البوابة نيوز:
2025-02-11@07:57:53 GMT

مصطفى بيومي.. عمود الإبداع والنقد

تاريخ النشر: 10th, February 2025 GMT

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

من يكتب لا يموت.. حقيقة ساطعة سطرها الأديب الكبير مصطفى بيومى الذى نسج كتابات فريدة فى تاريخنا الثقافى بفضل اعتناقه ثلاثية عملية صارت مفاتيح شخصيته النبيلة وتضم "الجدية" و"الدقة" و"النظام".. وهى الثلاثية التى كان لها الفضل فى سطوع إنتاجه الغزير على الرغم من حالة الإحباط العامة والتى كان لها أثر مدمر على توقف عدد كبير من المشروعات الفكرية لمحاربين آخرين، لكن مصطفى بيومى بما يملكه من أبعاد فلسفية ومباديء صارت نادرة قاوم حالة التردى بالاستمرار وقاوم الإحباط بالعمل الجاد، وقاوم روح الغش الأدبى بمزيد من الإبداع الفارق وقاوم التجاهل بالتواجد المنحوت على مسلة التاريخ المصرى.

. كنت أتالم دائمًا وأنا أراقب إعلان جوائز الدولة فأجد أسماء تتباهى بالفوز بها فى حين أن ما قدمته لا يساوى نقطة فى بحر مما سطره مصطفى بيومى ببراعة وصبر واتقان وتفانٍ عجيب.. فهل هذا هو الوعد المكتوب على كل من يعمل بإخلاص بدون شلة ثقافية تحمى ظهره ولا نفاق يحجز له مكان فى الصفوف الاولى ولا معارف يطرحون اسمه؟. إنه واقع غريب نعانى منه لكن مصطفى بيومى لا يشكو ولا يبكى ولا يتراجع وظل مؤمنًا بالقارئ.. القارئ فقط هو من يستحق أن تخلص له وتقدم أفضل ما عندك فهو صاحب الفضل الوحيد.. لذلك لابد أن يعمل لأجله لينير له الطريق بقوة الكلمة التى تتشابك مع عقله ومجتمعه فتتحدى أقسى عدو للبشر أجمعين "الموت".

تفرد أديبنا الكبير فى كتاباته وخاض طرقًا مجهولة منها كتاباته التحليلية لأعمال كبار الأدباء الإبداعية وهى التى تدخل تحت مجال علم الانثربولوجيا الثقافية فنتيجةً للتطور الكبير فى العلوم الإنسانية فى بدايات القرن العشرين، اتسعت مجالات الدراسة فى الأنثروبولوجيا الثقافية، فأصبحت تشمل ثقافة الإنسان الحديث، والإنسان المعاصر، الذى يعيش حياته بطريقة متمدنة وصناعية، تسودها التعقيدات الاجتماعية والثقافية، والذى لا يكتفى بما هو ضرورى للحياة، بل يسعى إلى تحقيق الكماليات. ومن مجالاتها الدراسات الأفقية والمتزامنة وهذه الدراسات تتميز بالمقارنة، فهى دراسات أنثروبولوجيا تستنتج الفروقات بين الثقافات المتباينة. والدراسات التتبعية وهى دراسات رأسية تهدف إلى تتبع نمو الثقافات والطريقة التى أدت إلى النتاج النهائى لهذه الثقافات. وتجد فى كتابات مصطفى بيومى التى تجاوزت مفهوم النقد الأدبى صدى واسع لهذه الدراسات ومنها على سبيل المثال كتب "عصير الشخصية المصرية.. قراءة فى رباعيات صلاح جاهين" و"الفلاح والسلطة فى أدب يوسف القعيد" وشخصيات "الملك فاروق وجمال عبد الناصر والسادات وسعد زغلول وأم كلثوم فى الأدب" وكتابه "ظاهرة الحجاب.. قراءة فى الرواية المصرية" وكتاب "وطنيون.. وطائفيون شخصيات مسيحية فى الأدب المصري"، وغيرها الكثير فقد امتلك قدرة هائلة على التحليل المعرفى والمقارنة الاجتماعية والنقد السياقى وبرزت أعماله المنحوته رأسيًا وأفقيًا وأنت تقف أمام هذه المؤلفات الضخمة التى تعجز عن إنتاجها مؤسسات كاملة وتندهش بالفعل من قدرة شخص على تقديم كل هذا الكم والكيف فمؤلفاته عن نجيب محفوظ وحدها لم تنتجها أقسام كليات الآداب فتصرخ وأنت تقرأ "ياللعظمة".

