ لا؛ إنما كان موقفه قوياً جدًّا، وقدَّم تلك المقارنة المهمة والعظيمة بين من يجب أن يخاف، ومن له أن يأمن، من هو الأحق بأن يكون آمناً.

تجد البعض في واقع أمتنا- وللأسف الشديد- ممن قد يحملون اسم العلم، ويقال عنهم بأنه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}[المجادلة:11]، ليسوا من النوعية التي تتَّجه في واقعها الاتِّجاه الذي يرتفع بالناس، ينتشل الناس من الوضعية التي تعاني منها الأُمَّة، يرتقي بالناس إلى مستوى العِزَّة، إلى مستوى الكرامة، إلى مستوى المنعة، إلى مستوى الحُرِّيَّة الحقيقية، الحُرِّيَّة من العبودية للطاغوت… إلى غير ذلك، ولا يرتفعون هم، ليكونوا في موقفهم من الباطل وأهل الباطل بالمستوى اللائق، والمستوى المطلوب، والمستوى المتناسب مع المسؤولية؛ بل يهبطون هم إلى الأسفل، يتبنون حالة الخضوع، والخنوع، والاستسلام، وإذا خُوِّفوا خافوا، إذا خُوِّفوا خافوا، يُخَوِّفهم الآخرون من أمريكا؛ فيخافون، ويرضخون، ويسكتون، ويتبنون مسألة الجمود والاستسلام والسكوت، يُخَوِّفهم البعض من إسرائيل؛ فتكون النتيجة: أن يخافوا.

نموذج نبي الله ابراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، حتى تجاه مسألة التخويف، نموذج يُبيِّن هذه الحقيقة، في مفهوم: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ}[الأنعام:83]، فالله رفعه بما أعطاه من النور والحُجَّة والبرهان، وبما كان فيه من الموقف القوي، المعُبِّر عن هذا اليقين، عن هذه الثقة، عن هذا الوعي العظيم، وهذه مسألة مهمة.

{إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}[الأنعام:83]، الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ربُّنا العظيم، الذي يرعى عباده بعظيم رعايته، ويرعى أولياءه المهتدين بهدية بعظيم رعايته، هو {حَكِيمٌ عَلِيمٌ}، يهدي من يشاء من عباده ليكون عنده حكمة، يَمْنَح من حكمته، {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}[البقرة:269]؛ ولـذلك يمنح أولياءه الذين يستجيبون له، يستجيبون له، يمنحهم الحكمة؛ فيتَّجهون الاتِّجاه الصحيح والصائب، في نهوضهم بمسؤولياتهم وأدائهم لمهامهم.

{عَلِيمٌ}[الأنعام:83]، يمنح العلم أيضاً، العلم الذي هو من هداه، عِلمٌ نافعٌ حقيقيٌ مفيدٌ، يترك أثره في الإنسان، وفي حياة الإنسان، وفي مواقف الإنسان، وفي اتِّجاه الإنسان.

والحكمة والعلم أساسيان في مجال الهداية، في مجال الهداية، ترتكز على مسألة الحكمة، وأيضاً العلم؛ ولـذلك نجد أَنَّه وهب وليه ونبيه وخليله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ” الحكمة والعلم.

هذا المقام بنفسه- مقام نبي الله إبراهيم في قصة الاستعراض لمسألة (الكوكب، والقمر، والشمس)، وكيف قدَّم البراهين لقومه، والمقام كما قلنا: مقام عرض براهين، وسعي لهدايتهم، ليس مقاماً خاصاً به وهو يبحث عن إلهه، لم يكن مشركاً من قبل أبداً موحدٌ من الأساس هو- فيه الكثير جدًّا من الدروس والعبر، حرصنا على الاختصار.

وفي ختام هذا المقام؛ لأننا سننتقل من بعده- إن شاء الله- إلى مقامات أخرى، إلى مواطن أخرى، إلى مواقف متنوعة، متعددة، فيما قَصَّهُ الله عن نبيه إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، لكن للتأكيد على بعض ما ورد.

هناك دروس مهمة من القصة، إضافة إلى ما قد سبق، أثناء عرض القصة تحدثنا عن كثيرٍ من الدروس، في بداية المسألة: مبدأ التوحيد، وما يبنى عليه، نحن أكَّدنا على هذه المسألة: ما يبنى على مبدأ الإيمان بوحدانية الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، أنه وحده الإله الحق، وهو ربُّنا وحده “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ربُّ العالمين، هذا الذي هو الركن الأول من أركان الإسلام، مبدأٌ عظيم ومهمٌ جدًّا.

الإشكالية الكبيرة في واقع المسلمين هي: نقص الوعي تجاه هذا المبدأ، وتعطيل ثمرة هذا المبدأ، بل وضع هذا المبدأ في امتداده إلى واقع الحياة تحت التجميد، من أكثر أبناء الأمة، هذا المبدأ ليس خاصاً برفض الأصنام الحجرية، بل يشمل كل الأنداد التي يتَّخذها الناس أنداداً من دون الله.

حينما نستعرض في القرآن الكريم، ونقدِّم العرض التاريخي لحالة الشرك في الأمم والأقوام الماضية، والوثنية، قد يستغرب الناس، ويستسخفون تلك الحالة، يعني: حالة سخيفة، كيف يقوم ناس…! وهذا حصل- كما قلنا- حتى لدى حضارات، لدى أمم فيها فلاسفة، وقادة، وسياسيون، ومن كل فئات المجتمع، ومفكِّرون… وغير ذلك؛ لكنهم كانوا في هذا المستوى من الانحطاط والتخلُّف الفكري والعقائدي، فيصنعون هم وينحتون هم الأصنام من مختلف المواد المختلفة، يبيعون فيها ويشترون، يتبادلونها هدايا، ويتخذونها آلهة، يُعبِّدون أنفسهم لها، يطلبون منها النصر، والعزّ، والخير، يفعلون لها كل شيء، تحدثنا عن سخافة هذه، لكن الدور الخطير هو للمضلِّين، المُضِلُّون هم الذين يصلون بالناس إلى أي مستوى من الانحطاط، في تقبُّلهم للباطل حتى الباطل المكشوف.

