ما الواجب المباشر تجاه الفكر الحر في ظل استمرار السردية التكفيرية؟

قراءة في كتاب (عبد الله الفكي البشير، محمود محمد طه: من أجل فهم جديد للإسلام)، دار محمد علي للنشر، صفاقس، تونس/ ومؤسسة الانتشار العربي، بيروت، لبنان، 2024
(3-13)

 

إهداء المؤلف لكتابه:
"إلى شعوب السودان والإسلام والإنسانية جمعاء، وهي تتوق إلى التحرير والتغيير، فإني أهديكم هذا الكتاب، مستدعياً مقولة المفكر التونسي الدكتور يوسف الصديق: (محمود محمد طه هو المنقذ)".

المؤلف

بقلم سمية أمين صديق

أستهل المؤلف الدكتور عبد الله الفكي البشير كتابه بقائمة تتضمن أهم الوقائع والأحداث التاريخية التي تمت مناقشتها في الكتاب، وقد بلغت (135) حدثاً. قدم تعريفاً بكل حدث، وتاريخ وميدان وقوعه، إلى جانب بعض التفاصيل المتعلقة بالحدث. وجاء كل ذلك في تسلسل تاريخي، يكتب التاريخ ويبين تفاصيل الحدث. وحتى أعطي القراء صورة عن ذلك، أقدم بعض النماذج، مثلاً: 1901: تأسيس أول مؤسسة دينية رسمية في السودان. لقد أنشأ الحاكم العام البريطاني لجنة العلماء برئاسة الشيخ محمد البدوي (1841-1911)، وبعضوية عدد من العلماء، وعُرفت بمجلس العلماء، ومشيخة العلماء، وهيئة العلماء. كانت اللجنة تابعة للحاكم العام، وتعمل كمؤسسة استشارية له في الشؤون الدينية. أصبحت اللجنة، فيما بعد، ولا تزال، هيئة علماء السودان. وكان لها دوراً كبيراً في تحجيم الحوار الفكري، وتكييف المزاج الديني في وجهة التشدد والغلو، خاصة فيما يتصل بالموقف من محمود محمد طه، حيث تبنت تكفيره وتنميط صورته، وكذلك تكفير تلاميذه الإخوان الجمهوريين وتنميط صورتهم، من خلال توجيه الأئمة والوعاظ والخطباء بإعلان ذلك من على منابر المساجد، وفي حلقات الدرس، وعبر مخاطبة عامة الناس بالبيانات التكفيرية، كما سيرد التفصيل لاحقاً. كذلك 8 نوفمبر 1902: افتتاح كلية غردون التذكارية Gordon Memorial College، حالياً جامعة الخرطوم، وأيضاً 1912: قيام المعهد العلمي بأم درمان (أزهر السودان)، وعُين الشيخ أبو القاسم هاشم (1856– 1934) شيخاً له. وبذا يكون السودان قد شهد أول مؤسسة حديثة للتعليم الديني. نشأ المعهد على غرار الأزهر، وظل شيخه شيخاً لهيئة علماء السودان، حتى تحوَّل المعهد إلى جامعة. لقد أصبح في العام 1965 أول جامعة إسلامية في البلاد، عرفت، ولا تزال، باسم جامعة أم درمان الإسلامية. كان المعهد، وهيئة علماء السودان، والجامعة، فيما بعد، أول وأكبر المؤسسات الدينية الرسمية انتاجاً للمعرفة الدينية، إلى جانب القيام بدور الوصي الديني، فضلاً عن نشر ثقافة التكفير، خاصة في مواقفها من محمود محمد طه وتلاميذه الإخوان الجمهوريين، كما سيرد التفصيل لاحقاً. وهكذا حتى آخر حدث تناوله الكتاب، وهو: 12يوليو 2020: السودان يلغي المادة (126) مادة الردة عن الإسلام: لقد أعلن نصر الدين عبدالباري، وزير العدل في السودان إلغاء المادة (126) مادة الردة عن الإسلام في القانون الجنائي لعام 1991، وأضاف الوزير بأن المادة الملغاة استُبدلت بتجريم التكفير، قائلاً: إن تكفير الآخرين بات "مهددا لأمن وسلامة المجتمع".
