فنان العرب محمد عبدو، أعلى الجمال تغار منا؟!
تاريخ النشر: 4th, February 2025 GMT
التحية لفنان العرب محمد عبدو وهو يعجم عود الشعر العربي ليختار قصيدة الشاعر السوداني إدريس جماع، هذه القصيدة شكلت وجدان اجيال، وقد اعجبت من قبلك المبدع سيد خليفة فأخرجها للناس في ثوب قشيب مزجج بجماليات السلم الخماسي الذي تستقيم عليه موسقة أهل السودان، وها انت تلبس هذه الماتعة ثوبا جديد عماده السلم السباعي، والقصيدة حقا تستحق بأن تغنى بكل سلالم الموسقة العالمية، ومن يقرأ كلمات القصيدة وما حوته عراجين ثمارها من سمت المباني وابعاد المعاني يوقن بأنها تستحق:
اعْلَى الْجَمَال تَغَار مِنَّا
مَاذَا عَلَيْك اذَا نَظَرْنَا
هِي نَظْرَة تَنْسَي الُّوَقَار
وَتَسْعَد الْرُّوْح الْمَعْنَى
دِنْيَاي انتِ وَفَرْحَتِي
وَمُنَى الْفُؤَاد اذَا تَمَنَّى
أَنْتِ الْسَّمَاء بَدَت لَنَا
وَاسَتَعَصَّمّت فِي الْبُعْد عَنَّا
هَلَا رَحِمْت مُتَيَّمَا
عَصَفَت بِه الاشوق وَهْنَا
وَهَفَت بِه الذِكْرَى
فَطَاف مَع الْدُّجَى مَغْنَى فَمَغْنّى
هَزَّتْه مِنْك مَحَاسِن
غِنَى بِهَا لِمَا تَغَنَّى
يَاشعلُه طَافَت خَوَاطِرَنَا
حَوَالَيْهَا وَطُفْنَا
انْسِت فِيْك قَدْاسَه
وَلَمَسَت اشَرّاقَا وَفَنَّا
وَنَظَرْت فِي عَيْنَيْك
افَاقَا وَاسْرَارّا وَمَعْنَى
وَسَمِعْت سِحْرِيَّا
يَذُوْب صَدَاه فِي الْاسْمَاع لَحْنَا
نِلْت الْسَّعَادَه فِي
الْهَوَى ورشَفَتِهَا دَنَا فَدَنَا
قُيِّدَت حُسْنُك فِي
الْخُدُوْد وَصُنْتُه لِمَا تَجَنَّى
وَحَجَبْتَه فَحَجَبْت
سِحْرَا نَاطِقَا وَحُجِبَت كَوْنَا
وَابَيْت الَا ان تُشَيَّد
لِلْجَمَال الْحُر سِجْنَا
لقد امتلك شاعرها إدريس محمد جمّاع رحمه الله ناصية اللغة العربية، كيف لا وهو المشتغل بتدريسها منذ تخرجه، وقد كان من أكثر الشعراء قدرة على تخيّر الكلمات لتصبح كل كلمة الأمثل للتعبير عن مراده في المقطع الشعري، ودونكم سياقه البديع المذهل:
أنت السماء بدت لنا واستعصمت بالبعد عنا!
ياااااه
يالجمال الكلمات، ويالسموّ المبنى والمعنى، هكذا كان حال جماع مع ملهمته، يراها في خياله تغدو وتروح أمام ناظريه بكل بهائها؛ لكنها تبقى عنه بعيدة المنال!…
لماذا ياتُرى؟!
أيكون السبب الفارق الاجتماعي بينهما؟
لا، ليس الأمر كذلك، اذ الشاعر من كبار بيوتات السودان، ولد عام 1922 ولد في حلفاية الملوك في مدينة الخرطوم بحري، وينحدر من قبيلة العبدلاب، وقد حفظ القرآن منذ نعومة أظفاره، ودرس في كلية المعلمين في معهد بخت الرضا عام 1946، ثم هاجر إلى مصر لإكمال دراسته عام 1947 والتحق بمعهد المعلمين بالزيتون، ثم بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة عام 1951 وحصل على بكالوريوس اللغة العربية والدراسات الإسلامية، والتحق بمعهد التربية للمعلمين وتخرج فيه عام 1952، ثم عمل معلماً بالمدارس الأولية 1942 – 1947، وبعد رجوعه من مصر عام 1952 عين معلماً بمعهد التربية في مدينة شندي، ثم معهد بخت الرضا، وبعد ذلك بالمدارس الوسطى والثانوية عام 1956، وتوفاه الله وهو في عمر 58 في عام 1980.