وهذا كان سيستمر في الواقع العربي، كانت هذه الحالة من الشرك والوثنية حالة غالبة في واقع العرب، في مختلف بلدانهم، ولولا أن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أنقذهم بخاتم رسله، وخاتم أنبيائه، رسول الله محمد “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ”، لكانوا مستمرين على ذلك إلى اليوم، لكانت الأصنام الحجرية، والأصنام بمختلف أنواعها من المواد التي تصنع منها، لكانت في كل بلدٍ عربي، ولكانوا عاكفين عليها كما هي العادة، ولكن الله أنقذ العرب، وهيأ الفرصة لإنقاذ العالمين، بخاتم أنبيائه، وسيِّد رسله، محمد “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ”، وبالقرآن الكريم، والإسلام العظيم؛ ولهـذا يقول الله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً}[البينة:1-2]، يعني: لكانوا مستمرين، لولا هذا الإنقاذ، فلنعرف عظيم نعمة الله علينا.

فيما يتعلق بهذا المبدأ العظيم: الإيمان بوحدانية الله، الإنسان على المستوى الشخصي، لضمان مسيرته الإيمانية، والأُمَّة بشكلٍ عام، بحاجة إلى الاستيعاب القوي لمبدأ التوحيد، ومعنى (لا إله إلا الله)، معنى (لا إله إلا الله)، وامتداد هذا المبدأ في واقع الحياة.

هناك دروس عظيمة، ومهمة، ومفيدة، لشهيد القرآن السَّيِّد/ حسين بدر الدين الحوثي “رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ”، في معرفة الله، الدرس الأول منها كان مخصصاً لمعنى (لا إله إلا الله)، ويُركِّز على التعريف والتوضيح لمبدأ ألوهية الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أنه وحده الإله، والامتداد لهذا المبدأ في واقعنا: في مستوى الخوف والرجاء، في مستوى الخشية، في مستوى الواقع العملي، الموقف والالتزام العملي، وهو درسٌ عظيمٌ ومهمٌ، كان مما جاء فيه:

((الشهادة بوحدانية الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، لأهميتها هي التي تجعلك تكفر بكل من يبرز لك إلهاً في هذه الدنيا غير الله، وإن كان هوى نفسك))، لاحظوا، هوى النفس قد يبرز كإله لك، قد تُؤلِّه هوى نفسك، هذه حالة خطيرة على الإنسان، ((وإن كان هوى نفسك، قد يبرز الهوى إلهاً لك، ويبرز الخوف إلهاً لك، ويبرز الطواغيت آلهةً لك))، الطواغيت: الطواغيت من زعماء مُضلِّين يستعبدون الناس وينحرفون بهم عن نهج الله، من مناهج مُضِلَّة تنحرف بك عن هدي الله، من شخصيات تتولاها فَتُضِلُّك عن نهج الله.

((ويبرز الطواغيت آلهةً لك، وتبرز الدنيا إلهاً لك، وتبرز المطامع كلها آلهةً لك، فعندما تكون مقرراً في نفسك ألوهية الله وحده، فسوف تقهر كل من يبرز في هذه الدنيا إلهاً آخر غير الله لك، ألم يقل الله: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ}[الجاثية:23]، أنت أَيُّها الإنسان يمكن أن تتَّخذ هواك تجعله إلهاً لك، كذلك من تطيعه من دون الله))، يعني: بديلاً عن طاعة الله، تطيعه في معصية الله، ((فأنت قد عَبَّدت نفسك له، من تطيعه في معصية الله، تصبح قد عَبَّدت نفسك له، فكأنك اتخذته إلهاً، ألم يقل الله لبني آدم: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}[يس:60]؟ سمَّى طاعتهم للشيطان عبادة؛ لأنهم أطاعوه في معصية الله، وكل من يوجب عليك أن تطيعه في معصية الله، فقد جعل نفسه إلهاً لك، فإذا أطعته فكأنك عبدته، وكأنك جعلته إلها)).

فلـذلك يجب أن نعي أهمية هذا المفهوم العظيم، وهذا المبدأ العظيم: مبدأ التوحيد، وأن نتَّجه في مسيرة حياتنا بكلها على أساسه.

هذا المبدأ العظيم، لأهميته يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” لرسوله محمد “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ”، ويخاطبه: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}[محمد:19]، يعني: علينا أن نأخذ العبرة، أن الله في هذه الآية يخاطب من؟ هل يخاطب المشركين فقط؟ يخاطب رسوله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ”، يقول له: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}[محمد:19]، وهو من أعلى الناس علماً وفهماً ويقيناً بذلك، لكن يتقرر في نفسك دائماً بشكلٍ واعٍ- وهو مجالٌ واسعٌ جدًّا، ودرجات متفاوتة جدًّا- تَرَسُّخ العلم بأنه (لا إله إلا هو)، يعني: في مسيرتك الإيمانية دائماً اسعَ باستمرار أن تُرسِّخ معنى (لا إله إلَّا الله) في نفسك؛ يعني: هذا مجال واسع، درجات متفاوتة، وهذا المبدأ هو كفيلٌ باستنقاذ أُمَّتنا وغيرها من الأُمَّم، وتحريرها من العبودية للطواغيت، هذه من أهم ثمرات مبدأ التوحيد.

لا يليق بالأُّمة التي تقول عن نفسها أنَّها أُمَّة التوحيد أن تكون خانعة، ذليلة، خاضعة، مستسلمة للكافرين، الضالِّين، أولياء الشيطان، الطغاة الظالمين، لا يليق بها هذا، هذا يتنافى مع انتمائها لهذا المبدأ العظيم، الله يقول: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}[النحل:36].

يحرر الناس عن كل المؤثرات، التي تدفع بهم إلى أن يكونوا مستعبدين لغير الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: المخاوف المؤثِّرة عليهم، الرغبات المؤثرِّة عليهم، الأطماع المؤثِّرة عليهم؛ ولهـذا يقول الله: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}[النحل:51]، نعم، هنا يقول: {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}، هذا مما يترتب على استيعابك لهذا المبدأ العظيم: أن تنحصر رهبتك وخوفك وخشيتك من عقاب الله، فوق كل شيءٍ من جانب الناس، وهذا يحرر الأُمَّة من قيود المخاوف، التي تُخضعها لأعداء الله وأعدائها.

