تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

تشهد الساحة السياسية في ألمانيا تحولًا غير مسبوق مع تزايد التقارب بين الأحزاب المحافظة وحزب «البديل من أجل ألمانيا» «AfD»، وهو حزب يميني متطرف لطالما اعتُبر خارج إطار التوافق السياسي السائد.

شهد البرلمان الألماني «البوندستاج» خلال الأيام الماضية تصويت كل من الاتحاد الديمقراطي المسيحي «CDU» والاتحاد الاجتماعي المسيحي «CSU» والحزب الديمقراطي الحر «FDP» لصالح سياسات صارمة لإغلاق الحدود أمام اللاجئين، وهى خطوة تعكس انهيار الحاجز الذى كان يفصل هذه الأحزاب عن التعاون المباشر مع حزب معروف بمواقفه العنصرية والمتطرفة.

هذه التطورات تشير إلى تحول جوهري فى المشهد السياسي الألماني، حيث باتت التيارات المحافظة أكثر استعدادًا للانخراط مع قوى اليمين المتطرف، وهو ما قد يؤدى إلى إعادة تشكيل موازين القوى داخل النظام الديمقراطي. وانفتاح الأحزاب الرئيسية على التعاون مع حزب البديل لألمانيا لا يمثل مجرد تحوّل تكتيكى فى سياسات الهجرة، بل يعكس تحولًا أعمق فى الثقافة السياسية الألمانية. فلطالما التزمت الأحزاب التقليدية بعدم التعامل مع اليمين المتطرف للحفاظ على القيم الديمقراطية والدستورية، لكن هذا الخط الأحمر بدأ يتلاشى تدريجيًا. هذه التغييرات لا تعنى فقط قبول سياسات أكثر تشددًا تجاه اللاجئين، بل تؤسس لمنطق جديد قد يبرر إقصاء فئات أخرى من المجتمع تحت ذرائع مختلفة. وهذا بدوره يفتح الباب أمام تفكيك تدريجى لقيم التعددية وحقوق الإنسان، مما يشكل خطرًا مباشرًا على الديمقراطية الألمانية.

وبعد ثمانين عامًا من سقوط النظام النازي، يبدو أن التاريخ يعيد نفسه ولكن بصيغ مختلفة. فصعود حزب البديل من أجل ألمانيا إلى مشهد السلطة لم يأتِ من فراغ، بل هو نتيجة مباشرة لخطاب سياسي يتلاعب بمخاوف المواطنين من الأزمات الاقتصادية واللاجئين، مستغلًا مشاعر الإحباط الشعبي تجاه الأحزاب التقليدية. ومع استمرار هذا الاتجاه، قد يصبح اندماج حزب البديل لألمانيا في الحكم أمرًا حتميًا، مما قد يؤدى إلى سياسات أكثر عدائية تجاه اللاجئين والأقليات، وربما تصاعد موجات القومية المتطرفة التي تهدد السلم الاجتماعي داخل ألمانيا وأوروبا بشكل عام.

إن قبول حزب يميني متطرف في الحكم ليس مجرد قضية داخلية ألمانية، بل هو مسألة ذات تداعيات أوروبية ودولية. فألمانيا، باعتبارها القوة الاقتصادية والسياسية الأكبر في الاتحاد الأوروبي، تؤثر بشكل مباشر على توجهات باقي الدول الأوروبية. وإذا ما استمر هذا التوجه، فقد نرى تصاعدًا عامًا لليمين الشعبوي في القارة، مما قد ينعكس على سياسات الاتحاد الأوروبي تجاه قضايا الهجرة وحقوق الإنسان والتعاون الدولي. كما أن تزايد هذه النزعات قد يؤدى إلى تأجيج الحركات اليمينية المتطرفة فى دول أخرى، مما يزيد من التوترات الداخلية ويعزز احتمالات المواجهات العنيفة بين مختلف التيارات السياسية والاجتماعية.