لقد كان لحفظ ادريس جماع للقرآن الكريم أثره البائن في أشعاره، ودون ذلك غزله العفيف في العديد من قصائده المغناة، ومن الأمثلة على ذلك ماقاله في ثنايا هذه القصيدة الماتعة التي اعجبتك يافنان العرب:
هزته فيك محاسن
غنى لها لما تغنى
آنست فيك قداسة
ولمست إشراقاً وفنا
دنياي أنت وفرحتي
ومنى الفؤاد إذا تمنى
هلا رحمت متيماً
عصفت به الأشواق وهنا.
ويسمو جماع بمشاعره فيبلغ شأوا عظيما عندما يقول:
أعلى الجمال تغار منّا؟!
والغيرة تكون عادة بين متماثلين أو شبه متماثلين، لكنه هنا لا يجعل من نفسه مقابلا لمحبوبته، انما يجرّد منها (جمالها) كطرف ثالث، ثم يجعل المقابلة بين عناصر ذاك الجمال الفتّان وشخصه…
هاهو يقول:
هزته منك محاسن
غنى بها لمّـَا تغنَّى
يا شعلةً طافتْ
خواطرنا حَوَالَيْها وطفنا
انست فيكَ قداسةً
ولمستُ إشراقاً وفناً
ونظـُرتُ فـى عينيكِ
آفاقاً وأسراراً ومعنى.
ألا رحم الله والدي فقد كان كلما ذُكر جمّاع يقول:
هذا شاعر أبكَى شِعرُه (العقّاد)!
وحكى عنه والدي وقال:
كنا طلبة في مدرسة المساعدين الطبيين الكائن مبناها داخل مباني كلية غردون وتخرجنا في عام 1956 وهو العام الذي نال فيه السودان استقلاله،
قال: حضر ادريس جماع حفل التخرج في معية أحد الزملاء من ابناء الحلفايا، وكان جمّاع حينها معلما في المرحلة الثانوية، وقد بدت عليه بوادر مرضه الأخير وهو انزواء عن الناس اصبح ينتابه، وكانت إحدى فقرات الحفل خاصة بالوالد حيث ألقى احدى قصائد أحمد شوقي،
وإذا بأحد الحضور يجهش بكاء ثم يأتي إلى المنصة ويقف بجواري، وما ان ختمت القصيدة حتى ارتجل قصيدة يجاري فيها قصيدة شوقي!، قال الوالد:
لقد أنشد أكثر من خمسين بيتا،
كان هذا هو الشاعر إدريس جماع، ومذ ذاك توثقت العلاقة بين الوالد وجمّاع رحمهما الله.
والشاهد في سوقي لهذه الحادثة قول الوالد رحمه الله:
زرت جمّاع بعد هذه الأمسة بأيام في بيتهم بطلب من المنصة للحصول على القصيدة التي ألقاها يوم احتفال تخرجنا، لكنني دهشت عندما رد الراحل بأنه لم يعتد حفظ قصائده!…
وهكذا أضاعت جبلّتنا السودانية المجافية للتوثيق دررا، وأقسم الوالد بأن قصيدة جماع المرتجلة كانت أندى كلمات وأجمل سياقا واوقع موسقة من ابيات شوقي المجاراة!
وأضاف الوالد رحمه الله بأنه يكاد يجزم بأن جُلّ قصائد جمّاع التي وصلتنا كانت في الأصل أكثر ابياتا، لكنها تناقصت مابين ذواكر الحُفّاظ والتحبير!
وخلال جلسة استماع -من خلال التلفاز- والراحل سيد خليفة يبدع في اداء أغنية (أعلى الجمال تغار منا) سألت الوالد هل حدثكم الراحل جمّاع عن الفتاة التي كتب فيها هذه القصيدة؟
قال لي بأنه سأل جماع هذا السؤال فكان رده بأن القصيدة- بل كل قصائده- لم يكتبها في فتاة بعينها!!!