والأن وبعد رحيل مصطفى بيومى عنا بالجسد فقط.. هل تشعر المؤسسات الثقافية والهيئات التى قصرت فى حقه فلا تكتفى بالرثاء والعزاء وتعمل على تكريمه بعمل حقيقى؟ فالفرص مازالت سانحة ومن ذلك اختيار اسمه ليكون شخصية معرض القاهرة الدولى للكتاب فى دورته القادمة وإقامة المحاور والندوات للتعريف به وبانتاجه الضخم وإصدار مؤلفاته فى سلسلة الأعمال الكاملة أو فى طبعات شعبية عن الهيئة العامة للكتاب أو عن هئية قصور الثقافة وإطلاق اسمه على أحد شوارع المنيا أو بنى مزار.. الرجل يستحق الكثير لأنه بالفعل قدم الكثير.

 

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: مصطفى بيومى ب مصطفى بیومى

إقرأ أيضاً:

مصطفي بيومي.. الاستثنائى الجميل الذى ندين له كُتابًا وقُرًاء ومُثقفين

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق أنصف جيل الرواد ورد اعتبار المنسيين ورسم خرائط لقراءة الإبداع فى مئة عام

 لم تصدمنى المُباغتة المُرة. كُنت أنتظرها بتوجس مَن يُدرك مآلات المبدعين الإستثنائيين. مَن يتحمل كُل هذا القُبح؟ كُل ذاك الوجع؟ الأحلام المُنكفئة، والأمانى البسيطة المُنكسرة، والإحباطات الوطنية، والصدمات فى البشر سلوكا وعقولا ومشاعر؟ مًن يمتلك رهف الحس، فلا ينفجر ضجرًا من تكالب الجراد على حقول الورد؟ من يسكُن ويصبر ويتقبل تمدد ميليشيات الظلام وانحسار الأوطان!

كُنت على يقين أنَّ إنسانا مُختلفا رُقيًا وخُلقا، ومُبدعا مهموما بالناس، ومُفكرا مُنشغلا بالقادم، وقلبا قابضًا على الخير مثل الأستاذ مصطفى بيومي، لا يُمكن أن يبقى صامدًا فى هذا الزمن بأوجاعه وهزائمه. فالانتصار الوحيد على القبح هو مُخاصمته، الفرار منه، الافلات من حياة كالموت، بل أقسى. 

لذا لم تذبحنى عبارة صديقتنا حنان أبو الضياء عبر الهاتف تسألنى فجأة، إن كُنت أعلم أن الأستاذ مصطفى بيومى رحل قبل دقائق. لم أجب، وإن كان عقلى الباطن يُكرر فى تفهم "أعلم وأتوقع وأترقب" فمثله يُراهن على الانتصار دوما، وينتصر، وانتصاره الوحيد فى الوقت الآنى هو فى النجاة من حياة ماسخة، مُكررة المشاهد، بليدة الحس، مليئة بالأشرار والخبثاء والقتلة السريين. 

استرجعت عشرات العبارات المُرة التى صاغها خلال السنوات الأخيرة بإزميل نحات مُتقن وهو يُكرر سعادة الموتى وحسرةالأحياء، فمن مات نجا، ومن رحل ليس له ولا عليه فقد فاز. يقول مثلا "الحياة لم تعد تروق لى / أراها ماسخة بلا مذاق./ على حافة النهاية أبوح لكم بخلاصة الحكمة:الموت وحده راحة من كل شر".

ويكتب أيضا: "فى عطلة نهاية الإسبوع يغادر الموتى قبورهم/ لكنهم يعودون سريعًا/ فالحياة خارجها لا تُحتمل".

وهو لا يخاف الموت ولا يفر منه، لأنه بيقين يُدرك كُنه الحياة وخلاصاتها، فيذكرنا قائلا "احرص على الموت/ أو لا تحرص على الموت/ ستموت).

طالت أحزان المُبدع الحالم مع انكسارات شتى، فرأى وطنًا يُكرر خطاياه، وبشرًا يسايرون القطيع، ومُجتمعا يُغلق كل نوافذه، وأمانى تتبدد كل يوم. يكتب حزينًا: "يزورنى النفرى بلا موعد/ أرى فى عينيه دموعًا/ يهمس فى خجل معهود: كم أنتم جديرون بالشفقة يا ولدي/ تعيشون فى سيرك يُسمى وطنًا".