اليمين المتطرف كحاضنة للتطرف والإرهاب

يمثل تنامى الخطاب اليميني المتطرف خطرًا مزدوجًا، فهو لا يهدد المبادئ الديمقراطية فحسب، بل يشكل أيضًا حاضنة لنمو الحركات المتطرفة والإرهابية بمختلف توجهاتها. فالخطاب القومى المتشدد الذى يروّج له اليمين المتطرف يخلق بيئة من العداء والكراهية، ويبرر استهداف الأقليات والمهاجرين، مما يسهم فى تصعيد العنف السياسي. وعبر التاريخ، أثبتت التجارب أن تغذية المشاعر العنصرية تؤدى إلى نشوء مناخ متوتر يُمكّن الأفراد والجماعات المتطرفة من اللجوء إلى العنف كوسيلة للتعبير عن مواقفهم أو الدفاع عن مصالحهم. وبدلًا من أن يكون النظام الديمقراطي سدًا منيعًا ضد هذه النزعات، فإن التساهل مع اليمين المتطرف ودمجه فى المشهد السياسي قد يؤدى إلى تطبيع سياساته المتشددة، مما يضعف آليات التصدى له، ويشجع الجماعات المتطرفة الأخرى على تبنى سلوكيات عنيفة كرد فعل على هذا التوجه.

لقد شهدت ألمانيا فى السنوات الأخيرة تصاعدًا ملحوظًا فى الهجمات الإرهابية التى نفذها متطرفون يمينيون، مستهدفين اللاجئين والمسلمين وغيرهم من الأقليات. وكان أبرز هذه الهجمات مجزرة هاناو عام ٢٠٢٠، التى قُتل فيها تسعة أشخاص من أصول مهاجرة على يد إرهابي يمينى متطرف، متأثرًا بخطاب العنصرية والكراهية المنتشر فى الأوساط اليمينية المتشددة. ولم يكن هذا الحدث معزولًا، إذ سبقته جرائم مماثلة، مثل اغتيال السياسي الألماني فالتر لوبكه عام ٢٠١٩، بسبب مواقفه الداعمة للاجئين. هذه الأحداث تؤكد أن خطاب اليمين المتطرف لا يظل حبيس المنصات السياسية والإعلامية، بل يتحول إلى أفعال عنف وإرهاب تُهدد أمن واستقرار المجتمع بأسره.

لا يقتصر الخطر على العنف الصادر من الجماعات اليمينية، بل يمتد إلى ردود الفعل التى قد يولدها هذا التطرف، حيث يؤدى تصاعد الإسلاموفوبيا وكراهية الأجانب إلى شعور بعض الأفراد بالعزلة والتهميش، مما قد يدفعهم إلى تبنى توجهات متطرفة كرد فعل على الاضطهاد والتمييز. وبهذا، نجد أنفسنا أمام دائرة مغلقة من العنف المتبادل، حيث يغذى كل طرف تطرف الطرف الآخر، وهو ما يزيد من تعقيد المشهد الأمني والسياسي في ألمانيا وأوروبا. إن هذا التفاعل الخطير بين التطرف اليميني وردود الفعل العنيفة عليه يتطلب استجابة شاملة، لا تقتصر على الإجراءات الأمنية فحسب، بل تشمل أيضًا سياسات اجتماعية واقتصادية وثقافية تهدف إلى تفكيك الأسس التى يستند إليها خطاب الكراهية والعنصرية.

دور السياسات الحكومية في تأجيج الأزمة

لم يكن صعود حزب البديل من أجل ألمانيا «AfD» ظاهرة منعزلة أو مجرد نتيجة لتحولات سياسية داخلية، بل جاء كنتيجة مباشرة لسياسات حكومية أسهمت فى تأجيج العنصرية وتعزيز الخطاب القومى المتطرف. فقد تبنت بعض الأحزاب التقليدية، بما فى ذلك الحزب الاشتراكى الديمقراطى «SPD» بزعامة المستشار أولاف شولتز، مواقف متشددة تجاه قضايا الهجرة واللجوء، مما ساعد فى شرعنة الخطاب اليميني المتطرف. فعندما يصرح شولتز بضرورة "ترحيل اللاجئين على نطاق واسع"، فإنه يعزز السردية التى يروج لها حزب البديل لألمانيا حول اعتبار اللاجئين تهديدًا اقتصاديًا وأمنيًا، بدلًا من التركيز على سياسات الإدماج والتكامل الاجتماعي. هذه التصريحات، التى تصدر عن قادة الأحزاب التقليدية، تسهم فى تآكل الفارق بين الأحزاب الديمقراطية واليمين المتطرف، مما يزيد من قبول الأخير داخل الأوساط الشعبية والسياسية.

