هل تهدد فحوص الحمض النووي يهودية الدولة في إسرائيل؟
تاريخ النشر: 12th, February 2025 GMT
يقرّ المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه، وهو أحد أهم المؤرخين الإسرائيليين من المدرسة التاريخية الجديدة التي يسميها "ما بعد الصهيونية" بأن النظرية الصهيونية التي ترسخت عبر الأكاديميا والصحافة والإعلام الإسرائيلي طوال عقود أن اليهود قدموا من أوروبا ووجدوا أرضا بلا شعب، وأن هذه الأرض حتى تدخل إلى عصر الحداثة والتنوير كان عليهم أن يعمروها ويديروها بالطريقة الصهيونية، فهي حق أصيل لهم منذ عصر النفي الروماني.
وفي كتابه "فكرة إسرائيل" ينقل إيلان بابيه هذا الحوار اللافت بين زعيم الحركة الصهيونية ديفيد بن غوريون وبين المؤرخ وعميد التأريخ الصهيوني في فلسطين بن تسيون دينور، ففي عام 1937 وقبل أسبوعين من وصول لجنة بيل التي أُوكلت إليها مهمة إيجاد حل للنزاع في فلسطين.
قام بن غوريون بزيارة لدينور ليرى إن كان بوسع هذا المؤرخ أن يقدم بعض الأبحاث التي تثبت أن لليهود وجودا في هذه الأرض منذ العام 70 قبل الميلاد في زمن النفي الروماني وحتى عام 1882 حين وصلت إليها طلائع الصهاينة.
وكان جواب المؤرخ بن تسيون إن ذلك من الناحية البحثية ممكن، بيد أن الأمر يستلزم الغوص عميقا في مراحل تاريخية عديدة ويتطلب نطاقا واسعا من الخبرات، وأن مهمة بهذا الحجم تحتاج عقدا من الزمان على الأقل، وقد ردّ عليه بن غوريون قائلا: "أنت لا تفهمني ستأتي لجنة بيل في غضون أسبوعين، فعليك أن تصل إلى خلاصة قبل ذلك ومن ثم يمكنك أن تمضيَ عقدًا كاملا لإثباتها".
إعلانومن هذا الحوار وباعتباره متخصصا في التاريخ والفكر اليهودي يؤكد إيلان بابيه أن الصهيونية دائما مدفوعة برغبة لإعادة كتابة تاريخ فلسطين وتاريخ الشعب اليهودي بطريقة تثبت من الناحية العملية دعوى اليهود بحقهم في أرض إسرائيل.
فكرة توراتيةوتنطلق جذور الفكر اليهودي من اعتقادهم أنهم شعب الله المختار وأن غيرهم من الشعوب هم الأغيار، وفي التطبيق السياسي لهذا المعتقد صدر قانون القومية الذي أقره الكنيست يوم 19 يوليو/تموز 2018 والذي يعرّف إسرائيل بأنها الدولة القومية للشعب اليهودي، وجاء ليكرّس مبدأ يهودية الدولة.
ولم يخف الزعماء اليهود حتى من قبل تأسيس إسرائيل إيمانهم بهذه الفكرة (توراتية المنشأ)، وعبروا عن ذلك في كثير من المناسبات، فهذا أول رئيس للوزراء ديفيد بن غوريون يقول في حفل تأسيس الدولة هذه "ليست نهاية كفاحنا، بل إننا اليوم قد بدأنا، وعلينا المُضي لتحقيق الدولة التي جاهدنا في سبيلها".
ومن قبله ثيودور هرتزل الذي قال "إذا حصلنا يوما على مدينة القدس، وكنت لا أزال حيا وقادرا على القيام بأي عمل، فسوف أزيل كل شيء ليس مقدسا لدى اليهود فيها".
تقودنا هذه المقدمة إلى معتقد "النقاء العرقي" الذي روّج له اليهود، والذي يقوم على نظرية أنهم حافظوا على صفائهم العرقي عبر الأزمنة المختلفة وفي كافة المجتمعات دون أن تداخل مع الأعراق الأخرى.
انطلاقا من هذه الرؤى، حرصت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على المتابعة الحثيثة لمسألة النقاء العرقي وتحديد البحث فيها، ولم تسمح بفتح أي مجال للتلاعب أو المساس بها.
