مع أحمد هارون في الفكر والذكر والحركة
تاريخ النشر: 10th, February 2025 GMT
علي الطريق ..
مع أحمد هارون في الفكر والذكر والحركة
الدكتور فضل الله أحمد عبدالله
1
السودانيون أبعد الناس عن الإحتفاء بالأحياء مهما قدموا من أفضال ، يحكي الروائي الطيب صالح في هذا الشأن قائلا :
( وهكذا اجتمعنا لتأبين صلاح أحمد إبراهيم في باريس ، ثم في أصيلة في المغرب ، ثم منذ أيام في لندن .
احتشد السودانيون كعادتهم في الحفاوة بالموتى والأحياء ، وهم بالموتى أشد حفاوة .
وقد نوه الدكتور خالد الكد ، الذي كان يقدم المتحدثين ، أن السودانيين يؤخرون الثناء على الإنسان إلى ما بعد وفاته ، ويقولون ” إن شاء الله ربنا ما يجيب يوم شكرك ” أي أنهم يدعون له بطول الأجل ) ..
بيد أنني دأبت كل حين وآخر ، أن لا أضن عن الكتابة الساردة لحياة الأشخاص الأحياء ، الذين – كانوا ولايزالون – يمشون بمواهبهم وقدراتهم في البلاد بكثير من الحكمة ، والرشد والهدى .
تجوالا هادئا في أمكنتهم ، ارتحالا إلى أزمنتهم وتقلباتها عليهم ، بحثا في طبائعهم وأمزجتهم ،
والروافد المكونة لشخصياتهم .
والتاريخ أحد أبرز الأعمدة التي أستند عليها ، أعني تاريخ مواطنهم ، وبيئاتهم الإجتماعية ، وعوائلهم على السواء .
فامزج الخاص بالعام ، ويكون الأول محفزا للحديث عن الثاني ، كما أن الثاني طريقا سالكا للسرد عن الأول .
فيلتقي الذاتي بتجلياته الغنائية ، والفلسفي مغمورا بالعاطفة البشرية .
بحثا في الدواخل ، ومنحوتات الأفكار ، سياسي كان أو شاعر ، أو روائي ، أو ، كائن من كان من أهل الفكر والعلوم .
وهذا ياقارئي ، يرعاك الله ، نوع من الأدب ، يعرف بفن كتابة ( السيرة الذاتية ) .
أن يبدأ الكاتب مقالته ، كحدث موحي ، مثلما تبدأ كل القصص الشاحذة للأذهان .
أن تكون الكتابة ، عملية كشف للذات الإنسانية أولا ، بكل ما يكتنف هذه الذات من غموض والتباس ، وبكل ما يتداخل من إيجابيتها ، ونقائصها وتناقضاتها وتعقيداتها وجمالها الكائن .
وكثيرا ما يسألني ، بعض القراء عن خطر العاطفة ،
في هذا الإسلوب الكتابي ، أليس هذا طريق يجر إلى مصائد الإنحيازات المقيتة .
فأجيب مستحضرا وقتها قول ( بول اوستر )
وهو يجيب مرة لمثل هذا السؤال قائلا :
من دون تيار العاطفة ،
لا يمكن الكاتب في رأيي أن يسكن شخصياته ،
أن يصبح هذه الشخصية أو تلك عندما يكتب عنها .
فإذا كان الكاتب يجد شخصا منفرا ،
أو جديرا بالكره ،
لن يسعه أن يكون عادلا إزاء إنسانية ذلك الشخص .
صحيح أن في واقع الناس وحوشا بالمعنى الأخلاقي والسلوكي ،
ولهم كتابهم الذين خلقوا لأجلهم .
لكني أحرص أن يكون لشخصياتي وجه إنساني مشع ، يضيئ دهاليز هذا العالم .
تأسيسا على ذلك المعنى أجد لنفسي حافزا قويا لكتابة هذا المقال الذي وسمته باسم :
( على الطريق مع أحمد هارون في الفكر والذكر والحركة )
2
سيرة أحمد هارون بقدر ما هي شيقة ، فهي شائكة بأطياف الإثارة ، وغنى الحكايات ، القمينة بخلق أكبر عدد ممكن من نوافذ الكلام المشرعة على بعضها البعض ، السياسي منها على الإجتماعي ، والمحلي على الدولي .