على المستوى الدولي، لعبت الحكومة الألمانية دورًا رئيسيًا فى تصعيد التوترات العالمية عبر سياسات إعادة التسلح ودعم النزاعات المسلحة، وهو ما يفاقم البيئة التي تؤدى إلى تنامى التطرف. فمنذ اندلاع الحرب فى أوكرانيا، رفعت الحكومة الألمانية ميزانيتها العسكرية بشكل غير مسبوق، كما أرسلت أسلحة ومساعدات عسكرية، ما عزز مناخ العسكرة فى السياسة الخارجية. هذا التصعيد لا يقتصر على أوروبا فحسب، بل يتجلى أيضًا فى دعم الحكومة الألمانية المطلق لإسرائيل خلال حربها على غزة، متجاهلة الانتهاكات الجسيمة التى يتعرض لها المدنيون الفلسطينيون. هذه المواقف، التى تعكس ازدواجية المعايير فى التعامل مع حقوق الإنسان، تؤدى إلى زيادة الغضب والاستياء بين المجتمعات المسلمة والمهاجرين داخل ألمانيا، مما يخلق شعورًا متزايدًا بالتهميش والاستهداف، ويعزز نزعات التطرف كرد فعل على هذه السياسات.

إن هذه العوامل مجتمعة تؤدى إلى خلق بيئة خصبة لانتشار التطرف والإرهاب، سواء من قبل الجماعات اليمينية المتطرفة أو من الجماعات التى ترى فى هذه السياسات استهدافًا مباشرًا لها. فعندما تتحول الحكومة الألمانية من مدافع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان إلى فاعل رئيسى فى دعم الحروب وتعزيز سياسات القمع، فإنها تفقد شرعيتها الأخلاقية، مما يدفع بعض الفئات إلى البحث عن بدائل أكثر راديكالية. وعوضًا عن معالجة جذور الأزمة، تستمر الحكومة فى تشديد سياسات الأمن والمراقبة، ما يؤدى إلى تضييق الحريات وزيادة الاحتقان الاجتماعي. لذلك، فإن أى استراتيجية لمكافحة التطرف يجب أن تبدأ بمعالجة السياسات التى تغذيه، وليس فقط التعامل مع نتائجه الأمنية.

أوروبا والولايات المتحدة

تشهد أوروبا تحولًا سياسيًا متسارعًا مع صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة إلى مراكز السلطة فى عدد من الدول، ما يعكس تحولات أعمق فى المزاج السياسى والاجتماعى للقارة. فقد تمكنت شخصيات يمينية متطرفة مثل فيكتور أوربان فى المجر، وخيرت فيلدرز فى هولندا، وجورجيا ميلونى فى إيطاليا، وهربرت كيكل فى النمسا، من تحقيق نجاحات انتخابية بفضل استغلالهم لمخاوف السكان من قضايا مثل الهجرة، والهوية الوطنية، والأزمات الاقتصادية. هذه الأحزاب لا تكتفى بنشر خطاب قومى متشدد، بل تعمل على تنفيذ سياسات تقوض مبادئ الديمقراطية الليبرالية، مثل تقييد حرية الصحافة، وتقليص حقوق اللاجئين، وإضعاف المؤسسات المستقلة. إن انتشار هذا المد اليمينى فى مختلف أنحاء أوروبا لا يشكل فقط تهديدًا للقيم الديمقراطية، بل يزيد أيضًا من حدة الاستقطاب السياسي، ما يفتح الباب أمام موجات جديدة من العنف والتطرف.

في الولايات المتحدة، يمثل دونالد ترامب الوجه الأبرز لليمين الشعبوي، حيث استخدم خطاب الكراهية ضد المهاجرين كأداة رئيسية لحشد الدعم السياسي. فمنذ حملته الانتخابية الأولى، تبنى ترامب سياسات تهدف إلى شيطنة المهاجرين، مثل عسكرة الحدود مع المكسيك، وفرض قيود صارمة على اللاجئين، وإذكاء مشاعر القومية البيضاء. ولا يقتصر تأثير هذه السياسات على الولايات المتحدة وحدها، بل إنه يمتد إلى أوروبا، حيث تجد الأحزاب اليمينية المتطرفة فى مواقفه مصدر إلهام، وتعتمد على استراتيجيات مشابهة لحشد الدعم. علاوة على ذلك، فإن الخطاب المتطرف الذى يروج له ترامب لا يشجع فقط على تبنى سياسات تمييزية، بل يؤدى أيضًا إلى تصاعد العنف السياسي، كما شهدناه فى اقتحام مبنى الكابيتول عام ٢٠٢١، والذى كان نتيجة مباشرة لخطاب تحريضى من قِبَله ومن قبل مؤيديه.