ولما كانت عمليات اختبار الحمض النووي "دي إن إيه" (DNA) تتيح لعامة الإسرائيليين الولوج لهذه المسألة، سعت سلطات الاحتلال لتحديدها، وعملت على عدم تيسير أدوات هذه الاختبارات في المتاجر، وحصرتها تحت سيطرة الحكومة الإسرائيلية، وفرضت رقابة مشددة عليها.
إعلانونظرا لتعدد الأعراق والإثنيات في الدولة الواحدة في معظم من دول العالم، فإن هذه الفحوص لم تشغل اهتمام الشعوب ولا الحكومات، لكن الأمر مختلف تماما في إسرائيل، ففي عام 2000 صدر قانون المعلومات الوراثية الإسرائيلي.
وينصّ القانون في أحد بنوده على اشتراط الحصول على أمر من المحكمة المختصة قبل إجراء هذه الفحوص، على أن لا تُسلَّم نتائج الفحص إلا للمحكمة التي أصدرت الأمر حصرا، ولا يتم تقديمها مباشرة للأفراد المعنيين أو لمحاميهم.
لكن هنا يظهر تناقض في استغلال اختبارات الحمض النووي في الداخل الإسرائيلي، فبينما تشدد السلطات الحكومية على عامة الإسرائيليين إلى حد يصل إلى الحظر إجراء مثل هذا النوع من الاختبارات حتى لا تؤدي لتفكك عرى المجتمع الإسرائيلي، وإثبات فشل المقولات والنظريات التي تشدد على وحدة التاريخ والجغرافيا والمصير، ومن ثم نقاء العرق، فإن السلطات الدينية لا تقبل إصدار الهوية الدينية اليهودية إلا بعد التحقق من خلال اختبار الحمض النووي.
وحين قامت الدولة الإسرائيلية برزت الحاجة للتأريخ لتسويق هذه الدولة الجديدة على أنها "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وتسويغ طرد السكان الأصليين من أرضهم وإدانة سعيهم لحرمان اليهود من حقّهم المزعوم".
وكما برزت الحاجة لإعادة كتابة التاريخ من جديد من وجهة نظر الصهيونية ولو أدى ذلك لإهالة التراب، وطمس الحقائق التاريخية المستقرة في فلسطين، فإن الطريق الآخر لتأكيد هذه النظرية من وجهة نظرهم كان يكمنُ في إثبات حقيقة "النقاء العرقي" و"الجين اليهودي" الذي يختلف عن أي نقاء أو جين بشري آخر.
وقد تناول الدكتور عبد الوهاب المسيري في موسوعته "اليهود واليهودية والصهيونية" مسألة "النقاء العرقي" وأسباب ترويجهم لها، حيث تقوم هذه النظرية على الاعتقاد بأن المجموعات اليهودية المختلفة حافظت على صفائها العرقي عبر الأزمنة المختلفة وفي كافة المجتمعات، دون أن تتداخل مع الأعراق الأخرى.
وهي الفكرة التي طالما استخدمها المناهضون لليهود للإشارة إلى انعزالهم المقصود وخطرهم المزعوم، ويرى هوستون تشامبرلين الفيلسوف الألماني البريطاني أن هذه العزلة العرقية هي مكمن قوتهم، لكنها في الوقت نفسه السبب في كونهم غرباء عن الشعوب الأخرى.
في حين يرى عبد الوهاب المسيري أن الصهاينة تبنوا هذا المفهوم لتبرير مطلبهم بإنشاء وطن قومي لليهود، مؤكدين أنه يجب أن يكون يهوديا بقدر ما إنجلترا إنجليزية وفرنسا فرنسية، بحيث يعيش فيه شعب يتميز بخصوصية عرقية منفصلة عن بقية الأمم، ومن ثم سعى العديد من الباحثين الصهاينة إلى إثبات هذه الفرضية، وكان عالم الاجتماع الصهيوني آرثر روبين من أبرزهم، حيث قدّم في كتابه "اليهود في الوقت الحاضر" تحليلا مدعما بمصادر عديدة.
إعلانومن بين تلك المصادر التي ذكرها آرثر سنجد كتابات العالم إغناتز زولتشان، الذي وصف اليهود بأنهم "أمة من الدم الخالص" وقد أكد زولتشان أن "حظر الزواج المُختلَط في اليهودية قد أدَّى إلى عدم اختلاط اليهود بأجناس لم تحافظ على نقائها بالدرجة نفسها".
وقد قدَّم روبين نفسه تعريفا عرْقيا لليهود فبيَّن أنهم استوعبوا عناصر عرْقية أجنبية بدرجة محدودة، ولكنهم في أغلبيتهم يمثلون جنسا متميِّزا، على خلاف الحال في دول وسط أوروبا.
