الجزيرة:
2025-03-09@20:56:31 GMT

خيارات فرنسا المرّة للبقاء في أفريقيا

تاريخ النشر: 6th, February 2025 GMT

خيارات فرنسا المرّة للبقاء في أفريقيا

خطاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أمام المؤتمر السنوي لسفراء فرنسا في الثامن من يناير/ كانون الثاني الماضي، الذي تناول فيه تراجع فرنسا في أفريقيا بعد إعلان معظم الدول الأفريقية الناطقة بالفرنسية إغلاق القواعد العسكرية الفرنسية على أراضيها، يُعدّ أعلى وأهم تصريح رسمي فرنسي في هذا الشأن. وبالرغم من أن الرئيس ماكرون كان يتحدث لقادة الدبلوماسية الفرنسية، فإن خطابه لم يكن دبلوماسيًا البتة.

أنكر الرئيس الفرنسي أن بلاده تتراجع في أفريقيا، وقال: "نحن نعيد تنظيم أنفسنا"، وأردف أن إغلاق القواعد العسكرية الفرنسية كان قرارًا متفقًا عليه مع الرؤساء الأفارقة، وترك لهم مهمة الإعلان عنه.

وقال ماكرون إنه حزين؛ لأن القادة الأفارقة لم يشكروا بلاده على ما قدمته لهم القواعد العسكرية الفرنسية من خِدمات جليلة، وأضاف، وبنبرة استعلاء، أن الرؤساء الأفارقة لم يكونوا حريصين على محاربة الحركات السالبة في بلدانهم، بقدر حرصهم على البقاء على كرسي السلطة، وأنه لولا الجيش الفرنسي لما كان كثير منهم جالسين على كراسيهم اليوم.

زعم الرئيس الفرنسي أن بلاده لم تتراجع في أفريقيا، وأن ما جرى من إغلاق لقواعدها العسكرية إنما هو ترتيب مسبق متفق عليه، وأن القادة الأفارقة نفذوا ما طُلب منهم، لكنهم أساؤوا الإخراج.

إعلان

بيدَ أن هذا المنطق لا يبدو مقنعًا أصلًا، فقد كان رد القادة الأفارقة قويًا جدًا على تصريحات الرئيس الفرنسي، بل إن بعضهم، كما في السنغال وتشاد ومالي، ردوا الصاع صاعين لفرنسا، مذكرين إياها بأنه لولا بسالة الجنود الأفارقة في الحرب العالمية الثانية، ربما كانت فرنسا حتى اليوم محمية ألمانية.

بالرغم من أن الخطاب كان موجهًا للدبلوماسيين، وأن الدبلوماسية هي المجادلة بالحسنى، فإن الخطاب كان حمّال وجوه، ولم يخلُ من التهديد باستخدام القوة. وإلا فماذا يعني قول الرئيس ماكرون إنه لولا الجيش الفرنسي لما كان كثير من الحكام الأفارقة جالسين على كراسيهم؟

إن هذه اللغة غير الدبلوماسية يمكن أن يُفهم منها أن الجيش الفرنسي، الذي أبقى بعض الحكام الأفارقة على كراسيهم ردحًا من الزمن، قادر على أن يقصيهم منها كذلك.

وهذا الاستعلاء الماكروني المعهود يناقض السياسة الجديدة نحو أفريقيا، والتي بشّر بها ماكرون نفسه في خطابه الشهير في جامعة واغادوغو، عاصمة بوركينا فاسو، والمعروف اختصارًا بـ"خطبة واغادوغو"، والتي تبرأ فيها من تبعات الاستعمار الفرنسي لأفريقيا. كما يناقض خطته التي أقرها في عام 2022، والتي هدفت إلى بناء شراكة وتعاون عسكري فرنسي- أفريقي بمعايير جديدة.