الأخطر من ذلك، أن دعم ترامب لا يقتصر على قاعدة جماهيرية يمينية متشددة، بل يمتد إلى الأوليغارشية المالية، التى ترى فى سياساته فرصة لتعزيز نفوذها الاقتصادى والسياسي. من بين أبرز داعميه يأتى إيلون ماسك، أغنى رجل فى العالم، الذى لا يخفى تأييده لترامب وسياساته الشعبوية، بل يتجاوز ذلك إلى دعم شخصيات يمينية متطرفة فى أوروبا، مثل أليس فايدل، زعيمة حزب البديل من أجل ألمانيا. إن ارتباط هذه الشخصيات برأس المال الضخم يجعل صعود اليمين المتطرف أكثر خطورة، حيث يصبح مدعومًا ليس فقط بأصوات الناخبين الساخطين، بل أيضًا بموارد مالية هائلة تمكنه من التلاعب بالإعلام، والتأثير فى الانتخابات، وفرض أجندته السياسية على نطاق واسع. هذا التحالف بين اليمين المتطرف ورأس المال العالمى يعزز مناخ التطرف، ويجعل التصدى له أكثر تعقيدًا، خاصة فى ظل هشاشة المواقف الديمقراطية التقليدية أمام هذا المد المتصاعد.

كيف يمكن مواجهة هذا الخطر؟

إن التصدي لصعود اليمين المتطرف لا يمكن أن يكون من خلال المناشدات السياسية وحدها، بل يتطلب تحركًا شعبيًا منظمًا. فخروج عشرات الآلاف من المتظاهرين إلى الشوارع فى ألمانيا خلال الأيام الماضية يؤكد أن هناك رفضًا شعبيًا واسعًا لهذه التوجهات.

لكن الاحتجاجات وحدها لا تكفي. فلابد من بناء استراتيجية سياسية واضحة لمواجهة المد اليمينى المتطرف، وهذا يتطلب:

مواجهة الخطاب العنصري

يعد الخطاب العنصري الذى يروج له اليمين المتطرف أحد أخطر الأدوات التى يستخدمها لحشد الدعم والتأثير فى الرأى العام. لذا، فإن تفكيك هذا الخطاب وكشف تناقضاته يجب أن يكون أولوية فى وسائل الإعلام والمؤسسات التعليمية. الإعلام المستقل والصحافة الاستقصائية لهما دور محورى فى فضح الدعاية اليمينية المتطرفة، من خلال تقديم حقائق موضوعية حول قضايا الهجرة واللجوء، وبيان الأثر الإيجابى للتنوع الثقافى على المجتمعات. كما يجب أن تتبنى المؤسسات التعليمية مناهج تعزز قيم التعددية والمواطنة، وتتصدى لمحاولات زرع الكراهية والانغلاق الفكرى لدى الأجيال الجديدة.

علاوة على ذلك، فإن مواجهة الخطاب العنصرى تتطلب انخراطًا أوسع للمجتمع المدنى والمؤسسات الثقافية فى التصدي للدعاية اليمينية المتطرفة. يجب دعم المبادرات التى تروج للتعايش والتسامح، سواء من خلال الفنون أو الفعاليات المجتمعية أو الحملات التوعوية. ومن الضرورى أن يتم تفعيل القوانين التى تجرم التحريض على الكراهية والعنف، مع مراقبة المنصات الرقمية التى أصبحت بيئة خصبة لنشر الأيديولوجيات المتطرفة. هذه الجهود مجتمعة يمكن أن تحد من تأثير الخطاب العنصرى وتجعل المجتمع أكثر مقاومة للأفكار المتطرفة.

تعزيز العدالة الاجتماعية

أحد الأسباب الرئيسية التى دفعت العديد من الألمان نحو تأييد الأحزاب اليمينية المتطرفة هو التدهور الاقتصادي وتآكل الطبقة الوسطى. فقد أدى ارتفاع تكاليف المعيشة، وتراجع الخدمات الاجتماعية، وانخفاض الأجور إلى خلق شعور بالإحباط وعدم الأمان لدى شريحة واسعة من المواطنين، وهو ما استغلته الأحزاب اليمينية المتطرفة لإقناعهم بأن المهاجرين واللاجئين هم سبب أزماتهم. لمواجهة ذلك، لا بد من تبنى سياسات اجتماعية عادلة تعيد بناء الثقة فى الدولة وتعالج جذور الأزمة الاقتصادية بدلًا من ترك المجال للخطاب الشعبوي التحريضي.