لعل مثل هذه المقولات هي التي دفعت المفكر المصري الدكتور جمال حمدان لكي يغوص حول الموضوع تاريخيا وأنثروبولوجيا لينتهي به المطاف عام 1967 وقد أخرج كتابه "اليهود أنثروبولوجيا".
ففي هذا الكتاب يرى حمدان أن يهود إسرائيل يشكلون امتدادا للظاهرة الاستعمارية الإحلالية، بل ولا يمثلون كيانا عرقيًا متجانسا، إذ هم خليط من أعراق متعددة، مما ينفي أي صلة مباشرة لهم بأصول إسرائيلية فلسطينية قديمة.
ومن الناحية التكوينية، ينحدر معظمهم من أصول أوروبية وأميركية، رغم اختلافهم الديني، مما يجعلهم جزءا لا يتجزأ من المجتمعات الغربية، وليسوا -كما يزعمون أو يصفهم مؤيدوهم الغربيون- غرباء أو منفيين عن أوطانهم الأصلية.
View this post on Instagram
A post shared by الجزيرة الوثائقية (@aljazeeradocumentary)
عودة اليهودومن هنا، فإن الحديث عن عودة اليهود إلى فلسطين وفق الرواية الصهيونية لا يستند إلى أي أساس ديني توراتي يربطهم بالسكان القدماء، بل هو في جوهره شكل من أشكال العدوان الاستعماري الذي يتجلى بوضوح، وفق المفهوم العلمي الدقيق، كحركة توسعية إحلالية لا علاقة لها بأي جذور تاريخية محلية.
يكتسب كتاب الدكتور جمال حمدان أهمية من كونه أول دراسة تفند الأسس الأنثروبولوجية التي استند إليها اليهود في ادعاءاتهم بامتلاك حق تاريخي في العودة إلى فلسطين، فقد اعتمد المؤلف على دراسة نشأة اليهود وتقصّي تحركاتهم عبر التاريخ، ورصد تشتتهم في العصور القديمة والحديثة، بالإضافة إلى الوقوف على التغيرات السكانية المفاجئة التي شهدوها خلال فترات زمنية قصيرة.
إعلانومن منظور أنثروبولوجي كذلك، قام بتحليل السمات الجسمانية ليهود اليوم مثل الطول، ولون البشرة، ولون الشعر والعينين، والأهم من ذلك كله شكل الرأس والتغيرات الواسعة، ليبرهن على أن يهود العصر الحالي ليسوا سوى مجموعات اعتنقت اليهودية "تهوّدت" في مملكة الخزر في شمال بحر قزوين في الجنوب الروسي، وليؤكد على أن القلة المتبقية من اليهود الذين لم يغادروا فلسطين تحمل صفات مغايرة تماما عن المهاجرين القادمين إليها.
كما يفند حمدان أيضا الادعاء اليهودي بشأن نقاء العرق، ويحتوي على ملحق يوثق هجرات اليهود حتى عام 1992، حيث يثبت أن فلسطين لم تكن يوما الوجهة الأساسية لهم، بل كانت مجرد ملجأ اضطراري بعد إغلاق أبواب الهجرة أمامهم في كل من الولايات المتحدة وأوروبا، مما جعلها الخيار الوحيد بعد تصاعد الاضطهاد النازي.
ويستعرض جمال حمدان مراحل الشتات اليهودي في العصور القديمة والحديثة، فيرصد أثر الحروب الصليبية على هجرتهم من غرب أوروبا إلى وسطها وشرقيّها وخاصة يهود الأشكناز منهم، واستقرار أغلبهم في بولندا ودول الاتحاد السوفياتي، وفي العصر الحديث رصد هجرتهم إلى أميركا الشمالية، ثم انتقالهم إلى وسط أوروبا، خصوصا ألمانيا وفرنسا، وانتهاء بتشتت يهود الاتحاد السوفياتي.
كما يُبرز كيف أن صعود النازية في ألمانيا الهتلرية أدى إلى نزوح واسع ليهود وسط أوروبا، حيث توجّه جزء كبير منهم إلى فلسطين، في حين اختار الجزء الأكبر الولايات المتحدة وِجهة له، وبهذا الأمر كانت عملية تفريغ يهود أوروبا الوسطى يقابلها استيعاب متزايد ليهود أميركا، مما مهّد لعملية زرع الكيان الصهيوني في فلسطين بحسب قوله.
