مصطفي بيومي.. الرجل الذي عاش بالكلمات ومات وحيدًا
تاريخ النشر: 10th, February 2025 GMT
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
فى لحظة صامتة، حين تتوقف الكلمات عن التدفق ويتحول الحبر إلى شاهد قبر، نفقد من كانوا يشيدون العوالم بالكلمات، ونجد أنفسنا أمام غياب ثقيل يفرض نفسه على الروح قبل الورق. اليوم نرثى الكاتب الكبير والناقد والأديب مصطفى بيومي، الرجل الذى عاش للأدب والنقد، وأعطى دون أن ينتظر مقابلًا، وترك وراءه أثرًا لا يُمحى فى قلوب تلاميذه وقرائه.
فى منشوراته، كان بيومى يكتب عن الوحدة، عن الليل الطويل الذى يتسربل بالذكريات، عن الكوابيس التى تزاحم الأحلام، عن الرجل الذى يتقدم به العمر لكنه لا يزال يحدّق فى رفوف المكتبة متسائلًا: "متى أقرأ كل هذه الكتب؟". لم يكن مجرد أديب، بل كان إنسانًا يحمل همّ العالم على كتفيه، ويمنح دفئه لمن حوله، حتى عندما كان البرد يتسلل إلى قلبه دون أن يشعر به أحد.
كان مصطفى بيومى مثالًا للإنسانية والعطاء، أستاذًا لجيل من الكتّاب الذين وجدوا فيه داعمًا حقيقيًا، ومرشدًا فى دروب الأدب الوعرة. لم يكن يومًا ممن يتصدرون المشهد الصاخب، لكنه كان حاضرًا فى القلوب والعقول، حيث تُصنع المعرفة الحقيقية بعيدًا عن الأضواء المبهرة التى لا تدوم.
تحدث كثيرًا عن الاستبداد والكهنوت وتحالفهما ضد الإنسان، لكنه لم يكن واعظًا ولا خطيبًا، بل كان مفكرًا يكتب بأسلوب يضع القارئ أمام مرآة الحقيقة. كان يرى أن التركيز على الدين دون الاستبداد السياسى خلل يعمّق الأزمة، وأن التقدم الحقيقى لا يتحقق إلا بتحرير العقول من القيود المفروضة عليها، سواء باسم الإيمان أو السلطة.
كان شتاء مصطفى بيومى شتاءً خاصًا. لم يكن مجرد طقس عابر، بل كان انتظارًا أبديًا لشيء ما، لحظة نقاء يطيح بسخافات الصيف وعكاراته. كان يرى نفسه يسير فى ليلة ممطرة، يغنى "يمامة بيضا.. ومنين أجيبها؟"، كأنما يبحث عن شيء فقده منذ زمن بعيد. وربما كانت الكتابة هى اليمامة التى كان يحاول أن يمسك بها طوال حياته.
وحيدًا عاش، ووحيدًا رحل. لكن الوحدة لم تكن نقصًا لديه، بل كانت اختيارًا واعيًا، موقفًا وجوديًا يليق بكاتب يرى الأشياء تتداعى من حوله، لكنه لا يزال متمسكًا بالحبر والورق حتى اللحظة الأخيرة. فى يومياته الأخيرة، كتب: "الحياة ماسخة المذاق، والبرابرة يغزون المدينة"، وكأنه يرثى هذا الزمن قبل أن يرثيه الزمن نفسه.
وكتب أيضا يرثى نفسه: يقول جيرانه بعد موته: "كان فقيرًا بائسًا ساذجًا، لكنه رجل طيب". ولكننا نقول: كان مصطفى بيومى أعمق من أن يُختزل فى كلمات بسيطة كهذه. كان أستاذًا، أديبًا، ناقدًا، وإنسانًا حمل فى داخله حبًا صادقًا للأدب والحياة، حتى وإن بدت الحياة أقل وفاءً له مما كان يستحق.
طوبى لمن يموتون وهم يكتبون، وقد كان مصطفى بيومى واحدًا من هؤلاء. رحل جسدًا، لكن كلماته باقية، شاهدة على رجل عاش بالكلمات، ورحل بها، تاركًا وراءه إرثًا لن يُمحى.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: مصطفى بيومي مصطفى بیومى بل کان لم یکن
إقرأ أيضاً:
مصطفى بيومي.. ناقد أنصف «المسكوت عنه فى الأدب والحياة»
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
مصطفى بيومى لم يكن مجرد أستاذ أو مفكر، بل كان ظاهرة ثقافية تعكس عمق الأدب والفكر العربي. أعماله وأفكاره لمست أجيالًا، وزرعت فيهم حب الأدب وشغف المعرفة.