من خلال تتبع فصول الكتاب ومحاوره نقف مع المؤلف، عند المحطات المختلفة وهو ينقلنا عبر فصول الكتاب، لنتعرف على سيرة ومواقف الأستاذ محمود محمد طه، ودعوته، ونتبع المؤلف، وهو يعرفنا على نشاطات وحركة الإخوان الجمهوريين وآليات الدعوة التي أُتبعت في النشر والتعريف بالفهم الجديد للإسلام، كذلك المراحل المختلفة التي مرت بها. ثم يعرج بنا الكاتب إلى دور العلم وأروقتها، ويسلط الضوء على الاهتمام المتنامي من الأكاديميا بفكر الأستاذ محمود محمد طه وطرحه (الفهم الجديد للإسلام) هذا الاهتمام الذي له مدلوله، ووزنه. يقول عبد الله: إن اهتمامنا بالأكاديميا لا يجئ من تفضيل لها أو إغفال للعلم التجريبي الروحي، وإنما لكونها إحدى آليات العلم التجريبي المادي، الذي هو، كما يقول محمود محمد طه: "أعظم شيء في صدور الناس الآن" وهو ميدان تفوق الرسالة الثانية من الإسلام عليه، وبزها له بمعجزتها، التي هي علمية القرآن، كما يقول محمود محمد طه. وقد فصَّل عبد الله في ذلك، وعن دور الجامعات وغرضها، في الفصل التاسع من الكتاب، كما سيأتي الحديث.
جاء الفصل الأول بعنوان: الفصل الأول "محمود محمد طه: الميلاد والمناخ العام الفكري و السياسي"، وتناول المحاور الآتية: الميلاد و النشأة، وإلغاء الخلافة العثمانية و انتهاء لقب الخليفة أو سلطان المسلمين، وميلاد الأحزاب السودانية: تأسيس الحزب الجمهوري، لا تفاوض.. لا تعاون.. لا مهادنة مع المستعمر وإنما المواجهة و المقاومة و الصدام، و أول سجين سياسي منذ ثورة 1924، والاعتكاف و العمل من أجل غاية أشرف من المعرفة بل المعرفة و سيلة إليها، والإعلان عن الفهم الجديد للإسلام، لمحة عن أعمال محمود محمد طه، و الإخوان الجمهوريون: من أين جاءت التسمية؟ ومتى بدأ اطلاقها؟، و الموقف من الاستعمار و المعرفة الاستعمارية، و ظهور مناهج نقد المعرفة الاستعمارية و الدعوة لتفكيك الذاكرة الاستعمارية، ونقد محمود محمد طه للمعرفة الاستعمارية.
وقف المؤلف عند ميلاد الأُستاذ محمود محمد طه بمدينة رفاعة الواقعة على الشاطئ الشرقي للنيل الأزرق بوسط السودان، في العام 1909. وأعطى صورة عن المناخ العام في السودان وفي الفضاء الإسلامي والعالمي. وقد أوضح بأن السودان كان وقتئذٍ يخضع لإدارة الحكم الثنائي الإنجليزي/ المصري بموجب اتفاقية الحكم الثنائي المبرمة في 19 يناير 1899م، بعد القضاء على الثورة المهدية في عام 1898. وكانت أفريقيا والدول العربية كلها تخضع للاستعمار الأوروبي. جاء التكالب الأوروبي على أفريقيا بعد أن شهدت أوروبا عصر النهضة متزامناً مع حركة الإصلاح الديني في القرنين الخامس والسادس عشر، ثم قيام الثورة الصناعية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وازدهار النظام الرأسمالي. عاشت أوربا تحولات وتغييرات واسعة في مختلف المجالات الاقتصادية-الاجتماعية والثقافية والفكرية، ولا تنفصل تلك التحولات والتغيرات في تقاطعاتها مع آثار الثورة الفرنسية التي اندلعت، عام 1789، ونشوب الحرب العالمية الأولى ما بين (1914-1918). كان من أهم نتائج الحرب نهاية الإمبراطوريات القديمة. فقد تمت تصفية تركة الدولة العثمانية في اتفاقية سيفر عام 1920م بتجريد تركيا من كل توابعها الإقليمية وانتهت إلى دولة صغيرة تحدها اليونان وأرمينيا. ومن نتائج الحرب العالمية الأولى كذلك قيام الثورة البلشفية في روسيا القيصرية وظهور الاتحاد السوڤيتي عام 1917.