فهو سلسلة من القصص ، فكرا وثقافة ، ومدرسة متفردة في السياسة وفن القيادة ، والعمل التنظيمي المتقد داخل أطر الحركة الإسلامية السودانية .
كما هو الأعلى ذكرا بين أقرانه – منذ بواكير صباه – في مدينة الأُبَيِّض التي ولد فيها بتاريخ ( 1 يناير 1964م ) .
نشأ وترعرع في كنف أب فقيه ، عالم بإصول الدين ،
باذخ في استنارته ،شيخ عابد زاهد ، وداعية خير وصلاح ، اسمه : ( محمد هارون محمد ) .
ﻭمن ﺗﺤﺮَّﻯ ﺃﺧﺒﺎﺭ تلك العائلة الكريمة ،
عرف ﺃﻥ ﻛﻼ ﺍﻟﺮﺟﻠﻴْﻦ – الأب محمد – بوقاره وعلمه وصلاحه وابنه أحمد صاحب الذكاءات المتعددة ،
قد جاهدا وقدما ، ما يجعل لنفسهما ﻣُﻘﺎﻡَ ﺍْﺣﺘﺮﺍﻡ بين الناس في موطنهم الأصل .
فقيمة الإنسان هو ما يقدمه للناس من صلاح نفسه ، ﺩﻋﻮﺓُ ﺻﺪﻕٍ ﻭﺣﻖ ، وﺍﻟﺴَّﻴﺮ ﻓﻲ ﻃﺮﻳﻖٍ ﺃﻓﻀﻞ ،
وإن أحاطت به الأشواك .
فالإنسان لم يخلق عبثا ، إنها المسؤولية ، وما ﺍْﺳﺘﺸﻌﺮﺕ ﻧﻔسه ﺧﻮﻓﺎً من الله .
فإن كان أخبار الأمس من تاريخ أحمد هارون ، هو محور القول .
فقد عجبت له يوما ، وهو يتحدث عن الماضي بالنسبة للحاضر ، ونحن يومذاك في داره بمدينة الأبيض – 2016م عهد ولايته شمال كردفان – إذ كنت وقتها عميدا لكلية الموسيقى والدراما بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا .
فحللنا ضيوفا لديه مع ( كورال كلية الموسيقى والدراما ) بدعوة خاصة منه لإحياء حفل غنائي لجمهور مدينة الأبيض ثالث أيام عيد الأضحى المبارك .
وأذكر قوله وهو يتحدث لجمعنا عن فضيلة التفكير للمستقبل ، إذ ليس من الحكمة التشبث بالماضي والتغني به في كل الأحوال .
فالماضي ليس إلا كمثل المرآة التي تعكس ما خلف السيارة للسائق ، ينظر إليها لإستكشاف الوراء ، ليتبين الطريق في تقدمه إلى الأمام .
وأغلب الظن ، أن ذلك المعنى ، هو الجوهر في تكوين شخصية أحمد محمد هارون محمد ، ذاك الرجل الذي اشتهر باسم مولانا أحمد هارون .
والذي بدأ مراحل تكوينه بقراءة وحفظ القرآن الكريم .
ثم التحق بمدرسة الأبيض الإبتدائية ، ومن ثم انتقل إلى المدرسة الأميرية المتوسطة في الأُبَيِّض .
3
الأُبَيِّض تلك المدينة التي منحته الشموخ والإباء ،
والبديهة المترصدة .
فكل شجرة ( تبلدية ) ارتمى في حضن ظلالها يوما من أيام عمره ، يعرف جل أهلها البسطاء ، وطرائق حيواتهم ، طرب لإيقاعات أنغامهم ، عرف كيف يتحابون ، وكيف ويتخاصمون ، وكيف يجاهرون بكلام الريد والوله في هسيس إغنياتهم ،
فهي حاضرة إقليم كردفان الكبير ، وهبته نصاعة الإبتسام .
وهكذا بعد انقضاء أجل دراسته ، واتمامه للمرحلة المتوسطة ، بدرجة نجاح باهر وعظيم ، انتقل أحمد هارون إلى المرحلة الثانوية ملتحقا في مدرسة خور طقت وهي مدرسة لا يدخلها إلا التفوقين .