مصطفى بيومى لم يكن مجرد ناقد أدبى وروائى بارع، بل كان صاحب رؤية ثقافية متفردة، استطاع من خلالها أن يعيد قراءة الأدب العربى بعين ناقدة تلتقط الجوانب المسكوت عنها، وتكشف عمق النصوص الأدبية. تميز بأسلوبه الرصين وتحليله العميق، فكان يذهب إلى ما وراء الكلمات، مستخرجًا ما تخفيه النصوص من دلالات ورؤى فكرية واجتماعية. لم يكن النقد عنده مجرد تحليل أكاديمى بارد، بل كان فعلًا ثقافيًا حيويًا يسعى إلى استنهاض الوعى وتحريك المياه الراكدة فى المشهد الأدبي.
لكن مصطفى بيومى لم يكن ناقدًا فحسب، بل كان إنسانًا بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ. كان صاحب قلب كبير ويد ممدودة دومًا لكل من يمتلك الموهبة ويحتاج إلى الدعم. آمن بأن الكتابة ليست مجرد مهارة، بل موهبة تحتاج إلى من يكتشفها ويرعاها، وكان هو ذلك الداعم الحاضر دائمًا، الذى لم يبخل بنصيحة أو توجيه. كثير من الكتّاب الشباب مدينون له، فقد كان الناصح الأمين، والمحفز الأول لهم، والمؤمن بقدرتهم حتى قبل أن يؤمنوا هم بأنفسهم.
على المستوى الشخصي، كان لى شرف العمل معه، والتعلم منه، بل والتقرب منه كأخ أكبر وأب روحى وصديق حقيقي. كان من أولئك الأشخاص النادرين الذين يتركون أثرًا عميقًا فى حياة من يعرفهم، ليس فقط بما يكتبونه، بل بما يغرسونه فى القلوب من قيم الحب والعطاء والإخلاص. ستظل ذكراه حيّة، لا فقط فى كتبه وإبداعاته، بل فى نفوس كل من عرفوه وتعلموا منه معنى الإنسانية قبل الأدب.
لطالما كان أدب نجيب محفوظ مرآة عاكسة للتحولات الاجتماعية والسياسية فى مصر، حيث عالج فى رواياته قضايا شائكة بأسلوب يجمع بين الواقعية والرمزية، ورغم كثافة الدراسات النقدية التى تناولت أعماله، لا تزال هناك موضوعات ظلت بعيدة عن الضوء أو لم تحظَ بالنقاش الكافي.. ولم يهتم النقاد بدراسة وتحليل أدب نجيب محفوظ مثلما اهتم مصطفى بيومى فأذدر العديد من الدراسات التى تناولت إبداعاته، ومن تلك الدراسات المهمة كتاب "المسكوت عنه فى أدب نجيب محفوظ" الذى يسعى إلى كشف القضايا المسكوت عنها فى أدب محفوظ، مسلطًا الضوء على الجوانب الجريئة التى طرحها الروائى الكبير فى أعماله.
على الرغم من كثافة التناول النقدى للكاتب الكبير، فإن عشرات الجوانب فى عالمه لم تحظ ببعض ما تستحقه من اهتمام وتحليل، ومن هنا تأتى هذه دراسة مصطفى بيومى التى تضم اثنين وعشرين بابًا، وتتناول بعض المسكوت عنه نقديًا.
يركز مصطفى بيومى فى كتابه على تحليل الموضوعات التى تجنبتها بعض الدراسات التقليدية، مثل علاقة السلطة بالمجتمع، وأدوار المؤسسة العسكرية والشرطة، إلى جانب قضايا اجتماعية حساسة كالقمار، والانتحار، والطلاق، والشذوذ الجنسي. ومن خلال هذا التحليل العميق، يكشف بيومى كيف استطاع محفوظ توظيف الأدب لمناقشة قضايا جوهرية بأسلوب يتسم بالذكاء والعمق، ما يعزز من فهمنا لمشروعه الإبداعى ورؤيته النقدية للمجتمع المصري.
يقول مصطفى بيومي، فى مقدمة موسوعته المهمة عن المسكوت عنه فى عالم نجيب محفوظ الروائية، «يمثل نجيب محفوظ قيمة مضيئة فى تاريخ الثقافة المصرية، والعربية والإنسانية، ذلك أنه يقدم نموذجًا فذًا للمثابرة والجدية والدأب من ناحية والتمسك بالتفاعل الإيجابى مع معطيات الواقع الاجتماعى دون إهمال التجديد الفنى من ناحية أخرى».
وتستحق هذه الموسوعة المهمة أن نعرض لها تفصيلًا لولا ضيق المساحة المتاحة، وهو ما سنحاوله فى أقرب وقت تقديرًا لروح أستاذنا الراحل الكبير.