يشمل ذلك زيادة الاستثمار في الخدمات العامة مثل التعليم والصحة والإسكان، ورفع الحد الأدنى للأجور، وتوفير فرص عمل حقيقية للمواطنين، لا سيما فى المناطق التى تعانى من البطالة المرتفعة. كما يجب فرض ضرائب أكثر عدالة على الأثرياء والشركات الكبرى لضمان توزيع أكثر إنصافًا للثروة. عندما يشعر المواطنون بأن الدولة توفر لهم حياة كريمة، فإن جاذبية الخطاب اليمينى المتطرف ستضعف بشكل كبير، لأن الناس لن يبحثوا عن كبش فداء لمشكلاتهم الاقتصادية، بل سيدعمون الحلول الحقيقية التى تعالج معاناتهم بشكل مباشر.

مكافحة الإرهاب والتطرف

تُركز سياسات مكافحة الإرهاب فى العديد من الدول على الجماعات الإسلامية المتطرفة، بينما يتم تجاهل التهديد المتزايد الذى تمثله الجماعات اليمينية المتطرفة. ورغم أن الهجمات التى ينفذها متطرفون يمينيون فى ألمانيا وأوروبا قد ازدادت بشكل ملحوظ فى السنوات الأخيرة، إلا أن السلطات لا تزال تتعامل مع هذا الخطر بتراخٍ نسبى مقارنة بالتعامل مع التطرف الآخر. من الضروري إعادة هيكلة سياسات مكافحة الإرهاب بحيث تشمل جميع أشكال التطرف، دون تمييز، لضمان أمن المجتمعات ومنع تكرار الهجمات الإرهابية التى تستهدف اللاجئين والأقليات.

يجب تعزيز التعاون بين أجهزة الأمن والاستخبارات لمراقبة الجماعات اليمينية المتطرفة، ومنع انتشار أفكارها داخل المؤسسات العسكرية والشرطية، حيث تم الكشف عن اختراقات خطيرة لهذه المؤسسات من قبل عناصر يمينية متطرفة. كما ينبغى فرض رقابة مشددة على المنصات الإلكترونية التى تُستخدم لنشر الكراهية والتجنيد الأيديولوجي، مع تعزيز برامج إعادة التأهيل والتوعية لمنع الشباب من الوقوع فى فخ الفكر المتطرف. مكافحة الإرهاب والتطرف لا تعنى فقط الحلول الأمنية، بل تتطلب أيضًا حلولًا اجتماعية وثقافية تعالج الأسباب الجذرية التى تدفع الأفراد نحو العنف والتطرف.

سياسات الهجرة واللجوء

بدلًا من الانسياق وراء الخطاب الشعبوي الذى يصور اللاجئين كمصدر للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية، يجب وضع سياسات هجرة عادلة ومتوازنة، تعترف بحقوق اللاجئين وتوفر لهم فرصًا للاندماج فى المجتمع. فالتعامل مع الهجرة بوصفها تهديدًا يؤدى إلى زيادة التوترات المجتمعية، بينما يمكن لسياسات إدماج ذكية أن تحول اللاجئين إلى قوة منتجة تساهم فى الاقتصاد والمجتمع. توفير فرص عمل، وبرامج تعليمية، ودورات لتعلم اللغة، وإجراءات تسرّع عملية منح الجنسية لمن يثبت اندماجه، كلها خطوات تساهم فى خلق مجتمع أكثر استقرارًا وانسجامًا.

فى الوقت نفسه، يجب على الحكومات الأوروبية الضغط لمعالجة الأسباب التى تدفع الناس إلى الهجرة من بلدانهم، مثل النزاعات المسلحة، والتغير المناخي، والفقر. فبدلًا من بناء الجدران وإغلاق الحدود، ينبغى العمل على حلول دبلوماسية واقتصادية تقلل من الحاجة للهجرة القسرية. سياسات اللجوء يجب أن تكون إنسانية، تأخذ فى الاعتبار حقوق الأفراد الفارين من الحروب والاضطهاد، بدلًا من أن تتحول إلى أداة لاستغلال المخاوف الشعبوية وتحقيق مكاسب سياسية ضيقة.

