التوتسي.. عرقية أفريقية كرّس الاستعمار نفوذها
تاريخ النشر: 24th, February 2025 GMT
التوتسي عرقية تنتشر في منطقة البحيرات العظمى الأفريقية، وخصوصا في دول رواندا وبوروندي والكونغو الديمقراطية، وتشترك في اللغة والدين مع عرقية الهوتو، بينما يثار الجدل حول ما إذا كانت تربطهما أصول مشتركة.
وعلى مدى قرون حكم التوتسي أراضي رواندا وبوروندي مع حضور بشرق الكونغو، كما تحالفوا مع الاستعمار الألماني ثم البلجيكي، اللذين كرسا الهيمنة السياسية والاقتصادية والاجتماعية لهذه العرقية مقابل المرتبة الدونية للهوتو.
تزامنا مع أفول الاستعمار مطلع ستينيات القرن الماضي وجد التوتسي أنفسهم في مواجهة تمرد الهوتو على نفوذهم، وهو ما بلغ ذروته مع الإبادة الجماعية منتصف التسعينيات من القرن الـ20.
وبينما عادوا للسيطرة على حكم رواندا وتنازلوا في اتفاق لتقاسم السلطة في بوروندي، ظلوا رقما صعبا في النزاعات المسلحة المتجددة بالكونغو.
العرق والأصولتشكل أصول عرقية التوتسي أحد عناوين الجدل والصراع الإثني في منطقة البحيرات العظمى الأفريقية، بسبب طبيعة العلاقة مع الهوتو، إذ تشتركان في اللغة وتسكنان المنطقة ذاتها.
ويميل بعض الباحثين إلى أن التوتسي قبيلة نيلية من رعاة الماشية غزت المنطقة قبل مئات السنين، وأسست نظاما شبه إقطاعي، وأصبحت تحكم المنطقة التي تغلب عليها عرقية الهوتو.
بينما يميل آخرون إلى أنهم مجرد مجموعة من الهوتو، وأن الاختلاف الطبقي بين الأغنياء والفقراء، أو المهني بين الرعاة والمزارعين، أو هما معا، هو ما قسمهما إلى مجموعتين.
إعلان اللغةيتحدث التوتسي في كل من رواندا والكونغو وبوروندي اللغة الكينيارواندية، وكما سبقت الإشارة فهي لغة مشتركة مع الهوتو، لكن يثار الجدل بشأن أصلها وما إذا كانت لغة "الغزاة" التي غمرت لغة السكان الأصليين.
الدينلا يزال بعض التوتسي يعتنقون مذاهب دينية قديمة، إلا أن الغالبية أصبحت تدين بالمسيحية، مع أقلية تعتنق الدين الإسلامي.
النظام الاجتماعييرتبط الأفراد والمجموعات داخل عرقية التوتسي بتراتبية اجتماعية محكمة، يأتي في قمتها ملك يدعى الموامي يعتبرونه "من أصل إلهي مقدس".
وينبذ التوتسي العمل في الزراعة ويعتبرونها عملا مهينا، وبدلا من ذلك يمتهنون تربية المواشي، ويعتبرون امتلاكها رمزا للمكانة العليا في السلم الاجتماعي.
وبحكم الجوار والتاريخ المشترك بين التوتسي والهوتو انتشر الزواج المختلط بينهما، بينما تنسب الأجيال الجديدة إلى الآباء.
التاريخكما سبقت الإشارة فإن الروايات التاريخية حول أصول التوتسي متضاربة، وبسبب الصدامات العرقية مع الهوتو في كل من رواندا وبوروندي والكونغو الديمقراطية أصبح لهذا الجدل التاريخي أبعاد أخرى اجتماعية وسياسية.
وترجح الرواية التاريخية التي تجد صدى لدى التوتسي أن أصولهم تعود إلى الهوتو، وأن الاختلاف الوظيفي هو ما فرقهما إلى عرقيتين، ويتبنى هذه الرواية النظام الحاكم في روندا بزعامة بول كاغامي، الذي ينتمي إلى سلالة الملوك في التوتسي.
ووفق هذه الرواية فإن انتقال الأشخاص من طبقة الهوتو إلى التوتسي -أو العكس- ظل قائما عبر التاريخ حسب تبدل الموقع الاجتماعي والاقتصادي، كما تشير إلى أن هذه الانتقالات كانت تشمل أيضا قومية التوا الموجودة في المنطقة ذاتها.