دخل مع أقرانه المتفوقين من طلاب الإقليم في مدرسة خور طقت الثانوية ، على الرغم من حداثة دخوله المدرسة ، وصغر سنه .
إلا أنه شع نجما وسط الطلاب ، قوي الحجة ، يصارع أبناء جيله ، وثاب في طرائق التفكير ،
وقد كان بلا مراء ، أميرا من أمراء البيان .
اضف إلى ذلك خصائصه المائزة المتمثلة في حيويتة الظاهرة ، وكارزميته الآسرة الأخاذة .
فتوحد رأي الطلاب أن يتولى احمد هارون رئاسة داخلية المدرسة .
ولم يخيب الفتى ظنهم ، فأمسك أعنة شؤونهم بالعزم المرجو ، وعلا كعبه درجا أثر درج ،
وأحسن أيما إحسان ، حكمة ورشد في القيادة ،
ونصاعة فكر ، وجمال بيان بين الناس .
ووضح جليا ( ظاهرا وباطنا ) مستقبليته كقائد قادم يمشي في الطريق .
فلم يمضي على حاله حتى جذبته التوهجات الفكرية للطلاب السائرين في الإتجاه الإسلامي ، وهو التنظيم الطلابي للحركة الإسلامية داخل المدارس والجامعات – عهدذاك – فانضوى أحمد هارون تحت لواءها .
لم يمضي وقت طويل حتى انتخب أحمد هارون رئيسا لاتحاد طلاب مدرسة خور طقت الثانوية .
وهنا هب صاحبنا ، بموكب إمكانات ثورية ، كما تهب الأعاصير في صحراء التمور .
والزمان مطالع الثمانينيات ، وللطلاب نزوعهم الخاص ضد حكم المشير جعفر محمد نميرى .
وأهل مدينة الأُبَيِّض لهم حالة خاصة فى ذلك الشأن .
والطلاب خور طقت بقيادة أحمد هارون يصغون لدقات قلوب الناس ، يفرحون في أفراحهم ويحزنون في أحزانهم ، يثورون في ثورتهم ، حتى قد اطاروا النوم من أجفان رجال جهاز أمن الدولة .
وكان أحمد هارون سباقا في ساحات المسؤولية الوطنية .
4
ثم انتقل إلى جمهورية مصر العربية بعد إعلان جامعة القاهرة قبوله للدراسة في كلية الحقوق .
فيها أظهر أحمد هارون عبقرية باهرة ، وحزمة ذكاءات متعددة ، وحيوية نشاط حركي عظيم الاتقاد ، فارتقى مدارج أبنية الإتجاه الإسلامي ، درجا إلى درج أعلى ، حتى دفع به في موقع رئيس الإتحاد العام للطلاب السودانيين بمصر .
وبعد إكمال دراسته للحقوق في جامعة القاهرة عام 1987م ، عاد إلى السودان ليعمل في السلك القضائي قاضيا لفترة من الأعوام .
ثم غادر منصة القضاء ، بسبب صدور قرار تنصيبه وزيراً للشئون الاجتماعية في ولاية جنوب كردفان ، كأول موقع تنفيذي عال له في عهد حكومة الإنقاذ ، بداية عقد التسعينيات .
ثم صعد مرة ثانية إلى وظيفة أعلى ، بتعيينه منسقاً عاماً للشرطة الشعبية ، التابعة لوزارة الداخلية .
وفي تلك الأثناء قرر الرئيس عمر البشير تعيين أحمد هارون وزير دولة بوزارة الداخلية في العام 2003م بعد اشتداد أوار تمرد الحركات المسلحة في إقليم دارفور .
فأمسك بالمسؤولية المباشرة في إدارة معالجة أزمة دارفور ، منذ بداية عهد صرخة صراعاتها المسلحة ،
ووضعياتها الإنسانية بمأساويتها السوداء .
إذ عانت دارفور التفكك والانهيار الإجتماعي ،
فلاقى ما لاقى من نصب التقاطعات الحادة والتعقيدات المتشابكة .