في مجال الثقة بالله والتوكل على الله، يقول الله: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ}[الرعد:30]، كيف كان التوكل هنا ثمرةً ونتيجةً لهذا المبدأ العظيم.

يربط الناس بنهج الله وشرعه وهديه، كما قال الله تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ}[النحل:2]، يُبنى على ذلك التقوى كثمرة لهذا المبدأ العظيم.

يقول الله: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ}[الحج:34]، يُبنى على هذا المبدأ التسليم العميق لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.

يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}[الشورى:21]، الإنسان يتحصَّن بمبدأ التوحيد من أن يُخْضِع نفسه لغير شرع الله ونهجه وهديه.

وهكذا هي الآيات الكثيرة فيما يتعلق بهذا الموضوع.

في هذا العصر، أُمَّتنا مُعَرَّضة للاستعباد الأمريكي والإسرائيلي، لابدَّ لها أن تتحرر بهذا المبدأ العظيم، المسعى اليهودي الصهيوني، الذي تتحرك فيه أمريكا وإسرائيل، هو الدفع لأُمَّتنا باتِّجاه الارتداد، والتحريف حتى لإسلامها ودينها وفق المعيار اليهودي، كما يحصل في المناهج الدراسية، والخطاب الديني، والتَّوجُّه السياسي، وفي الولاء والعداء لدى الموالين لأمريكا وإسرائيل، يُؤقلمون كل ذلك وفق المعايير اليهودية على حساب الدين، ويتَّجهون في اتِّجاه الطاعة لهم في معصية الله، وفي الصدِّ عن سبيل الله تعالى.

بقي لنا أن نؤكِّد في مسألة التخويف أيضاً؛ لأنه من أكبر الإشكالات في واقع أُمَّتنا، هناك أيضاً نصٌ جميلٌ لشهيد القرآن، قال فيه، ونقلناه باختصار: ((انطلق نبي الله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ” من مقاييس المقارنة من قواعد ثابتة لديه، يُخوِّفونه بهذا، ويُخَوِّفونه بهذا، وكل تخويف يبدو تخويفاً بشيءٍ لا يُشَكِّل خطورةً مع المقارنة بما يجب أن تخافه من قبل الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ}[الأنعام:81]، أنت تريد أن تخوفني؛ من أجل أن تدفع بي إلى جانب الأمن، أليس كذلك؟ وأنا أُخَوِّفك بالله، أريد أن أدفعك إلى جانب الأمن، {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ}؟ أي الفريقين يصح أن يقال هو الآمن: من يكون في واقعه آمناً من عذاب الله وسخطه، أو من يحاول أن يأمن من عذاب الناس وسخطهم، ويوقع نفسه في عذاب الله وسخطه، هل هو آمن؟)).

فعلاً هذه المقارنة ذات أهمية كبيرة جدًّا، إن شاء الله ننتقل إلى المقامات والمواقف الأخرى، لنبي الله وخليله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ”.

نَسْألُ اللَّهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهْدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.

وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

المصدر: الثورة نت

كلمات دلالية: نبی الله إبراهیم فی واقع الحیاة القرآن الکریم العلم الذی هو فی معصیة الله ل من السلاح من هدى الله الله تعالى فیما یتعلق ع ل ى آل ه إلى الأسفل أهل الباطل ة والبرهان لا إله إلا یقول الله إلى مستوى س ب ح ان ه ت ع ال ى فی مستوى لا یمتلک مستوى من عند الله ن یمتلک الذین ی ما تکون د ر ج ات أن یکون من الله ما یحدث ة الله ة التی ا الله فی هذا من الم فی هذه الذی ی یجب أن والح ج التی ی التی ت ن الله

إقرأ أيضاً:

(نص + فيديو) المحاضرة الرمضانية الثامنة للسيد القائد 1446هـ



أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.

الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.

أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:

السَّـلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

وصلنا بالأمس إلى قوله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، في قصة نبي الله إبراهيم "عَلَيْهِ السَّلَام"، في الآيات المباركة من (سورة الأنعام): {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[الأنعام:79].

كُنَّا بدأنا بالحديث عن هذه المفردة المهمة: (حَنِيفاً)، وكيف أنها تكررت في الحديث عن نبي الله إبراهيم "عَلَيْهِ السَّلَام" في مقامات متعددة، وفي الحديث عن مقامات مشابهة، فيما ينبغي أن يكون عليه الإنسان المسلم، في توجهه نحو الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" بالعبادة بمفهومها الشامل، وكذلك فيما ذكره الله عن الأمم السابقة من قبلنا، أنَّها كانت مأمورةً بذلك.

وتحدثنا عن المفهوم بمدلوله الواسع، بما تعنيه مفردة (حَنِيفاً)، وأنَّها ذات أهمية كبيرة غفل عنها المسلمون، يعني: ليس هناك تركيز على هذه المفردة بمفهومها بمدلوله الواسع.

وتحدثنا أن البعض من المفسرين قَزَّمُوا هذا المفهوم في نطاق محدود، تحدثنا عمَّا يعنيه هذا المفهوم، من اتِّجاهٍ للعبادة إلى الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، وانطلاقةٍ إيمانيةٍ باستمرار، وثبات، وإخلاص، ومحبة، وخضوع وخشوع لله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، هذا هو روح الانطلاقة الإيمانية، المعبِّر عن حالة التسليم لله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، والاستجابة لأمره برغبة، والالتزام بتعليماته وتوجيهاته بانطلاقة جادّة وصادقة.

وَنَبَّهْنَا عن الخطورة الكبيرة على الإنسان، عندما تكون انطلاقته الإيمانية متعثرة، يتحرك فيها وهو يعاني من الترسبات الكبيرة، المؤثِّرة في نفسه، ترسبات لم يُزَكِّ نفسه للتخلص منها، من الأمور السيئة، المؤثِّرة تأثيراً سيئاً على نفسية الإنسان، التي تتحول إلى عوائق، عوائق عن الاستجابة السريعة لله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى".

