في تذكر ما تيسر من سيرة الراحل الكبير محجوب محمد صالح
تاريخ النشر: 24th, February 2025 GMT
حيدر المكاشفي
صادف يوم الثالث عشر من شهر فبراير الماضي، الذكرى السنوية الأولى لرحيل استاذ الاجيال وعميد الصحافة السودانية محجوب محمد صالح، وقد كان رحيله فاجعا على البلاد عامة والصحافة خاصة، فكليهما الوطن السودان والصحافة السودانية يفتقدان وجوده، فللراحل قيمة وطنية تتعدى الصحفيين ومهنة الصحافة لتشمل كل المجتمع السوداني وكل القضايا السودانية، بما يمتلك من معرفة موسوعية وقلب كبير يسع الجميع، فهو في المهنة مدرسة وقامة مهنية عالية وسامقة وسامية، فالراحل محجوب يعد أحد الأعمدة المؤسسة للصحافة السودانية، ومؤسس النهضة الحقيقية للصحافة السودانية، منذ الأربعينيات، والخمسينيات التي شهدت تأسيس صحيفة الأيام عام 1953وظل صامدا في هذه المهنة الصعبة أكثر من سبعين عاما حتى اخر لحظات حياته، ولم يوجد وأزعم أنه سوف لن يوجد من يهب مهنة الصحافة كل عمره وكل بذله مثله في المنطقتين العربية والافريقية، ولأن الناس في أزمان الأزمات والمحن والاحن يفتقدون الحكماء، فقد افتقدت البلاد في زمن هذه الحرب المهلكة اللعينة الاستاذ محجوب الذي كان يعد من آخر الحكماء الذين تبقوا لنا، وفي هذا الظرف العصيب والمنعطف الاخطر الذي يمر به السودان اليوم، ما كان أحوج البلاد لحكمته ونصحه ومساهماته التي لم تنقطع حتى آخر يوم في حياته الذاخرة بالعطاء، ونذكر في هذا الصدد تحذيره الذي لم يكف عن تكراره كثيرا وفي كل مناسبة من انزلاق البلاد نحو المجهول بسبب الاستقطاب الحاد، وهو ما حدث ويحدث حتى الان ويخلف مآسي كبيرة وفظيعة، ولكن عزاءنا أنه ان غادر هذه الفانية فقد ترك أثرا باقيا وممتدا على المستويين الصحفي والوطني.
ان ما احتازه وبناه الراحل الكبير محجوب محمد صالح من سيرة باذخة وعطاء ثر، لم يكن طريقه اليه معبدا ومفروشا بالورود، ولم يكن كل ما أصابه من نجاح سهلًا وفي متناول اليد، بل كان طريقا مليئا بالأشواك والعثرات والصخور والعقبات والمعاناة والمكابدة وبالتحديات والصعاب، ولكن بالعزيمة والاصرار وتوجيه كل طاقاته نحو ما خطط له من أهداف متجاوزا كل العقبات بنى تلك السيرة والمسيرة الباذخة، فقد حكى هو بنفسه في عدد من اللقاءات الصحفية عن نشأته الباكرة وبعض محطات مسيرة حياته العامرة بالبذل والعطاء، ومؤدى افاداته أنه لم يخرج إلى الدنيا ليجد طريقه ممهداً ومفروشاً بالورود، فهو ينحدر في الأصل من أب حرفته صيد الأسماك، نزح من أقصى شمال السودان قاصداً الخرطوم يحمل معه أدوات صيده وأحلام الاستقرار على إحدى ضفتي النيل، انتهت رحلة ذلك الصياد (والد محجوب) بمنطقة الخرطوم بحري، مضت السنوات على محمد صالح هناك وفي أحد أيام عام 1928م أنجبت له زوجته سعدية بنت الأمين طفلها الأول الذي أطلقت عليه اسم محجوب؛ ليكبر ذلك الطفل ويترعرع ويقضي كل سنين حياته في منطقة الخرطوم بحري. ومنذ سنوات الأستاذ محجوب الأولى في الحياة كانت التحديات تقف في طريقه دون أن ينحني أو يحيد أو ينكص، وظل يمضي في طريقه دون توقف، فارق والده الحياة باكراً تاركاً محجوب وإخوته الأربعة، وتمضي الأيام وتتعاقب السنوات دون أن يعلم أحد ما تخفيه، إلا أن العام 1940 بالتحديد حمل له الكثير وشكل نقطة تحول في حياة الأستاذ الطالب وقتها في المرحلة الوسطى عندما كتب أول مقال صحافي له في صفحة الطلاب بجريدة السودان بعد أن اختارته الصحيفة للمشاركة في تحريرها وهو في ربيع عمر الثاني عشر، ويقول الأستاذعن تلك