البوابة نيوز:
2025-02-11@08:28:09 GMT

مصطفى بيومي.. مثقف عضوي ارتبط بالمجتمع

تاريخ النشر: 10th, February 2025 GMT

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

هناك فى جزء من قلبى يختبئ بعض الأحباء تنبت محبتهم كما ينبت العشب بين مفاصل صخر، بريق محبتهم لا يختفى ورائحة عبق ذكرياتهم تفوح فى ذاكرتى وطعم العشق الإلهى لا يغيب عني، هناك فى منزل عتيق كان منزل مصطفى بيومى بالمنيا، كان الدرج يقودنا إلى أعلى ذروة الثقافة فى ظلال الحب والحزن والثورة كنا نلتقى ومعنا باقى أضلاع المربع عادل الضوى وعبدالرحيم على فى جلسات أقرب للصلاة العقلية نروى بها وجداننا.

ونعود بالزمن والذكريات لعام ١٩٨٧ حينما عدت من روسيا ذاهبًا إلى مدينتى "المنيا"، كانت المنيا بالفعل «إمارة الإرهاب» بحثت عن مكان قد أجد فيه مستنيرين يقاومون الإرهاب بالأدب والشعر والفن، كان قصر ثقافة المنيا ما زال فى ميدان عبدالمنعم الشرقى بقصر لأحد باكوات مصر الملكية حسن بك سلطان، فى إحدى القاعات كان الشعراء يلقون قصائدهم، لفت نظرى شاعر شاب يلقى قصيدة ذات طابع ثورى، بعد اللقاء تعرفت عليه عبد الرحيم على، كان هذا الشاعر الشاب مفتاح اللقاء مع مجموعة متفردة من استخدام الثقافة فى مقاومة الإرهاب، واصطحبنى إلى الطابق الثانى من منزل فى شارع مصطفى فهمى وبجوار المطافئ، حيث كان يقيم فى ذلك الوقت.

انفتح الباب، شاب فى ثلاثينيات العمر يحمل رأس فرعونية وعينين مضيئتين كعيون شخوص الفيوم، رحب بنا وكان صاحب المنزل مصطفى بيومى وعرفنى على باحث فى الأدب عادل الضوى، لم أكن أدرى أن هذه الشقة هى منبع نهر المقاومة الثقافية ومحراب تلاقى المثقفين الذين يحلمون بالمعرفة وتلمس الطريق للكتابة الأكاديمية إلا أن اختيارات مصطفى لهم كانت تجذبهم للبحث عن التغيير من خلال الأدب واختيار الدراسات الأكاديمية كطريق للاستنارة.

ولا يبعد منزل مصطفى بيومى كثيرا عن مسجد سيدنا الفولى وكنيسة مار جرجس فتجمعت فيه كل معانى مصر وأبعادها وفاضت تلك الأبعاد فى أدبه وكتاباته.‎

حتى الآن كلما مررت على هذا المكان أتذكر قول الشاعر إبراهيم ناجى: "هذه الكعبة كنا طائفيها والمصلين صباحًا ومساء.. كم سجدنا وعشقنا الحسن فيها كيف بالله رجعنا غرباء"، مصطفى بيومى ابن لأب شاعر من البهنسا، قرية بالمنيا.. تعد قبلة العاشقين من مختلف الدول لأنها دفن بها ٥ آلاف صحابى غربا بجوار مسجد «على الجمام» حيث تقع جبانة المسلمين التى يوجد فيها وحولها عدد كبير من القباب والأضرحة التى تنسب للصحابة والتابعين والعلماء الذين زاروا البهنسا.

أتذكر لقائى مع الكاتب والشاعر العم بيومى ١٩٨٨ وأجريت معه حوارًا لمجلة "أدب ونقد" وكيف كتب نشيد المنيا وبه: "ومن البهنسا موطن الشهداء.."، من ذلك الرحم الذى يضم مصر الفرعونية والقبطية والإسلامية تشكل وعى مصطفى مثل الحجر الكريم كلما سقط على شعاع ضوء يعكس لونًا مختلفًا فهو كاتب وناقد وروائى وشاعر وفنان ومفكر، ورغم أن من الملاحظ أن مصطفى يحب الأدب الروسى خاصة تشيكوف فى جزالة لغته ومخزون الحزن، إلا أنه فى رقة أسلوبه العاطفى أقرب إلى الروائى الروسى إيڤان سيرجييفيتش تورجينيف.

كان إيفان تورجينيف مشهورًا عالميًا بكتابة الرواية والمسرحيات والقصص القصيرة والشعر، ومن أعظم أعماله القصصية مجموعة قصص قصيرة بعنوان مذكرات صياد وهى تمثل ركن الروايتين الروسية الواقعية، وكما تعد رواية الآباء والبنون من أعظم روايات القرن التاسع عشر، نجد ذلك التشابه بين مصطفى وتورجينيف فى التفاصيل المكانية وربطها بالطبيعة والواقع.