وأضاف المؤلف بأن آثار تلك التحولات والتغييرات والأحداث الجسام، لم تتوقف عند حدود أوروبا الجغرافية وجوارها أو الإمبراطوريات المنافسة، بل تعدت ذلك وألقت بظلالها ونتائجها على كل شعوب الأرض. لقد خضعت الشعوب المستعمرة في كل مناحي حياتها إلى سياسات الدول المستعمرة. ولم تك تلك السياسات سوي نتائج لتفاعلات الواقع الأوربي على مختلف أصعدته: الدينية والثقافية والاقتصادية مرهوناً بالصراعات والمنافسة من أجل السيطرة على الأرض والشعوب والعقول. ويواصل المؤلف بأنه (في هذا المناخ الكوكبي ولد محمود محمد طه والسودان يحبو نحو الحداثة، ويبحث عن مرتكزة الحضاري، ولا يزال. فقد ظل السودان يدور في فلك العالم العربي والإسلامي منفصلاً عن إرثه الحضاري ومغيباً عن ذاتيته الضارب جذرها في القدم، وقد تضافرت عوامل شتي لخلق الوضعية الهشة، فقد شهد العالم العربي والإسلامي انطلاق الحركات الإصلاحية داخل الإمبراطورية العثمانية وولاياتها خلال القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين، وكان شعار تلك الحركات التغيير والتجديد، والإسهام في الحضارة الحديثة، مع الحفاظ على الهوية الإسلامية. وعن تلك الحركات يقول عبد الله: و قد اتخذت هذه الحركات توجهات وتيارات مختلفة، منها ذات النزعة السلفية، ومنها العقلانية الليبرالية المتفتحة، وكانت هناك الدعوة الوهابية بقيادة محمد بن عبد الوهاب (1703-1791)، في شبه جزيرة العرب التي دعت إلى اتباع السلف في أمور العقيدة، والحركة السنوسية بقيادة محمد بن السنوسي، ( 1787-1859) بليبيا، و التي جمعت بين النزوع الوهابي في الإصلاح الديني، و النزوع الصوفي و معاداة الاستعمار . أما الحركة المهدية في السودان بقيادة محمد أحمد بن عبد الله المهدي فقد تبنت الجهاد ضد المستعمر، ودعت إلى الرجوع إلى الدين الحق وإلغاء المذاهب الأربعة. كذلك برز عدد من المصلحين مثل جمال الدين الأفغاني (1839-1897)، الذي رفع شعار الوحدة/ الجامعة الإسلامية القائمة على قيم الإسلام الأصيلة المؤدية إلى اكتساب القوة والعقل والفضيلة، والإمام محمد عبده (1848-1902)، الذي حاول التواصل والتجاوز في مسيرة الإصلاح، وحاول تعريف الإسلام الحقيقي وربط ذلك بمعطيات المجتمع الحديث، ليصل إلى أن الإسلام صالح لأن يكون أساساً للحياة المعاصرة. أما عبد الرحمن الكواكبي (1848-1973)، فقد انفتح على علم الاجتماع الإنساني، وسلط جام غضبه على الحكم المطلق ودعا للمطالبة بالحقوق، وشخص أمراض المسلمين. وواجه كل من رفاعة الطهطاوي(1801-1873)، وخير الدين التونسي(1810-1890)، سؤال التوفيق بين الحضارة الغربية المتفوقة والمبهرة، وبين حضارتهم الراكدة والغافلة. وكان أيضاً، محمد رشيد رضا ( 1865-1935)، الذي أصدر مجلة المنار، وقد حلت محل مجلة العروة الوثقي، في التجديد الديني، و الدعوة إلى الجامعة الإسلامية. حاول بدوره تصحيح العقيدة والدفاع عن الإسلام، وإصلاح نظام التربية والتعليم، والانفتاح على تدريس العلوم العصرية.
كذلك وقف المؤلف عند أحد الأحداث الكبرى في الفضاء الإسلامي، ألا وهو إلغاء الخلافة العثمانية وانتهاء لقب الخليفة أو سلطان المسلمين. يقول المؤلف أدي قرار إلغاء نظام الخلافة العثمانية في يوم 3 مارس 1924، بقيادة مصطفى كمال أتاتورك (1881-1938)، بعد أن استمرّت لأكثر من أربعة قرون، إلى انتهاء، ولأول مرة، لقب الخليفة أو سلطان المسلمين في العالم الإسلامي السني. ترتب على ذلك الكثير من التبعات، كان منها تقافز الأسئلة حول علاقة الدين بالدولة، دينية أم مدنية الدولة، وبداية مرحلة النقد لبعض الثوابت الدينية. ويحدثنا دكتور عبد الله؛ أنه في العام الذي تلي إلغاء الخلافة العثمانية وانتهاء لقب الخليفة، استهل الشيخ علي عبد الرازق (1888-1966)، هذه