الواقعة: انتقدت نظار المدارس في ذلك الوقت، وكان رد الفعل أن جلدني مديرالمدرسة (40) جلدة، ومنذ ذلك الوقت استمر جلدي حتى الآن، وبعد تسعة أعوام انتظره عقاب آخر وهو فصله مع أربعة آخرين من كلية غردون (جامعة الخرطوم لاحقا) بسبب تنظيمهم وخروجهم في مظاهرة ضد الحكم البريطاني، حينها كان الاستاذ ضمن طلاب الدفعة الأولى بكلية الآداب يحضر لنيل درجة البكالوريوس في جامعة لندن، ويشغل منصب سكرتير اتحاد الطلاب، غادرالأستاذ قاعات الدرس الجامعي بعد تلك الحادثة دون أن تغادره روح المثابرة والبحث عن الحرية والديمقراطية ونصرة المظلومين؛ ليلتحق في ذات العام بالعمل الصحافي متنقلا بين فنونه المختلفة، ومع كل ذلك ظل ارتباطه بالصحافة ارتباط رأي، بسبب نهج الصحافة السودانية في تلك الفترة ونشأتها الهادفة للتصدي لقضية التحرر الوطني وحض الناس على العمل من أجل نيل حريتهم، وهو ما ذكره ضمن وصفه لتلك الفترة رغم الخط التحريري القائم على الخبر في صحيفة (سودان ستاندرد الانجليزية) التي كانت أولى محطاته، وهو ما سيدفع بالأستاذ ورفيقي دربه بشير محمد سعيد ومحجوب عثمان بعد أربع سنوات من عمله في الصحيفة الإنجليزية (سودان ستاندرد) التي تمزج بين الرأي والخبر، لإصدار صحيفة الأيام في العام 1953م، والتي شغل منصب رئيس تحريرها حتى اخر يوم في حياته، مجسدا حالة نادرة من الصمود والجسارة والتصميم، ولا شك أن المتمعن والناظر بعمق لشخصية الأستاذ يجد فيها جملة زوايا للتأمل ولن يجد غير الوقوف بشموخ وصلابة وعدم الانحناء، فبعد فصله من جامعة الخرطوم خرج من الجامعة وأسس مدرسة صحفية أصبحت اليوم جامعة خرجت الأجيال اسمها الأيام (الكاتب أحد خريجيها)، وهو ما تؤكده حالة الاعتزاز بين كافة الصحافيين السودانيين ومحاولة إظهار انتمائهم إلى صحيفة الأيام بشكل مستمر، فالرجل له وزن في كافة الأوساط السودانية، فهو لا يحدثك مطلقاً عن نفسه ولا يزهو بما أنجز مهما عظم، فطوال بحث السودانيين عن صيغة منجية لوطنهم كان الأستاذ حاضراً بقوة ناصحا وموجها يقدم تجربته دون انتظار شكر يطرحها في الغرف المغلقة أن تطلب الأمر ويكتبها علانية للجميع في أغلب الأحيان تحت زاويته الصحفية الاشهر(أصوات وأصداء)، ويصفه مجايلوه بأنه شخص مؤدب لا يمكن أن تسمع له صوت أو تعرف له خصومة، ورغم اتسامه بالهدوء والوقار على المستوى الشخصي، إلا أنه كان طوال فترة عمله التي تجاوزت نصف قرن بمثابة عاصفة هوجاء في وجه كل من سعى للنيل من حرية الصحافة، وعليه فإن كل شعرة بيضاء في رأس هذا الصحافي الملقب بجدارة بـ(عميد الصحافة السودانية) واستاذ الاجيال تحكي رحلة الشقاء والمعاناة والصبر الطويل على نكد المهنة وظلم ذوي القربى في بلد مر منذ استقلاله وحتى الآن بأربعة نظم عسكرية تبارت في كبت حرية الصحافة، ورغم أن الأستاذ دفع ثمنا غاليا منذ بداياته وحتى رحيله لكنه كان دائما ما يخرج منتصرا مرفوع الرأس ويجد الاحترام من كافة الأطراف في البلاد، فعلى مدى أكثر من 50 عاما من العمل في المهنة واجه كل أشكال القيود والتحرشات بما في ذلك الرقابة والمصادرة والحظر والإغلاق والتأميم والترهيب والسجن. وكل هذا الكفاح والنضال والمدافعة الصحفية أقنعت الاتحاد العالمي للصحف في سول بمنحه جائزة القلم الذهبي الحر لعام 2005، وقال الاتحاد العالمي للصحف في افتتاح المؤتمر العالمي للصحف الثامن والخمسين الذي تم فيه منحه الجائزة، إن الاستاذ محجوب محمد صالح كافح من أجل الصحافة الحرة والمستقلة في بلده مدة زادت على 50 عاما.