وعلى الضفة الأخرى تقف الدوائر الغربية بمجموعة أنساق منظومات مؤسساتها المدنية المتعددة ، الخالية من كل أوجه البراءة ، تتربص وتتشفى من حكومة الإنقاذ ، أصبح أحمد هارون الهدف المباشر ،
ومرمى سهامهم المسمومة .
بيد أنه صمد وقارع الذين يقفون في أعلى منصات الغرب ، بنزعاتهم الإستعلائية ، فثبت لهم بأقدامه في تربة وطنه ، وما تززح قط .
وقد تكون أشرس حملة شنت على مسؤول حكومي في السودان ، من تجاه الدوائر الغربية مناهضة للتوجه الإسلامي ، ومساومة قيادة البلاد واحتيالها .
وأحمد هارون ، بينه وبين الركون لتلك المساومة مسافات بعيدة ، فالمجد للمقاومة ، ولراية الإصرار شاهقة ، ولليد الطّليقة المجاهدة .
كيف لا ؟
وهو الذي مذ أدرك كينونته ، ظل وباستمرار ، في اعتداله ، مستقيما ، مثابرا ، بساما أمام الشدائد .
5
مولانا أحمد هارون ، تراه كأنه الملتقط الوحيد لفرائد فلسفة شاعر الهند ، الباكستاني المسلم ( محمد إقبال ) الذي قال عنه الدكتور ( عبدالوهاب المسيري ) :
هل يُدرك الإنسان المعاصر ما أدركه شاعر الهند العظيم محمد إقبال عندما التقط من الحضارة الغربية خيرها وأفلت من شباكها .
قال محمد إقبال :
( التقطت الحبة وأفلت من شبكة الصياد ، يشهد الله أني كنت في ذلك مقلداً لإبراهيم ، فقد خضت في هذه النار واثقا بنفسي وخرجت منها سليماً محتفظا بشخصيتي )
وما ارى في إعتداد أحمد هارون بدينه ، وسط تلاطم أمواج الشدائد إلا صورة محمد إقبال الأديب الفيلسوف ، الذي كان ولا يزال واحداً من الوجوه الخيرة والكريمة ، التي عرفها الفكر الإسلامي والتنويري في القرن العشرين وهو القائل :
( دع الشطآن لا تركن إليها
ضعيفٌ عندها جرس الحياة
عليك البحر ، صارعْ فيه موجا
حياة الخلد في نصَب تواتى )
من ذلك المعنى أخذ أحمد هارون طريقا في الحياة ، شجاع بامتياز : ما اكترث يوما قط ، غشيان الأهوال والبلايا ، ولا ركوب الأنواء وأخطارها .
سياسي راجح العقل ، تمكن وبحذق من إمساك ناصية التوازن الخلاق بحنكة باهرة ، في علاقته بذوات الآخرين ، مع علاقته بذاته ، دون أن ينزلق إلى مواضع الإهتزازت الرجراجة .
أكثر ما يميزه ، قدرته الفائقة على الصمود أمام التحديات مهما جمحت ، بل أن ذلك هو الجزء الأصيل في تكوين شخصيته .
فما اكترث يوما قط ، غشيان الأهوال والبلايا لساحته ، ولا ركوب الأنواء وأخطارها .
هو سياسي تقرأ في شخصيته ، تاريخ الأمة ببعدها الحضاري .
إذ استطاع أن يرتحل بالمفهوم المسطح للسياسة ، إلى جذره الأصيل ، مستندا على المأثور الشعبي والثقافة المحلية ، بحدود قيمها العليا .
ومن هذه الناحية ، كأنه الطيب صالح في مجال الإبداع الكتابي ، الذي حقن الأدب العربي بدماء جديدة ، وبكل ما هو حيوي فعال من بيئته الإجتماعية ، فاخترق قبة سماء العالم ، بقوله الوسيم في ضو البيت :
( نحن بمقاييس العالَم الصناعي الأوروبي ، فلاحون ، فقراء ، ولكن حين أعانق جدي أحس بالغنى ، كأني نغمة ..
