كانت الزيادة على متون الكتب عند العمانيين أمرًا سائغًا ومنتشرًا اشترك فيه الخاصة والعامة، ولذلك نرى في كتب المتقدّمين عبارات تفيد الزيادة نحو قولهم: «ومن غيره»، أو «ومن الزيادة المضافة» أو نحوها، ثم يعقبها نص من غير كلام المؤلف في الكتاب. وثمة من يرى أن الزيادات مما ابتلي به التراث العماني لِما ترتب عليها من خلط بين نصوص المؤلفين وغيرها، بيد أن تلك الزيادات - من الزاوية المضيئة – حفظت لنا نصوصًا كثيرة من مصادر مفقودة أو مما كاد أن يُفقَد لولا أنه مما زِيدَ على كتاب.

يحفل كتاب (بيان الشرع) لأبي عبدالله محمد بن إبراهيم بن سليمان الكندي السمدي النزوي (ت:508هـ) بوثائق كثيرة يصدق على بعضها حكم الزيادات على متن الكتاب، ويحتمل أن البعض الآخر من أصل الكتاب. ولمّا كانت الزيادات على هذا الكتاب قد لبثت قرونًا متطاولة، فإنه ليس عجيبًا أن نقف في كثير من نُسَخ أجزاءه على وثائق ضمن الزيادات، وهي إما تخللت متن الكتاب أو زيدت عليه بعد الخاتمة. ومن بين تلك الوثائق ما يرجع إلى العصور الإسلامية قبل زمان المؤلف أو في عصره، أو مما زيد على الكتاب بعد المؤلف حتى زمان متأخر عنه بقرون.

ونتعرض في هذه السلسلة لعدد من الوثائق التي نُقِلت في الكتاب، ابتداءً بوثيقة مؤرخة سنة 428هـ أي قبل وفاة المؤلف بنحو ثمانين سنة، وهي ضمن مجموعة من الوثائق التي وردت في الجزء التاسع والثلاثين من الكتاب وموضوعه فقه الأفلاج. ولفقه الأفلاج أثر بالغ في نقل الصورة الحضارية لحياة القرى وإعمار الأرض العمانية طوال عصر التأليف.