ربما باغته الشعور الذى يزور كلأ مُبدع مرات ومرات رافعًا سيف التساؤل الموجع عن جدوى الكتابة فى مُجتمعات كسيحة قابعة فى كهوف التعصب والآحادية ومخاصمة العلم والفن، فجرّب الإنزواء، والزُهد، والترفع، والتصق بحروفه ونصوصه وتأملاته، مكررا أنه ليس أفضل من الشعور بالرضا بكل نعمة وأى نعمة إلهية. يكتب عن ذلك "عندما يشتد بك الظمأ/ اشرب عصير الرضا مع مولانا النفري". 

وهذا ما كان يُكرره لى بايمان خالص خلال لحظات البوح التى كانت تعزلنا عن أوجاعنا المُحيطة، فكل ما يتمناه هو فنجان قهوة، فى نهار شتوي، يسمع فيه الست تُشدو، أو كوب شاى فى ليلة مُقمرة يشاهد فيها فيلما عظيما أو يقرأ رواية ماتعة. كان كُل ما يحلم به هو أن يُمسك بلحظات جمال وصفاء ونقاء، فقد عاش عُمره يكره الحروب الوحشية، وينفر من أحزان البشر، ويستاء من البطولات الكاذبة، وينزعج من وصلات النفاق، وادعاءات التدين الشكلي، ويأنس بالمطر الشتوى وهو يغسل خطايا البشر وعكارات الحياة.

كُنت محظوظا بمشاركته لى أفكار مشاريعه التالية، واحدا تلو آخر. كان يُفكر فى العمل القادم قبل أن يخُط حرفًا منه ويُحدثنى عنه بحب ويقين بأنه سيرى النور. سمعت منه عن روايته البديعة "أمير المؤمنين" وهى محض أفكار مُستنبئا مُبكرًا بقدوم أوصياء السماء وهيمنتهم على الناس وعصفهم بكل جميل. عرفت منه خطوط مشروعه الفذ عن المسكوت عنه فى أدب نجيب محفوظ، وشخصيات روايات نجيب محفوظ، وشخصيات يحيى حقي، ويوسف إدريس، وعلاء الديب وهى تتأرجح فى عقله. أنبأنى عن حلمه الجميل برواية العمر "يوميات سعد عباس" التى تتجاوز الألف صفحة يُقدم فيها خلاصات مثقف مستقل معنى بالقيمة الجمالية والمعرفة والوسطية بعيدا عن السلطة والنفوذ والانتهازية السائدة، وعشنا فرح القراءة قبل النشر، وبعده عندما تحمست دار غراب لانجاز هذا العمل العظيم.

تناقشنا معًا فى كون الأدب مرآة البشر والأزمنة والتحولات السياسية الكبرى، وغيرت أفكاره وتصوراته زوايا تعاملى مع الابداع وطرق تذوقه. فهمت أكثر دون تعجل سر تفرد نجيب محفوظ وتفوقه على جميع كُتاب مصر والعالم العربي، بسمو روحه، وصدقه الإنساني. تدبرت أعمالا ساحرة وفذة لمبدعين كبار لم أكن قد عرفتهم حق المعرفة مثل عبد الرحمن منيف، وحنا مينا، وعبد الحكيم قاسم، ووعيت دوافع افتتانه بصلاح عبد الصبور، وصلاح جاهين، والنفرى ونزعاته الصوفية.

رأيته مكتبة تسير على قدمين، تسأله عن أى مرجع فيجيب بدقة وتفصيل وترتيب كما لو كان يكتب دراسة علمية، وتستفسر منه عن أى شأن فى الثقافة العامة، فيرد باستمتاع حقيقى كونه يقوم بنقل المعرفة إلى الآخرين. 

كان فذا واستثنائيا بما حمله من طاقة ابداع لا حدود لها وقدرة على انتاج الأفكار تلو الأفكار باخلاص مُصلح يتوق إلى الجمال. ومنه تعلمت تفكيك كُل نص، واستنطاق شخوصه، والقدرة على الإمساك بجوانب الجمال والسحر، وتلمس مواطن الضعف، وكيفية الاشتباك والاتفاق مع النص وصاحبه. 