يا عبد الله : نحن كما ترى نعيش تحت ستر المهيمن الديان ، حياتنا كد وشظف ، لكن قلوبنا عامرة بالرضى ، قابلين بقسمتنا القسمها الله لنا ، نصلي فروضنا ونحفظ عروضنا ، متحزمين ومتلزمين على نوايب الزمان وصروف القدر . الكثير لا يبطرنا والقليل لا يقلقنا ، حياتنا طريقها مرسوم ومعلوم من المهد إلى اللحد ، القليل العدنا عملناه بسواعدنا ما تعدينا على حقوق إنسان ، ولا اكلنا ربا ولا سحت ،
ناس سلام وقت السلام ، وناس غضب وقت الغضب .
الما يعرفنا يظن اننا ضعاف ، اذا نفخنا الهواء يرمينا ، لكننا في الحقيقة مثل شجر الحراز النابت في الحقول .
وانت يا عبد الله جيتنا من أين ؟
لا ندري ، كقضاء الله وقدره القاك الموج على ابوابنا .
ما نعلم انت مين وقاصد وين طالب خير أو طالب شر ؟
مهما كان ، نحن قبلناك بين ظهرانينا ،
زى ما نقبل الحر والبرد ، والموت والحياة .
تقيم معنا ، لك ما لنا ، وعليك ما علينا ،
إذا كنت خير تجد عندنا كل خير ،
وإذا كنت شر ، فالله حسبنا ونعم الوكيل )
6
مثلما قبض الطيب صالح بجوهر الشخصية الثقافية السودانية ، في مجال الإبداع الروائي .
كذلك قبض أحمد هارون بكلتا يديه ، على ناصية فن السياسة فدخل بها إلى إهاب الشخصية السودانية .
منذ إنتماءه للحركة الإسلامية في مطالع شباب عمره ، كان من الرائين إلى ضرورة إلتفات الفرد إلى ذاته ، أن يبحث فيها عن سبل تحسينها .
وذلك الإدراك دفعه للسير على طريق قراءة الأدب بكل أنماطه واشكاله الفنية ، الشعر ، الرواية ، القصص القصيرة ، النثر ، النقد ، التاريخ وفلسفة الفن ، لإيمانه أن للأدب قدرة على تغيير الذات ، ومن ثم تغيير الآخرين .
وبهذا المنظور وكأن أحمد هارون وافق ما ذهب إليه أغلب كتاب الأدب ، وأولهم ( بيتر هاندكه ) الذي قال :
( لطالما كان الأدب بالنسبة لي السبيل إلى فهم نفسي قليلا في الدرجة الأولى .
لقد ساعدني لكي أعي نفسي ، أني أعيش هنا ، ولكي أقبل هذا الوعي دون أن يثقل كاهلي أو يصيبني بالجنون .
الأدب يعنيني ككاتب وقارئ على السواء .
إنه أعمق ما يمكن أن نعيشه .
هو لا يغيير الحياة ، بل يوقظها ، وبذلك يغيير حياتنا . يغييرنا نحن .
مذ أدركت ما هو رهان الأدب بالنسبة إلي ، أصبحت شديد الإنتباه إلى الأدب في ذاته ، وشديد التطلب إزاءه .
ماذا يفعل الأدب ؟
إنه يفجر كل الصور والأفكار النهائية في العالم .
لقد تغيرت بفضل الأدب ، وعندما تغيرت تحت تأثيره ، أدركت أني بدوري أستطيع أن أغير الآخرين .
الأدب يغير فكرتنا عن الحياة ، وذلك في ذاته تغيير للحياة .
الكلمات والصور تشتغل داخلي ، تنحتني ، تلكزني .
هي تضع الحياة في الضوء ، أو على الأقل الأقل تجعلها أقل ظلمة ) ..
منظورا من ذلك المعنى نفسه ، صنع أحمد هارون لنفسه فارقا كبيرا ، بينه وأغلب السياسيين الذين تقلدوا المواقع التنفيذية حتى أصبح النموذج المحتذى .
الإنسان لا يجد حقيقته إلا في الحلم ، أحمد هارون يؤكد على تلك المقولة الأساسية والجوهرية ، وهي أنه بالأدب والتاريخ الإنساني ، يمكن للسياسي القائد أن يختزل أكبر وأخطر كل الأشياء وكل التصورات وكل الاختيارات المصيرية للبناء في الوجود على مستويات الفكر والجمال .
وذلك في تقديري برنامج كامل في الإبداع والوجود .