ما هي الاتفاقيات العسكرية الفرنسية؟

المقصود بذلك هي مجموعة اتفاقيات سرية عسكرية وأمنية وُقِّعت في ستينيات القرن الماضي، بُعيد استقلال المستعمرات الفرنسية في غرب أفريقيا، أي في مرحلة القبضة الحديدية الباطشة لفرنسا على مستعمراتها السابقة. وبالرغم من سرية هذه الاتفاقيات، فقد سرّب بعض قدامى العسكريين والسياسيين جزءًا من محتواها. وسنعرض بإيجاز ما رشح عن مضمونها:

تَمنح الدول الأفريقية فرنسا حق إنشاء قواعد عسكرية على أراضيها، دون الحصول على إذن أو موافقة من برلمانات هذه الدول، وتكون هذه القواعد أراضيَ فرنسية ليس للدولة المضيفة الحق في معرفة ما يجري داخلها. كما أن فرنسا غير ملزمة بتقديم أية معلومات عن هذه القواعد، أو طبيعة عملها، أو عدد الجنود فيها، أو نوع الأسلحة والفعاليات التي تقوم بها. وبذلك، أصبحت القواعد الفرنسية في أفريقيا محميات ومراكز متقدمة للتجسس وجمع المعلومات، وتنفيذ سياسات وعمليات تخدم فرنسا حصرًا. لفرنسا حرية استخدام الأجواء الأفريقية بواسطة سلاح الجو الفرنسي متى ما كان ذلك ضروريًا، دون إطلاع الدول المضيفة على طبيعة الاستطلاعات الجوية التي يقوم بها الطيران العسكري الفرنسي. يجري تدريب العسكريين الأفارقة في فرنسا، على أن تدفع الدول الأفريقية تكاليف التدريب لمبعوثيها، مهما بلغت قيمته، مقارنة بالتدريب في دول وأكاديميات عسكرية أخرى. تلتزم الدول الأفريقية بإطلاع فرنسا على أي تعاون عسكري تقوم به، أو أي اتفاقيات عسكرية ترغب في توقيعها مع دول أخرى، وأن تحصل على موافقة باريس. في حالة تعرض فرنسا لتهديد عسكري خارجي، ينضم جنود الدول الأفريقية إلى الجيش الفرنسي للدفاع عن فرنسا، وبالمقابل، تتعهد باريس بحماية المستعمرات السابقة ورعاياها في حالة تعرضها لأي تهديد. إعلان

شكلت هذه الاتفاقيات العسكرية السرية، بالإضافة إلى الاتفاقيات الاقتصادية، العمود الفقري لسياسة فرنسا الأفريقية، المعروفة اختصارًا باسم "فرانس أفريك".

صُمِّمت هذه الاتفاقيات المجحفة من قِبل اليمين الفرنسي الديغولي منذ بداية الجمهورية الخامسة، وكان الغرض الرئيس منها هو ضمان بقاء فرنسا في أفريقيا لأطول فترة ممكنة.

أشرف على هذه الاتفاقيات سياسي فرنسي ديغولي مشهور، هو جاك فوكار، مستشار الشأن الأفريقي للجنرال شارل ديغول، والذي ظل يدير السياسة الفرنسية في أفريقيا بشكل مباشر أو غير مباشر منذ عام 1958 وحتى وفاته في مارس/آذار 1997.

ولئن كانت هذه الاتفاقيات مجحفة ومعيبة، فإن تطبيقها كان أكثر إجحافًا. لقد صُمِّمت للحفاظ على مصالح فرنسا فقط، دون الاكتراث بمصلحة الشعوب، لدرجة أن باريس اعتبرت أن الرئيس الأفريقي الذي يسير وفق رؤيتها هو جزء من مصالحها التي يجب المحافظة عليها.

وبناءً على ذلك، أطلقت يدها الباطشة لتحدد من يحكم أي بلد أفريقي، ولم تتوانَ في التدخل المباشر والسافر لفرض رؤساء بعينهم، دون النظر إلى رأي الشعب. والتاريخ حافل بالتدخلات العسكرية الفرنسية في أفريقيا الغربية.