فأعدتُ الاستماع إلى كلمات الأغنية مرارا لأجدها تصطرخ بالتعبير عن هوى حقيقي لأنثى بعينها!:
أعلى الجمال تغار منا
ماذا عليك إذا نـظرنا
هى نظرةً تنسى الوقارَ
وتسعدُ الروحَ المعنىّ
دنياى أنت وفـرحتى
ومنى الفؤادِ إذا تَمَنىّ
أنتَ السماءُ بدتْ لـنا
واستعصمتْ بالبعدِ عنا
هلاَّ رحمتَ مـتيما
عصفت به الأشواق وهنا
وهفت به الذكرى فطاف
مع الدجى مغنى فمغنى
هزته منك محاسن
غنى بها لمّـَا تغنَّى
يا شعلةً طافتْ
خواطرنا حَوَالَيْها وطــفنــا
آنـست فيكَ قداسةً
ولمستُ إشراقاً وفناً
ونظرتُ فـى عينيكِ آفاقاً
وأسراراً ومعنى
كلمْ عهوداً فى الصبا
أسألْ عهوداً كيف كـُنا
كمْ باللقا سمحتْ لنا
كمْ بالطهارةِ ظللـتنا
ذهبَ الصبا بعُهودِهِ
ليتَ الطفُوْلةَ عـاودتنا.
وظلت أجابة الوالد تلحُّ عليّ بأن أسائل نفسي هذا السؤال:
هل يمكن لشاعر ما أن ينداح شعرا بهذه الحميمية والصدق البائن في المشاعر دون أن تكون هناك حبيبة بعينها في خاطره ووجدانه؟!
الاجابة عن هذا السؤال كانت تتطلب سبرا لغور اشعار هذا الشفيف، وقد ساعدني الوالد رحمه الله عندما أومأ لي بأبيات أخرى (عميقة المعنى) لشاعرنا النبيل، أقرأوا بالله عليكم هذا الامتاع اللغوي، وجزالة هذا السياق وماحملت عراجينه من معاني ومرادات:
نمشي علي الدرب الطويل ولا يطيب لنا مدي
إن الحياة بسحرها نغم ونحن لها صدي
من مات فيه جمالها فمقامه فيها سدي
كم عاشق لسعادة ضل الطريق وما اهتدي
هي فيك وهي رضاك عنك ففيم تبحث أبعدا
يااااه
ان جمال السعادة يكمن في وجدان ادريس جماع ولا ينفكُّ عنه سلوكا وشعرا وعلائق اجتماعية، وهنا مهوى قرط المعني والمبني لدى جمّاع، ولكن كيف لوجدان أن يتصالح ذاك التصالح ثم ينداح للناس بكلّ هذا الأسى والحُزن الدفّاق؟َ!
وكم كنت -ولم أزل- يحار عقلي بين يدي أبياته التي تحكي عن حظه العاثر في هذه الدنيا:
إن حظى كدقيق فوق شوك نثروه
ثم قالوا لحفاة يوم ريح اجمعوه
صعب الأمر عليهم ثم قالوا اتركوه
ان من أشقاه ربى كيف أنتم تسعدوه
لان رمنا الاجابة يلزمنا الابحار في ديوانه الأوحد الذي بين يدينا (لحظات باقي)، وحتى هذا الديوان الأوحد ماكان له أن يجمع ويطبع لولا التقاء نفر كريم بالراحل عندما سافر إلى القاهرة للعلاج، فاجتهدوا في الوصول إلى ما وجدوه في دار أهله من قصاصات كتب عليها بعض ابداعه فطبعوه له!
والقارئ لديوانه حظات باقية هذا يشده منذ الوهلة الأولى وهج الحرية التي يكتنف كل كلمة فيه!
فالرجل كان عاشقا للحرية إلى حدّ الترف…
وان كان جماع قد فاته قطار الترف المادي فإنه مشبع بترف الحرية الانسانية في اسمى مراداتها…
الحرية في التعبير عن حب عذري سامي لانثى يراها بعين محب عاشق واله، الحرية دون احتلال بغيض لا يجد في وطنه الاّ بقرة حلوب، يسرق قطنه وذهبه وصمغه وثروته الحيوانية لصالح بني جلدة له هناك من خلف البحار، فالاحساس الداخلي بالحرية يعضده احساس بجمال السعادة في دواخله
بذلك…
لكل ذلك افرد جمّاع لنفسه فضاءات وسوحا ممتدة الافق،
فضاءات جعلها تحتمل كل المشاعر الانسانية التي تتخلل اشعاره الجذلى، وهو دونها باسم الثغر وضّاء المحيا…
قال لي الوالد:
اعتاد جمّاع أن يلقي علينا القصيدة الحزينة وهو يبتسم!
أقول:
قصيدة أعلى الجمال تغار منا تكتنفها رؤية فلسفية ريّانة بأدب جم وحياء يرتكز إلى تدين فطري يجمل دواخل شاعرنا…
أعلى الجمال تغار منا؟!