كما أن مصطفى بيومى كناقد موسوعى كنت أرى فيه الناقد الروسى الموسوعى بلينسكى، فى نظريته الأدبية "الأحلام الأدبية" حيث كان مصطفى مثل بلينسكى يفتش فى أعماق النص ويبحر فى أعماق روايات نجيب محفوظ وغيره مما كتب عنهم ويتطابق مع بلينسكى فى نقده فيما يتطلب من الرواية أو الدراما أن تعكس عادات الجمهور العامة ومفاهيمه ومشاعره.

أما إذا اقتصرت على تصوير مجتمع الطبقة العليا فإنها تظل وحيدة الجانب وقد ظهرت الروح الشعبية وبداية الاتجاه الشعبى فى الأدب عند مصطفى فى شعره كما تم مع بلينسكى، وكما حلل بلينسكى الأدب الروسى فى القرن الثامن عشر حتى ثلاثينيات القرن التاسع عشر انطلاقا من مبدأ الشعبية، حلل مصطفى بيومى الرواية المصرية والعربية حتى نهاية القرن العشرين واستند فى ذلك على فكرة ظهور الأصالة الأدبية المنبثقة من أساس شعبي، فأدى به طرح السؤال من هذه الزاوية إلى نفى وجود أدب قومى أصيل. وهكذا جمع مصطفى بين الأسلوب الوجدانى لتورجينف وعبقرية النظرية فى النقد الأدبى الموسوعى لبلينسكى.

نعود إلى المنيا والسيرة البيومية، كان مصطفى بيومى هو رأس مثلث المقاومة المكون من أضلاعه عبدالرحيم على وعادل الضوى، مئات الباحثين وطلاب الأدب كان يحجون إلى ذلك المنتدى ما بين البيت ومكتبة "شعاع" التى أسسها مصطفى إضافة إلى أول دار نشر بالمنيا فى زمن الإرهاب تحت اسم "بداية" التى أفلست بعد طبع كراسات بداية والتى كان منها أول ديوان شعر للشاعر الشاب عبد الرحيم على، ولم تكن هذه الآليات سوى واجهة لنشاط سياسى يقوم على تغيير الوعى والاستنارة لمواجهة الإرهاب. منذ ١٩٨٨، انضم مثلث مصطفى وعبدالرحيم وعادل إلى حزب التجمع.

كان مقر التجمع مجاورًا لمسجد الرحمن مقر الجماعة الاسلامية، وكان مركز الجزويت الثقافى الذى كان يشغل مصطفى مستشاره الثقافى فى مواجهة مسجد الرحمن أيضًا. جذب مصطفى أغلب مثقفي وفناني مصر مثل أسامة أنور عكاشة وآخرين فى ندوات جمعت المئات من الشباب وساعدت فى تكوين الوعى لهم، هكذا كان مصطفى بيومى "مثقف عضوى" على غرار ما كتب المفكر الايطالى "جرامشى".

ولم تخل دراساته الأكاديمية من علاقة الأدب بالتغيير، وحصل على ماجستير الصحافة عن رسالة "الكتابات الصحفية ليحيى حقى وقضايا التغير الاجتماعى فى مصر".. فخور بمعرفة مصطفى بيومى وأشكره على قدر ما تعلمت منه.

 

 

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: الكاتب مصطفى بيومي مصطفى بیومى

إقرأ أيضاً:

مصطفي بيومي .. الإنسان قبل الكاتب

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

فى مساء الأحد، ٢ يناير، رحل عن عالمنا الكاتب الصحفى والأديب والناقد مصطفى بيومي، بعد صراع مع المرض، تاركًا وراءه إرثًا غنيًا من الكتابات التى أثرت الصحافة والأدب العربي. لم يكن مجرد كاتب يملأ الصفحات بالحروف، بل كان روحًا تحب الحياة، تتأملها، وتكتب عنها بصدق وحب وحنين.

تشرفتُ بالعمل معه لأكثر من عشر سنوات، عرفتُه فيها إنسانًا قبل أن يكون كاتبًا، كان حنونًا، حساسًا، ناصحًا، وصديقًا حقيقيًا لكل من عرفه. لم يبخل أبدًا بنصيحة أو كلمة طيبة، ولم يكن يومًا مجرد رئيس فى العمل، بل كان أبًا وأخًا قريبًا للقلب.

كان للشتاء مكانة خاصة فى قلب مصطفى بيومي، كان يرى فيه دفئًا خاصًا رغم برودته، ربما لأنه فصل التأمل والهدوء، حيث يمكن للكاتب أن يختلى بأفكاره ويبوح بها على الورق. أما الموسيقى، فكانت السيدة أم كلثوم هى صوته المفضل، صوت يحمل عبق الماضى ورقى الفن، صوت يعبر عن مشاعره كما لو كانت كلماته.

لم يكن يمر يوم دون أن يحتسى قهوته المفضلة، كانت رفيقته الدائمة، تمامًا كما كان القلم والورق رفيقيه فى كل لحظة. لم تكن الكتابة مجرد مهنة له، بل كانت حياة، وكان يجد فى كل صفحة بيضاء عالمًا جديدًا يسكنه بإبداعه وأفكاره.