حيث بدأ حياته الصحفية في عام 1949 حينما كان السودان يرزح تحت الاستعمار البريطاني، ثم أنشأ بعد ذلك صحيفة الأيام بمعاونة اثنين من زملائه (بشير محمد سعيد ومحجوب عثمان) في عام 1953وكانت الصحيفة تنتقد بشكل متواصل أوضاع حقوق الإنسان والحريات العامة في السودان. وإذا كانت جائزة القلم الذهبي قد توجت مسيرة الاستاذ في حصد الجوائز، فإنها لم تكن الوحيدة، حيث حصد جوائز من جهات ومؤسسات عالمية أخرى، ولكن أعزها على قلبه، كما قال أحد المقربين منه هي تلك الجائزة السودانية التي حصل عليها عام 2012، من جامعة الأحفاد وكانت دكتوراه فخرية، والاحفاد جامعة أهلية سودانية لها مكانة وطنية تاريخية، وإسهام أساسي في تعليم السودانيات، منذ وقت مبكر من القرن الماضي وفي وطن غلبت على أهله حتى وقت قريب ثقافة الشفاهة، كان الاستاذ محجوب محمد صالح من رواد التفكير والتوثيق، حيث أصدرعدة كتب طوال مسيرته، تكشف مدى انخراطه في الهم الوطني السوداني، ومحاولة تقديم قضاياه الحرجة والملحة بمنظور وطني متقدم ومستقل وكانت هذه الكتب هي: تاريخ الصحافة السودانية التي أرخ فيها للصحافة السودانية ومعاركها، منذ بداية القرن، وكذلك أضواء على أهم قضايا السودان المركزية، وهي حرب الجنوب، وأيضا كتاب تحت عنوان مستقبل الديمقراطية في السودان، حيث استعرض التحديات التي تواجه معضلة التحول الديمقراطي في السودان، وبطبيعة الحال كان كتابه دراسات حول الدستور إدراكا رائدا منه حول مسألة تدشين عقد اجتماعي جديد في السودان وضروراته الدستورية. لقد قدم فقيد البلاد الكبير معارفه الموسوعية وخبراته التراكمية ليس فقط في في مجال الصحافة والإعلام بل في مختلف المجالات، وظل مرجعا يؤخذ منه الرأي والافادات والشهادات في كثير من القضايا الوطنية كما ظل مرجعا ومرشدا وهاديا لقيم وتقاليد وأخلاقيات المهنة.. وقد تجلت محبته وحفظ فضله من أهل الصحافة والمهتمين بمجالات العمل العام، في تلك المراسم التي انتظمت في العديد من دول العالم لتأبينه وامتدت لشهر كامل، في حدث لم يشهد تاريخ السودان المعاصر له مثيلا.. ألا رحم الله عميد الصحافة السودانية وأستاذ الاجيال محجوب محمد صالح، بأحسن مما قدم من عطاء، وبذل من مكارم، نسأل الله أن يجعلها في مثاقيل ميزانه الراجح يوم الجزاء الأوفى بإذن الله..
الوسومحيدر المكاشفي
المصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الصحافة السودانیة محجوب محمد صالح صحیفة الأیام فی السودان وهو ما
إقرأ أيضاً:
عبد الخالق محجوب: فضلاً أن صلاح أحمد إبراهيم شاعر حقيقي
عبد الخالق محجوب: فضلاً أن صلاح أحمد إبراهيم شاعر حقيقي
كمال الجزولي
(اجتمع نفر من أصدقاء كمال الجزولي ومحبيه يوم الاثنين الماضي في لقاء زوم للحفاوة بمأثرته الثقافية والسياسية في مناسبة صدور روايته "قيامة الزئبق" عن دار الروزنامة في النشر (وهي دار نشأت في تخليد ذكره) في يناير الماضي. وبجانبي وعبد المنعم الجزولي عن الأسرة تحدثت في اللقاء الدكتورة لمياء شمت حديثاً استفاضت فيه عن جغرافيا مأثرة كمال التي بلا ضفاف رحمه الله. وأعيد نشر كلمة سبق لكمال نشرها في روزنامته في يوم ما).