فالخطاب وان بدا لنا مباشرا من جماع إلى محبوبة بعينها، إلا إنه في الواقع يعني خيالها المستصحب لديه، لقد جرد صورتها التي تمثل عنده الجمال في أبهى معانيه ليصوب نظراته الهائمة إلى (الصورة)، ف جماع من فرط تديّنه لا يريد لنظراته أن تصوب مباشرة إلى (شخص) محبوبته كي يراها -هي أيضا- تغار -حتى- على صورتها!
فماذا تراه يفعل؟!
لايملك إلا أن يخاطبها لائما فيقول:
أعلى الجمال تغار منّا؟!
ماذا علينا إذا نظرنا، أي (إلى الصورة)!
إذ يكفيه النظر إلى الصورة/الخيال لا الأصل، ف النظر إلى الصورة والخيال ينأى به عن مغبة النظر إليها عيانا!
دنياي أنت وفرحتي
ومنى الفؤاد اذا تمنّى.
يالجمال البوح بين يدي تلك الصورة، ويالابداع تناسق موسيقى الأحرف!
أشار لي الوالد رحمه الله إلى خواتيم القصيدة وقال:
لقد علمت بأن جمّاع عشعشت في دواخله صورة قريبة له نشآ وتشاركا حراك الطفولة سويا، لكنها توفيت قبل البلوغ ولعلها كانت الموحية له،
وهذه هي خواتيم القصيدة:
كلّمْ عهوداً فى الصبا
أسألْ عهوداً كيف كـُنا
كمْ باللقا سمحتْ لنا
كمْ بالطهارةِ ظللـتنا
ذهبَ الصبا بعُهودِهِ
ليتَ الطِفُوْلةَ عاودتنا.
وحتى البيت الأبهى والذي سبق في هذه القصيدة يحمل في ثناياه ذات المعنى:
أنت السماء بدت لنا
واستعصمت بالبعد عنا!
فالسماء دوما تتسق مع الفطرة والنقاء والبهاء، وانها -وان اكتنفتها السحب والأنواء أحيانا- الاّ أنها تعود إلى صفائها ونقائها وبهائها المعلوم، وذاك سمت الطفولة وحالها، ولا أخال الأمر أمر فوارق اجتماعية نأت به عنها كما كتب بعض النقاد، فالرجل سليل أسرة معلومة الأصل والمحتد، فيا لهذا التشبيه العميق،
ولا أخالني قرأت من قبل لشاعر يصف فيه معشوقته بالسماء!
اضاف الوالد رحمه الله بأن جمّاع كان موهوبا أيضاً بملكة الرسم والتلوين،
توحي بذلك صورة يدوية كبيرة للوحة الموناليزا رسمها جماع بنفسه حيث يجدها الوالج إلى غرفته مثبتة على الحائط، ذات الموناليزيا بابتسامتها الحيرى التي لا تكاد تجلس الاّ ويتملكك الاعجاب بها ويستبد بك الادهاش لابداع يجده في تفاصيل اللوحة المرسومة بيد جماع، ولديه في ذات الغرفة رسومات أخرى بديعة لزهور في غاية الروعة والجمال، منها زهرة السوسن، وزهرة الشمس، وزهور أخرى بلا أسماء…
وكان لصور وجوه الناس حضور كبير على جدران ذات الغرفة، منها رسم لوجه والدته وجدّته،
وبجوار سريره كانت هناك صورة بديعة لشاب وسيم، ما أن رأى جماع نظرات الاستفهام عنها الاّ وأبان بأنها لصديق عزيز، هو في الأصل قريب له قاسمه نشأة الطفولة والصبا وتوفي غرقا قبل سنوات طويلة، قال ذلك وهو يجفف بكم قميصه دمعتين،
واضاف الوالد:
من يزور جمّاع في بيته يخاله رسام لا شاعر، لكنك إن حادثته تعلم يقينا بأنك تحادث شاعرا وأديبا…
وولج جمّاع إلى داخل الدار ليحضر لي ولمرافقي شيئا من لوازم الضيافة، فنبهني زميلي إلى أوراق مبعثرة على ارضية الغرفة، فنهضت وتناولت ورقة منها فوجدتها لقصيدة (لاميّة) بها مايزيد عن الستين بيتا، أقسم لي الوالد بأنه لم ير هذه القصيدة لاحقا في ديوان جماع.