بينما تشير روايات أخرى يدعمها الهوتو إلى أن التوتسي قبيلة نيلية من رعاة الماشية المحاربين الذين غزوا منطقة البحيرات العظمى الأفريقية قبل مئات السنين، وانتشروا في أراضي واسعة من رواندا وبوروندي إضافة إلى الكونغو الديمقراطية.
إعلانووفق هذه الرواية فإن رعاة الماشية التوتسي سيطروا على الهوتو المزارعين الأكثر استقرارا، فأسسوا نظاما شبه إقطاعي يحط من رتبة السكان الأصليين إلى مستوى أقرب من العبيد.
وبينما يستدل أصحاب الرواية الأولى على القواسم المشتركة العديدة وتعذر التمييز بين المجموعتين المتشابهتين، يصر أصحاب الرواية الثانية على وجود اختلافات بينهما انطلاقا من لون اللثة وشكل الأنف ومدى طول القامة والبنية الجسدية بشكل عام.
العهد الاستعماريابتداء من عام 1884 وعقب مؤتمر برلين أصبحت أراضي رواندا وبوروندي الحاليتين جزءا من الإمبراطورية الاستعمارية الألمانية التي تحالفت مع ملك التوتسي فأصبحت تحكم البلاد عن طريق الملَكية المحلية.
وبعد ألمانيا استولت بلجيكا عام 1916 على المنطقة التي تضم البلدين، وواصلت دعم الملَكية المحلية وكرست موقع التوتسي المتقدم في التراتبية الاجتماعية والسياسية مقابل المرتبة الدونية للهوتو، الذين استغلت التوتسي لقمعهم واضطهادهم.
وفي تعداد سكاني أجراه الاستعمار البلجيكي للتوتسي والهوتو اعتمدت ملكية المواشي وشكل الأنف محددا للهوية، فالتوتسي هو أي شخص يملك أكثر من 10 بقرات وله أنف طويل، أما الهوتو فهو صاحب الأنف المدبب الذي يملك أقل من 10 بقرات.
ومع أن هذا التعداد السكاني انطلق من معياري الوظيفة الاجتماعية والبنية الجسمية، فإنه تسبب في تعقيدات اجتماعية كان لها تأثير بالغ على مستقبل العلاقة بين هاتين العرقيتين في الدول الثلاث: رواندا وبوروندي والكونغو الديمقراطية.
الصدامات العرقيةيشكل التوتسي أقلية في المنطقة، ففي رواندا تقدر نسبتهم من مجموع السكان بنحو 15%، مقابل الهوتو الذين يمثلون نسبة 84%، وفي بوروندي يشكل الهوتو نسبة 80% ومعظم البقية من التوتسي، أما في الكونغو فيمثلون أيضا أقلية يكاد ينحصر وجودها في إقليم كيفو الشمالي شرق البلاد.
إعلانوأدت السياسة الاستعمارية إلى اندلاع ثورة في رواندا عام 1959 يقودها الهوتو ضد نفوذ التوتسي، الذين قتل منهم أكثر من 20 ألفا، واستهدفت مواشيهم وبيوتهم بالإحراق والتدمير، وفر كثير منهم إلى البلدان المجاورة مثل تنزانيا وأوغندا والكونغو الديمقراطية.
وقادت الثورة إلى انهيار مملكة التوتسي في رواندا، التي نالت استقلالها عام 1962، وبدأت سيطرة الهوتو على السلطة فزاد التحريض على التوتسي، خصوصا مع تولي الرئيس جوفينال هابياريمانا الحكم عبر انقلاب عسكري عام 1973.
أما بوروندي فكانت قد صوتت على الانفصال عن رواندا عام 1946، ثم نالت الاستقلال في 1962، مع احتفاظ التوتسي بالسيطرة على الحكومة في مواجهة ثورات عديدة من الهوتو في الستينيات والسبعينيات من القرن الـ20، ثم انتهت الحرب الأهلية التي دارت ما بين 1993 و2005 باتفاق لتقاسم السلطة تحت إشراف دولي.
كما لم تخل النزاعات والحروب الكونغولية الداخلية منذ منتصف ستينيات القرن الـ20 من دور بارز للتوتسي، وخصوصا في الأحداث المرتبطة بالمناطق الواقعة شرق البلاد، الذي ظل ساحة لتصدير نزاعات البلدان المجاورة.