ولـذلك- كما ذكرنا بالأمس- أتى أيضاً الحديث عن نبي الله إبراهيم "عَلَيْهِ السَّلَام" بمواصفات هي في هذا الاتِّجاه: اتِّجاه الاستجابة بخضوع لله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، وخشوع لله، في مثل قول الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" وهو يتحدث عنه: قَانِتاً، {قَانِتًا لِلَّهِ}[النحل:120]، فهو بهذا التَّوجُّه الذي يُعبِّر القرآن عنه أيضاً في عبارة أخرى تحدثنا عنها بالأمس.

هذا يلفت نظرنا إلى واقعنا نحن، في انطلاقتنا الإيمانية، كيف نحرص، وكيف نسعى إلى أن تكون انطلاقتنا الإيمانية مبنية على الاستجابة لله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، والطاعة بخضوع وخشوع، بمحبة لله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، وأن نتخلص من العوائق في النفوس، التي تجعل الإنسان ينطلق انطلاقة متعثرة وهو مُكَبَّلٌ، ويخضع للتأثيرات السلبية، التي تُعِيقه عن المبادرة، عن الاستجابة.

الإنسان إذا انطلق انطلاقةً صحيحة، يكفيه فيما ينطلق فيه من الأعمال، أن يكون فيه مرضات الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"؛ لأنه يحمل الحرص في نفسه على الاستجابة لله، على الطاعة، على الانقياد التام.

ولـذلك الحالة الأخرى المختلفة عن ذلك لدى البعض من الناس: قد ينطلق، حتى البعض انطلاقتهم إيمانية، لكنه ليس سريع الاستجابة، وليس متجهاً بدون عناء، يحتاج إلى عناء دائماً، أو في كثير من الأمور، إلى إقناعه ليستجيب، إذا اختلفت المسألة عن رغبته الشخصية، أو طموحاته الشخصية، فهو ذلك المتعب، المتعب جدًّا، الذي يعتمد على العناد، على العناد، فلا يستجيب إلَّا بعناء، لا يتحرك إلَّا بعناء، لا يتفهَّم إلَّا بعناء، لا تُدرس معه الأمور العملية إلَّا بعناء، هذه الحالة حالة سلبية لدى الإنسان، حالة سلبية بكل ما تعنيه الكلمة.

والحالة بالنسبة للعناد لدى الإنسان هي حالة ليست ايجابية أبداً؛ ولـذلك يصف الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" الجبابرة بالعناد في القرآن الكريم: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ}[إبراهيم:15]، (عَنِيدٍ): لا يتقبَّل الحق، فالبعض من الناس- فعلاً- لديه هذه الحالة النفسية: أنه وهو في انطلاقته الإيمانية هو متعبٌ جدًّا، لا يتحرك إلَّا بعناء، لا يتفهَّم إلَّا بعناء، لا يستجيب إلَّا بعناء، وقد يصرفه- بعد جهدٍ جهيد حتى ينطلق- قد يصرفه أبسط عائق، أو أي إشكال، أو أي استفزاز، ويؤثِّر عليه في مدى استجابته.

الاتِّجاه إذا كان بإخلاص تام لله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، بمحبةٍ لله، بخشوعٍ لله، بخضوعٍ لله، فالإنسان يتحرك فيه بمبادرة، باستجابةٍ تامة، بطاعةٍ تامة، بانقيادٍ تامٍ لأمر الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، وبرحابة صدر، وبرغبة، وهذه المسألة مهمةٌ جدًّا؛ لأن البعض من الناس- فعلاً- حتى في طريق الجهاد في سبيل الله، لا يتَّجه هذا الاتِّجاه الذي يصف الله به عباده المؤمنين بأنهم (حُنَفَاءَ)، بأنهم كما يصفهم: {وَالْقَانِتِين}[آل عمران:17]، في مواصفاتهم في (سورة آل عمران)، كما يصفهم أيضاً بأنهم مُخْبِتِين إلى الله؛ وبالتالي منقادين، مستجيبين، لا يحتاج الأمر معهم إلى عناء، وعراقيل، وتعب، ولا يمكن للناس أن يُنْجِزوا خطوةً عملية في مسيرتهم الإيمانية والجهادية، إلَّا بعناء شديد، إلَّا بتعب، إلَّا بحلحلة الكثير من العقد... وهكذا، هذا درسٌ مهمٌ جدًّا؛ لأنه يمثِّل الروح للانطلاقة الإيمانية، كيف تكون بهذا المستوى: انطلاقة سليمة من العوائق السلبية.

{وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[الأنعام:79]، وهذه براءةٌ أيضاً، هو تبرأ من الشرك، وتبرأ أيضاً من المشركين، وتحدثنا بالأمس عن أهمية البراءة، وفي طريق الإيمان، الإنسان مع إيمانه له موقف، موقفٌ من الباطل، من الضلال، من الكفر، من الشرك، ليست المسألة مع الشرك، مع الباطل، مع الكفر بالله، مع الانحراف عن نهج الله، مع الصد عن سبيل الله، أنَّها وجهات نظر، يمكن التأقلم معها والتفهُّم لها، ثم ينظر الإنسان إلى الأمور في الحياة مثل نظرة البعض، وكأن المسألة وجهات نظر هنا وهنا وهنا، وجهة نظر عن الإيمان بالله، ثم وجهة نظر عن الكفر، والشرك، والفساد، والطغيان، والإجرام، والكفر، وسابر، كله سابر، لا، ليست المسألة كذلك، لابدَّ أن يكون للإنسان موقفٌ.

هذه البراءة من الشرك، من المشركين، عبَّر عنها القرآن الكريم في مقامات أخرى، فنبي الله إبراهيم "عَلَيْهِ السَّلَام" هو أيضاً رمزٌ وقدوةٌ في البراءة، في البراءة من أعداء الله، {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}[الممتحنة:4]، فالله قدَّم لنا نبيه إبراهيم في القرآن الكريم على أنه رمزٌ للبراءة من أعداء الله، فعندما يحاول الأمريكي والإسرائيلي، ومن يدور في فلكهم من عملائهم الموالين لهم من العرب، أن يقدِّموه رمزاً للتطبيع والولاء لأعداء الله، فهذا إساءةٌ كبيرةٌ إليه، وتناقضٌ تامٌ مع الحقيقة، التي أكَّد الله عليها في القرآن الكريم، وسيأتي- إن شاء الله- في مقامات أخرى، تسليط الضوء من خلال الآيات القرآنية المباركة على هذه المسألة أكثر.