المرحلة بإصدار كتابه: الإسلام وأصول الحكم في الخلافة والحكومة في الإسلام، في العام 1925. ويقول المؤلف أثار هذا الكتاب معركة، كما يرى عروس الزبير (الجزائر) تعد من أشد المعارك الفكرية، وكان لها الأثر البليغ في طبيعة واتجاه الحركة التاريخية التي عرفتها وتعرفها المجتمعات العربية والإسلامية المعاصرة. وأشار عبد الله: إلى رأي حيدر إبراهيم علي (السودان) الذي نظر إلى كتاب علي عبدالرازق باعتباره تدشين لمرحلة التناول النقدي لبعض الثوابت الدينية من داخل المؤسسة الدينية (الأزهر) نفسها، مما جعل ردود الفعل في مثل هذه الحدة. ويضيف حيدر بأن البعض اعتبر صدور الكتاب أشد وقعاً من قرار مصطفي كامل اتاتورك، إلغاء الخلافة، لأنه مجرد قرار سياسي لم يستهدف العقيدة مباشرة. وتحدث عبدالله مورداً آراء آخرين عن كتاب الشيخ علي عبدالرازق، قائلاً: عمّد البعض، كما هي سعاد تاج السر علي (السودان) في دراستها: (دين، وليس دولة: التبرير الإسلامي لعلي عبد الرازق، العلمانية السياسية)، الشيخ علي عبد الرزاق باعتباره "الأب الروحي للعلمانية في الإسلام". ويري كثيرون بأن أسئلة الشيخ عبد الرزاق حول علاقة الدين والدولة، دينية أم مدنية الدولة في المجتمعات العربية -الإسلامية، لاتزال ماثلة، وحية، وملحة. قدم عبدالله تفصيلاً عن كتاب علي عبدالرازق وتبعاته على مؤلفه وآثاره في الفضاء الإسلامي، وكتب عبد الله معبراً عن رأيه في كتاب الشيخ علي عبد الرزاق، قائلاً: لقد أحدث الكتاب عاصفة من السجال و العراك الفكري، استمرّت لنحو مائة عام، ولاتزال. طُبع خلالها الكتاب نحو 40 طبعة. وظهر أمام طرح الشيخ عبدالرازق موقفان: موقف المختلفين الرافضين للطرح، وكان على رأس هؤلاء، موقف هيئة كبار العلماء بالأزهر، وعلماء الدين، والسلفيين، ودعاة تطبيق الشريعة الإسلامية، و الموقف الثاني، اشتمل على المتفقين مع الطرح، والداعين لحرية الرأي، ومنهم المنادين بفصل الدين عن الدولة، والداعين للاستفادة من التجارب الإنسانية في نظم الحكم. ثم أوضح عبدالله بأن هناك موقفاً جديداً، انطلاقاً من الفهم الجديد للإسلام لصاحبه محمود محمد طه، وهو موقف يختلف عن موقف الفريقين آنفي الذكر وغيرهما، وسيأتي قريباً في كتابنا الذي يحمل عنوان: محمود محمد طه و السياسة (1-5): أطروحة علي عبد الرازق من الإسلام و أصول الحكم في ميزان الفهم الجديد للإسلام.
حدثنا عبد الله عن سيرة الأستاذ محمود محمد طه وفقدانه لوالديه وهو دون الثانية عشرة من عمره. فقد تُوفيت والدته عام 1915، وهو ابن السادسة، وتُوفي والده عام 1920، فعاش حياة وصفها الأستاذ محمود محمد طه، قائلاً: "حياتي كلها يُتم". نشأ الأستاذ محمود محمد طه، ما بين مدينة رفاعة وقرية الهجيليج التي تبعد عنها نحو خمسة عشر كيلو متراً. أوضح عبدالله بأن الأستاذ محمود محمد طه بدأ بمرحلة الكُتاب، وأكمل تعليمه الأوّلي بمدينة رفاعة، و بنهاية عام 1931 أتمّ المرحلة الوسطي، فانتقل إلى الخرطوم، ليلتحق عام 1932 بكلية غردون، ليتخرج منها عام 1936 في قسم المهندسين. وفور تخرجه عمل مهندساً برئاسة مصلحة سكك حديد السودان، بمدينة عطبرة شمال السودان. ومن الوهلة الأولى تجلت ثوريته تجاه الإدارة الاستعمارية، إذ دخل في مواجهات وصدامات مستمرة مع المسؤولين البريطانيين ورؤسائه في العمل، وقاد ثورة تصحيحية في نادي السكة الحديد فانتزع حق دمقرطة إدارته باعتباره تنظيماً للعاملين، وليس