من الإبادة إلى استعادة حكم روانداانطلاقا من أوغندا، التي كانت مأوى لمجموعات واسعة من النازحين التوتسي منذ الستينيات من القرن الـ20، تأسست في أواخر الثمانينيات "الجبهة الوطنية الرواندية" على أيدي قيادات توتسية مدعومة من نظام يوري موسيفيني بعد أن استعان بهم في الإطاحة بنظامي ملتون آبوت ثم تيتو أوكيلو عام 1986.
ونفذت الجبهة هجمات متعددة على رواندا، كان من بينها هجوم أكتوبر/تشرين الأول 1990، الذي قتل فيه زعيم الجبهة فريد رويجياما، فتولى بول كاغامي خلافته وأعاد تنظيم الجبهة.
وبعد عدة هجمات قادها كاغامي على رواندا توصلت الجبهة وحكومة رواندا إلى اتفاق سلام أطلق عليه "اتفاقية أوشا"، لكنه لم يفض فعليا إلى وقف الاضطرابات.
إعلانوفي عام 1994، وفي الوقت الذي كان المتمردون التوتسي يشنون همجات عسكرية، جرى ارتكاب مذابح إبادة جماعية بحق مئات الآلاف من التوتسي بتحريض من الحكومة التي يهيمن عليها الهوتو، ووصل عدد الضحايا إلى نحو 800 ألف رواندي معظمهم من التوتسي، إضافة إلى عمليات نزوح واسعة إلى دول الجوار.
وهو ما أدى إلى تفاقم هجمات الجبهة بقيادة كاغامي، فاستطاعت السيطرة على كيغالي في يوليو/تموز 1994، وأصبح باستور بيزيمونغو، الذي ينتمي للهوتو رئيسا للبلاد، وبول كاغامي نائبا له من التوتسي.
وابتداء من أبريل/نيسان 2000 أصبح كاغامي رئيسا لرواندا، واستعاد بذلك التوتسي حكم البلاد لأول مرة منذ 1961.
التوتسي والنزاعات الكونغوليةظل التوتسي رقما صعبا في الصراع الداخلي بجمهورية الكونغو الديمقراطية منذ استقلال البلاد عام 1960، خصوصا في إقليم كيفو الشمالي الواقع شرق البلاد على الحدود مع رواندا وبوروندي. فقد شاركوا في التمرد ضد حكم الرئيس موبوتو سيسي سيكو، إذ استعان بهم المعارض الثائر لوران ديزيريه كابيلا في الستينيات والسبعينيات من القرن الـ20، ثم في الحرب الكونغولية الأولى التي اندلعت عام 1996، قبل أن يتمردوا على حكم كابيلا نفسه في الحرب الكونغولية الثانية عام 1998.
ولأن البلاد شهدت في التسعينيات موجات تدفق من دول الجوار بمن فيهم توتسي فارون من الإبادة في رواندا وهوتو يلاحَق بعضهم بسبب المشاركة فيها، إضافة إلى وجود سابق لمجموعات من العرقيتين في المنطقة ذاتها، فقد أصبح شرق الكونغو ساحة صراع ساخن مثل فيه التوتسي رقما صعبا.
فقد تصدر التوتسي أبرز حركات التمرد في إقليم كيفو الشمالي، ورغم توقيع اتفاقات سلام عدة مع حكومة كينشاسا فإنها سرعان ما كانت تنهار بسبب الخلاف حول تطبيقها، أو بانشقاق قادة وتأسيس حركة تمرد جديدة كما هي الحال مع حركة إم 23 التي انشقت عن المؤتمر الوطني للدفاع عن الشعب بعد 3 سنوات من توقيع اتفاق سلام عام 2009.
إعلانالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات قمة الويب والکونغو الدیمقراطیة الکونغو الدیمقراطیة من التوتسی فی رواندا إلى أن
إقرأ أيضاً:
الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي ومفارقة الإرهاب
عقب هجوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الذي نفذته حركة حماس على فرقة غزة ومستوطنات غلاف غزة، زعمت إسرائيل وجميع الحكومات الغربية أن إسرائيل وقعت ضحية "هجوم إرهابي" من قبل حماس، ولذلك فإن الدولة الصهيونية تتمتع بالحق الكامل في الدفاع عن نفسها ضد عدوها، وبما أن الجماعات المسلحة الفلسطينية تسببت في هذا "الهجوم غير المبرر" حسب ادعائهم، فعلى الفلسطينيين مواجهة حرب إبادة والتعرض للموت والدمار والتنكيل والتجويع والتهجير الذي تشنه عليهم إسرائيل باعتبار ذلك عملا من أعمال الدفاع عن النفس.