بعد هذا العرض، وبعد هذا الإعلان للموقف، الذي هو يوجِّه أيضاً دعوة ضمنية لهم، يعني: هو يُعبِّر عن موقفه هو، عن إيمانه، عن توحيده لله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، ويتضمن في معناه وفي فحواه الدعوة الصريحة لهم، إلى ترك ما هم عليه من الشرك، وإلى التوحيد لله والإيمان به "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، ولكن بهذا الأسلوب، الذي كان هو الخطوة الأولى المناسبة معهم، التي يخترق بها الحاجز الكبير، والعوائق الكثيرة جدًّا، فيصل بهم، من خلال هذا الأسلوب العملي المتدرج، إلى أن يتفهَّموا الحقيقة، إن أرادوا أن يتفهَّموها، تُصبح مُتاحةً لهم.

كيف كانت ردة فعل قومه بعد هذا؟

ردة فعلهم تدل على أنه نجح- فعلاً- في لفت نظرهم إلى الحقيقة المهمة، في أن الكمال لله وحده، وفي نقص معبوداتهم المُزَيَّفة، التي يُسمُّونها بالآلهة، عن مقام الألوهية، ونجح بأسلوبٍ مناسب، يعني: لم تكن ردة فعلهم- مع أن الموضوع حساس للغاية- لم تكن ردة فعلهم عنيفة جدًّا، أو متصلِّبة جدًّا، هُمْ صُدِموا بالموقف، وتفاجأوا بالمسألة وبما وصل بهم إليه من حقيقة، لكن ردة فعلهم لم تكن بمستوى سخط كبير جدًّا، أو عقدة شديدة؛ لأن الأسلوب بنفسه، والبداية كانت بداية موفَّقة، بداية قدَّم نفسه فيها في صورة الباحث عن الحقيقة، كانت الدعوة فيها لهم دعوة ضمنية، بلفت أنظارهم إلى الموضوع، كان التصور بالنسبة لهم أنه يُعبِّر عن موقفه الشخصي، وتوجهه الشخصي، ولـذلك كانت أقل حساسية من المقامات التالية؛ لأن له ما بعد هذا المقام مقامات أخرى، كانت موجهةً لهم بشكلٍ أكبر، ودخل بهم إلى مرحلة أخرى من الاحتجاج، من الدلائل، من التوبيخ، من التذكير... إلى غير ذلك.

عموماً، عبَّر القرآن الكريم عن ردة فعلهم بقول الله تعالى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ}[الأنعام:80]، يعني: اتَّجهوا إلى أن يجادلوه في موضوع التوحيد، وموقفه من الشرك، وبالتأكيد أنهم لا يمتلكون الحجج، لا يمتلكون الحجج، ليس لديهم الأدلة التي يمكن أن تصمد، في مقابل ما قدَّمه هو من الحجة والبرهان.

{قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ}[الأنعام:80]، هو هنا يلفت نظرهم إلى خطأهم الكبير في الجدال في الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"؛ لأن مسألة ادِّعاء الربوبية لغير الله تعالى والألوهية، فيه إساءةٌ إلى الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"؛ لأن الله ليس له ندٌّ، ولا كفؤٌ، وهو "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" مُقَدَّس، مُعَظَّم، مُنَزَّه عن النِدّ والشريك، لا يحتاج إلى معاون؛ لأنهم عندما نسبوا إلى الألوهية شركاء مع الله، يزعمون أنهم يعينون الله، وأنهم مشتركون معه في تدبير أمور الخلق، فهم بذلك يسيئون إلى الله تعالى، وهو "جَلَّ شَأنُهُ" الذي له الكمال المطلق، والمنزَّه عن النِدّ والشريك، ومُنَزَّهٌ في عظمته وفي جلاله.

{وَقَدْ هَدَانِ}[الأنعام:80]، يعني: بعيدٌ أن أستجيب لكم، لا يمكن أن أستجيب لكم، الله قَدْ هَدَانِ، وما أمتلكه من الحجة والمعرفة في كمال الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، وتوحيده، وتنزيهه، هو بما يدحض باطلكم بكله؛ لأن الحقيقة واضحة في بطلان الشرك، حقيقة واضحة، حقيقة جليَّة.

هذا المنطق هو منطق يُعبِّر عن ثقة بما هو عليه، ثقة تامة، وعن ثبات بما هو عليه، وهذا مهمٌ جدًّا؛ لأنه يزرع اليأس لدى المجادلين، حينما يُعبِّر بكل هذه الثقة، وبكل هذا الثبات: [لن أستجيب لكم، كيف أستجيب لكم وأنتم تجادلون في الله؛ من أجل أصنام عاجزة، لا تملك لا نفعاً، ولا ضراً، ولا حياةً، ولا موتاً، ولا نشوراً... ولا أي شيء؟!]، فهو يعبِّر عن هذا الثبات، وعن هذه الثقة، تجاه ما هو عليه من الموقف؛ لأنه يستند فيه إلى هداية الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى".

هنا كما لفتنا النظر سابقاً: أن الإنسان في معتقداته الدينية، في توجهه الديني، يجب أن يكون معتمداً على هدى الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، هذا هو المستند، والمعتمد الذي ينبغي أن يعتمد عليه الإنسان، وليس على الخرافات، وليس على الأساطير، وليس على التَّخَرُّصات والظنون والأوهام، وبالحذر عن طرق الباطل، وأهل الباطل... وغير ذلك.