إصلاح النظام السياسي

إن منع الأحزاب اليمينية المتطرفة من الوصول إلى الحكم لا يمكن أن يتم فقط من خلال إقصائها سياسيًا، بل يتطلب تقديم بدائل سياسية قوية قادرة على استعادة ثقة الناخبين. فالكثير ممن يصوتون لهذه الأحزاب لا يفعلون ذلك بالضرورة بسبب إيمانهم بأيديولوجيتها، بل بسبب فقدانهم الثقة فى الأحزاب التقليدية التى أخفقت فى تلبية احتياجاتهم. لذلك، فإن الأحزاب الديمقراطية تحتاج إلى إصلاح نفسها، وتقديم سياسات جديدة تتجاوز الشعارات التقليدية، وتركز على قضايا الناس الفعلية مثل تحسين الاقتصاد، وتوفير فرص العمل، وتعزيز الخدمات الاجتماعية.

كما يجب تعزيز القوانين التى تمنع الأحزاب المتطرفة من استغلال الديمقراطية لتقويضها من الداخل. فمن الضروري وضع آليات قانونية تمنع الأحزاب التى تتبنى خطابًا عنصريًا أو معاديًا للديمقراطية من الترشح للانتخابات أو تلقى تمويل خارجى مشبوه. بالإضافة إلى ذلك، يجب على القوى الديمقراطية توحيد جهودها لمواجهة اليمين المتطرف، بدلًا من التنافس فيما بينها بطريقة تضعف الموقف الديمقراطى العام. عندما يصبح هناك مشروع سياسى واضح يقدم حلولًا حقيقية للمواطنين، سيجد اليمين المتطرف نفسه فى موقف أضعف، وسيفقد الدعم الشعبى الذى يستغله لتحقيق مكاسب سياسية.

تهديد وجودي

صعود اليمين المتطرف فى ألمانيا وأوروبا لا يمثل مجرد أزمة سياسية عابرة، بل يشكل تهديدًا وجوديًا مزدوجًا، إذ يقوّض أسس الديمقراطية ويغذى بيئة الاستقطاب والتطرف العنيف. فمع تآكل الخط الفاصل بين الأحزاب التقليدية والقوى اليمينية المتشددة، تزداد احتمالات تمرير سياسات تمييزية تُشرعن العنصرية وتقوض مبادئ العدالة وحقوق الإنسان. كما أن التراخى فى مواجهة هذه الظاهرة قد يؤدى إلى تغلغل الجماعات اليمينية المتطرفة فى المؤسسات السياسية والأمنية، مما يهدد بتغيير هيكلي عميق فى الأنظمة الديمقراطية، ويجعلها أكثر استبدادًا وعداءً للأقليات والمهاجرين والمجتمع المدني.

لكن هذا الواقع ليس قدرًا محتومًا، إذ لا يزال بإمكان القوى الديمقراطية والمجتمعات المدنية التصدى لهذا المد الخطير. فالمظاهرات الحاشدة فى ألمانيا، والرفض الشعبي المتزايد لخطاب الكراهية، تؤكد أن هناك مقاومة فعلية لهذا الاتجاه، لكنها تحتاج إلى دعم سياسي واستراتيجي فعّال. المطلوب ليس فقط احتجاجات مؤقتة، بل بناء تحالفات قوية تعيد الاعتبار للعدالة الاجتماعية، وتعزز سياسات الإدماج، وتواجه الدعاية اليمينية بالأدلة والحقائق. فالفشل فى التحرك بفعالية لن يؤدى فقط إلى صعود اليمين المتطرف، بل قد يفتح الباب أمام موجة عالمية من الاضطرابات السياسية والاجتماعية، تهدد الاستقرار فى أوروبا والعالم بأسره.

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: اليمين المتطرف تهديد الديمقراطية تنامي الإرهاب حزب البديل من أجل ألمانيا الأحزاب الیمینیة المتطرفة البدیل من أجل ألمانیا صعود الیمین المتطرف الحکومة الألمانیة الأحزاب التقلیدیة ألمانیا وأوروبا مکافحة الإرهاب وحقوق الإنسان خطاب الیمین قد یؤدى إلى حزب البدیل فى ألمانیا لا یقتصر تؤدى إلى بدل ا من سیاسی ا تهدید ا من خلال تصاعد ا خطاب ا یجب أن تحول ا وهو ما

إقرأ أيضاً:

الانتخابات الألمانية المحمومة بصعود اليمين

بسم الله الرحمن الرحيم

#الانتخابات_الألمانية المحمومة بصعود اليمين

دوسلدورف/أحمد سليمان العُمري

تتجه #ألمانيا إلى انتخابات مُبكّرة في 23 فبراير/شباط 2025 وسط أزمات سياسية واقتصادية متفاقمة؛ يتصدرها انهيار الائتلاف الحاكم بقيادة المستشار «أولاف شولتس»، الأمر الذي دفع الرئيس الألماني «فرانك-فالتر شتاينماير» إلى حل البرلمان، مما وضع البلاد في حالة من عدم اليقين.