ولم يكن المسيري وجمال حمدان أو إيلان بابيه فيما بعد ممن وقف أمام نظريات النقاء العرقي، والجين اليهودي النقي بالتفنيد العلمي والتاريخي فقط، فقد قدّم عالم الجينات البريطاني الشهير مارتن ريتشاردز في 2013 دراسة علمية دحض فيها الادعاءات الصهيونية التي تزعم أن يهود اليوم ينحدرون من جماعات كانت تعيش في فلسطين عبر التاريخ.
إعلانأكد ريتشاردز في بحثه بصورة قاطعة أن اليهود الأشكناز، الذين يشكلون نحو 80% من يهود العالم، و90% من يهود الولايات المتحدة، ونصف يهود الكيان الصهيوني، ليسوا من أصول شرق أوسطية، بل ينحدرون من أوروبا الغربية، وقد جاء أسلافهم من مملكة الخزر، التي فرض ملكها اعتناق اليهودية على شعبه ومع سقوط هذه المملكة، هاجر سكانها إلى وسط أوروبا في عام 740 م، وهو الطرح الذي يتفق بتمامه مع ما توصل إليه جمال حمدان قبل أكثر من 50 عاما.
وقد دعم العديد من المؤرخين هذا الطرح، وكان من بينهم الكاتب والمؤرخ اليهودي المجري آرثر كوسلر، الذي تناول في كتابه "السبط الثالث عشر: إمبراطورية الخزر" حقيقة أن قبائل الخزر ودولتهم اليهودية لم تكن عبرانية أو سامية، ولم يكن لها أي ارتباط باليهود القدماء الذين ورد ذكرهم في التوراة.
كما ينسجم هذا الطرح مع ما أورده المفكر الإسرائيلي إسرائيل شاحاك في كتابه "الديانة اليهودية.. التاريخ اليهودي.. وطأة ثلاثة آلاف سنة"، ومع آراء الفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي، لا سيما في كتابه "الأساطير المؤسسة للسياسات الإسرائيلية"، حيث يكشف عن التوظيف السياسي للأساطير اليهودية وكيف جعلوها جزءا من التاريخ في سبيل خدمة المشروع الصهيوني.
ومن الأمور اللافتة أن مسألة فحص الحمض النووي في الداخل الإسرائيلي لا تزال تثير الجدل بين المؤيدين لها والمعارضين، ففي عام 2019 نقلت الجزيرة عن صحيفة ليبيراسيون الفرنسية أن أفيغدور ليبرمان، رئيس حزب "إسرائيل بيتنا" اليميني، اشترط مع حزبه من أجل الانضمام إلى حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو فرض حظر على اختبارات الحمض النووي التي تجريها الحاخامية الإسرائيلية للتحقق من الهوية اليهودية، واصفا هذه الممارسات بأنها شكل من أشكال "التمييز المؤسسي".
إعلانوقد ربطت الصحيفة هذا المطلب بتمثيل ليبرمان لليهود المهاجرين من دول الاتحاد السوفياتي السابق، حيث يعاني الكثير منهم من صعوبة الحصول على الهوية اليهودية الرسمية، التي تتطلب اعتراف الحاخامات المتشددين.
وهي الهوية التي تختلف عن الجنسية الإسرائيلية، فقد أوضحت ليبيراسيون أن فهم هذه المسألة يقوم وفق التصورات اليهودية التي تفرضها السلطات الدينية الخاضعة لسيطرة التيار المتشدد من كبار الحاخامات.
ومن المعلوم أن الحصول على جواز سفر إسرائيلي يستلزم استيفاء شروط "قانون العودة" الذي أقرته الدولة اليهودية عام 1950، والذي يمنح الحق في الهجرة لأي شخص لديه جد يهودي واحد على الأقل، ورغم ذلك فإن الحاخامات المتشددين لا يعترفون باليهودية إلا وفق معايير "دينية بحتة"، حيث يُعتبر اليهودي، وفق تفسيرهم، من وُلِد لأم يهودية أو من اعتنق اليهودية وفق الطقوس الصارمة لأشد التيارات الدينية تشددا.