وقد صنفت دولة الاستعمار الاستيطاني التي قامت على "الإرهاب" كافة أشكال مقاومة مشروعها العسكرية والمدنية بالإرهاب، حيث بات "الإرهاب" صناعة صهيونية تبنته الدول الغربية، وشكل العقيدة الأمريكية الإمبريالية مع نهاية الحرب الباردة وحلول عصر الأحادية القطبية، وأصبح مصطلح "الإرهاب" يكافئ "الإسلام" وهوية الإرهابي تقتصر على العرب والمسلمين والفلسطينيين.
فمنذ اللحظات الأولى لعملية "طوفان الأقصى" في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، أصبحت مفردة "الإرهاب" الأكثر تداولا على ألسنة قادة كيان الاحتلال الصهيوني وداعميهم الغربيين، وفي مقدمتهم رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، وسرعان ما ترددت كلمة "الإرهاب" على ألسنة رعاة المستعمرة الصهيونية من الإمبرياليين الغربيين وفي طليعتهم الرئيس الأمريكي جو بايدن، وأصبحت مقولة "حماس هي داعش" سلعة رائجة، لكن الحقيقة التي بدت واضحة لكافة الأحرار في العالم أن "حماس" حركة تحرر وطني تناهض كيان استعماري استيطاني صهيوني قام على الإبادة والتطهير العرقي والإرهاب، وهو لم يتوقف عن استخدام الإرهاب في قمع مقاومة الشعب الفلسطيني.
الحالة الفلسطينية ووضعية غزة تشير إلى أمر مختلف تماما، ففد احتلت إسرائيل غزة إلى جانب الضفة الغربية والقدس الشرقية، خلال حرب حزيران/ يونيو عام 1967، وعلى الرغم من قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 242، رفضت إسرائيل الانسحاب من هذه المناطق إن الإصرار الغربي والإسرائيلي على وصف هجوم حماس بالإرهابي يتجاهل حقيقة التاريخ وطبيعة الاحتلال الإسرائيلي، وهو مغالطة تستند إلى الغطرسة والتفوقية العرقية، إذ يعتبر الهجوم إرهابيا يقابَل بحق الدفاع عن النفس من الناحية المنطقية في حالات الحياة الطبيعية بين دولتين مستقلتين حسب ميثاق الأمم المتحدة (1945) الذي صمم لاستبعاد العدوان العسكري، والذي يميل إلى التسبب في خرق السلم والأمن الدوليين، لكن الحالة الفلسطينية ووضعية غزة تشير إلى أمر مختلف تماما، ففد احتلت إسرائيل غزة إلى جانب الضفة الغربية والقدس الشرقية، خلال حرب حزيران/ يونيو عام 1967، وعلى الرغم من قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 242، رفضت إسرائيل الانسحاب من هذه المناطق.
وفي حالة غزة على وجه التحديد، واصلت إسرائيل ممارسة السيطرة الفعلية على غزة، مع أنها أعلنت رسميا عن انسحاب قواتها وإخلاء أربع مستوطنات يهودية غير شرعية في عام 2005، ويرجع ذلك إلى أن "خطة فك الارتباط" نصت صراحة على أن إسرائيل ستواصل السيطرة على غزة جوا وبحرا وبرا، بينما ستحتفظ بسيطرتها على المعابر الحدودية وكذلك المرافق والخدمات العامة، مثل إمدادات المياه والكهرباء. ومن ثم استمرت غزة في المعاناة من العدوان الإسرائيلي في شكل احتلال بحكم الأمر الواقع كما اعترفت به الأمم المتحدة وهيئات حقوق الإنسان الدولية أو الإنسانية، مثل منظمة العفو الدولية والصليب الأحمر الدولي، وقد اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارين على التوالي في عامي 1970 و1974 بعدم شرعية الاستيلاء على الأراضي بالقوة.