فى جلسات عديدة رأيت رجلا مُختلفًا، يقدم على نصيحة مًن يعرف ومًن لا يعرف متى استشاره أحدهم فى نص ابداعي. التمست مع ذلك تواضعًا غريبا يجعله يُكرر عند اختلافه مع محدثه عبارة تنم عن أدب جم يقول فيها إن رأيه، الذى هو يحتمل الصواب والخطأ كذا وكذا وكذا. علمنى النفور من "أفعل" التفضيل، وحرضنى على الفرار من التعصب لمبدع أو شخص مهما كانت محبته فى قلبي. كان مع ذلك لا يخضع لتيار جارف أو يُساير قطيعًا تحت أى ذريعة، وظل موقفه الناصع والواضح من كل سلطة مُستبدة بمثابة حجر الزاوية فى تقييمه للأزمنة. وربما كان هذا واضحًا جدا فى خصامه العتيد والقوى لنظام عبد الناصر، ليس فقط بما مارسه من سياسات بطش وقمع وقهر، وإنما لأنه كان مَن غرس البذرة الأولى، وأسس لبنيان الظُلم لتنجرف قيم الجمال والابداع والتنوير مع الحريات التى تعرضت للتجريف. كان كثيرا ما يذكر الحاكم القاهر الباطش بالمختلفين معه بعبارة نجيب محفوظ الأثيرة بأننا "أمام رجل مجنون وفى يده مسدس"، وهو من أشد الناس مقاومة للانبطاح الثقافى أمام السلطة، وروايته الأخيرة "يوميات سعد عباس" خير مُعبر عن ذلك. 

وعلى مدى عشرين عاما عرفته فيها واقتربت منه ـ ربما بُحكم تقارب الأفكار والرؤى والإيمان بالجمال ـ لمست فيه فضيلة الانصاف بقدر زائد عن كل حد. وربما كانت كتبه ودراساته العديدة التى تجاوزت الثمانين مؤلفا، قد ضمت أكثر من نصفها عن ابداعات غيره ليكون المُنصف الأول بأدباء مصر روادا، وشيوخا، وكهولا، وشبابا، فقد قرأ كل الأجيال ودقق فى النصوص، وأنصف مًن يستحق الانصاف، لذا فجميع الأدباء فى مصر مدينون له بتوثيق ما دونوه وتنويره وتصنيفه. وإذا كانت وفاة الشاعر حافظ إبراهيم، والمعروف بالمراثى العظيمة للمبدعين والعظماء قد دفعت معاصره أمير الشعراء أحمد شوقى أن يرثيه ببيت شعر خالد يقول "قد كُنت أوثر أن تقول رثائي/ يا مُنصف الموتى من الأحياءِ"÷ فإن مصطفى بيومى عاش مُنصفا للموتى والأحياء معًا.

قبل يومين من رحيله، طافت فى رأسى أغنية تراثية قديمة كان الأستاذ مصطفى بيومى يحبها، وقد اختارها كخاتمة لإحدى رواياته تقول "يمامة بيضا، ومنين أجيبها / راحت يا عينى عند صاحبها"، وشعرت بأننى فى شوق شديد للقاءه. هاتفته وسمعت صوته واهنًا، وأخبرنى أن صحته تمام. وكررت استفساري، ليرد حامدا الله. سألته عن لقاء لازم، وقال بصوتٍ واهن"سنلتقي"، واتفقنا على السبت القادم فى الثامن من فبراير. وشعرت برضا عجيب، وسعادة غامرة، فقد مرت شهور طويلة على آخر لقاء. لكن يبدو أنه غيّر رأيه فجأة، ثُم غيّرعنوانه تماما، وغادر إلى موعد آخر، وإن ظل ساكنا فى قلبي، وقلب كُل إنسان عرفه أو قرأ كلماته. فكما قال "طوبى لمَن يموتون وهُم يكتبون".

مقالات مشابهة

  • مصطفى بيومي.. وداعًا شجرة الصنوبر
  • عبد الرحيم على يكتب: مصطفى بيومي وشغف الذاكرة
  • مصطفي بيومي.. الرجل الذي عاش بالكلمات ومات وحيدًا
  • محمود حامد يكتب:  مصطفى بيومى.. الحاضر دومًا رغم الرحيل
  • مصطفى بيومى.. المتناغم بين الحكمة والعفوية.. المتخلى عن شهوة الاقتناء
  • مصطفي بيومي.. الاستثنائى الجميل الذى ندين له كُتابًا وقُرًاء ومُثقفين
  • مصطفى بيومي.. ناقد أنصف «المسكوت عنه فى الأدب والحياة»
  • حوار أخير مع مصطفى بيومي
  • عادل عبدالرحيم يكتب: مصطفى بيومي رحيل بالجسد وخلود بالذكرى