رؤية جديدة للتعاون العسكري

أسهمت عوامل كثيرة في رفع درجة الوعي الجمعي الأفريقي بحقيقة السياسات الفرنسية الظالمة التي تفرضها باريس على مستعمراتها السابقة، وأدى ذلك إلى ظهور جيل جديد من السياسيين وقادة الرأي العام الأفارقة، مما عزز حالة الاستياء الشعبي الواسع ضد سياسة فرنسا الأفريقية، ولا سيما ضد تلك الاتفاقيات العسكرية والاقتصادية السرية بين باريس ومستعمراتها السابقة.

ومما يُحمد للرئيس ماكرون جرأته في نقد سياسات فرنسا الاستعمارية المجحفة بشأن أفريقيا، على الملأ، كما حدث في خطبة واغادوغو الشهيرة في بداية فترته الرئاسية الأولى عام 2017، والتي أعلن فيها رسميًا انتهاء سياسة "فرانس أفريك" وتبرأ من فترة الاستعمار الفرنسي لأفريقيا، باعتباره من الجيل الذي وُلد بعد انتهاء حقبة الاستعمار.

إعلان

كما أعلن رغبته في بناء شراكة عسكرية جديدة، متوازنة ومسؤولة مع أفريقيا، وأكد أنه سيعيد التفكير في القواعد العسكرية الفرنسية في القارة.

وبموجب ذلك، أعلنت فرنسا في عام 2022 ملامح رؤية جديدة للتعاون العسكري مع الدول الأفريقية الناطقة بالفرنسية. اقترحت فيها تقليل عدد الجنود الفرنسيين في أفريقيا، وأن تُدار القواعد بإدارة مشتركة بين فرنسا والدول المضيفة. كما اقترحت تحويل بعض القواعد إلى أكاديميات عسكرية لتدريب القوات الأفريقية ورفع قدراتها الفنية والقتالية، وزيادة المساعدات العسكرية لأفريقيا.

وأهم ما صرح به ماكرون في هذه الخطة، هو قوله إنه لا توجد منافسة مع الآخرين في أفريقيا، وأن القارة ليست حكرًا لفرنسا. ولا شك أنه يشير إلى القوى الدولية الجديدة التي بدأت تتمدد في القارة، مثل؛ روسيا، والصين، وتركيا.

عمليًا، لم تجد هذه الخطة طريقها للتنفيذ، لأن الأوضاع في دول الساحل الأفريقي خاصة، وفي غرب أفريقيا عامة، سارت بما لا تشتهيه باريس. فقد أدى الزخم الشعبي الواسع المعادي لسياسات فرنسا إلى صعود قادة ثوريين إلى السلطة، كما في مالي، والنيجر، وبوركينا فاسو، وغينيا، والسنغال.

وقادت هذه الأنظمة وغيرها تيار مواجهة التمدد الفرنسي في القارة وتصفية القواعد العسكرية، دون التنسيق مع باريس. وهكذا اضطرت فرنسا إلى ترك "حديقتها الخلفية"، بكل ما يسببه ذلك من تحديات ومتاعب سياسية واقتصادية وجيوسياسية.

خيارات باريس الصعبة

إن نفوذ فرنسا في تراجع حقيقي في غرب أفريقيا، وهو مجالها الحيوي الرئيسي في القارة، وذلك بالرغم من حالة الإنكار الرسمي من الإليزيه. والمشكلة الكبرى هي أن طرق العودة إلى زخم العلاقات القديمة صعبة، وخيارات باريس محدودة ومحفوفة بالمخاطر.

هناك عدد من الخيارات الصعبة أمام باريس، منها استخدام القوة للعودة إلى أفريقيا، أو وقف تسليح الجيوش الأفريقية، أو التنسيق مع الولايات المتحدة والعودة تحت عباءتها. وفيما يلي نناقش هذه الخيارات بإيجاز:

إعلان ينادي بعض قدامى العسكريين باستخدام القوة، كما درجت باريس على ذلك في السابق. وهذا الخيار صعب بسبب حالة الرفض الشعبي العامة لفرنسا في الشارع الأفريقي، وقوة تأثير منظمات المجتمع المدني، لدرجة أنه لن يستطيع أي حاكم الجهر بولائه لفرنسا، لأن ذلك يعني نهايته. بل إن الحكومات الأفريقية أصبحت تتودد إلى شعوبها بتحدي فرنسا. أما خيار وقف مبيعات الأسلحة والمعدات العسكرية، فهو خيار غير فعال، وذلك لأن جيوش الدول الأفريقية الناطقة بالفرنسية لا تستخدم السلاح الفرنسي، بل تعتمد على واردات الأسلحة من روسيا أو الصين أو تركيا أو الولايات المتحدة، لأن السلاح الفرنسي الصنع غالي الثمن مقارنة بالدول المنتجة الأخرى. ومما يؤكد ذلك أن تقرير مبيعات الأسلحة الفرنسية للخارج، الذي أصدرته وزارة الدفاع الفرنسية عن العام الماضي، أوضح أن هناك دولتين أفريقيتين فقط اشترتا أسلحة من فرنسا، هما المغرب والسنغال. وانحصرت مبيعات كلتا الدولتين في زوارق ومعدات لسلاح البحرية فقط. كما يبدو خيار التنسيق مع الولايات المتحدة الأميركية صعبًا، ذلك لأن الوجود الأميركي في القارة محدود، ويعاني من المشاكل، كما حدث في النيجر، وتشاد، وأفريقيا الوسطى. وسيكون هذا الخيار أصعب في عهد إدارة الرئيس ترامب الجديدة.

ونظرًا لصعوبة كل هذه الخيارات، بالإضافة إلى الوضع السياسي الداخلي المضطرب، فليس أمام صانع القرار السياسي الفرنسي إلا أن يكون أكثر براغماتية وتعقلًا، وأن تقبل باريس بالأمر الواقع، وتحترم خيارات الشعوب والحكومات الأفريقية، وتستخدم دبلوماسية الحوار بالحسنى، وألا تدخل في أي مواجهة أو مغامرة أفريقية غامضة وغير مضمونة العواقب.

فأي مغامرة من هذا النوع ربما تضطر الدول الأفريقية إلى إلغاء الاتفاقيات الاقتصادية، وبالذات اتفاقية استخدام الفرنك الأفريقي. وإذا حدث ذلك، فقد تتراجع فرنسا لتصبح إحدى دول العالم الثالث، كما قال الرئيس السابق جاك شيراك.

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات القواعد العسکریة الفرنسیة الدول الأفریقیة هذه الاتفاقیات الرئیس الفرنسی الجیش الفرنسی الفرنسیة فی فی أفریقیا فی القارة فرنسا فی ما کان

إقرأ أيضاً:

الحلو أعاد الجدل المر حول العلمانية

عاد الجدل مرة أخرى حول العلمانية التي ظل تقعيدها في هيكلية الدولة السودانية يواجه تبايناً حاداً في الآراء. ذلك في أعقاب اعتمادها في ميثاق نيروبي الذي وقعت عليه تنظيمات سياسية دشنت به تحالفاً جديداً يجمع بين حركات مسلحة، وتنظيمات مدنية. ولا يخفى بالطبع الدور المؤثر لزعيم الحركة الشعبية شمال عبد العزيز الحلو في تضمين هذا النص المشكل حوله سودانياً في الميثاق. وكنت قد كتبت من قبل مقالاً عن خطل الفتنة بمفهوم الدولة المدنية لدى النخب السياسية كبديل للدولة العلمانية. وقد أثار ذلك المقال ايضاً جدلاً كبيراً تراوح بين تكفير الكاتب، والتضامن معه. وبكل المقاييس نحتاج أن يكون الحوار حول تبني العلمانية في الهواء الطلق بدون التخوف من الابتزاز التاريخي الذي لازم مثقفينا وسياسيينا منذ الستينات بالرغم من أن تجربتي "قوانين سبتمبر" و"المشروع الحضاري" حطت بقيمة الدين قبل الدولة، وأورثتنا هذه الحرب كاعلى سقف من سقوف الفشل في معرفة وظيفة الدولة الحديثة. أكرر في هذا المقال أيضا أن محاولة إرهاب قادتنا السياسيين، ومثقفينا، من التصريح بأهمية العلمانية لصلاح الدولة السودانية، وتفضيل مصطلح الدولة المدنية الفضفاض، ينبغي أن يواجه بالشجاعة، وإلا فعلينا في حال حدوث أي تسوية قادمة أن نسلم رقابنا لنوع جديد من ذبح المدنية التي تخفي احتيالاً للربط بين الدين، والدولة. لا أتصور نجاحاً لكفاحنا المدني في ظل عدم الاعتبار من مرور أكثر من ألف سنة من اختطاف الدين لغايات انتهازية في الدولة القطرية العربية، والإسلامية، والتي ترضع بواسطة سلطة الأوليغارشية الدينية، والاقتصادية، والاجتماعية من ثدي الدولة لتتوطن ثراءً، وتسلطاً، ونفوذاً. فحاجتنا ماسة الآن للاعتبار من هذا التاريخ الذي سبق خيبة الحالة الإسلامية الراهنة الآخذة بأسباب تفجير صراعاتها المجتمعية بما يهدد وحدة كيان المجتمع، والدولة في ذات الوقت. إذ استطاع الإقطاعيون، ورجال الدين، والطبقة المتنفذة الأوروبية آنذاك، الاستئساد بشوكة الدولة بينما كانت تتبلور الطبقتان الوسطى، والفقيرة، ككم بشري تابع، وذليل، لتطلعات القيصر الطفيلية، وشبكة علاقاته الضيقة، مصاصة العرق، والدماء. تاريخ السودان الحديث يكشف بأي مستوى من القراءة السيوسيولجية غير المؤدلجة عن تحالف اصحاب الثروة مع العسكرتارية، والنخب الاقتصادية، والإعلامية، للحفاظ على مكتسبات سلطوية لا علاقة لها بالدين أو مفهوم الدولة الحديثة. وما قبل تشريعات نميري التي قطعت رقاب وأيادي الفقراء فقط لم تكن أنظمة السودان كلها قائمة على العلمانية التي لا تنشأ إلا في ظل نظام ديمقراطي. وترتد حجة الرافضين للعلمانية إليهم بأن أنظمة الاتحاد السوفيتي، والعراق، ومصر، وسوريا، وليبيا المطروحة، كانت موثثة بأطر نظرية علمانية. ذلك لأن العلمانية هي ساق الديمقراطية التي تتوكأ عليها لإنهاء التمايزات الأيدلوجية، والإثنية، والمذهبية، لصالح دولة المواطنة. في تجربة السودان لتطبيق قوانين الشريعة الإسلامية في سبتمبر 1983، والتجربة الثانية عبر "المشروع الحضاري"، لاحظنا أن الحكمين الاستبداديين ركزا على رفع أسنة الرماح في وجه المدنيين الذين لا يرتبطون بحلف الدولة المكون من جماعات الثروة، والرتب الكبيرة في الجيش، وقادة الأجهزة الإعلامية، الموظفين للدفاع عن ديكتاتورية الدولة. ولذلك كان القتل السياسي، واغتصاب الرجال والنساء معاً، والتعذيب في بيوت الأشباح، الرافعة التسلطية التي تقوم على فرضيات فقهية مستلفة من تاريخ السلطة