عندما صرح الأمين العام للأمم المتحدة أن هجوم السابع من أكتوبر لم يأت من فراغ، فإنه كان يشير بطريقة دبلوماسية إلى تفسير مختلف، فالهجوم العسكري لفصائل المقاومة الفلسطينية يقيادة حماس ضد إسرائيل لا يشكل هجوما إرهابيا مسلحا أو عملا من أعمال العدوان العسكري كما هو محدد في القانون الدولي، وذلك لأن الدولة الخاضعة للاحتلال العسكري تتمتع بحق الدفاع عن النفس كما هو مذكور في المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، والتي تمنح "الحق الطبيعي في الدفاع عن النفس فرديا أو جماعيا إذا وقع هجوم مسلح" ضد دولة. وقد تم الاعتراف بعدم شرعية الاستيلاء على الأراضي بالقوة حتى قبل الحرب العالمية الثانية، وفلسطين دولة رغم أنها تقع تحت الاحتلال العسكري، ومنذ إعلان الاستقلال الفلسطيني عام 1988، اعترفت بها حوالي 140 دولة، وهي "دولة مراقبة" في الأمم المتحدة منذ عام 2012.
إن حق المقاومة لأي شعب يقع تحت الاحتلال العسكري مشروع من الناحية القانونية وهو حق ثابت للشعب الفلسطيني، وقد تقرر أن حق الشعب في تحرير وطنه من خلال المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الأجنبي هو حق طبيعي كحق الإنسان في الحياة. وعلى النقيض من ذلك، لا تتمتع القوة المحتلة بحق الدفاع عن النفس ضد أولئك الذين هم تحت الاحتلال العسكري، ولذلك فإن ادعاء إسرائيل ممارسة حق الدفاع عن النفس ضد الهجوم العسكري للفصائل الفلسطينية المسلحة في جنوب إسرائيل في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، يُعدّ الاحتلال العسكري وأعمال العدوان العامة من أبشع الجرائم في القانون الدولي. وفي حالة غزة فإن إسرائيل هي التي ترتكب عدوانا مسلحا على غزة وشعبها، بالإضافة إلى ارتكابها جرائم إبادة جماعية وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، فجوهر المشكلة يكمن في استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينيةيُعدّ تحريفا صارخا لقواعد ومبادئ القانون الدولي المتعلقة باستخدام القوة، والاحتلال العسكري، وتقرير المصير، وإقامة الدولة، إذ يُعدّ الاحتلال العسكري وأعمال العدوان العامة من أبشع الجرائم في القانون الدولي. وفي حالة غزة فإن إسرائيل هي التي ترتكب عدوانا مسلحا على غزة وشعبها، بالإضافة إلى ارتكابها جرائم إبادة جماعية وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، فجوهر المشكلة يكمن في استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية.
تتجاوز إسرائيل وداعموها الغربيون حقيقة الكيان الاستعماري الصهيوني كقوة محتلة تقوم على الإرهاب في غزة منذ عام 1967، وكان عليها الالنزام القانوني بالامتثال لاتفاقيات لاهاي (1907) واتفاقية جنيف الرابعة (1949) وكذلك للقانون الدولي الخاص بقوانين النزاع المسلح والاحتلال العسكري. فبموجب القواعد ذات الصلة من القانون الدولي، يُحظر على الدولة المحتلة تغيير الوضع الراهن داخل الأراضي المحتلة، وبالتالي يجب عليها تجنب توسيع نطاق قوانينها وأنظمتها لتشمل المنطقة المحتلة، وهي ملزمة بعدم اتخاذ تدابير قانونية وإدارية تضر بسلامة ورفاهية السكان الذين يعيشون في الأراضي المحتلة، فالقرارات والممارسات التي تهدف إلى حرمان السكان من سبل عيشهم الأساسية محظورة تماما بموجب القواعد القانونية الدولية.
ورغم ذلك تستمر إسرائيل وبدعم غربي في انتهاكٍ التزاماتها القانونية الدولية، بحيث تحوّل هجوم إسرائيل على غزة إلى حالة قتلٍ وإبادة متعمدٍ للفلسطينيين في غزة. وثمة أدلة دامغة على أن إسرائيل ارتكبت إبادة جماعية بحقّ الغزيين خلال هجومها الوحشي على غزة جوا وبحرا وبرا، سعيا منها إلى إبادة أكبر عددٍ ممكنٍ من الفلسطينيين. كما أن قطعَ أساسيات الحياة في غزة، وهي الماء والغذاء والدواء والكهرباء، كان مُدبَّرا للتسبب في أكبر عددٍ ممكنٍ من الوفيات. كما خدمت هاتان الاستراتيجيتان الإباديتان هدفَ إسرائيل المتمثل في التطهير العرقي من خلال الترحيل القسري للسكان الفلسطينيين من غزة.