مِلكاً للمؤسسة حتى يرأسه رئيسها، وانتهي حرمان العمال من دخوله، فضلاً عن إثراء الحركة الثقافية والسياسية بالمدينة. ويواصل عبد الله، مُصوراً لنا رد الفعل الذي احدثته ثورية الأستاذ محمود محمد طه فيقول :( أمام هذه الثورية ضاقت إدارة السكة الحديد ذرعاً، فعمدت على إبعاده بنقله إلى المناطق النائية، فما كان منه إلا وأن تقدم باستقالته في العام 1942، ليتحرر من الوظيفة الحكومية.) جاءت استقالة الأستاذ محمود محمد طه، من وظيفته مع نُذر الحرب العالمية الثانية 1939-1945، وكانت الحركة الوطنية السودانية، بقيادة طلائع المتعلمين خريجي مؤسسات التعليم الحديث، قد تبلورت بظهور مؤتمر الخريجين الذي تأسس في فبراير 1938، بأثر هندي واضح. ويبين عبد الله أن هذا الحراك السياسي تلخص بتكوين الأحزاب السودانية في منتصف أربعينات القرن الماضي، والحرب العالمية تضع أوزارها عام 1945. تشكلت الحركة السياسية في طرحي الوحدوية ( وحدة مع مصر) والاستقلالية ( الاستقلال في تحالف مع التاج البريطاني).
يقول عبدالله: "حضر محمود محمد طه مع بعض رفاقه في مناخ تكوين الأحزاب السودانية ليعلنوا يوم الجمعة 26 أكتوبر 1945 عن تأسيس الحزب الجمهوري، برئاسة محمود محمد طه". يقول عبدالله تقرأ دعوة الأستاذ محمود محمد طه إلى الجمهورية والاستقلال التام على أنها دعوة لتحرير الفكر السياسي و مناخه من الثنائية التي غرسها الاستعمار، وتجلت وتعمقت مع قيام الأحزاب السودانية، حيث الأحزاب التي تنادي بالوحدة مع مصر تحت التاج المصري، و الأحزاب الاستقلالية التي كانت مُتهمة بالدعوة إلى تاج محلي بالتحالف مع بريطانيا. فكلاهما كان (ملكياً). وأورد عبدالله، قائلاً: يري محمود محمد طه، بأن توخي الحكم الجمهوري "لايجعل فضلاً لمواطن على آخر إلا بقدر صلاحيته وكفاءته للاضطلاع بالأعباء المنوطة به، ولأنه، من ناحية أخري، لايقيد الناس بضرب من ضروب الولاء والتقديس اللذين لا مصلحة للإنسانية فيهما". يُضاف إلى ذلك، كان محمود محمد طه، يري:"أن النظام الجمهوري هو أرقى ما وصل إليه اجتهاد العقل البشري في بحثه الطويل عن الحُكم المِثالي". ثم ذكر عبدالله بأن مواجهة الأستاذ محمود للاستعمار كانت قوية ومستمرة، ولخصها عبدالله من واقع بيانات الحزب الجمهوري ومقالات الأستاذ محمود بأنها: "لا تفاوض.. لا تعاون .. لا مُهادنة مع المستعمر وإنما المواجهة والمقاومة والصدام، فكان هو أول سجين سياسي منذ ثورة 1924. يقول المؤلف: سُجن محمود محمد طه لمدة (50 يوماً) وكانت خلال الفترة (الأحد 2 يونيو -الاثنين 22 يوليو 1946)، وهو ما عُرِف بالسجن الأول، في أدبيات الجمهوريين. وبينّ المؤلف بأن ما يدعو للدهشة والاستغراب، هو أن سبب هذا السجن لا تجد له أثراً في صحائف المؤرخين وفي كتابات الكثير من الكتاب، وإنما تجد حديث لا يمت للوقائع بصلة. يقول المؤلف إن سبب هذا السجن، هو موقف الاستاذ محمود محمد طه من إنشاء الإدارة الاستعمارية، للمجلس الاستشاري لشمال السودان، وهو مجلس يختص بمديريات شمال السودان دون جنوبه، فدعا الأستاذ محمود محمد طه، لمقاومته وعدم الاعتراف به، وعدم الالتزام بما يصدر عنه من تشريعات، باعتباره فصلاً مبكراً لجنوب السودان. ليكون بذلك أول سجين بل الوحيد من أجل قضية جنب السودان. وقد أطلقت صحيفة الرأي العام السودانية على رئيس الحزب الجمهوري، محمود محمد طه، صفة أول سجين سياسي في البلاد.
نلتقي في الحلقة الرابعة.