مقالات ذات صلة متى سنستخدم أسباب قوتنا لمواجهة العربدة الأمريكية؟ 2025/02/19

هذه الانتخابات أصبحت ساحة لصراع أيديولوجي بين الأحزاب التقليدية واليمين الشعبوي، مع محاولات خارجية للتأثير على نتائجها.

أسباب حل البرلمان

الركود الاقتصادي والتضخم: تواجه ألمانيا أزمة اقتصادية حادة، حيث سجّل الناتج المحلي الإجمالي انكماشا بنسبة 0.3% في الربع الأخير من 2024، مع ارتفاع التضخم إلى 6%، حيث تضرّرت الصناعة الألمانية بشكل كبير، لا سيما في قطاعي السيارات والطاقة، مما أدى إلى ارتفاع البطالة وإفلاس العديد من الشركات الصغيرة.

أزمة الطاقة وعودة الفحم: تعليق صفقات الغاز الروسي أدى إلى ارتفاع الأسعار بنسبة 25%، مما دفع الحكومة إلى إعادة تشغيل محطات الفحم، بينما انتقد حزب الخضر هذه الخطوة، والتي اعتبرها «شولتس» «إجراء اضطراريا» في مواجهة الأزمة.

صعود حزب البديل من أجل ألمانيا (AfD): حقق حزب البديل تقدما كبيرا، حيث وصلت شعبيته إلى 20% على المستوى الإتحادي، وأكثر من 33% في ولايات شرق ألمانيا، مستغلّا الاستياء الشعبي من الهجرة والتدهور الاقتصادي.

الاحتجاجات والإضرابات: اندلعت احتجاجات واسعة من قبل المزارعين وعمال القطاع العام، الذين يطالبون بزيادة الأجور ودعم الوقود، مما أدى إلى شلل في حركة النقل في العديد من المدن الكبرى.

تنافس الأحزاب مع تغيّر في المشهد السياسي

الحزب الديمقراطي المسيحي (CDU) نحو اليمين: بقيادة «فريدريش ميرتس»، تبنى الحزب الديمقراطي المسيحي خطابا يمينيا أكثر تشددا، مع التركيز على سياسات الهجرة الصارمة، وإعفاءات ضريبية للصناعات التقليدية، في محاولة لاستعادة الناخبين الذين انضموا إلى حزب البديل.

الحزب الديمقراطي الاشتراكي (SPD) في موقف دفاعي: يواجه المستشار شولتس صعوبة في استعادة ثقة الناخبين، حيث تراجعت شعبية حزبه إلى 16%، وهو الحزب الذي كان يعتمد على الناخبين التقليديين واليسار المعتدل، لكنه يواجه معارضة قوية من اليمين.

حزب الخضر (Grüne) وحزب اليسار (Die Linke) بين التراجع والضعف: بينما لا يزال حزب الخضر قويا في الأوساط الليبرالية، فإن سياسته البيئية لم تعد تحظى بالدعم الشعبي نفسه في ظل الأزمة الاقتصادية. أما حزب اليسار فقد تراجع إلى 5% ويواجه انقسامات داخلية.

حزب سارة فاغنكنيشت (BSW): أسست «سارة فاغنكنيشت» حزبا جديدا يُركّز على القضايا الاجتماعية ومعارضة العقوبات على روسيا، ورغم حصوله على دعم بعض الناخبين اليساريين، إلّا أنه لم يحقق اختراقا كبيرا بعد في استطلاعات الرأي.

التدخلات الخارجية

أثارت زيارة نائب الرئيس الأمريكي «جيه دي فانس»، الذي يمثّل التيار الترامبي، إلى مؤتمر الأمن في «ميونيخ» جدلا واسعا، حيث التقى بزعيمة حزب البديل من أجل ألمانيا، «أليس فايدل» لمدّة نصف ساعة، متجاهلا لقاء المستشار أولاف شولتس، الأمر الذي يُعدّ صفعة دبلوماسية لألمانيا.