فالعبارة نستفيد منها أيضاً في قوله: {وَقَدْ هَدَانِ}[الأنعام:80]، الاعتزاز بالهدى، وإدراك قيمة الهدى، وعظمة أن تكون في طريق الهدى، وهذه مسألة مهمة جدًّا للإنسان، حينما يوفِّقك الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" أن تكون في طريق الهدى، فاعرف قيمة وعظمة وأهمية ما أنت فيه، ونعمة الله عليك، هي نعمة عظيمة، الإنسان إذا لم يكن للهدى عنده عظمة، أهمية، قيمة، قدر؛ يمكن أن يبتذل الهدى، أن ينحرف عن طريق الهدى، أن يتأثر بأي بدائل من الضلال والباطل، وهذه حالة سلبية لدى الإنسان، حتى فيما يتعلق بالتوفيق الإلهي، إذا كان الإنسان لا يقدِّر نعمة الهدى، فهو لا يُقدِّر النعمة عليه، يعني: حتى من باب الشكر لله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" على النعمة؛ لأن أعظم النعم على الإطلاق هي نعمة الهدى، {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}[الفاتحة:7].

وكما نَبَّهنا، الهُدى والضلال هما عنوانان بارزان وأساسيان في مسيرة حياة البشر، فإما أن يكون الإنسان في مسيرة حياته على هدى، وإلَّا فالبديل هو الضلال، هو الضلال والعياذ بالله، والمسألة ليست مجرد دعاوى، يعني: أن تلك الطريق تعتبر طريق هدى؛ لأن الذين على رأسها يدَّعون ذلك، أو الذين يتحركون فيها يدَّعون لأنفسهم ذلك.

فرعـون، بكل ما هو عليه من الضلال والباطل، يُخاطب قومه، يقول لهم: {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}[غافر:29]، يَدَّعي الهداية لنفسه. المشركون، فيما هم عليه من الضلال الرهيب، يقولون وهم يوجهون التهمة إلى من؟ إلى رسول الله محمد "صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم"، الذي هو رسولٌ من الله، ومنحه الله الهدى، ودعوته دعوة حقٍّ وهدى، يقولون: {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا}[الفرقان:42]، يعني: يتهمونه بالضلال. وهكذا هي المقامات التي أشار الله إليها، وتحدث عنها في القرآن الكريم، كثيرة من هذا القبيل؛ فلـذلك المسألة ليست مرتبطة بمجرد الدعوى، هناك طريقٌ واضح للهدى: طريق كتب الله ورسله، والهداة من عباده، الذين يسيرون في دربهم، وفي طريقهم.

هم فشلوا في مسألة الاحتجاج؛ لأنهم لا يمتلكون حجةً من الأساس، يعني: المسألة بالنسبة لهم استناد إلى عاداتهم، إلى تقاليدهم، إلى أشياء لا تمثل- بنفسها- حُجةً لهم فيما هم عليه من الباطل، فانتقلوا من مسألة الاحتجاج إلى العامل النفسي؛ بهدف التأثير بالتخويف من الأصنام؛ لأنهم لا يمتلكون حُجةً مقنعة، حُجةً من الأساس يعني، اتَّجهوا إلى العامل النفسي؛ بهدف التأثير بالتخويف من الأصنام.

فهم حاولوا أن يخوِّفوه، وأنه سيسبب لنفسه مصائب، ومشاكل... وغير ذلك، فهو رد عليهم بطريقة حاسمة وحكيمة، ومهتدية في نفس الوقت: {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ}[الأنعام:80]، لا أخاف، في مقابل حملة التخويف التي استخدموها معه، وأسلوب التخويف هو أسلوب يعتمده أهل الباطل، حتى لو قد اتَّضح باطلهم، يعني: هم يحاولون أن يكون وسيلة للضغط، للضغط على الإنسان؛ للتراجع عن الحق الذي هو حقٌّ واضح، من أجل باطلهم الذي هو باطلٌ واضح، بأسلوب التخويف، وحملات التخويف، فهو لم يتأثر بأسلوب التخويف، وكان رده مُفحماً لهم؛ لأنه لا يخاف مما يشركون به، من أصنامهم تلك، هو يعرف حقيقتها: أنها لا تملك النفع ولا الضر، ولا تملك أي قدرة أصلاً، لا للإيجابية بأن تنفع، ولا سلبية بأن تضر، وهو يُقدِّم مقارنة- ستأتي- هي مقارنة مهمة جدًّا في مسألة الخوف، من يجب أن يخاف، من حيث أنه مذنب، ومن حيث أنه في مقام المؤاخذة من الله المقتدر، ومن حيث العقوبة الإلهية، من يجب أن يخاف؟ ستأتي هذه المقارنة.

هو في البداية يقول لهم: {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا}[الأنعام:80]، هذا الاستثناء يأتي في حديث الأنبياء، ومع أكثر من نبيٍ في القرآن الكريم، وهو استثناء مهم جدًّا، يعني: هم لا ينطلقون من منطلقات شخصية في مواقفهم، وحتى المقام هنا ليس في مقام الاعتماد على النفس، يعني: بالاعتماد على نفسي، لا أخاف ما تشركون به، معتمداً على نفسي، على قوتي، على قدرتي، ليس كذلك، الأنبياء يحرصون على أن يربطوا موقفهم بالله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، وأن يشدَّوا الناس إلى الله "جَلَّ شَأنُهُ"، وأن يترفَّعوا عن الاعتبارات الشخصية، والمواقف الشخصية، وهذه مسألة مهمة جدًّا.

هو هنا يُعبِّر عن أنه ينطلق عبداً لله، مُسَلِّماً نفسه لله، وأن الأمر كله لله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، ويعبِّر عن توكله على الله، وتسليمه لأمر الله، فيشبه ما ذكره الله في تعليماته لنا في القرآن الكريم لنبيه وللمؤمنين: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا}[التوبة:51]؛ لـذلك هذا المنطق مهم جدًّا: {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا}[الأنعام:80]: يعني: لن يأتي شيءٌ من جهة الأعداء لا يعلمه الله، هو الواسع علماً، المحيط علماً بكل شيء، فأنا مخلصٌ له، ومهتدٍ بهديه، ومؤمنٌ به وحده، وأعلم أنه بكل شيءٍ عليم، فلن يحصل شيءٌ يضرني في وقتٍ يكون الله غير عالمٍ به، فهو الذي لا يخفى عليه شيءٌ، وأنا أستند إلى رعايته تعالى، وأُسلِّم أمري له "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، فإذا أتى شيءٌ بعلم الله، فليكن ما كان، يُعبِّر عن ثقته بالله، عن التجائه إلى الله، عن اعتماده على الله، عن توكله على الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى".

{أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ}[الأنعام:80]، وهو هنا بعد أن ذكَّرهم بالحق، لفت نظرهم إلى الحقيقة، إلى ما كانوا غافلين عنه، جاهلين به، والمفترض بالإنسان في مثل هذه الحالة أن يتفاعل، بالتقبُّل، بالاستجابة، عندما يكون الإنسان في الاتِّجاه الخطأ، وأتى من يُذكِّره، ومن يلفت نظره، ومن يُنَبِّهه، فالاتِّجاه الصحيح للإنسان الذي يدل على الرشد، يدل على الإنصاف، هو: أن يتفاعل إيجاباً، أن يتقبَّل؛ بينما إذا كان الإنسان مُتبلِّد الذهن، ومعقَّد النفس، لا ينفع فيه أن يُذَكَّر، تُعرَض له الحقائق، تُعرَض له البراهين، تُقدَّم له الحُجج، لا ينفع معه شيء، مهما كانت الحُجَّة، مهما كان وضوح الحق، مهما كان وضوح الحقيقة؛ يبقى معانداً، لا يتفاعل؛ لأنه مقفل الذهن، متبلِّد الذهن، وهو في نفس الوقت معقَّد النفس، ومكبَّلٌ بالضلال، وأسيرٌ للباطل، البعض من الناس يصل به الحال إلى هذا المستوى: أن يكون أسيراً للباطل، ومُكبَّلاً بالضلال.

{وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ}[الأنعام:81]، يستمر في مخاطبتهم تجاه مسألة التخويف، التي حاولوا أن يؤثِّروا عليه بها، {وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[الأنعام:81]، هنا قدَّم مقارنة مهمة جدًّا:

- (كَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ): الأصنام التي تنحتونها أنتم، لا تملك شيئاً، لا حياةً، ولا نفعاً، ولا ضراً، ولا أي شيء، وليس لها أي قدرة، هل أخاف منها؛ لأنكم منحتموها أنتم وسام الألوهية كصفة زائفة، ليس لها أي حقيقة في الواقع، اسم فقط، اسم ليس له حقيقة ولا واقع، {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ}.

- {وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا}[الأنعام:81]، يعني: أنتم المذنبون، أنتم الذين يجب أن تخافوا من ذنب شرككم بالله تعالى، فأنتم تُقِرُّون بالله، وَتُقِرُّون بقدرته على كل شيء، وأنه الذي فطر السماوات والأرض، وعلى كل شيءٍ قدير، ونؤمن جميعاً نحن وأنتم به؛ إذاً يجب أن تخافوا أنتم؛ لأنكم أنتم المذنبون ذنبًا خطيرًا جدًّا، وأنتم في مقام المؤاخذة الإلهية، في مقام العقوبة الإلهية، أنتم في الموقف الخطر جدًّا، يعني: في الذنب، الذي هو ذنب خطير على الإنسان: من حيث المؤاخذة من الله، من حيث العقوبة من الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، من حيث أنه يصبح في مشكلة مع الله "جَلَّ شَأنُهُ"، فأنتم الذين يجب أن تخافوا أنكم أشركتم بالله.

{مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا}[الأنعام:81]، وهذا كما نَبَّهْنا في كل المواطن الماضية: أن المستند والأساس في المعتقدات الدينية هو ما ثبت أنه من الله، بالحُجَّة، وبالبرهان، وليس بالشبه وبالادِّعاءات الفارغة، بالحُجَّة وبالبرهان؛ ولـذلك يجب أن يكون الإنسان مُتنبِّهاً لهذه المسألة، إيمانك يكون مبنياً في مبادئه، في أسسه، في عقائدك الدينية، على أساس ما هو من الله، من هدى الله، ببرهانٍ واضح، بدليلٍ واضح من هدى الله "جَلَّ شَأنُهُ"، وأن يكون الإنسان حذراً من الآراء الباطلة، والزخارف الزائفة، والخرافات التي باسم أنها من دين الله وليست من دين الله؛ لأن هناك من يفترون على الله الكذب، هناك من يزخرفون زخارف القول؛ للإقناع بالباطل، فئات ضالَّة، أهل الضلال، ينشطون في التضليل للناس، اليهود في هذا العصر لهم نشاط هائل، ويركِّزون على الاختراق الفكري، والثقافي، والعقائدي، ولهم ناشطون، كُتَّاب يكتبون في مواقع التواصل وغيرها، في شبكة الإنترنت، في القنوات الفضائية التي هي منابر للضلال، وتستخدم للضلال من قِبَلِهِم، القنوات التابعة للمُضِلِّين.

فهو هنا يُنَبِّه على هذه الحقيقة: {أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا}[الأنعام:81]، يعني: ليس لكم مستندٌ في باطلكم من الله، ليس هناك حُجَّة، ليس هناك برهان، لا هدى من الله، ولا كتاب من كتب الله، تستندون إليه فيما قمتم به، فيما وصلتم إليه من الانحراف، بالشرك بالله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى".

{فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[الأنعام:81]، من الذي هو آمن، ويستحق أن يقال له: هو آمن، {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}؟ والفريقان في الآية، حين قال: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ}:

- فريق من آمن بالله، وأخلص له، إيماناً سليماً من الشوائب.

- والفريق الآخر: الفريق الذي أشرك بالله ما لم يُنزِّل به سلطاناً.

{إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[الأنعام:81]، يعني: تفهمون الأشياء برؤية واضحة من خلال المقارنة.

المقارنة في موضوع التخويف درسٌ مهمٌ جدًّا، من أحوج ما نحتاج إليه في هذا الزمن؛ لأن من أكثر ما يركِّز عليه الطغاة والمجرمون، والضالُّون، والمضلُّون، والمنافقون، كل فئات أولياء الشيطان، هو: التخويف، وكل القائمة التي يخوِّفون منها هي في قائمة: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ}[الزمر:36]، يخوِّفونك بأمريكا، بما تمتلكه أمريكا من قوات عسكرية، وقدرات عسكرية، بما تقوم به من ضغوط اقتصادية... وغير ذلك، ويؤثِّر التخويف على الكثير من الناس، يعتبر التخويف من أكثر العوامل المؤثِّرة على الكثير من الناس.