ووفقا لذلك فقد كشفت الصحيفة الفرنسية أيضا أن نحو 400 ألف شخص، معظمهم من المهاجرين الذين وصلوا في موجة الهجرة الكبرى من أوروبا الشرقية عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، حصلوا على الجنسية الإسرائيلية دون أن يتم الاعتراف بهم كيهود من قِبل الحاخامات، ويُنظر إليهم إما على أنهم "أنصاف يهود" أو "يهود مزيفون"، ويتم تصنيفهم رسميا ضمن فئة "بلا دين"، وهي الفئة التي تشمل أيضا نحو 700 ألف من الناطقين بالروسية في إسرائيل.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات الاتحاد السوفیاتی الحمض النووی إیلان بابیه وسط أوروبا جمال حمدان فی فلسطین من أوروبا بن غوریون فی کتابه فی عام على أن
إقرأ أيضاً:
مخاطر توجه الحركة الصهيونية اليهودية لاستهداف الأمة من منظور خطاب السيد القائد
يمانيون../
في خطاب السيد القائد اليوم، كان تركيزه الكبير مُنصبًا على المستقبل الاستراتيجي للأمة، والمخاطر المحدقة بالأمة ضمن مخطط الاستهداف الكبير؛
إذ إن المخاطر، وهي ظاهرة ضمن مخطط استراتيجي معادٍ مدروس ويتم على مراحل لاستهداف الأمة في الصميم، تحتم دق جرس الخطر، وكما قال السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي فإن “المرحلة الآن بالغة الخطورة ضمن توجه الحركة الصهيونية اليهودية لاستهداف أمتنا”.
يشير السيد القائد إلى أدوات المخطط الصهيوني الغربي الكبير واستخدامها اليوم بهذه الكثافة، سواء كانت “الحرب الصلبة أو الحرب الناعمة”، في سياق المخطط المتكامل، والحروب الدائرة على العرب والمسلمين، سواء كانت حروبًا نارية أو حروبًا ناعمة تستهدف الثقافة وتشويه قيم وموروث الأمة، وهذه ليست وليدة اليوم، كما أنها، كما يقول السيد القائد، “ليست مجرد ردود أفعال ولا حوادث وقتية عابرة بل في إطار استهداف شامل وهجمة مستمرة”، حيث يعمل “المخطط الصهيوني اليهودي التدميري ضد أمتنا الإسلامية في خطين واتجاهين متوازيين: هجمة عسكرية صلبة، وهجمة بالحرب الناعمة”.
ويخاطب السيد القائد في حديثه العميق حالة الوعي لدى الأمة، بتفصيل يتناول تحركات العدو وما يقوم به للنيل من كل العرب والمسلمين في “هذه الحرب التي لم تتوقف ضد أمة العرب والإسلام، حيث لها أهدافها العميقة، فـ “الأعداء اليهود الصهاينة وأذرعهم؛ أخطبوط الشر الأمريكي الإسرائيلي البريطاني وقوى الغرب المتصهينة معهم يدركون ما تمتلكه أمتنا الإسلامية من عوامل القوة المعنوية والمادية”؛ فهي تمتلك مقومات غير عادية يحاول الأعداء إلغاء حضورها، و”من المقومات الكبرى التي تؤهل الأمة لحماية نفسها وتمنحها المنعة في مواجهة أعدائها أن تكون هي الأمة التي تحمل إرث الأنبياء والرسل”، كما عبر السيد القائد.
ولأنها تحمل هذا الإرث الكبير في بعده العالمي، فهذا يستوجب أن تتحمل مسؤوليات هذا الدور المشرف حيث “مسؤولية أمتنا الإسلامية ورسالتها العالمية أن تقوم بدور عالمي في الدعوة إلى الخير والسعي لإقامة القسط وحماية المستضعفين وإرساء دعائم الحق”.
وفي ظل إدراك العدو للدور العالمي للإسلام والإرث الكبير الذي يمتلكه العرب والمسلمون، فإنه يرى أنه لا بد أن يستهدف “دورها ورسالتها وهويتها وثرواتها وموقعها”. فالأطماع الكبيرة والشهية الأمريكية الإسرائيلية، كما عبر السيد القائد، “مفتوحة بجشع كبير جداً في أوطان شعوبنا وثرواتها وموقعها الجغرافي وبحقد شديد في نفس الوقت”.