   

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الأستاذ محمود محمد طه الأحزاب السودانیة الخلافة العثمانیة الحرب العالمیة الحزب الجمهوری محمود محمد طه الشیخ علی عبد فی السودان یقول عبد عبد الله فی العام فی کتاب من أجل

إقرأ أيضاً:

كيف أدارت المقاومة حربا نفسية تفوقت على السردية الإسرائيلية؟

منذ اليوم الأول للحرب المدمرة التي شنها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة بدءا من 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وحتى التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار في 19 يناير/كانون الثاني الماضي، دارت آلة الدعاية الإسرائيلية في "حرب نفسية" لا تقل ضراوة عن ما تفعله مدافع الاحتلال وطائراته في مسعى إلى تدمير مصادر الثقة بالمقاومة وانتزاعها من حاضنتها الشعبية، وهو ما قوبل بحرب مضادة استهدفت زعزعة شرعية الاحتلال أمام مواطنيه والرأي العام الدولي على حد سواء.

وشكلت "معركة السرد الدعائي" موضوع ورقة بحثية نشرها مركز الجزيرة للدراسات بعنوان "تأثيرات سرديات الدعاية والحرب النفسية الإسرائيلية في الرأي العام الفلسطيني خلال الحرب على غزة (25 يوليو/تموز- 16 أكتوبر/تشرين الأول 2024)" ناقش فيها رئيس قسم الإعلام في جامعة المهرة اليمنية عبد الله بخاش أساليب الحرب النفسية الإسرائيلية وكفاءة الأجهزة الإعلامية للمقاومة الفلسطينية في التصدي لها.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2تحديات المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار في غزةlist 2 of 2تداعيات انسحاب دول الساحل من إيكواسend of list من التبشير إلى الحرب النفسية

يعود ظهور مصطلح "دعاية" أو "بروباغندا" إلى بداية العقد الثالث من القرن الـ17 مرفقا مع العبارة اللاتينية (Congragatio de propaganda fide) والتي تعني "التجمع لنشر الإيمان"، وهو ما ربط مصطلح الدعاية في البداية مع شكل من أشكال النشاط الديني للكنيسة الرومانية الكاثوليكية. واكتسبت الكلمة معناها السياسي مع اندلاع الحرب العالمية الأولى.

إعلان

وأصبحت الدعاية أداة للسيطرة والامتثال من قبل القوى الاجتماعية المهيمنة، أو ما يسميه عالم الاجتماع الفرنسي جاك إلول "دعاية الاندماج"، التي توظفها النظم الاجتماعية الحديثة لتشجيع المواطنين على الامتثال للنظام السائد ودعمه، وذلك عبر الصحف والتلفزيون والأفلام والكتب المدرسية واستنادا إلى مجموعة من أدوات الإقناع والمصادر المجهولة.

ويشرح مُنظّر الدعاية السياسية هارولد لاسويل تأثير الدعاية على الجمهور المتلقي بناء على مفاهيم المجتمع الجماهيري أولا وعلى علم نفس الاستجابة للمحفزات ثانيا، فالجمهور هدف مفتوح يمكن للرسالة الإعلامية أن تصيبه بسهولة وتؤثر فيه عبر استهداف محفزات الأفراد الداخلية والتلاعب بآرائهم ومواقفهم والتحكم فيها.

ومع توسع استعمال الدعاية السياسية وظهور السردية والسردية المضادة، نشأ ما يمكن تسميته بالحرب النفسية، وهي "استخدام الدعاية ضد العدو، إلى جانب التدابير العسكرية أو الاقتصادية أو السياسية، قصد إضعاف معنوياته وكسر إرادته في القتال أو المقاومة، أو تعزيز عزيمة الحلفاء والمقاتلين".

