بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، شُكل المجلس الأعلى للقضاء وفقا لأمر سلطة الإئتلاف المؤقتة رقم 35 في أيلول/سبتمبر 2003، وأريد له أن يكون قضاء مستقلا بشكل كامل لا يخضع لأي سيطرة أو رقابة أو إشراف من السلطة التنفيذية/ وزارة العدل، استنادا إلى مبدأ الفصل بين السلطات. وكان الأمريكيون أنفسهم خلف قرار تشكيل المحكمة الاتحادية.
فقد تضمن قانون إدارة الدولة العراقية المؤقت (الذي صدر بتاريخ آذار 2004) مادة تحدثت عن تشكيل محكمة اتحادية عليا باختصاصات محددة (المادة 44) وأن يكون رئيس المحكمة الاتحادية العليا نفسه رئيسا المجلس الأعلى للقضاء (المادة 45). وبالفعل تشكل المحكمة الاتحادية العليا بموجب القانون رقم 30 لسنة 2005، وتولى القاضي مدحت المحمود رئاسة كلا المؤسستين.
وقد أثبتت هاتان المؤسستان، في السنوات اللاحقة، أنهما غير مهنيتين ومسيستين وخاضعتين لإراداة الفاعلين السياسيين الأقوى، وتتخادمان معهم لترسيخ البنية الكلبتوقراطية ـ الزبائنية للنظام السياسي، حيث تحولتا إلى أدة سياسية فعالة من خلال تفسير الدستور العراقي تبعا لعلاقات القوة، حتى لو أدى ذلك إلى الإطاحة بالدستور نفسه، وفي استخدام القضاء لترسيخ السلطة بيد الأقوى، ولاستهداف الخصوم السياسيين.
عام 2017 حدث تحول مهم في العلاقة بين هاتين المؤسستين، وذلك بعد تشريع قانون مجلس القضاء الأعلى الذي أخرج هذه المؤسسة عن سلطة مدحت المحمود، ونشأ عن ذلك صراع غير معلن بينه وبين رئيس مجلس القضاء الأعلى، بشأن أيهما رئيس السلطة القضائية، قبل أن ينفجر هذا الصراع بشكل علني عام 2019، ليتحول الصراع بين الرجلين إلى صراع بين المؤسستين نفسيهما!
ففي تلك السنة عمد حلفاء رئيس مجلس القضاء الأعلى في مجلس النواب بتاريخ شباط/ فبراير 2019، إلى تقديم «مقترح قانون» لتعديل (المادة 6/ ثالثا) من قانون المحكمة الاتحادية رقم 30 لسنة 2005 الذي يحدد إعمار قضاة المحكمة الاتحادية «دون تحديد حد أعلى للعمر» إلى 63 سنة فقط، وهو تعديل كانت الغاية الحقيقية منه الإطاحة بمدحت المحمود من رئاسة المحكمة الاتحادية العليا. بل أنهم سعوا إلى إصدار قرارا يوم 17 نيسان/ أبريل 2019 باستضافة رئيس المحكمة الاتحادية والأعضاء الثمانية الآخرين، وهو قرار كشف عن جهل رئيس مجلس النواب بصلاحيات مجلس النواب نفسه، وأن رقابته تشمل «أداء السلطة التنفيذية» حصرا! ليرد مدحت المحمود والمحكمة الاتحادية بقرار مضاد بتاريخ 21 أيار 2019 تضمن الحكم بعدم دستورية المادة 3 من قانون المحكمة الاتحادية الذي يقضي بأن قضاة المحكمة الاتحادية العليا يجري ترشيحهم من مجلس القضاء الأعلى، وبأن الدستور لم يعط هكذا اختصاص لمجلس القضاء الأعلى (القرار 38/ 2019)!
وتصاعد هذا الصراع بعد ذلك في العام 2020، بعد إصدار رئيس الجمهورية برهم صالح بتاريخ 20 كانون الثاني/ يناير 2020 مرسوما بتعيين أحد القضاة عضوا أصيلا في المحكمة الاتحادية العليا. فقد أصدر مجلس القضاء الأعلى يوم 26 كانون الثاني/ يناير، بيانا قال فيه إن قرار المحكمة الاتحادية البات والملزم للسلطات كافة كما يقرر الدستور، كان «تصرفا شخصيا» من رئيس المحكمة الاتحادية، ومن خلال «دعوى هو شخصيا كلف أحد المحامين بإقامتها» وبأنه ما دام مجلس النواب لم يشرع نصا بديلا للنص الملغي يعد هذا المرسوم «باطلا وملغيا»! لتصدر المحكمة الاتحادية في اليوم نفسه بيانا مضادا عن هذا البيان الذي وصفته بأنه صدر «عن جهات لا شأن لها بشؤون المحكمة الاتحادية العليا ولا سند لها في ذلك من الدستور والقانون»! وأن تعيين ذلك القاضي في المحكمة الاتحادية «إجراء دستوري لا يجوز المساس به»!