بين كمال الجزولي وبيني أستاذنا عبد الخالق محجوب. عرفنا منه عن كثب ما ربانا معاً على معنى للزمالة صمد لعاتيات تحولاتي السياسة ولعاتيات كمال الكثيرة. كان إذا جاءت سيرته بيننا أشرق فانوس من المثاليات من رجل أخذ رسن القيادة بحقها. وكان هذا الرباط أيضاً ما وثق بيني وبين المرحوم عبد الله محمد الحسن في آخر الستينات. ولا أعرف مثله من أحب عبد الخالق. وأحب هو عبد الخالق جداً. وله كتابات في الرد على صلاح أحمد إبراهيم حين أطلق سخريات مرة عن عبد الخالق البرلماني في 1968.
وحكاية عبد الخالق وصلاح أحمد إبراهيم مما كان كمال يؤنسني بها. ووقعت في أيام المبارزة المعروفة بين صلاح وعمر مصطفي المكي، رئيس تحرير جريدة الميدان وعضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي، على صفحات جريدة الصحافة في شتاء 1968. وكانت لها عناوين جهادية مثل "الأقنعة الزائفة لا تبدل من الحقيقة شيئا" (عمر مصطفي المكي) و "هيها يا مسيلمة فشرف المبارزة قاصر على الشرفاء" (صلاح أحمد إبراهيم). ودخل عبد الخالق على تلك الخصومة بدماثة قيادية قد لا يصدق أحد أنها مما يحدث ماضياً وحاضراً.
وفي ليلة في ذكرى صلاح أحمد إبراهيم بالنادي الدبلوماسي حكى كمال الجزولي كشاهد عيان مأثرة لأستاذنا تأخذك منك. قال للحضور:
ولأنَّني أحسُّ بأن معظمكم ربَّما كان متشوِّقاً لسماع إفادة في هذا المحور، فلا أغادر دون أن أدلي بما يقع في حدود علمي:
رغم ما قد يبدو على صلاح أحمد إبراهيم أحياناً من خشونة مظهريَّة في معاركه الفكريَّة، وفي خلافه، بالأخص، مع الحزب الشِّيوعي، إلا أنه يتَّسم، مع ذلك، بدماثة متناهية، ولين مزاج اجتماعي رائق. جاء من باريس بعد الانتفاضة، لأوَّل مرَّة، وكنت، وقتها، عضواً بهيئة التَّحقيق والاتِّهام ضد عمر محمد الطيب، نائب رئيس الجُّمهوريَّة، ورئيس جهاز أمن الدَّولة، ومجموعة من ضبَّاطه، في قضيَّة ترحيل اليهود الفلاشا إلى إسرائيل، فرجاني ألا أخاطبهم بغير ألقابهم العسكريَّة! قال: ذلك لن يضير عملكم في شيء، لكنهم خارجون لتوِّهم من "دنياهم المجيدة" إلى ظرف استضعاف لم يعتادوه، فيجدر "التَّرفُّق" بهم مهما كانت أفعالهم! قال ذلك رغم أنه، شخصيَّاً، كان قد تضرَّر من معاملة جهاز الأمن له، ولأسرته، وأصدقائه، على مدى سنوات طوال حرم خلالها حتَّى من زيارة السُّودان!
في عام 1968م كنت صحفيَّاً بجريدة "الضِّياء"، لسان حال الحزب الشِّيوعي بعد حله، وكان يرأس تحريرها عمر مصطفى المكي، وكنت أشاركه، وسمير جرجس، مكتباً داخليَّاً واحداً. كانت الجَّريدة متوقِّفة عن الصُّدور بسبب تعثُّرها في سداد مستحقَّات المطبعة. فكان عمر مشغولاً، معظم الوقت، بكتابة مقالاته الهجوميَّة ضدَّ صلاح، في إطار سجالهما المشهور بجريدة "الصَّحافة"، يغلظان على بعضهما البعض بصورة غير مسبوقة، وكان يشرف على "تسخين" تلك السِّجاليَّة الصـَّحفي النَّشط مبارك الرفيع!