ومفتاح فلسفة كاملة ومتكاملة . ومفتاح حياة بحجم الوجود وبعمق التاريخ .
7
ولأهمية هذا الموضوع نفسه – أي ضرورة تعظيم أدوار قراءة الأدب – ولأن الشيئ بالشيء يذكر ،
كتب الكاتب الألمعي ( أحمد مولانا ) مقالا بعنوان :
( أثر القراءة في أداء السياسيين : نتنياهو نموذجًا )
وأرى أنه مقال أكثر من مناسب ، للإتكاء عليه إقتباسا منه ، استإناسا حميما به ، إذ قال :
( نشر بنيامين نتنياهو مذكراته في إكتوبر 2022م في 736 صفحة باللغة الإنجليزية تحت عنوان ” بيبي : قصتي ” ، وضمن ثنايا الكتاب تناول نتنياهو دور القراءة في إثراء مقدرته على اتخاذ قرارات في مجالات متعددة .
وأوضح كيف ساهم شغفه بالقراءة في تحقيق تطور نهضة تعليمية انعكست على تطوير القدرات التكنولوجية في تحلية المياه ، والأمن السيبراني )
ثم يستدرك أحمد مولانا ، استدراكا لازما قائلا في توطئة المقال :
( إنَّ الفقرات القادمة ليس الهدف منها الثناء على شخص نتنياهو ، فهو مكروه حتى بين السياسيين في بلده ، فقد انخرط في العديد من الحروب في العالم العربي ، حيث شارك بنفسه في شن هجمات على الضفة الغربية من قناة السويس بمصر وفي الجولان ، وفي إنزال جوي على مطار بيروت وفي معركة الكرامة بالأردن عام 1968، فضلًا عن حرب أكتوبر 1973م .
ثُمَّ قاد سلسلة من الحروب والغارات في غزة والضفة الغربية رئيسًا للوزراء قُتل فيها آلاف المدنيين . لكن الهدف منها هو الإشارة إلى بعض الجوانب التي يهتم بها السياسيون والقادة لتطوير قدراتهم الشخصية والنهوض ببلادهم ، في مواجهة نماذج أخرى ابتلينا بها في بلادنا العربية تستخف بأهمية التعليم ، حتى قال قائلهم ماذا يفعل التعليم في وطن ضائع ؟! )
ثم يدخل أحمد مولانا في الحديث عن دور الأب في الحث على القراءة والتعلم :
( يذكر نتنياهو أنَّ والده بنزايون المولود عام 1910 في بولندا حرص على أن يزرعَ فيه من الصغر حب القراءة وبالأخص في مجال التاريخ ، حيث لقنه درسًا مفاده إنَّ أولئك الذين لا يستطيعون فهم الماضي لا يمكنهم فهم الحاضر وأولئك الذين لا يستطيعون فهم الحاضر ، لن يمكنهم استشراف ما يخبئه المستقبل .
ولذا قرأ نتنياهو في شبابه كتابات ميكافيلي وهمنغواي وكتاب قصة الحضارة للمؤرخ ويل ديورانت .
كما شارك في المدرسة الصيفية بجامعة هارفارد حيث حضر في عام 1973م ندوة لكارل دويتش عن القومية وفي مرحلة الجامعة درس الهندسة المعمارية ثُمَّ إدارة الأعمال في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا .
إنَّ تشجيع الأبناء على القراءة ظل ملازمًا للأب ، فعندما بلغ التسعينيات من عمره ، أعطى ابنه كتابين قرأهما للتو .
الأول يصف تطور القنبلة الذرية والثاني يتناول سيرة حياة ريتشارد فاينمان الفيزيائي الحائز على جائزة نوبل .
وفي موقف كاشف عن حجم تأثير والده عليه ، يقول نتنياهو أنَّه سأله حين فاز للمرة الأولى برئاسة الوزراء في عام 1996، ما الميزة الأساسية التي ينبغي توافرها لشخص ما كي يشغلَ منصب رئيس الوزراء ؟
فأجابه : ما رأيك أنت ؟
أجاب بنيامين :
رؤية واضحة للمكان الذي تريد أن تقود إليه البلاد والتزام قوي بتلك الرؤية ومرونة كافية في السير نحو تحقيقها .
قال والده :
هذه سمات ينبغي توافرها لشاغل أي منصب قيادي .