ومرة أخرى حكمت التحالفات وعلاقات القوة هذا الصراع، بسحب رئيس الجمهورية لمرسوم تعيين القاضي في المحكمة الاتحادية ببساطة. وبات واضحا لجميع المتابعين أن الصراع قد حسم بشكل نهائي لصالح رئيس مجلس القضاء الأعلى، وأن أيام مدحت المحمود ومحكمته الاتحادية ككل أصبحت معدودة!
وهذا ما حصل فعلا عبر تقديم رئيس الجمهورية نفسه مشروع قانون بتعديل قانون المحكمة الاتحادية العليا حيث ضرب عرض الحائط، قرارا باتا وملزما للسلطات كافة، أصدرته المحكمة الاتحادية العليا بعدم دستورية ترشيح مجلس القضاء الأعلى لقضاة المحكمة الاتحادية، فقد نص مشروع التعديل على أن «تُرشِّح المحكمة الاتحادية العليا ومجلس القضاء الأعلى، ومجالس القضاء في الأقاليم، في اجتماع مشترك، رئيس المحكمة الاتحادية ونائبه وقضاتها». وقد صوت مجلس النواب على هذه المادة، وهو ما يعني أن «المشرع» نفسه انتهك قرار المحكمة الاتحادية البات والملزم للسلطات كافة!
منطق التعاطي مع مؤسسات الدولة في العراق بوصفها إقطاعيات خاصة لمالكيها
لكن منطق التعاطي مع مؤسسات الدولة في العراق بوصفها إقطاعيات خاصة لمالكيها، أعادت الصراع العلني مرة أخرى بين رئيس المحكمة الاتحادية ورئيس مجلس القضاء الأعلى، ففي 15 نيسان/ أبريل 2024 حيث أفتت المحكمة الاتحادية بقرارها بالرقم (102/ اتحادية/ 2024) بعدم دستورية عبارة وردت في قانون التقاعد الموحد، ليرد مجلس القضاء الأعلى قرارا مضادا ينقض فيه قرار المحكمة الاتحادية «البات والملزم للسلطات كافة» ويعدُه «معدوما».
ومن يراجع حيثيات هذا القرار سيجد أن مجلس القضاء قد مارس تدليسا صريحا، وذلك عبر إغفال أن الحكم بعدم دستورية المادة القانونية المرتبطة بالموضوع، هو اختصاص أصيل للمحكمة الاتحادية، وأنه لم يكن هناك أي تعديل في النص القانوني سوى برفع العبارة التي تنتهك أحكام الدستور! ومرة أخرى حكمت علاقات القوة هذا الصراع لصالح رئيس مجلس القضاء الأعلى، وأجبرت رئيس المحكمة الاتحادية العليا وقضاته على زيارة رئيس مجلس القضاء الأعلى والجلوس في حضرته بطريقة شرحت معنى تحكم علاقات القوى، وليس الدستور، في إدارة الدولة بالعراق!
اليوم يتجدد الصراع نفسه، حيث صدر أمر ولائي من المحكمة الاتحادية بشأن سلة القوانين التي مررت الأسبوع الماضي، سارع مجلس القضاء الأعلى إلى إصدار قرار مضاد يلغي عمليا الأمر الولائي. لكن صراع اليوم هو صراع مختلف عن الصراعات السابقة، فهو لم يعد صراعا شخصيا ومؤسساتيا فقط، بل بات انعكاسا واضحا لصراع سياسي بين الفاعلين السياسيين الشيعة أنفسهم، وهذا يعني أن علاقات القوة بين المتصارعين السياسيين هي التي ستحسم نتائجه هذه المرة!
توصف الدولة بأنها دولة فاشلة حين تتحول مؤسساتها إلى إقطاعيات، وتكون علاقات القوة فيها هي الفيصل في العلاقة بين تلك الإقطاعيات، ولا يكون الدستور أو القانون أو المنطق هو الحاكم!