وأذكر أن غالبيَّة المبدعين داخل الحزب كانوا غير راضين عن محاولة عمر التعريض بإبداع صلاح (!) علماً بأننا كنا نوقِّر مكانة الأخير المرموقة في خارطة الشِّعر السُّوداني، بل والعربي. وكانت لبعضنا علاقات طيِّبة معه في المستوى الشَّخصي، لذلك تأثُّرنا بالغاً حين علمنا بارتفاع السُّكر في دمه بسبب تلك السِّجاليَّة حسبما أبلغه الطبيب!
وذات مرَّة توعَّده عمر بأنه، في مقال قادم، سيتناول "شعره المزعوم"، على حدِّ تعبيره! وبحكم وجودي في نفس المكتب كنت شاهد عيان على مجيء عبد الخالق، في ذلك اليوم، إلى مقرِّ "الضِّياء"، برفقة الرَّشيد نايل، ليطلب من عمر التَّوقُّف عند ذلك الحدِّ، قائلاً له ما يعني أن النَّاس، عادة، لا يقبلون الأحكام النَّقديَّة تصدر من غير المتخصِّصين، وأنت لم تُعرف كناقد أدبي، فضلاً عن أن صلاحاً شاعر حقيقي، والخلاف السِّياسي معه ليس تكأة لأن نحشر موضوع شعره فيه!
وكان قد سبق لعبد الخالق موقـف مماثل، تأسيساً على احتجـاج كـان أبداه زميلنا عـبد الله علي إبراهيم إزاء هجوم صحيفة الحزب، في مناسبة سلفت، على صلاح الشَّاعر، ولعلّه أشار لذلك قبل فترة، إن لم تخنِّي الذاكرة!
الشَّاهد أنني، في محاولة لإقناع صلاح بأن عبد الخالق لا يقف خلف مقالات عمر كما كان يعتقد، استشهدت له بتلك الواقعة مرَّتين: الأولى مساء نفس اليوم، عندما التقينا، وبعض الأصدقاء، في مكتبة ومقهى "سدرة المنتهى" بالمحطة الوسطى بالخرطوم. لكنه لم يكن ليصدِّق، فقد كان يجزم أن عمراً لا يكتب إلا بتحريض من عبد الخالق، وسبحان من كان يستطيع أن يقنعه بخلاف ذلك!
أمَّا المرَّة الثَّانية فقد حدثت بعد ذلك بعشرين سنة، حين التقينا عام 1988م، على مائدة عشاء بمنزل صديقنا المؤرِّخ العسكري عصمت زلفو. كان صلاح هناك، بالإضافة إلى علي المك ومحجوب عثمان. وحاولوا جميعاً أن يؤكدوا له أنه مخطئ في اعتقاده بأن عبد الخالق كان يحرِّض ضدَّه. بدا، ليلتها، ميَّالاً للتَّصديق، لا سيَّما وقد أشرت إلى طلب عبد الخالق الاستماع إلى "الطير المهاجر" في سهرة إذاعيَّة استضيف فيها بمناسبة فوزه في انتخابات الدَّائرة الجنوبيَّة التَّكميليَّة بأم درمان، وذلك كي أؤكِّد له أن الرَّجل لا يضمر موقفاً شخصيَّاً ضدَّه! فأبدى دهشته، قائلاً إنه لم يسمع بذلك من قبل! لكنني أذكر، ونحن عند حوض غسيل الأيدي، أنه قال لي، فجأة، بانفعال شديد: "لكين ياخ يخليني أتكلم زي المجنون ميَّة سنة ما يقول لي عينك في راسك"؟! فتيقَّنت، ساعتها، من أن ذلك هو لبُّ الضَّغينة! لكن، بعد سنوات من ذلك، جاءت استضافة حسين خوجلي له في مقابلة تلفزيونيَّة، خلال سنوات الإنقاذ الأولى، ومحاولته جرجرته لمهاجمة الشِّيوعيين، وربَّما عبد الخالق نفسه، لكنه رفض بعناد أسال منه دمعاً تلألأ في عدسات الكاميرات، ورآه كلُّ المشاهدين، مِمَّا ينطوي، دون شكَّ، على دلالة لا تفوت على فطنة الفطنين!
رحمة الله ورضوانه على صلاح، وعلى جميع الرَّاحلين مِمَّن مرَّ ذكرهم في هذه الكلمة، وأطال أعمار الأحياء ومتَّعهم بالصَّحَّة والعافية، والشُّكر أجزله لكم على حسن الاستماع!
ibrahima@missouri.edu
////////////////////////////