اللهم اغفر لعبدك ادريس محمد جماع وأفتح له في مرقده بابا من الجنة لايسد، واغفر اللهم لوالدي، وافتح لهما في مرقديهما ابوابا من الجنة لاتسد انك ياربي ولي ذلك والقادر عليه.
والتحية لك فنان العرب محمد عبدو وأنت تعجم عود الشعر العربي لتخرج للناس بهذه الماتعة البهية لإدريس السودان الذي نرفعه مكانا عليا.
عادل عسوم
adilassoom@gmail.com
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: الوالد رحمه الله هذه القصیدة
إقرأ أيضاً:
ولد الهدى فالكائنات ضياء
ولد الهدى فالكائنات ضياء
السنباطي وأم كلثوم أم محمد وردي ومحمد الأمين
د. طبيب عبدالمنعم عبدالمحمود العربي
أتواصل مع أحد الأصدقاء من أقاربي وإن باعدتنا عقود السنوات المتراكمة تقربنا الوسائط الإلكترونية رغم بعد المسافات واختلاف المناخ جغرافيا ومجتمعيا. قبل يومين وبعدما أسدل الليل أستاره وهدأت الشوارع من الضوضاء وبعد الإستراحة النفسية مستمتعا بصحة كوكب الشرق رحمها الله وهي تنشد من شعر أمير الشعراء شوقي رحمه الله " ولد الهدى فالكائنات ضياء " قمت بإهدائها رغم فرق الزمن لهذا الصديق العزيز لعل نور من السماء ينير جوانحه ويبدد ظلمات نفسه وقد طال زمن غربته قدرا مكتوباً عليه، ثم جاءت الحرب اللعينة فدمرت كل شيء وبعثرت الناس أشتاتا أشتاتا، من ضمنهم أهلي وأهله بل جل مواطني السودان . بعد يوم من إستلام رسالتي كان الآتي تفاعله من غير تصرف
" تحياتي اخي الحبيب د. عبد المنعم
القصيدة لا شك من روائع امير الشعراء احمد شوقي،
لكن السنباطي اضاع القصيدة و اضاع صوت السيدة، بلحن رتيب ممل و جمل موسيقية مكررة تقاصرت عن مستوى الكلمات و صوت ام كلثوم على الرغم من ان القصيدة سهلة التلحين لأن حرف الروي واحد و أرى ان السنباطي عجز ان يضع لها لحنا يناسبها!!! ترى كيف كان لحنها سيكون لو وضعه محمد وردي او محمد الامين
أقول ما قلت و لي اكثر من ٣٥٠ لحنا خاصة بي و اتذوق الألحان بأذن ناقدة و لا ادري هل تتفق معي ام لا؟ "
بعثت له بهذا الشكل:
سلام وأطيب التحيات عطراً يضمخ جوانحك
أولاً سررت بأنك تلحن وتدندن، فأنت إذاً شاعر وفنان ذو مشاعر رقيقة وراقية. تهانينا، لم أكن أعلم كل ذلك
ثانيا تعليقك على تلحين رياض السنباطي هو رأيك الشخصي وأحترمه ، "ولولا إختلاف الأنظار لبارت السلع".