القدس العربي
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه المحكمة الاتحادية العراقية مجلس القضاء العراق البرلمان العفو العام المحكمة الاتحادية مجلس القضاء سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة أفكار صحافة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة المحکمة الاتحادیة العلیا رئیس مجلس القضاء الأعلى رئیس المحکمة الاتحادیة بعدم دستوریة علاقات القوة مجلس النواب هذا الصراع
إقرأ أيضاً:
انتهاء خدمة الموظف بالحكومة .. دعوى اليوم أمام المحكمة الدستورية
تنظر المحكمة الدستورية العليا برئاسة المستشار بولس فهمي إسكندر، بعد قليل، الدعوى المطالبة بعدم دستورية المادة (69) من قانون الخدمة المدنية الصادر بالقانون رقم 81 لسنة 2016.
وطالبت الدعوى الدستورية التى حملت رقم 99 لسنة 43 دستورية بعدم دستورية المادة (69) من قانون الخدمة المدنية الصادر بالقانون رقم 81 لسنة 2016.
وتنص المادة 69 من قانون الخدمة المدنية على أن تنتهى خدمة الموظف لأحد الأسباب الآتية:
1- بلوغ سن الستين بمراعاة أحكام قانون التأمين الاجتماعي المشار إليه.
ويجوز بقرار من رئيس الجمهورية لاعتبارات بقدرها من الخدمة لشاغلي الوظائف القيادية لمدة لا تجاوز ثلاث سنوات .
2- الاستقالة
3- الإحالة إلى المعاش أو الفصل من الخدمة .
4- فقد الجنسية، أو انتفاء شرط المعاملة بالمثل بالنسبة لرعايا الدول الأخرى .
5- الانقطاع عن العمل بدون إذن خمسة عشر يوما متتالية ما لم يقدم خلال الخمسة عشر يوما التالية ما يثبت أن الانقطاع كان بعذر مقبول .
6- الانقطاع عن العمل بدون إذن ثلاثين يوماً غير متصلة في السنة .
7- عدم اللياقة للخدمة صحياً وذلك بقرار من المجلس الطبي المختص.
8- الالتحاق بخدمة جهة أجنبية بغير ترخيص من حكومة جمهورية مصر العربية .
9- الحكم عليه بعقوبة جناية أو بعقوبة مقيدة للحرية في جريمة مخلة بالشرف أو الأمانة أو تفقده الثقة والاعتبار .
10- الوفاة، وفى هذه الحالة يصرف ما يعادل الأجر الكامل لمدة شهرين المواجهة نفقات الجنازة وذلك للأرمل أو لأرشد الأولاد أو لمن يثبت قيامه بتحمل هذه النفقات .
وتبين اللائحة التنفيذية قواعد وإجراءات إنهاء الخدمة لهذه الأسباب.
وعلى جانب آخر ، تصدر المحكمة الدستورية العليا برئاسة المستشار بولس فهمي إسكندر، اليوم السبت 8 مارس 2025، الحكم فى دعوى تطالب بعدم دستورية الفقرة الثانية من المادة "76" من قانون المرور الصادر بالقانون رقم 66 لسنة 1973 والمستبدلة بالقانون رقم 142 لسنة 2014.
وطالبت الدعوى الدستورية التى حملت رقم 50 لسنة 44 دستورية بعدم دستورية الفقرة الثانية من المادة (76) من قانون المرور الصادر بالقانون رقم 66 لسنة 1973 و المستبدلة بالقانون رقم 142 لسنة 2014.
مع عدم الإخلال بالتدابير المقررة في هذا القانون أو بأية عقوبة أشد في أي قانون آخر، يعاقب كل من قاد مركبة و هو تحت تأثير مخدر أو مسكر أو السير عكس الاتجاه في الطريق العام داخل المدن أو خارجها، بالحبس مدة لا تقل عن سنة .
فإذا ترتب على القيادة تحت تأثير مخدر أو المسكر أو السير عكس الاتجاه إصابة شخص أو أكثر، يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنتين و غرامة لا تقل عن عشرة آلاف جنيه .
وإذا ترتب على ذلك وفاة شخص أو أكثر أو إصابته بعجز كلي يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ثلاث سنوات و لا تزيد على سبع سنوات، و غرامة لا تقل عن عشرين ألف جنيه .
وفي جميع الأحوال يقضى بإلغاء رخصة القيادة ولا يجوز منح رخصة جديدة إلا بعد مرور مدة مساوية لمدة الحبس المقضي بها عليه.