إحدى المفارقات الصارخة أن دولة استعمار استيطاني قامت على الإرهاب، تصف المقاومة لاحتلالها بالإرهاب، فالإرهاب الصهيوني موثق بصورة جلية دون لبس، فقد مارس الكيان الصهيوني الإرهاب على أساس يومي تقريبا منذ العام 1937، في الوقت نفسه الذي كان فيه البلطجية النازيون يرهبون اليهود الأوروبيين، حيث نفذت العصابات الصهيونية المشكّلة من الغرباء اليهود "حملات محسوبة من الإرهاب" ضد الفلسطينيين الأصليين، وفي هذه الحملة، قد تعرض الفلسطينيون للذبح والتشويه والترويع بلا رحمة جراء التفجيرات المتكررة أو الهجمات بالبنادق الرشاشة والقنابل اليدوية على المقاهي الفلسطينية وعلى "المارة العرضيين"، وعلى السيارات والحافلات الفلسطينية وقطارات الركاب ودور الأيتام والمدارس والمتاجر والأسواق والأحياء العربية. وأغارت العصابات اليهودية على القرى العربية، وزرعت الألغام الأرضية، وأعدمت بدم بارد على غرار النازية القرويين المحاصرين، وضاعفت عصابة الإرغون العسكرية القومية الإرهاب من خلال التهديد بـقطع الأيدي العربية التي ترتفع ضد القضية اليهودية.
لقد استُخدم مصطلح "الإرهاب اليهودي"، أو "الإرهاب الصهيوني"، قبل سنة 1948، للإشارة إلى الأعمال الإرهابية التي ارتكبتها عصابات صهيونية مسلحة، واستهدفت السكان العرب الفلسطينيين، كما استهدفت سلطات الانتداب البريطاني. فمنذ الثورة الفلسطينية الكبرى في سنوات 1936-1939 وحتى تأسيس دولة إسرائيل، استُخدم الإرهاب الصهيوني بصفته استراتيجية عسكرية لتسريع إنشاء دولة يهودية مستقلة، وتم شن هجمات كثيرة على الفلسطينيين، بهدف ترويعهم ودفعهم إلى الانتقال والهجرة خارج البلاد، وعلى مراكز الجيش والشرطة البريطانيين، كما نُظمت عمليات اغتيال وتفجيرات لأسواق وسفن وفنادق. وقد وقف على رأس هذه العصابات الصهيونية زعماء أصبحوا، في السنوات اللاحقة، رؤساء لحكومات إسرائيل، مثل دافيد بن غوريون ومناحم بيغن وإسحاق شامير.
تكشف المسألة الفلسطينية وحالة حماس عن ذاتية مصطلح "الإرهاب" وغير موضوعيه، إذ يشكل مصطلح "الإرهاب" دالا مبنيا سياسيا، لا تجمعه بالضرورة علاقة تناسب طبيعية بالمدلول، ويرتبط بإرادة المعرفة وإرادة الهيمنة، وهو خطاب أدائي للسلطة السيادية في علاقات القوة، يرتبط بالمصالح الجيوسياسية كتوظيف سياسي، إذ تستخدم الولايات المتحدة مصطلح "الدولة الراعية للإرهاب"، ضد الكيانات السياسية المعارضة للتوجهات الأمريكية، وهوية الإرهابي رهن التسمية وليس الفعل في سياق خطابي تحدده المصالح القومية، وفي الوقت الذي يصعب من الناحية النقدية وصف حماس بالإرهابية، يمكن بسهولة وصف إسرائيل دولة إرهابية. وكانت بوليفيا قد أدرجت فعلا الكيان الإسرائيلي على قائمتها للدول الإرهابية.