وفي سياق حديثه الذي يعيد تذكير الأمة بأسباب تصاعد مستوى الخطر الكبير من “الهجمة العدوانية على أمتنا”، يؤكد السيد القائد أن “وضعية الأمة والخلل الكبير في داخلها على مدى أجيال وقرون” هو سبب الهجمة الشرسة على الأمة اليوم، وأن اختراق العدو للعرب والمسلمين من الداخل كان ذا تأثيرات ماثلة للعيان في واقع الأمة، فـ “حجم الاختراق من الأعداء للأمة في مراحل طويلة وعلى مدى زمن طويل هو ما أوصل الأمة إلى حالة التيه الرهيب اليوم”.
وفي ظل هذا الوضع وحالة التيه التي تعيشها أمة الإسلام، فإن “الأعداء يعملون على أن تبقى (الأمة) بكل ما تمتلكه من عناصر قوة وإمكانات مكبلة تجاه ما يفعلونه، بل أكثر من ذلك، أن تتحول إلى أداة طيعة لهم في تنفيذ مخططاتهم التدميرية”، حيث تغلب عليها مظاهر الضعف والشتات والفرقة التي تزيدها وهنًا.
لكن المخطط كبير وكارثي ومدمّر كما يراه السيد القائد، وكما يجهله أو يتغافل عنه ملايين العرب والمسلمين. لهذا جاءت “الصرخة في وجه الاستكبار تجلٍّ لموقف مبكر في مواجهة المشروع الصهيوني مع مطلع الألفية الثالثة”.
ويمكن النظر إلى ذلك المخطط وتأثيراته في سياق تشخيص السيد القائد لحال الأمة، حيث “العدو يحول مئات الملايين من أبناء الأمة إلى أناس غير مستعدين لحمل البندقية لمواجهته ويجعلهم تلقائياً يضعون السلاح”، مع السعي الدؤوب لـ “قتل الروح المعنوية والدوافع لتجميد مئات الملايين من أبناء الأمة، وترسيخ الهزيمة النفسية لديها”.
هذا ما ظهر في نموذج القضية الفلسطينية كمثال، وما آلت إليه هذه القضية في الوجدان العربي الإسلامي. يقول السيد القائد: “عندما نتأمل واقع الأمة ما قبل 20 عاماً نجد اليوم ضعفاً كبيراً في تفاعل الشعوب مع القضية الفلسطينية. ذلك الضعف في التفاعل الشعبي مع هذه القضية، بحسب السيد القائد، “جرأ الأنظمة على أن تتخذ مواقف سلبية”.”
ولأن “العدو لا يهدف فقط إلى السيطرة الجغرافية على أمتنا، بل إلى السيطرة على الأفكار والثقافات والولاءات والعداوات”، فإن “الصورة النهائية التي يمكن أن نتصورها وفق المخطط الصهيوني هي السيطرة على مكة والمدينة ومساحة واسعة من البلاد العربية”. فهو يسير في مسار تصاعدي للوصول إلى غاياته الكارثية والتدميرية والاستباحة للأمة. ومن دلائل ذلك ما يحصل في غزة والضفة والقدس وفي فلسطين عمومًا وفي سوريا وغيرها، حيث تبدو تصريحات ترامب حول قناة السويس المصرية أحد كواشف “مشروع الاستباحة الذي لن يستثني أحدًا”.
في مقابل هذا استمر السيد القائد في كلمة اليوم في مخاطبة حالة الوعي العربي الإسلامي، حول مقومات الأمة الضخمة، والقدرات الهائلة، حيث الجغرافية المتنوعة والاستراتيجية بثقلها العالمي، والإمكانات الهائلة، والكتلة البشرية الضخمة التي تصل إلى ملياري مسلم… وهي إمكانات كفيلة بأن تمنح العرب والمسلمين المناعة والعزة، فهي ليست “أمة صغيرة، محدودة العدد، ضعيفة الإمكانات، محدودة الجغرافيا، يمكن للأعداء حسم المعركة معها بكل سهولة”؛ ولذا يؤكد السيد القائد أن “أمتنا تغفل عن مقوماتها وإمكاناتها وعناصر القوة فيها، بينما الأعداء يدركون حقيقة ذلك”.
وهو بهذا يحث الأمة أفرادًا وجماعات للنهوض، والأخذ بأسباب النصر ومواجهة مخططات الأعداء، إذ يبرز الدور اليمني في خطابات السيد عبد الملك كنموذج طليعي مقاوم يمكن للأمة البناء عليه للخروج من حالة الوهن التي هي سمتها الراهنة، في ظل أحداث متراكمة تشجع الأمة للمبادرة والأخذ بأسباب النصر وهزيمة العدو، كما يفعل اليمن اليوم مع العدو الأمريكي الغربي الصهيوني.