تصدّرت نقل الوثيقة عبارة «قال غير المؤلف للكتاب والمضيف إليه: وهذه مسألة وجدتها في أوّل صفح ورقة من الورق المبيض، لأوّل الكتاب، فكتبتها في هذا الباب وهي هذه: في فلج ذي نيم عن أبي عبد الله محمّد بن إبراهيم بن سليمان الكندي –رحمه الله-، وصلتُ إلى أبي بكر أحمد بن محمد بن الحسن السعالي، وسألتُه عن ثَبَتٍ كان أثبته والده في أمر فلج ذي نيم، فأحضره، فإذا هو مكتوب....» ثم نقل نص الوثيقة: «بسم الله الرحمن الرحيم. حضرنا يوم الأحد لعشر خَلونَ من ربيع الأوّل سنة ثمان وعشرين وأربعمائة، إلى حيث يخرج فلج ذي نيم، ورأيناه له شريحًا مغربًا من حدّ القلعتين اللتين يخرج الماء شرقي ساقيته إلى المغرب، نحو خمسة وثلاثين ذراعًا مختلطًا بالساقية الشرقية. وكتب ذلك محمّد بن أحمد بخطّه، بمحضر من ولده أحمد بن محمّد بن عبد الله المعلّم. وقال أبو بكر أحمد بن محمّد: إنّ محمّد بن عبد الله المعلّم هو جدّ محمّد وعمر ابني عبد الله بن محمّد بن عبد الله، وكان اليوم الذي وصلت فيه إلى أبي بكر أحمد بن محمّد، وسألته عن هذه الثَّبَت يوم الاثنين لسبع ليال بقين من ذي الحجّة، من سنة تسع وسبعين وأربعمائة»، ويتبع هذا النقل تأكيد له بنقله من مصدر آخر، وعلق على ذلك الناقل بقوله: «وهذه مسألة نفسها وجدتها في آثار المسلمين فأعدتُ كتابتها لزيادة وثائق فيها عما قد كتبتُ، فأعدتُها كذلك» وعبارته صريحة في أن النقل الثاني فيه ما ليس في الأول، وقد جاء في آخر النقل: «ووجدتُ هذا الثبت في كتاب لمحمد بن المفدى، ومكتوب فيه أحسب أنه بخط أحمد بن محمد بن صالح: قال أبو عبدالله محمد بن موسى بن سليمان: إن هذا الثَّبَت الذي في هذا الصفح بخط أبي عبدالله محمد بن إبراهيم بن سليمان، وكان قوله هذا بمحضر من أبي علي موسى بن أحمد المنحي، وأحمد بن محمد بن صالح، وكتب أحمد بن محمد بن صالح هذا في سنة سبع وعشرين وخمسمائة، وكتب أحمد بن محمد بن موسى بن سليمان هذا الثبت عشية الاثنين لتسع بقين من شهر شعبان سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة». والمتأمل في تأريخ الوثيقة التي سُمِّيت بـ «الثَّبَت» يجد فيها أخبارًا قد تنقدح في ذهنه بشأنها تساؤلات عدة، منها أن مؤلف كتاب بيان الشرع هو من وصل إلى أبي بكر أحمد بن محمد بن الحسن السعالي وسأله عن «الثَّبَت» الذي كتبه والده، ثم إنه بين تأريخ الوثيقة وسؤاله عنها نحو نصف قرن من الزمن، إذ سؤاله عنها كان سنة 477 أو 479هـ ثم وردت تواريخ أخرى في النقل التالي برواية فيها بعض الاختلاف، أولها تعليق أحمد بن محمد بن صالح سنة 527هـ، وكتابة أحمد بن محمد بن موسى بن سليمان هذا الثبت نقلًا سنة 533هـ، أي أن النظر في تلك الوثيقة وتداولها بين أولئك الفقهاء وفق هذه النصوص لبث نحو قرن من الزمن. أما استخلاص ما يتصل بالأعلام من أخبار، والألفاظ الحضارية ومعانيها ودلالاتها، والأماكن وما يرتبط بها فإن المقام به يطول، غير أنه مما قد يتبادر في شأن محمد بن الحسن السعالي الذي حُكِي أنه شيخ أبي سعيد محمد بن سعيد الكدمي (ق4هـ) ألا يكون هو المذكور هنا، والرواية الأخرى في أحد هذه النقول أن المسؤول أبو بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن الحسن السعالي، ولعل ذلك أقرب بقرائن الأزمنة والأحوال. وفي الوثيقة من الألفاظ الحضارية: الشريح، والساقية، وهما من مصطلحات الأفلاج، فالساقية معروفة، والشريح - فيما أحسب- يُطلَق عليه في بعض البلدان: الشَّرَح، وهو الساقية المكشوفة خارج الأموال على مقربة من شريعة الفلج.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: بن سلیمان عبد الله الله محم هذا الث موسى بن الله م

إقرأ أيضاً:

الكتاب الورقي.. حيٌّ يُرزق

 

 

 

 

د. ذياب بن سالم العبري

 

ليس غريبًا أن يتجدد الإقبال سنويًا على معرض مسقط الدولي للكتاب، وأن نرى القاعات تغُص بأطفال وشباب وكهول، يتحركون بين الأرفف كما لو أنهم يتنقلون بين أبواب مدينة قديمة، يعرفونها جيدًا، ويحنّون إلى تفاصيلها، رغم كل ما توفره التطبيقات والمنصات الإلكترونية من خيارات قراءة رقمية.

الكتاب الورقي لا يُختزل في محتوى يُقرأ، بل هو أثرٌ ملموس، ونسقٌ بصريٌّ ونفسيٌّ ووجداني، يشكل حضورًا داخل البيت، والمجلس، والذاكرة. وهو في عُمان ليس مجرد سلعة ثقافية، بل جزءٌ من منظومة تربوية مُتجذرة، بدأت من ألواح المساجد، ونسخ المصاحف بخط اليد، ووصلت إلى مكتبات المدارس والمجالس الأهلية ومبادرات النشر الفردية.