فرئيس جامعة أو رئيس شركة أو قائد عسكري سيجيبون جميعًا بهذه الإجابة نفسها .
ثُمَّ أضاف المهم هو التعليم ، تعليم واسع وعميق ، وإلا فسوف تكون تحت رحمة موظفيك .
يضيف نتنياهو ، على مر السنين تبين لي أنَّ رئيس الوزراء دون فهم أساسي للاقتصاد والعمليات العسكرية والتكنولوجيا والعلوم ، يصبح عاجزًا أمام الخبراء .
أما الأهم فهو التاريخ ، فكيف يمكنك أن تعرف إلى أين تذهب إذا كنت لا تعرف حتى كيف وصلت إلى هنا ! )
8
أن تعيش مع نفسك أولا لتصوغها ، وأن تحارب ضد نفسك ، ذلك أهم حرب يخوضها المرء حتى يكون مصلحا للناس .
حدثني أقرب الناس إلى مولانا أحمد هارون ،
أنه شديد الإلتزام بالقراءة والمعارف الإنسانية ،
يقف كثيرا مع نفسه ، ولنفسه ، ليمنحها القوة ،
فالثعابين التي لا تقوى على حفر جحورها ،
تحتل المرآب السفلي للمنفذ ، حسب الشاعر الجنوب سوداني تعبان لولينغ .
ظل أحمد هارون ، يقف على أرض خصيبة ،
بقوس قزح من المهارات الإبداعية في التخطيط والتنفيذ ، وفوق هذا وذاك فثمة مذهب جميل آخر يميزه ، وهو التجديد ، به يقفز باستمرار عاليا ، متخطيا العادية والمألوف من الأشياء :
( له نقشٌ يجدَّدُ كل حين ،
فلا تبقى الحياة على غرار ،
فإن صوَّرت يومك مثل أمس ،
فما يحوي ترابُك من شرار ) .
وبذلك يعد المثال النابض ، لتعبير الأديب عباس محمود العقاد :
( ما الإرادةُ إلّا كالسيفِ ، يُصدئُهُ الإهمالُ ، ويشحذهُ الضّربُ والنّزال ) .
سياسي خصب المخيال ، وافر بقيم المعاصرة لأزمنة الناس ، وأمكنتهم ، والتحليق في فضاء أمزجتهم .
خضّب ثقافته الإدارية ، بكم هائل من مأثورات المجتمعات السودانية التقليدية وأعرافها السمحة ، مثل ثقافة النفير المستنهض للهمم ، الباعث لمعاني إنتماء الناس لبعضهم البعض والأرض .
ارتفعت شارة شخصيته من فوق قمة الجبل الذي صعده بهمته العالية ، تاركاً بوناً شاسعاً بينه والذين جاءوا من بعده والذين سيجئون .
ما وقف أحمد هارون في موضع من مواضع المسؤولية التنفيذية ، إلا وترك أثرا جميلا باقيا .
فالإنجازت التي بلغها ، تعبر عن شخصيته ، عظمة أعماله ، ما كانت لتكون لولا قوة شخصيته أولا ،
ويمكن للناظر المتأمل أن يستنتج ذلك من خلال آثاره التنموية في شتى ضروب الحياة ،
أي من خلال معطيات منجزاته الفعلية ( المادية والمعنوية ) بشكل مباشر وخطي .
خاصة بعد إعفاءه من منصب وزير دولة بوزارة الداخلية وتعينه مباشرة وزير دولة بوزارة الشئون الإنسانية سبتمبر 2005م في حكومة الوحدة الوطنية التي تكونت بموجب اتفاق السلام في نيفاشا .
فما انجزه في فترة ولايته لجنوب كردفان
( 2009 – 2013 ) ، ثم إنتقل بعدها واليا لولاية شمال كردفان ( 2013 – 2019 ) .
ذلك الحشد من المنجز المادي في التنمية العمرانية ، والمعنوي في التحولات الإجتماعية والتنمية البشرية ، هو المعبَر الفعلي والحقيقي إلى شخصيته ودخائل نفسه وبنات أفكاره ، وهمته العالية .