ويرى باحثون أنها بمثابة حرب تدور رحاها بين "مجتمع المواطنين وساحة المعركة المسلحة".

المتحدث السابق باسم الجيش الإسرائيلي دانيال هاغاري استخدم أساليب الدعاية والحرب النفسية مرارا خلال شهور الحرب (الفرنسية) سردية وسردية مضادة.. المقاومة في مواجهة الاحتلال

تركز الدعاية الإسرائيلية على "شرعنة" انتهاكاتها في قطاع غزة، فهي تسعى إلى اكتساب الشرعية الأميركية أولا، والشرعية الدولية ثانيا لإدامة الحرب على القطاع قدر المستطاع وتدمير القدرات العسكرية والحكومية لحماس، وهي من أجل ذلك تحرص على التموضع في شخصية الأخيار ضد أشرار ما يسمى "الإرهاب الفلسطيني".

ويقول خبير الدعاية الإسرائيلي عمير دوستري إن إسرائيل نفذت إستراتيجيات اتصالية متعددة عبر منصات مختلفة شملت وسائل الإعلام الرقمية ووسائل الإعلام الدولية والتواصل مع المؤثرين والشخصيات العامة على مستوى العالم إلى جانب تقديم الإحاطة للمسؤولين الحكوميين وطلب إزالة المحتوى التحريضي ضدها من وسائل التواصل الاجتماعي.

إعلان

ورصد الباحث نواف التميمي مجموعة الأساليب التي استخدمتها إسرائيل لبث دعايتها في المجتمع الدولي، ومن بينها استضافة مؤثرين عالميين وكبار مذيعي التلفزيونات الأميركية وأساتذة جامعات عالمية، وكذلك تدريب طلاب وشخصيات عامة في نحو 90 جامعة في أميركا الشمالية على مناهج تجهزهم لإعادة بث الخطاب الدعائي الإسرائيلي.

المحلل السياسي الأميركي بين شابيرو ألّف كتاب "فخ حماس.. لماذا لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها" (غيتي)

 

وبالمقابل، نشر الباحثان نيسيا روبنشتاين ونتانيل فلامر دراسة حول الحرب النفسية التي نفذتها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) ضد إسرائيل في الفترة ما بين عامي 2007 و2014 وتوصلا إلى أن الحركة مارست "حربا نفسية إسقاطية" تعكس معتقدات الحركة نفسها بدلا من استهداف الثقافة الشعبية للجمهور الإسرائيلي، وهو ما قلل من فاعلية الحرب النفسية التي شنتها حماس ضد إسرائيل.

لكن حماس طورت من أساليبها الدعائية في الفترة ما بين 2014 و2023 كما خلص إلى ذلك الباحثان في دراسة أخرى رصدا فيها استثمار الحركة للثقافة الشعبية الإسرائيلية وإعادة صياغتها "بشكل متقدم ومثير للإعجاب"، رغم أنها لم تحقق أي اختراق فعلي في وعي المجتمع الإسرائيلي، بسبب ما سمياه تجاوز الثقافة الإسرائيلية مرحلة تأثير الدعاية.

وخلص باحثون إسرائيليون آخرون مثل غابرييل فايمان ودانا فايمان ساكس إلى أن هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 كان "غزوا بريا لآلاف المسلحين باتجاه المجتمعات الإسرائيلية ومعسكرات الجيش" ولكنه كان في الآن ذاته "بداية لغزو نفسي صادم" نفذته حركة تعرف بأنها "إحدى أكثر المنظمات خبرة في مجال الدعاية والحرب النفسية"، وهو ما وُصف بالحرب الجسدية النفسية المزدوجة.

ولم تتأخر إسرائيل كثيرا في التعامل مع "هجوم حماس الدعائي"، فقد وجد التحليل النوعي الذي أجراه الباحث باسم الطويسي أن الرواية الإسرائيلية في وسائل الإعلام العالمية كانت متصدرة على مدار الأسابيع الثلاثة الأولى من الحرب، لكنها سرعان ما بدأت بالخفوت بعد ظهور رواية مناقضة تماما على منصات الإعلام الرقمية، خاصة بعد قصف المستشفى المعمداني في غزة.