يعني: ربما لو نتأمل في واقع أمتنا الإسلامية، كيف تتعامل مع قضايا واضحة، الحقُّ فيها واضحٌ تماماً، ليس هناك التباس لدى الناس فيها، مثل: القضية الفلسطينية، والمظلومية الفلسطينية، مظلومية الشعب الفلسطيني، وهذا التخاذل في واقع الأمة، أكبر سببٍ فيه لدى الكثير هو الخوف، لم يتحركوا، لم يجرؤوا أن يكون لهم موقف؛ خوفاً من أمريكا، على مستوى الحكومات والأنظمة، وكذلك خوفاً من الحكومات والأنظمة على مستوى الكثير من الشعوب، وهذه إشكالية خطيرة على الناس؛ لأنها ليست منجية، يعني: ما يخاف منه الناس، وبالتالي يتنصلون عن مسؤولياتهم الإيمانية والدينية، هم يسببون لأنفسهم من سخط الله، وغضب الله، وعذاب الله، ما هو الشيء الذي يجب أن يخافوا منه فعلاً، وما لا يُقارن، ما يخافون منه، وقد تخلَّوا عن ذلك بسببه، يعني: عندما يخافون من أمريكا- مثلاً- من قدراتها العسكرية، ما هي قدرات أمريكا العسكرية في مقابل عذاب الله وسخط الله، في مقابل لحظة واحدة من جهنم، عذاب الله في الدنيا والآخرة؟ لا شيء، أو في مقابل ما بحوزة إسرائيل من قدرات للقتل والبطش والجبروت؟ كذلك لا يساوي ساعة واحدة في نار جهنم، ولا لحظة واحدة في نار جهنم.

ولـذلك يجب أن يكون الإنسان واعياً، يعني: حتى بحساب الخوف، بحساب الخوف، ما هو الذي يجب أن أخاف منه؟ أين هو الخطر الأكبر؟ أين هو الضرر الأشد، الذي يجب أن أحسب حسابه: ما يأتيني من جانب الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، إن عصيته، إن فرَّطت في مسؤولياتي، إن تنصلت عن واجباتي، إن خالفت هدى الله وتعليماته؛ أو ما يأتيني من جهة الناس؟ ما يأتي من جهة الناس هو لا شيء في مقابل عذاب الله وسخط الله.

ولـذلك يجب أن يكون المعيار في مسألة ما يجب أن نخاف منه، يجب أن يكون المعيار معيار القرآن الكريم، فأولئك الذين اتَّجهوا من أبناء هذه الأمة للخضوع لأمريكا، وطاعتها، والولاء لها، وتقديم الدعم لها (المال)، والطاعة لها؛ هُمْ ابتعدوا عن الله، أصبحوا في واقعهم يعتبرون أمريكا وكأنها أكبر من الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، وكأنها نِدٌّ لله "جَلَّ شَأنُهُ"، هُمْ في الموقف الخطير على أنفسهم من عذاب الله، ومن سخط الله "جَلَّ شَأنُهُ"؛ لأنهم بخضوعهم لأمريكا يدعمون الباطل، يقفون مع الباطل، يخدمون الباطل، يُتيحون المجال للظلم، للإجرام، أكبر عامل استفادت منه إسرائيل، في عدوانها على الشعب الفلسطيني، هو: تخاذل الأمة، أمكن لها أن تفعل ما تفعل، بذلك المستوى من الوحشية والإجرام والطغيان.

الآن، على مستوى أكبر، ومستوى يُعبِّر عن المبادئ والدين، ما الذي يعيق أكثر الأمة عن الاتِّجاه وفق هدى الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، أن يكون لهم الموقف القرآني، أن يتحركوا وفق توجيهات الله "جَلَّ شَأنُهُ"؟ هو الخوف، مؤثرٌ عليهم إلى درجة كبيرة جدًّا.

ولـذلك يجب أن يكون هناك تذكير بهذه المقارنة، وترسيخ لها؛ لأنها سَتُمثِّل علاجاً وحلاً لهذه العقدة، لهذه العقدة لمن يتذكر، لمن يتفهَّم. من هو في الموقف الأقوى: من يعتمد على الله، ويتوكل عليه، ويعتمد على نصره وتأييده، أو من باءوا بغضبٍ من الله، وسخطٍ من الله، ولهم الوعيد الشديد في القرآن الكريم توعدهم الله به، ومن يواليهم؟

{إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[الأنعام:81]، أنت عندما تخاف من عذاب الله، وتتَّجه لما يقيك من عذابه؛ فأنت أولاً ستأمن من عذابه، والله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" هو قادرٌ أيضاً على أن يُؤمِّنك من ضُرِّ الآخرين، ونجد الدرس العظيم في قصة نبي الله إبراهيم "عَلَيْهِ السَّلَام"، كما سيأتي في مقامات أخرى، حاولوا حتى أن يحرقوه بالنار، لكنهم فشلوا في ذلك؛ ولـذلك هذه المقارنة مهمة جدًّا.

نكتفي بهذا المقدار.

وَنَسْألُ اللَّهَ "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهْدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.

وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

المحاضرة الرمضانية الثامنة للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي 08 رمضان 1446هـ 08 مارس 2025م pic.twitter.com/pdbNlsttVP

— الإعلام الحربي اليمني (@MMY1444) March 8, 2025

مقالات مشابهة

  • (نص) المحاضرة الرمضانية العاشرة للسيد عبدالملك الحوثي
  • شاهد | المحاضرة الرمضانية العاشرة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي (فيديو)
  • المحاضرة الرمضانية التاسعة للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي (نص + فيديو)
  • (نص + فيديو) المحاضرة الرمضانية التاسعة للسيد القائد 1446هـ
  • نص المحاضرة الرمضانية التاسعة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1446هـ
  • (نص) المحاضرة الرمضانية الـ8 للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي
  • (نص + فيديو) المحاضرة الرمضانية الثامنة للسيد القائد 1446هـ
  • نص المحاضرة الرمضانية الثامنة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1446هـ
  • شاهد| المحاضرة الرمضانية الثامنة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي (فيديو)