كما أن الإقدام والرفعة والسمو ، فعلًا ، من صفات أحمد هارون النفسية والخلقية ، والأفعال لا تستقل عن الذات ، ففي منظورات أهل الفراسة ، أن عظمة فعل المرء هي من عظمة شخصيته ، الفعل العظيم ، لا يصدر إلا من شخصية عظيمة بصفاتها .
وامتاز بفكر وافر من قيم المعاصرة ، لأزمنة الناس ، ومعياشة أمكنتهم ، والتحليق في فضاءات أحلامهم وأمزجتهم .
ولربما تناوله ، أو يتناوله المختصون في السياسة بشئ من التفصيل المستحق .
غير أن تأملاتي في التاريخ الشخصي له ، هي الدافع الملحاح لكتابة هذا المقال ، وسيرته المترعة ولهاً بأهل السودان .
9
أظهر أحمد هارون منذ بدايات مسيرته اللامعة ، ثباتا وصبرا ، وعدم إكتراث لأي شكل من أشكال الإستفزازات المثبطة ، بل مضى متحديا ذاته ، في الإخلاص للبلد والناس .
وكلما إزداد خصوم الحركة الإسلامية في جعله هدفا مباشرا لسهامهم ، إزداد هو لمعانا وبريقا في أعين البسطاء والعامة من الناس ، حتى جعلوا منه أمثولة للإداري المحنك والقائد الملهم المبدع .
وكلما نهض خصوم الإسلاميين في إزدراء سيرته ، ونفثوا نيران الغل كذبا وافتراءا عليه ، يشع أسم أحمد هارون كالشهاب على غير ما ينتظرون .
كتبنا هذا المقال ، في لحظة تفكير عميق ، لنفتح نافذة تأمل سيرة رجل سياسي ، هو من أنقى حراس الفضيلة ، الذين قدمتهم الحركة الإسلامية في مسيرتها لقيادة البلد .
فقد تعلمنا منه جراء تأملنا في مسيرته العملية الممتدة حتى الآن ، الثبات في الإيمان ، ونقصد تحديدا إيماننا بمستقبلية الحركة الإسلامية في السودان ، وبقدرته على الصمود أمام كل ما يهدده .
وعلى النهوض أيضا برغم الويلات والبشاعات المهددة في الطريق . إنضم لقناة النيلين على واتساب
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: الحرکة الإسلامیة أحمد هارون فی الإسلامیة فی ذلک المعنى محمد إقبال الأ ب ی رئیس ا
إقرأ أيضاً:
عادل حمودة: مراكز الفكر الأمريكية تؤثر بشكل كبير في رسم المشهد السياسي بواشنطن
قال الإعلامي عادل حمودة، إن مراكز الفكر السياسي والاستراتيجي الأمريكية تعمل في واشنطن العاصمة كمنظمات بحثية تنتج تقارير وتصدر توصيات تتعلق بالسياسات التي غالبا ما يتبناها الكبار من أصحاب القرار، وتأثير هذه المنظمات كبير في تشكيل المشهد السياسي بل وفي رسم السياسات المتعلقة بالدفاع والتجارة والعلاقات الدولية.
المراكز البحثية الأمريكية تنحاز إلى اتجاهات سياسية معينةوأضاف حمودة، خلال تقديمه لبرنامج «واجه الحقيقة»، المذاع على فضائية «القاهرة الإخبارية»، أن كثيرا ما ينظر إلى هذه المنظمات على أنها غير حزبية، لكن الحقيقة أن الكثير منها لديه ميول أيدلوجية تجعله ينحاز إلى اتجاهات سياسية معينة، على أن هذا الانحياز غالبا ما يؤثر في القرارات السياسية سلبا، وفي أحيان متعددة تذهب مراكز الفكر إلى أبعد من البحث والدعوة النشطة إلى سياسات محددة.
وتابع: «أحيانا تمارس ضغوطا على الكونجرس ليتخذ قرارا بعينه، وأحيانا تلتقي مع المسؤولين الحكوميين لإقناعهم بوجهات نظرها، وأحيانا تعبئ الرأي العام من خلال حملات إعلامية لتجبر الإدارة السياسية على تغيير موقفها، ويرتبط العديد من مراكز الفكر في الولايات المتحدة ارتباطا وثيقا بالمصالح السياسية والعسكرية».