كان يعشق أدب نجيب محفوظ، كتب عنه كثيرًا، ناقش أعماله، وتعمق فى شخصياته، وكأنه كان يبحث فيها عن نفسه، عن فلسفته الخاصة، عن حبه للحياة رغم قسوتها. لم يكن مجرد ناقد لأعمال محفوظ، بل كان محبًا لها بكل تفاصيلها.

حتى فى أصعب لحظات مرضه، لم يستسلم مصطفى بيومي، ظل ممسكًا بالقلم، يكتب رغم الألم، يواجه الحياة بالكلمات، كأن الكتابة كانت علاجه، أو ربما كانت طريقته فى مقاومة النهاية.

كان إنسانًا نادرًا، صديقًا حقيقيًا لم يبخل يومًا بالنصيحة، حتى فى أدق تفاصيل حياتي. لم يكن يسأل عنى من باب المجاملة، بل كان اهتمامه صادقًا، نابعًا من قلب رقيق، كان دائم السؤال عن أحوالي، حاضرًا فى كل لحظة، يشاركنى الأفراح ويدعمنى فى الأوقات الصعبة.

كان يملك قدرة نادرة على الاستماع، وعلى أن يمنح كلماته طاقة من الأمل والتفاؤل، حتى فى أشد اللحظات قسوة. لم يكن مجرد رئيس عمل، بل كان أخًا، سندًا، شخصًا تعرف أنه مهما أبعده الزمن سيظل هناك، يسأل، يهتم، يشاركك همومك وكأنه يحمل جزءًا منها عنك.

رحيله ليس مجرد غياب، بل هو فراغ لن يُملأ، هو فقدان لصوت اعتدت سماعه، ولروح كانت دائمًا قريبة، تطمئن وتسأل وتمنح دون انتظار مقابل.

كان دائمًا أول المهنئين لى بعيد ميلادي، لم ينسَ يومًا، كان صوته يأتى محمَّلًا بالدفء، وكلماته تسبقها مشاعر صادقة لا تزيفها المجاملات. لكنه هذا العام لم يستطع، كان المرض قد أنهكه، وعندما حاولت الاتصال به لتهنئته بعيد ميلاده يوم ١١ ديسمبر، لم يكن قادرًا على الرد.

ولكن ردت عليَّ ابنته "نهى"، بصوت هادئ يحمل بين طياته الكثير، قالت لي: "بابا صوته تعبان ومش قادر يتكلم"، شعرت حينها بوجع لا يمكن وصفه، لكنه لم يكن وجع الغياب بعد، بل وجع العجز، أن أكون معتادة على سماع صوته فى هذا اليوم ولا أسمعه، أن أقول له "كل سنة وأنت طيب" ولا يرد عليَّ بنفس الحماس المعتاد.

لكننى لم أشأ أن أثقل عليه، كل ما استطعت قوله: "أنا بس بسأل عليه وعلى صحته، وبهنيه بعيد ميلاده.. ربنا يخليه لينا ويمد فى عمره وصحته." كنت أتمسك بأى أمل، بأى فرصة لأن يتجاوز المرض، لكنه كان أقوى هذه المرة، أقوى من كلماته، أقوى من صوته الذى أحببناه جميعًا.

رحل مصطفى بيومي، لكن روحه الطيبة ستظل باقية، صوته سيبقى يتردد فى ذاكرتي، وذكراه ستظل تعيش معى فى كل لحظة كنت أنتظر فيها اتصاله. 

رحمك الله يا أستاذ مصطفى، لن يكون عيد ميلادى كما كان بدونك، ولن يكون يوم ١١ ديسمبر مجرد تاريخ بعد الآن، بل يومٌ سيذكرنى دومًا بصديق كان يعنى لى الكثير، وستظل كلماتك وذكرياتك ونصائحك جزءًا لا يُمحى من حياتي.. رحمك الله يا أستاذ مصطفى، كنت كاتبًا عظيمًا، لكنك كنت إنسانًا أعظم.

مقالات مشابهة

  • مصطفى بيومي.. وداعًا شجرة الصنوبر
  • اقرأ غدًا في «البوابة»| راهب في محراب الأدب.. باقة حب إلى روح المبدع الكبير مصطفى بيومي
  • خالد عبدالرحيم يكتب: مصطفى بيومي.. حين تنطفئ الشموع ويبقى النور
  • محمود حامد يكتب:  مصطفى بيومى.. الحاضر دومًا رغم الرحيل
  • مصطفى بيومى.. المتناغم بين الحكمة والعفوية.. المتخلى عن شهوة الاقتناء
  • مصطفي بيومي .. الإنسان قبل الكاتب
  • مصطفى بيومي.. ناقد أنصف «المسكوت عنه فى الأدب والحياة»
  • فى محبة راهب الأدب مصطفي بيومي
  • فى وداع مصطفى بيومي