صحيحٌ أن العالم يشهد تحولًا رقميًا كبيرًا، وأن الأجهزة الذكية اختزلت آلاف الكتب في راحة اليد، لكن ذلك لم يُلغِ حضور الورق، بل أعاد تعريف دوره في الحياة المعاصرة. فقد أظهرت دراسة نرويجية أن الطلبة الذين يقرؤون من الكتب الورقية يتمتعون بفهمٍ أعمق وقدرةٍ أعلى على تذكّر التفاصيل، مقارنة بمن يقرؤون النصوص نفسها عبر الشاشات.

الكاتبة العالمية مارجريت أتوود قالت ذات مرة: "الكتاب الورقي لا يحتاج إلى بطارية، ولا يتعطل، ولا يُغلق بسبب تحديث"، وهذه المقارنة البسيطة تختصر جانبًا مهمًا من ثبات الورق أمام تقلّب التقنية. بل إن بعض الجامعات الكبرى في العالم، مثل أوكسفورد وهارفارد، ما تزال تُلزم طلاب الدراسات العليا بالرجوع إلى المراجع الورقية في أبحاثهم، باعتبارها أوثق مصادر التوثيق العلمي.

أما محليًا، فإن المتتبع لحركة النشر في عُمان خلال السنوات الأخيرة، يدرك أن هناك وعيًا متزايدًا لدى الكتّاب والباحثين بأهمية الطباعة الورقية، ليس فقط لأجل النشر، ولكن لحفظ الحقوق، وتأصيل الفكرة، وترسيخ الذاكرة الوطنية. مبادرات كثيرة، بعضها أهلية وأخرى برعاية مؤسسات، صدرت كتبًا توثق التاريخ المحلي، وتحفظ الأمثال الشعبية، وتدوّن التجارب الشخصية والمجتمعية بأسلوب علمي وتربوي.

إنَّ الحفاظ على الكتاب الورقي لا يعني الوقوف في وجه التطور؛ بل يعني بناء جسر متين بين المعلومة والتأمل، بين الفكرة والإنسان، بعيدًا عن ضجيج المحتوى السريع؛ فالكتاب الورقي يُعلِّم الصبر، ويُؤنس الوحدة، ويُربي عادة التدرج في الفهم، ويمنح القارئ إحساسًا حقيقيًا بالانتماء للمعرفة.

واليوم، في ظل عالمٍ يفيض بالمحتوى العابر، والتطبيقات التي تُسابق الزمن، هل ما زلنا نملك الشجاعة لتخصيص وقتٍ لكتابٍ يُفتح، وتُشمّ رائحته، وتُقلّب صفحاته ببطء، لنحيا داخله لا خارجه؟

مقالات مشابهة

  • الوثيقة الأخيرة| شهادة وفاة البابا فرنسيس تكشف أسباب الرحيل
  • بمناسبة اليوم العالمي للكتاب.. خصم 20% على إصدارات هيئة الكتاب لمدة أسبوع
  • غدًا.. "القومي للترجمة" يحتفل باليوم العالمي للكتاب بخصم 50 % على إصداراته
  • أحمد أبو مسلم: مدربو مصر ليس لديهم ثقافة.. والبعض مازال يذهب للشيوخ في القرن الـ21
  • نادي الزهور يحتفل بأعياد الربيع بفعاليات لجميع الأعمار ويختتمها بحفل تامر عاشور
  • الكتاب الورقي.. حيٌّ يُرزق
  • مفاهيم إسلامية: الكتاب والقرآن
  • على هامش معرض «جيتكس».. رئيس جامعة الأقصر تلتقي رئيس جامعة محمد الخامس بمراكش لبحث التعاون الأكاديمي
  • محمد إمام خارج سباق العيد.. تأجيل “شمس الزناتي – البداية”
  • لليوم الخامس.. عروض «مهرجان شباب الجنوب المسرحي» تواصل تألقها في قنا