الإرهاب" تسمية مفروضة وغير مفترضة واستراتيجية القوى الغاشمة للهيمنة والسيطرة وترتبط بهوية الفاعل وليس الفعل، وتنفرد الحالة الفلسطينية بالإجماع والتوافق الأمريكي حول هوية "الإرهابيين". فلطالما اتفق الديمقراطيون والجمهوريون على أن الفلسطينيين هم مرتكبو الأعمال الإرهابية، وليسوا أبدا ضحاياها، فيما اعتبروا أن الإسرائيليين هم دائما ضحايا الإرهاب فـ"الإرهاب" تسمية مفروضة وغير مفترضة واستراتيجية القوى الغاشمة للهيمنة والسيطرة وترتبط بهوية الفاعل وليس الفعل، وتنفرد الحالة الفلسطينية بالإجماع والتوافق الأمريكي حول هوية "الإرهابيين". فلطالما اتفق الديمقراطيون والجمهوريون على أن الفلسطينيين هم مرتكبو الأعمال الإرهابية، وليسوا أبدا ضحاياها، فيما اعتبروا أن الإسرائيليين هم دائما ضحايا الإرهاب. وقد تحول "الإرهاب" الذي اخترعه الغرب الإمبريالي والاستعمار الصهيوني إلى "مصطلح متداول يطلقه كل فاعل على أعدائه، إلى اتهام متبادل"، استفاد من الخلط والفوضى اللذين واكبا نشأة وتطور استخدام المفهوم ومعلوم أن "من يطلق الأسماء على الأشياء فهو يمتلكها"
إن الإصرار الأمريكي والأوروبي والصهيوني على تصنيف حركة "حماس" منظمة إرهابية يهدف إلى نزع الصفة السياسية عن عملها، ونزع الحصانة الإنسانية عن أعضائها، فوصف مقاومي حماس بالإرهابيين يضع جنود حماس في قائمة "محاربون لا شرعيّون"، بل إن حشر الفلسطيني في هوية جوهرانية إرهابية هي الأصل. ففي الصّحافة الإسرائيليّة والغربية كلّما تعرّض الجيش الإسرائيليّ لمقاومة غير منتظرة من الفلسطينيّين، اعتبرتها الصّحافة دليلا على عملهم الإرهابيّ، فحسب الرؤية الإمبريالية الغربية والاستعمارية الصهيونية لا يحقّ للإرهابيّ أن يقاوم، وهذه المفارقة تقع صميم الفكرة الّتي ينهض عليها برنامج "الحرب ضدّ الإرهاب"، هذه الحرب الغريبة الّتي يضحي فيها العدوّ مجرما بسبب دفاعه عن نفسه أو مقاومته.
خلاصة القول أن إسرائيل ليست دولة إرهابية عدوانية وتوسعية فحسب، بل هي أيضا دولة استعمارية استيطانية، تقوم على محو الشعب لفلسطيني، وجعل فلسطين "موطنا" للمهاجرين اليهود من جميع أنحاء العالم، فلم تقتصر الاستراتيجيات التي تنتهجها الدولة الصهيونية على المضايقات اليومية للفلسطينيين الذين يعيشون تحت وطأة احتلال عسكري وحشي. فقد انخرطت الدولة الصهيونية بشكل روتيني في التطهير العرقي بدم بارد وارتكبت المجازر والقتل العشوائي للفلسطينيين، ومارست انتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان.
ولا تقتصر إسرائيل على استهداف الفلسطينيين فحسب، بل إن استراتيجياتها في التوسع الإقليمي والهيمنة وممارسة أقصى درجات العنف تستهدف أيضا العالمين العربي والإسلامي. فإسرائيل دولة شاذة تمارس الاستعمار الاستيطاني وتعتمد استراتيجيات الهيمنة والإرهاب والترهيب تجاه أي جهةٍ تعتبرها "معادية"، وهي تمارس إرهاب الخطف، والتهديد، والعمليات السرية ضد أهدافٍ داخل حدودها وخارجها، كما أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة المتبقية في العالم التي تمارس نظام الفصل العنصري.
ومن الغريب أن حدود إسرائيل الإقليمية مجهولة، وهي دولة توسعية لم تكفّ عن انتهاج سياساتٍ عدوانية تجاه جيرانها العرب، رغم أنهم لم يعودوا يُشكلون أي تهديدٍ أو إزعاج لأمنها، وهو ما يكشف عن حقيقة الكيان الاستعماري الصهيوني وطبيعة علاقته كمتراس متقدم للغرب الذي تقوده الولايات المتحدة.
x.com/hasanabuhanya