يُعتبر هذا اللقاء على أنه دعم أمريكي ضمني لليمين المتطرّف، مما دفع شولتس إلى التحذير قائلا: «لن نسمح بتدخّل جهات خارجية في الانتخابات الألمانية». هذه الخطوة أثارت غضب النخب السياسية في برلين، في وقت تتزايد فيه الخلافات بين برلين وواشنطن حول السياسات الأوروبية والدعم لأوكرانيا.

السيناريوهات المحتملة بعد الانتخابات

استنادا إلى المشهد السياسي العام، فإن السيناريوهات الأكثر ترجيحا بعد الانتخابات هي:

تحالف الحزب الديمقراطي المسيحي مع الحزب الديمقراطي الحر (FDP) بدعم غير مباشر من حزب البديل من أجل ألمانيا، وقد يشهد هذا التحالف سياسات أكثر تشددا ضد الهجرة ودعما أكبر للصناعات التقليدية.

تحالف الحزب الديمقراطي المسيحي مع الحزب الديمقراطي الاشتراكي في حكومة وحدة وطنية، قد يؤّدي إلى تسويات سياسية تساهم في استقرار مرحلي، رغم وجود خلافات داخلية قد تؤثّر على تناغم الحكومة.

أمّا النموذج غير المرغوب في الأروقة السياسية والمطروح، هو عدم حسم الانتخابات، مما قد يؤدّي إلى أزمة سياسية جديدة وإجراء انتخابات مُبكّرة أخرى في 2026.

تداعيات الانتخابات على أوروبا والعالم

إذا صعد اليمين المتطرّف، فقد يؤثّر ذلك على سياسة ألمانيا تجاه الاتحاد الأوروبي، خاصّة في قضايا المناخ والاقتصاد والهجرة، إضافة إلى علاقات برلين مع واشنطن، حيث الخلافات المتزايدة بينهما قد تدفع ألمانيا إلى إعادة تقييم علاقاتها مع القوى الكبرى الأخرى مثل الصين وروسيا، فضلا عن سياسة ألمانيا تجاه أوكرانيا الوارد جدا تأثّرها، إذ يدعو حزب البديل من أجل ألمانيا إلى خفض الدعم العسكري لكييف.

هذا دون الأخذ بالاعتبار عمّا قد يتطور بين إدارة ترامب واليمين الألماني بظلّ اللقاء الأمريكي في «مؤتمر ميونخ للأمن» معه.

ألمانيا على مفترق طرق

هذه الانتخابات تمثّل لحظة حاسمة في تاريخ ألمانيا الحديث؛ بين صعود الشعبوية اليمينية والتدخّلات الخارجية، والأزمات الاقتصادية التي تعصف في البلاد، وهو ما يُنظر إليه على أنه أكبر اختبار لاستقرارها السياسي منذ عقود.

السؤال المطروح هو: هل ستتمكّن ألمانيا من الحفاظ على توازنها الديمقراطي واجتياز هذا المنعطف الحرج دون أن تفقد هويتها الديمقراطية؟ أم أنّ رياح التغيير ستُعيد تشكيل ملامح القوة في أوروبا بأكملها؟ بحيث أنها ستتجه نحو تحوّل جذري في سياساتها الداخلية والخارجية.

الإجابة اليقين ستتضح بعد 23 من هذا الشهر، ومن الواضح أن أوروبا والعالم يراقبان ألمانيا عن كثب، فقد تكون لهذه الانتخابات تداعيات تتجاوز حدود برلين بكثير.

Ahmad.omari11@yahoo.de

مقالات مشابهة

  • المحافظون الأوفر حظا في الانتخابات الألمانية.. واليمين المتطرف يأمل تحقيق مفاجأة
  • فريدمان يحذر من سياسات ترامب الاقتصادية.. تؤدي إلى نتائج عكسية
  • الانتخابات الألمانية المحمومة بصعود اليمين
  • قيادي بـ«الحرية المصري»: انخراط الشباب في الأحزاب يعزز العملية الديمقراطية
  • باحث سياسي: تعيين «ديرمر» يثير مخاوف من تعقيد المرحلة الثانية لاتفاق الهدنة في غزة
  • هل بدأت سياسات ترامب تضعف الدولار؟
  • كاتبة أميركية: سياسات ترامب تُقلق اليمين الأوروبي المتطرف
  • استئصال حماس السبيل نحو إنهاء حكومة نتانياهو اليمينية
  • نتنياهو يدفع المنطقة نحو الهاوية