حرب غزة.. أو ملحمة الحرب النفسية

تميز بحث بخاش حول تأثير سرديات الدعاية الإسرائيلية، باعتماده على مسح أجراه لآراء نحو 40 مشاركا من الجمهور الفلسطيني العام، خلال الفترة الممتدة من 25 يوليو/تموز إلى 16 أكتوبر/تشرين الأول 2024، حول حملات الدعاية والحرب النفسية الإسرائيلية التي تعرضوا لها.

إعلان

وتصدر كل من وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير -الذي استقال لاحقا- قائمة مصادر الدعاية الإسرائيلية الأكثر استهدافا للرأي العام الفلسطيني، وهما إلى جانب منصبيها في الحكومة الإسرائيلية خلال الحرب على قطاع غزة، يرأسان اثنين من أكبر أحزاب اليمين الإسرائيلي، ويعرفان بتصريحاتهما العنصرية المعادية للعرب والفلسطينيين.

ورأى 68% من المشاركين في الاستطلاع أن القنوات الأميركية كانت قناة الدعاية الأكثر توظيفا في حملات الدعاية الإسرائيلية، فيما جاءت منصات التواصل الاجتماعي في المرتبة الثانية، تليها وسائل الإعلام الإسرائيلية، فوسائل إعلام عربية، ثم المشاهير والشخصيات المشهورة.

وتكشف نتائج الدراسة أن التهجير والقتل والعنف المفرط والتجويع والحصار وافتعال الأزمات وإثارة الرعب والتخويف وتدمير المساكن كان لها دور أكثر تأثيرا وفاعلية في الحرب النفسية الإسرائيلية من شيطنة المقاومة والتضليل والإسقاط النفسي والتحريض على إثارة الفتنة وغيرها من أساليب الدعاية الأخرى.

المقاومة نشرت العديد من المقاطع المصورة للأسرى الإسرائيليين في إطار الحرب النفسية التي استهدفت الجمهور الإسرائيلي (مواقع التواصل)

 

وفضل المشاركون في الدراسة التعامل مع الدعاية الإسرائيلية بمزيج من الإستراتيجيات الاتصالية، تتضمن الأخذ بسياسة الهجوم المضاد مع تكثيف الضغط الإعلامي لإحراز تفوق على مصادر الدعاية الإسرائيلية وتحقيق الفعل الاستباقي وتفكيك الفكر الصهيوني وراء حملات الدعاية الإسرائيلية.

وأكد نحو 70% من المشاركين رضاهم على أداء المؤسسات الإعلامية التابعة للمقاومة الفلسطينية، وأبدوا ثقتهم في نجاعتها أمام الدعاية الإسرائيلية التي تستهدف الرأي العام الفلسطيني، فقد كان أداء إعلام المقاومة -حسب نتائج الدراسة- مستمرا ومنتظما وكان خطابها الاتصالي صادقا وواقعيا وفعالا، مما حقق تفوقا في الكفاءة الاتصالية على أجهزة الدعاية الإسرائيلية الموجهة.

إعلان

 

[يمكنكم قراءة الورقة التحليلية كاملة من خلال هذا الرابط]

مقالات مشابهة

  • غادة إبراهيم: المؤلف رشحني لمسلسل نص الشعب اسمه محمد والدور جديد عليا| خاص
  • مجلس الشورى يدين الجرائم التي ترتكبها الجماعات التكفيرية بحق المدنيين في سوريا
  • كيف أدارت المقاومة حربا نفسية تفوقت على السردية الإسرائيلية؟
  • مجلس الشورى يدين الجرائم التي ترتكبها الجماعات التكفيرية في سوريا
  • مجلس الشورى يندد بجرائم الإبادة التي ترتكبها الجماعات التكفيرية في الساحل السوري
  • في بادرة حسن نية تجاه الرئيس الجديد..إسرائيل تفرج عن 5 لبنانيين
  • انخفاض إصابات الكوليرا في السودان مع استمرار خطر الانتشار
  • الأستاذ الفرحان: نتيجة للأحداث الأليمة التي وقعت في الساحل السوري يوم السادس من آذار، وما تلاها من اعتداءات على عناصر الأمن العام، أودت بحياة عدد منهم، فُجع السوريون، وظهر عمق ما حفرته المأساة السورية على مدى 14 عاماً وأكثر بكثير في وجدانهم الجمعي
  • «الجامعة التي لا تهدأ».. تاريخ من التصعيد والاحتجاجات في كولومبيا
  • رمضان يخفف من قساوة التحديات التي يواجهها رواد الأعمال السودانيون