دعني أقول إن التلحين في الإنشاد الديني قد يختلف عن الغنائي وإن صحبته الموسيقى الآلية . إدخال ألحان الأغاني السودانية على أداء المدائح أفسد رونقها وتجليها وعلى أثرها الروحي فتحولت إلى شبه أغنيات راقصة، يرقص على ضربات دفها الشيب والشباب فيفتقدون الغور للتفكر في معانيها ومتعتها الخالصة . السنباطي رحمة الله عليه أستاذ لا يبارى في دنيا التلحين صقلته كذلك موهبة إلهية وتلحين الأطلال بعينه الذي كتب له الله منفرداً الخلود قمة الروعة والجمال وبصمة تاريخية لن تتكرر خاصة توالفه مع أداء كوكب الشرق أم كلثوم رحمها الله. له أيضا من شعر الإنشاد الديني رائعتين أجاد تلحينهما " القلب يعشق كل جميل ورباعيات الخيام، ترجمة أحمد رامي، سمعت صوتا هاتفاً في السحر" لا أمل الإستماع لهما وأسرح مع الكلمات واللحن وصوت أم كلثوم ساعتها تسمو بروحي الأفكار والخواطر والشجون ، تنقلني إلي عوالم فوق تخوم المجرات أسبح فيها وروحي تنشد لقيا وصحبة حبيبنا رسولنا وهادينا وهو على البراق "يا الله من الإعجاز " يغزو بردا وسلاما الفضاء عبر المسافات "ملايين السنوات الضوئية "، من غير خوذة ووقاء ، بل يعبر كل المتاريس ومعضلات تجاوز السموات ومجراتها بإنفجاراتها الكونية الحارقة وثقوبها السوداء التي من جبروتها تبتلع الكواكب والنجوم وإن كبرت ثم يعود سالما من معراجه التأريخي وإعجازي . يا سلام على قدرة وعظمة الله، شيء عظيم وعجيب
أما أم كلثوم في الفردوس يا رب لا أخفيك عشقي للإستماع لها منذ كنت في المدرسة المتوسطة وكنت أتابع حفلاتها الشتوية على الهواء مباشرة من الإذاعات المصرية وأنا في بربر الثانوية صرت أكثر عشقا وتفهما لكلمات وألحان أغانيها الخالدة خاصة على سبيل المثال " فكروني وهذه ليلتي والأطلال " كانت قمة روعة التطريب وإلي يومنا هذا لا أظل مفتونا بهذا التنوع الراقي من ما خلفته كوكب الشرق . عندما شاء الله أن أستقر هونا طالبا في كلية طب بغداد كان يوجد مقهى كوكب الشرق في يمين بداية شارع الرشيد وانت داخلاً متجها شمالا من ناحية ساحة الميدان. المقهى كان فقط للإستماع لأغاني أم كلثوم وشرب الشاي العراقي المشهور بنقاء لونه الأحمر الصافي (القهوة والسندوتشات لم تكن معروفة لدى الجمهور العراقي ذلك الوقت قبل الغزو الأميركي). كان الناس يجلسون للإستماع في هدوء كأن على رؤوسهم الطير. كنت هناك أهوى الاستماع للقلب يعشق كل جميل. وكم هو جميل حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم وكم هو قبره لجميل ومدينته جميلة وسيرته أجمل.
رجوعا إلى إختلاف التلحين بطريقة إنشاد أدب المدائح ستلاحظ التنوع والإختلاف في تلحين الأغاني إذا اعتبرت مقارنا لحن وأداء القصيدة المعنية نفسها عندما ينشدها العراقي الشيخ وليد إبراهيم (أرجو أن تستمع له على اليوتيوب".أستاذنا للغة العربية أحمد عبدالجبار كان ينشدها مجيداً على النهج السوداني عندما يقضي وقتا من إجازة المدارس في العاصمة بمنزل »شقيقنا شيخ مجذوب. رحمهما الله
أما محمد وردي والأمين وإن كانا لونان ومدرستان فنيتان معروفتان في أفريقيا وغيرها لا يمكن وضعهما في كفة الميزان مع رياض السنباطي. ليس تقليلاً لمكانتهما على الساحة الفنية وتأثيرهما و بصماتهما الفنية في التأليف الموسيقي لكن لإختلافي معك في ما تفضلت به ، فمثلا محمد وردي حاول كل حياته الفنية تلحين وإنشاد قصيدة واحدة وهي للشاعر المرحوم محمد المكي إبراهيم "مدينتك الهدى والنور، مدينتك القباب ودمعة التقوى ووجه النور" ولم تنتشر . ربنا يرحمهما ويغفر لهما ويسكنهما الفردوس الأعلى .
على كل حال ذلك الجيل من نجوم الشعراء والفنانين لا أعتقد أنه سيتكرر مرة أخرى. وإن كان لكل زمان نجوماً ذات دورات خاصة تظهر فيها ثم تختفي فهناك نجوم ثابتة مثل المريخ وعطارد وزحل وغيرها ثابتة يشع نورها من غير إنقطاع يبدد ظلام السماء الموحش. فوحشية وحشة الحياة التي تخيم على عالمنا اليوم وتأثر سلبياتها على سلوكنا وتعاملنا وعلى حياتنا بمختلف ألوانها نجد السلوى في العلاج بصحبة تلك الأنجم المضيئة التي لا تختفي
تحياتي لقد أطلت عليك فأنا في عطلة يتسع المجال فيها للتأمل والتفكير
شكرا
عبدالمنعم
الشيخ وليد ابراهيم رحمه الله على اليوتيوب " ولد الهدى فالكائنات ضياء وفم الزمان تبسم وثناء "
https://youtu.be/WWQZjUhfqko?si=Y_Lf3N3DUXytKDl8
aa76@me.com