الدينية في العالم الإسلامي. الآن - ونحن في زمن الحريات التي أتاحتها الثورة التكنولوجية - لم يعد الكبت عائقاً أمام تطلعات الناس المساكين في عالمنا العربي والإسلامي في نشدان التعبير السياسي الراغب للإصلاح الذي يوجد دولة ديموقراطية تقطع مع عصر الظلامات التاريخية. إذ كانت الدولة تمثل رأي فئة قليلة من السودانيين، وهي التي تستخدم رجال الدين أولئك، وشريحة من الطبقة الوسطى لدفع قوة المستبد، وحاشيته. أما السواد الأعظم فهو مجرد قطيع لا يقوى على تحقيق حريته في الاعتقاد، وحكم نفسه بنفسه عبر نظام ديموقراطي لتداول السلطة. بل لا يحس غالب السودانيين بسبب مضاء التغبيش الفكري أنهم مستعبدون من حيث انتمائهم لطبقة مركزية تمتص عرقهم بينما تمنحهم الفتات عبر الوظيفة في الخدمة المدنية، أو بالكاد يعتمدون على حركة القطاع الخاص المتحالف معظمه مع النخبة السياسية. الديماغوغيون من الإسلاميين السودانيين، وكذلك بعض من المنتمين لأحزابنا التقليدية الواقعين تحت ضغط تاثير الابتزاز الديني، يستنفعون بإرث العلمانية في أوروبا، وتركيا، والولايات المتحدة التي هاجروا إليها. وهؤلاء يمثلون النفاق الديني عينه قبل السياسي. فهم يسلمون أبناءهم، وبناتهم، وأحفادهم، لهذه الأنظمة العلمانية لينشاوا فيها، وتنقطع ذريتهم من ثم عندها. ومن ناحية أخرى يستفيدون من مناخ الحريات لإقامة المساجد، والمطالبة بإجازات للجالية المسلمة في يوم الجمعة، والمناسبات الدينية. ولاحقاً يستفيدون من سماحة التشريع العلماني للمطالبة برفع الأذان في مئات من هذه المساجد التي نشأت بحكم هذا التسامح الديني الذي رسّخته العلمانية. وبالنسبة للسودانيين المغيبين فكرياً من هذه الاتجاهات الرافضة للعلمانية - ولم تتح لهم الفرصة للنفاد بجلدهم من السودان نحو الأميركيتين، أو أوروبا، أو استراليا - فيعيشون في حياة القرون الوسطى. ومع ذلك فإنهم لا يرون جدوى لقيام السودان على أسس علمانية تحررهم من استبداد الحاكم، وتفتح لهم آفاقاً لدولة تتواءم مع العصر، وتنقذهم من إهدار ملايين الأرواح بفعل رغبة الأوليغارشية الحاكمة، وتعيد تريليونات من الدولارات التي نهبتهاالطبقة الثرية، وكان نصيب الشيخ عبد الحي خمسة ملايين دولار وفقاً لما صرح به الحاكم الذي أفتى له بقتل ثلثي الشعب استناداً على المذهب المالكي. خلاصة الموضوع أن السودان - بوصفه متلقٍ لفتاوى المركزية السلطوية الدينية العربية - مهدد بالعودة إلى عصر القرون الوسطى ما برح معظم قادته السياسيين اليساريين، واليمينيين، يلجأون لسراب الدولة المدنية خوفا من امتلاك الشجاعة بالدعوة للعلمانية، وشرحها للمواطن البسيط الواقع تحت تاثير أثرياء الإسلام السياسي.

suanajok@gmail.com  

مقالات مشابهة

  • وزير فرنسي يكشف مفاجأة: باريس تستغل أموال روسية بقيمة 195 مليون يورو
  • باريس سان جيرمان يكتسح رين ويوسع الفارق على قمة الدوري الفرنسي
  • باريس سان جيرمان يكتسح رين برباعية في الدوري الفرنسي
  • راموس يقود تشكيل باريس سان جيرمان ضد رين بالدوري الفرنسي
  • خبراء: تسليم فرنسا طائرات ميراج 2000 لأوكرانيا يعزز قدراتها العسكرية
  • غياب المظلة الأمريكية... هل يكفي الردع النووي الفرنسي لحماية أوروبا؟
  • نشاط رعوي مكثف للمراحل التعليمية بـ باريس وشمالي فرنسا
  • الجزائر تحذر فرنسا من مناوراتها العسكرية مع المغرب وتصفها بـالاستفزازية
  • القائمة النهائية المشاركة في بطولة الأندية الأفريقية للطائرة رجال وسيدات بنيجيريا
  • الحلو أعاد الجدل المر حول العلمانية